1- أعموميات في التقديم والتقويم
تظهر بين الحين والآخر أحكام سلبية أو فاترة (افرفار علي، 95) متينة أو عابرة (الفقيهي، 89) على المدرسة العربية في علم النفس. ومن ثم في الفلسفة بل وفي العلوم الإنسانية كافة (زيعور-، 95). على الرغم من تضمن هذا الخطاب لمبادئ يمكنها التأسيس لمدرسة راسخة. لا سيما وأنها قد أنتجت النافع والشديد بحيث يأتي هذا الخطاب كدليل على الصحة النفسية والنضج الانفعالي للذات العربية. وهذا ما يدرجه البعض تحت خانة " اللياقة النفسية للإنسان العربي" (النابلسي 95)
إن محاكمة مثل هذه الظاهرة الفكرية تتم من خلال نظرة نقدية للقيمة العلمية لمنتوجنا النفساني والفلسفي. فذلك المنتوج وحده هو المعيار والمحك. هذا بغض الانظر عما هو إشباع، داخل الفكر العربي الراهن، لحاجات ثانوية من نحو: الحاجة للشعور بالاحتماء والاستقلال والحاجة للثقة بالنحن والحاجة للإحساس بالقدرة على العطاء والشعور باحترام الغير وبتقديرهم لنا ولاستقلالنا.
2- جدلية التسميات والمصطلحات
يسهل القول والمحاكمة عن مدرسة عربية في علم النفس كما في الفلسفة. فهذه التسمية مقبولة وتعتبر صائبة وسديدة. فهنا خطاب في توجهات متميزة وكلام عن تيار فكري وعن مؤسسين و إعلام ومناقشة لموضوعات محددة داخل مجال له همومه ومرجعيته ولا سيما طموحاته ومشكلاته. في حين روى العديدون بان الكلام عن علم نفس عربي هو غير منطقي وناقض ومنقوض. فأي تناقض هو رد الحلم، أي ما هو عام، إلى محلي وقومي وخصوصي وخاص. من هنا الرأي القائل بان يوضع أمام الوعي أن الحلم دراسة منهجية بطرائق، فالمراد هو أن العلم معرفة نظامية ممنهجة ممنهجة محددة الفرض (الميدان) وليس هو معرفة حدسية مستغنية عن التجريب والنظر في قوانين عامة ثابتة (البكاري، 95). في المقابل يختصر رائد الدعوة إلى علم نفس عربي (النابلسي، 96) الرد بالقول وبالتذكير بوجود اختصاص الطب الاستوائي الذي فرضته خاصية البيئة الاستوائية. فما أحرانا بدراسة آثار البيئة وانعكاساتها على صعيد اللياقة النفسية وعلى صعيد العلوم الإنسانية وتطبيقاتها كافة. حتى نجد أن الخلاف يتمحور حول التسميات وليس حول الخطاب بحد ذاته. فإذا ما تجاوزنا التسميات وجدنا أن الطروحات متكاملة في ما بينها ومتفقة تمام الاتفاق في جوهرها.
3- الشخصية العربية ودراساتها
إن دراسة الشخصية العربية هي موضوع فرعي في نطاق المدرسة العربية. فهذا التحليل هو ميدان فرعي أو فرع تخصصي داخل هذه المدرسة. لكن هذا الفرع كغيره يثير النقاش فتتعدد الآراء حوله. فيرى البعض (النابلسي، 95) أن هذه الدراسة تقتضي تضافر جهود فريق متكامل من المتخصصين. وهو قد طرح رأيه هذا في مقابلة جمعت بينه (النابلسي) وبين الدكتور فرج عبد القادر طه (الثقافة النفسية- وجها لوجه- 1994). الذي نشر عدة دراسات حول الشخصية العربية. فكان موقف الدكتور طه، في المقابلة، هو التالي: أنا أقر ضرورة الشورى في دراسة الشخصية العربية وتحري ملامحها من قبل فريق من المتخصصين. لكن انعدام وجود مثل هذا الفريق لا يمنعني من تقديم مساهماتي وآرائي الشخصية ووضعها في خدمة هذا الموضوع.
هذه المقابلة تبين لنا أن الاختلاف، في هذه المواضيع، لا يفسد في الود قضية. وان النقد العلمي يقابل بالعرفان وبالموضوعية. وهذه المواقف المتوازنة تختلف كل الاختلاف عن موقف التقليل من أهمية جهد أو دراسة. إذ انه من الخطل والخطأ تبخيس ميدان معرفي وتضئيل الغارسين فيه ظنا بأننا بذلك نعزز وننرجس منتوجنا الشخصي. فمن المعروف الشائع في التحليل النفسي أن مسفل الغير يضخم ذاته في الوقت عينه قسريا وعلى نحو غير متمايز فاوالية التنرجس- التشغيل (الانشطار النفسي) دفاعية. بل هي ردة فعل وحيلة دفاعية لاستعادة التوازن والاحترام للذات على نحو غير مباشر أي ناقص ووهمي ولفظي. ويستسهل البعض، في سبيل ذلك، محاولات الإلغاء والتدمير لجهود يقدرها العالم العربي قاطبة.
4- التحريضي ليس فكرا مؤسسا ولا هو خطاب منتج منظرإن التحريضي أو ما مر أعلاه انه جاهز أو متحرك بالرغبة وبالتمنيات وبالحيل الدفاعية وردود الفعل كلها سيرورات نكوصية تعادل العودة إلى الوراء وهي عودة غير صائبة وغير إيجابية. وقد نستمد منها التوصيات حول إقصاء أشياء أو غرس أخرى مناقضة. ذلك أن منطق الإنتاج وإعادة النظر في المنتوج هو منطق مراد ومنتهج وليس حرا هو منطق الأهواء الذي ليس همه معرفيا وتحليلا أو تدبرا أو محاكمة. فالتوصيات والتحذيرات نافحة لكنها ليست الحلم. فهي قد تأتي من اجل ضرورات التحسين والتطور وبذلك فهي خطوة وجزء فرعي وتطبيق وتفاصيل تعود إلى الممارسة ولكنها ليست بالموضوع الرئيسي.
لهذا نرى أن الدعوات إلى مدرسة عربية عليها أن تتجاوز هذا التحريضي وألا تلتفت في انطلاقتها، كتيار فكري أو كنظرية معرفية، إلى محاولات التجريح والإساءة مع التزامها التام بالنقد العلمي- الموضوعي.
5- نحو سيكولوجية عربية:
يبقى، بعد أيضا، نفيويّ لا بدّيّ مفاده أن الفصل بين الممارس والنظري أو بين التطبيقي والإنتاج المعرفي هر فصل لا يصل إلى القطيعة بل هو يهدف إلى توضيح المنطلقات والأسس للوصول لاحقا إلى التكامل.
لذلك نجد العودة إلى كتاب "سيكولوجيا عربية" عودة نافحة ومجزية فقد نظم مؤلف الكتاب، الدكتور محمد احمد النابلسي، وبوب ورتب وابرز الإشكاليات داخل قطاع علم النفس في الفكر العربي المعاصر. بحيث يبدو أستاذنا الدكتور النابلسي عملاقا يكشف الحواجز ويوضح المبررات والتفاصيل التطبيقية بما يجعل من دعوته إلى السيكولوجيا العربية جاهزة للتكامل مع النظري والائتلاف معه. فالمؤلف يوضح، في كتابه، العديد من المنطلقات التي يستند إليها في دعوته فيقول:
... "إن أجواء الواقع الثقافي العالمي الراهن لم تعد تقبل الانغلاق الفكري والثقافي واللغوي وهي تميل إلى فرض واقع عالمي عبر حضاري يترك لكل ثقافة مسؤولية الحفاظ على هويتها وخصوصيتها... (ص 35).
إذا فالدعوة ليست دعوة انغلاق بل هي دعوة عبر حضارية وهدفها بعيد عن التمييز ويقتصر على هدف الحفاظ على الهوية والخصوصية. وبهذا نلتقي مع المؤلف في طروحاتنا حول التحليل النفسي والأناسي للذات العربية.
..." يهتم الطب النفسي عبر الحضاري بملاحظة وتسجيل القواسم المشتركة بين الحضارات دون أن يقبل بإلغاء أو بإهمال الفوارق بين هذه الحضارات.
فإذا كانت التصنيفات المطروحة عالميا هي لغة القواسم المشتركة بين الحضارات فان ذلك لا يلغي أهمية إرساء التصنيفات المحلية المعتمدة على الفوارق الحضارية (أي المدرسة النفسية العربية"... (ص 109).
كما يركز النابلسي على تبيان الهنات والزلاّت التي يمكنها أن تنجم عن التبعية المطلقة والعمياء للمدارس الغربية. كما يتضمن الكتاب توصيفات للصعوبات وطرحا للحلول وتعبيرا عن معاناة ومعايشة لمشكلات المصطلح الاختصاصي وميوعة العمل المعجمي وضحالة الترجمة والتأرخة وغياب السلطة والنصوص المنظمة (اتحاد عام، نقابة، جمعية، مؤتمرات... الخ) نقص الأجهزة والخبرات والدوريات المتخصصة وهزال العمل الإنتاجي الفريقي وغلبة الروح القطرية وضعف الحس القومي والشعور بالمسؤولية والرغبة بالتعاون... وعلى صعيد آخر يعزز الكلام بحق ودليلا على الحيوية وعلى الصعوبات والتجزئة وعن ضحالة المبالغ التي تخصصها الحكومات للبحث العلمي أو لمراكز البحوث وعن جدوى التبيئة ووضع الاستراتيجية الكبرى والخطط والمشاريع ومن... وعن... حتى يبدو الدكتور محمد النابلسي قمة فقد بذل من المجهودات والنفقات كثيرا مع إخلاصه ومحبته لذلك العمل الجامع (للجهود)- المشاريعي.
إن محاكمتنا لهذا العمل إيجابية أمام هذا التكرس الذي يفرض الاحترام وينعش الأمل والثقة بالتغلب على المفرّق والمعوّق والجارح. حيث أنني أرى في دعوة السيكولوجيا العربية مدرسة تتوضح من حيث البنية والوظيفة أو من حيث الطبيعة والخصائص المميزة بالمقارنة مع المدرسة العربية في الفلسفة وعن ثم في العلوم الإنسانية كافة. حيث نفرق بين الدراسة المنهجية لمشكلات مدرسة فكرية أو لأيديولوجيا [ليست هي تلك المدرسة أو تلك الأيديولوجيا) ولنن الطرح النظري والتطبيقي لهذه المدرسة ولأسسها على بساط المناقشة والبحث عن التكامل. إذ يشير مؤلف "نحو سيكولوجيا عربية ، إلى ذلك بقوله: (إن مجمل محتويات هذا الكتاب هي أفكار أولية لا يمكنها أن تتشكل في قالب فكري- علمي إلا من خلال توسيع حلقة النقاش حتى تشمل وجهات النظر المختلفة بعيدا عن الأسر العقلي وعن التمرد النرجسي (الاحتجاجي).
6- الدراسات السابقة- لمحة عن رواد علم النفس في الفكر العربي
كان للباحثين العرب، في الجامعات المصرية، من مثل زيــور وصفــوان وعلــي ومــراد والقوصــي فضل الريادة والمؤسس والحارث الشجاع والصبور.
ولقد ذكرت مرارا أن زيور (وصفوان من بعده) قد لعب دور البطل في جذب كثيرين (وأنا منهم) إلى التحليل النفسي. ثم إن القوصي، على سبيل الشاهد الآخر، قد حظي بمركز واحترام عالميين.
ولقد نبهنا سابقا إلى أن أولئك المنتجين القديرين قد التفتوا إلى المحلي والخصوصي وهم قد دجنوا وعربوا ونشروا وعلموا ثم نظموا المؤسسات وتولوا توجيهها. حتى بات هؤلاء الفوارس هم المرجعية في تراثنا النفسي الحديث. لكنهم لم ينادوا بمدرسة عربية لها خصائصها واهتماماتها في علم النفس العام. بالرغم من تمكنهم من تنظيم تيارات اختصاصية وجماعات منظمة مثل جماعة علم النفس التكاملي (التي أسسها يوسف مراد) وجماعة التحليل النفسي (التي أسسها مصطفى زيور). لكن هذه التيارات لم تنجح في التحول إلى حركات فكرية بمعنى الكلمة. فإما المقصود بالتيار الراهن فهو المنطلق المحلي والبنية العامة والمشكلات والطموحات الخصوصية وأدوات الإنتاج المصنعة في هذا المجتمع وهذه المصطلحات والحقل... لكأننا هنا في مجال ينتمي إلى الفكر الاستراتيجي والوعي العقلاني بالقدرة على الضبط الذاتي والتحكم والاكتفاء.
في هذا الاتجاه خطا الرواد خطوات تأسيسية حاسمة. إذ درس زيور الشخصية الإسرائيلية (مصطفى زيور، 1990) وعقد المقارنة بينها وبين الشخصية العربية. كما تطرق إلى الخصوصيات الحضارية في عيادة التحليل النفسي. حيث بين خصوصية المريض اليهودي الذي عالجه في فرنسا كما بين خصوصيات مرضاه الحرب (مصطفى زيور، 1990).
وفي هذا الاتجاه الحضاري المقارن عمل العديد من الزملاء المصريين. ثم جاءت بعد هذه التأسيسات "موسوعة التحليل النفسي الأناسي..." (من تأليفي) التي قدمت للمحلل النفسي، في الفكر العربي، نظرية في الشخصية وفي مقامات الجهاز النفسي. وهي تبدو أوسع مدى و أقرب إلى الواقعي والإفهام من النظرية الفرويدية الكلاسيكية دون ابتعاد ساحق أو تناقض مبدئي مع هذه الأخيرة. ذلك أن التعديل يطال الناحية الخصوصية (عبر الحضارية) والمميزات الاناسية للشخصية العربية .
كما قدمت "الموسعة"، للمثال أيضا، نظرية في الاختبارات الإسقاطية (الاخفائية) وأفكارا حول العلاج النفسي متأسسة على المعهود والمألوف بل وأفكارا حول الطب النفسي هي عبارة عن تقميشات للمعتقدات والأجواء الثقافية العربية في ذلك الشأن.
قد يكون ما قدمناه في الموسعة طموحا ورغبة اكثر مما كان عملا واقعيا ربما لكن ذلك موضوع آخر. أنا أتساءل هل يستطع محلل نفسي أو معالج أو طبيب نفسي عربي الاستغناء عن تحليل الأحلام ولا سيما عن تفسير الرموز الذي قام به الجزء الـ 15 من "موسعة التحليل النفسي"؟
فيما يلي، وعلى سبيل العينة، قطاعان من المدرسة العربية يمثلان ما هو فيها عادات ونظر ومحاكمة وطرائق إنتاج ومنطق ضمني وتوجهات عامة وفلسفة وعلم:
أ- القطاع الأول: تقديم اختبار إسقاطي قادر على استكشاف شخصية المفحوص أي على قراءة المكبوت والمقموع والكذب والمستور والمعتم والثانوي. وقد أسميت هذا. الاختبار بر (الرورشاخ العربي) واقترح له صديقي الدكتور النابلسي تسمية "اختبار تنقيط الكلمات". حيث يقوم الاختبار على تقديم كلمات غير منقطة للمفحوص والطلب إليه أن ينقطها ليعطيها المعاني. مثال ذلك أن نعطيه كلمة (قبل) فنجد أن بعضهم يخرجها قبل وآخر قتل... الخ.
ب- القطاع الثاني: التقويم والمقاضاة، في ضوء النقدية الاستيعابية، للحركة التي تزرع في ميدان معاد للعلم الباحث عن المعرفة والقوانين من أجل الفهم الواقعي العقلاني للنفسية أو للظواهر النفسية الاجتماعية عند الإنسان.
إن القراءة المعمقة لكتاب (نحو سيكولوجيا عربية) تتيح للقارئ ملاحظة اتفاق منطلقات الفكرية مع "الموسعة" والتقائها مع الدعوات السابقة في الميادين الفرعية من دراسات الشخصية والحقل العربيين. فاختلاف مشروع النابلسي عن هذه المشاريع إن هو إلا ظاهري شكلاني يعود في أساسه إلى الإشكاليات المألوفة دين النظري والتطبيقي. حتى نرى أن هذه التيارات الفكرية إنما تأتي لتكامل بعضها البعض على طريق إرساء مدرسة علمية عربية تقدم الخدمات وتثبت فعاليتها في تلبية حاجات الإنسان العربي.
فالرورشاخ العربي أو "اختبار تنقيط الكلمات"، على سبيل العينة، لن يجد طريقة للاستعمال العيادي إذا لم يتم تقنينه على يد التطبيقيين. ولعل مركز الدراسات النفسية هو الجهة الأصلح للقيام بمثل هذه المشاركة التكاملية. ليس فقط بسبب الإمكانيات العلمية للمركز بل لسبب رئيسي آخر يتمثل بالحضور العربي الواسع للمركز ولمجلته الثقافة النفسية بالإضافة إلى الاحترام الذي يتمتع به شخص الدكتور النابلسي في أجواء الاختصاص في العالم العربي. هذا الاحترام الذي رسخته محاولات العصابيين للانتقاص من ريادته. فالعصابي يسفه الآخر لتعويض احتقاره لذاته الاختصاصيون العرب يعرفون جيدا مثل هذه الحيل الدفاعية. فلا تزيدهم محاولات النيل من النابلسي إلا احتراما له.
المراجع
افرفار علي: كلية الآداب- فاس (المغرب) مجلة دراسات عربية 1995.
عبد الواحد الفقيهي: دراسات عربية، العدد 7- 8، ص 17- 30- 1989.
علي زيعور: قطاع الفلسفة الراهن في الذات العربية، بيروت، مؤسسة عز الدين، 1995.
محمد احمد النابلسي: نحر سيكولوجيا عربية ، بيروت، دار الطليعة، 1995.
يوسف مراد: نشاط العرب في العلوم الاجتماعية- عن تاريخ علم النفس في الفكر العربي- إشراف هيئة الدراسات العربية في الجامعات الأميركية، بيروت 1965
سعد جلال: المرجع في علم النفس ، القاهرة، دار المعارف، 1966.
مصطفى زيور: في النفس، بيروت، دار النهضة العربية.
تظهر بين الحين والآخر أحكام سلبية أو فاترة (افرفار علي، 95) متينة أو عابرة (الفقيهي، 89) على المدرسة العربية في علم النفس. ومن ثم في الفلسفة بل وفي العلوم الإنسانية كافة (زيعور-، 95). على الرغم من تضمن هذا الخطاب لمبادئ يمكنها التأسيس لمدرسة راسخة. لا سيما وأنها قد أنتجت النافع والشديد بحيث يأتي هذا الخطاب كدليل على الصحة النفسية والنضج الانفعالي للذات العربية. وهذا ما يدرجه البعض تحت خانة " اللياقة النفسية للإنسان العربي" (النابلسي 95)
إن محاكمة مثل هذه الظاهرة الفكرية تتم من خلال نظرة نقدية للقيمة العلمية لمنتوجنا النفساني والفلسفي. فذلك المنتوج وحده هو المعيار والمحك. هذا بغض الانظر عما هو إشباع، داخل الفكر العربي الراهن، لحاجات ثانوية من نحو: الحاجة للشعور بالاحتماء والاستقلال والحاجة للثقة بالنحن والحاجة للإحساس بالقدرة على العطاء والشعور باحترام الغير وبتقديرهم لنا ولاستقلالنا.
2- جدلية التسميات والمصطلحات
يسهل القول والمحاكمة عن مدرسة عربية في علم النفس كما في الفلسفة. فهذه التسمية مقبولة وتعتبر صائبة وسديدة. فهنا خطاب في توجهات متميزة وكلام عن تيار فكري وعن مؤسسين و إعلام ومناقشة لموضوعات محددة داخل مجال له همومه ومرجعيته ولا سيما طموحاته ومشكلاته. في حين روى العديدون بان الكلام عن علم نفس عربي هو غير منطقي وناقض ومنقوض. فأي تناقض هو رد الحلم، أي ما هو عام، إلى محلي وقومي وخصوصي وخاص. من هنا الرأي القائل بان يوضع أمام الوعي أن الحلم دراسة منهجية بطرائق، فالمراد هو أن العلم معرفة نظامية ممنهجة ممنهجة محددة الفرض (الميدان) وليس هو معرفة حدسية مستغنية عن التجريب والنظر في قوانين عامة ثابتة (البكاري، 95). في المقابل يختصر رائد الدعوة إلى علم نفس عربي (النابلسي، 96) الرد بالقول وبالتذكير بوجود اختصاص الطب الاستوائي الذي فرضته خاصية البيئة الاستوائية. فما أحرانا بدراسة آثار البيئة وانعكاساتها على صعيد اللياقة النفسية وعلى صعيد العلوم الإنسانية وتطبيقاتها كافة. حتى نجد أن الخلاف يتمحور حول التسميات وليس حول الخطاب بحد ذاته. فإذا ما تجاوزنا التسميات وجدنا أن الطروحات متكاملة في ما بينها ومتفقة تمام الاتفاق في جوهرها.
3- الشخصية العربية ودراساتها
إن دراسة الشخصية العربية هي موضوع فرعي في نطاق المدرسة العربية. فهذا التحليل هو ميدان فرعي أو فرع تخصصي داخل هذه المدرسة. لكن هذا الفرع كغيره يثير النقاش فتتعدد الآراء حوله. فيرى البعض (النابلسي، 95) أن هذه الدراسة تقتضي تضافر جهود فريق متكامل من المتخصصين. وهو قد طرح رأيه هذا في مقابلة جمعت بينه (النابلسي) وبين الدكتور فرج عبد القادر طه (الثقافة النفسية- وجها لوجه- 1994). الذي نشر عدة دراسات حول الشخصية العربية. فكان موقف الدكتور طه، في المقابلة، هو التالي: أنا أقر ضرورة الشورى في دراسة الشخصية العربية وتحري ملامحها من قبل فريق من المتخصصين. لكن انعدام وجود مثل هذا الفريق لا يمنعني من تقديم مساهماتي وآرائي الشخصية ووضعها في خدمة هذا الموضوع.
هذه المقابلة تبين لنا أن الاختلاف، في هذه المواضيع، لا يفسد في الود قضية. وان النقد العلمي يقابل بالعرفان وبالموضوعية. وهذه المواقف المتوازنة تختلف كل الاختلاف عن موقف التقليل من أهمية جهد أو دراسة. إذ انه من الخطل والخطأ تبخيس ميدان معرفي وتضئيل الغارسين فيه ظنا بأننا بذلك نعزز وننرجس منتوجنا الشخصي. فمن المعروف الشائع في التحليل النفسي أن مسفل الغير يضخم ذاته في الوقت عينه قسريا وعلى نحو غير متمايز فاوالية التنرجس- التشغيل (الانشطار النفسي) دفاعية. بل هي ردة فعل وحيلة دفاعية لاستعادة التوازن والاحترام للذات على نحو غير مباشر أي ناقص ووهمي ولفظي. ويستسهل البعض، في سبيل ذلك، محاولات الإلغاء والتدمير لجهود يقدرها العالم العربي قاطبة.
4- التحريضي ليس فكرا مؤسسا ولا هو خطاب منتج منظرإن التحريضي أو ما مر أعلاه انه جاهز أو متحرك بالرغبة وبالتمنيات وبالحيل الدفاعية وردود الفعل كلها سيرورات نكوصية تعادل العودة إلى الوراء وهي عودة غير صائبة وغير إيجابية. وقد نستمد منها التوصيات حول إقصاء أشياء أو غرس أخرى مناقضة. ذلك أن منطق الإنتاج وإعادة النظر في المنتوج هو منطق مراد ومنتهج وليس حرا هو منطق الأهواء الذي ليس همه معرفيا وتحليلا أو تدبرا أو محاكمة. فالتوصيات والتحذيرات نافحة لكنها ليست الحلم. فهي قد تأتي من اجل ضرورات التحسين والتطور وبذلك فهي خطوة وجزء فرعي وتطبيق وتفاصيل تعود إلى الممارسة ولكنها ليست بالموضوع الرئيسي.
لهذا نرى أن الدعوات إلى مدرسة عربية عليها أن تتجاوز هذا التحريضي وألا تلتفت في انطلاقتها، كتيار فكري أو كنظرية معرفية، إلى محاولات التجريح والإساءة مع التزامها التام بالنقد العلمي- الموضوعي.
5- نحو سيكولوجية عربية:
يبقى، بعد أيضا، نفيويّ لا بدّيّ مفاده أن الفصل بين الممارس والنظري أو بين التطبيقي والإنتاج المعرفي هر فصل لا يصل إلى القطيعة بل هو يهدف إلى توضيح المنطلقات والأسس للوصول لاحقا إلى التكامل.
لذلك نجد العودة إلى كتاب "سيكولوجيا عربية" عودة نافحة ومجزية فقد نظم مؤلف الكتاب، الدكتور محمد احمد النابلسي، وبوب ورتب وابرز الإشكاليات داخل قطاع علم النفس في الفكر العربي المعاصر. بحيث يبدو أستاذنا الدكتور النابلسي عملاقا يكشف الحواجز ويوضح المبررات والتفاصيل التطبيقية بما يجعل من دعوته إلى السيكولوجيا العربية جاهزة للتكامل مع النظري والائتلاف معه. فالمؤلف يوضح، في كتابه، العديد من المنطلقات التي يستند إليها في دعوته فيقول:
... "إن أجواء الواقع الثقافي العالمي الراهن لم تعد تقبل الانغلاق الفكري والثقافي واللغوي وهي تميل إلى فرض واقع عالمي عبر حضاري يترك لكل ثقافة مسؤولية الحفاظ على هويتها وخصوصيتها... (ص 35).
إذا فالدعوة ليست دعوة انغلاق بل هي دعوة عبر حضارية وهدفها بعيد عن التمييز ويقتصر على هدف الحفاظ على الهوية والخصوصية. وبهذا نلتقي مع المؤلف في طروحاتنا حول التحليل النفسي والأناسي للذات العربية.
..." يهتم الطب النفسي عبر الحضاري بملاحظة وتسجيل القواسم المشتركة بين الحضارات دون أن يقبل بإلغاء أو بإهمال الفوارق بين هذه الحضارات.
فإذا كانت التصنيفات المطروحة عالميا هي لغة القواسم المشتركة بين الحضارات فان ذلك لا يلغي أهمية إرساء التصنيفات المحلية المعتمدة على الفوارق الحضارية (أي المدرسة النفسية العربية"... (ص 109).
كما يركز النابلسي على تبيان الهنات والزلاّت التي يمكنها أن تنجم عن التبعية المطلقة والعمياء للمدارس الغربية. كما يتضمن الكتاب توصيفات للصعوبات وطرحا للحلول وتعبيرا عن معاناة ومعايشة لمشكلات المصطلح الاختصاصي وميوعة العمل المعجمي وضحالة الترجمة والتأرخة وغياب السلطة والنصوص المنظمة (اتحاد عام، نقابة، جمعية، مؤتمرات... الخ) نقص الأجهزة والخبرات والدوريات المتخصصة وهزال العمل الإنتاجي الفريقي وغلبة الروح القطرية وضعف الحس القومي والشعور بالمسؤولية والرغبة بالتعاون... وعلى صعيد آخر يعزز الكلام بحق ودليلا على الحيوية وعلى الصعوبات والتجزئة وعن ضحالة المبالغ التي تخصصها الحكومات للبحث العلمي أو لمراكز البحوث وعن جدوى التبيئة ووضع الاستراتيجية الكبرى والخطط والمشاريع ومن... وعن... حتى يبدو الدكتور محمد النابلسي قمة فقد بذل من المجهودات والنفقات كثيرا مع إخلاصه ومحبته لذلك العمل الجامع (للجهود)- المشاريعي.
إن محاكمتنا لهذا العمل إيجابية أمام هذا التكرس الذي يفرض الاحترام وينعش الأمل والثقة بالتغلب على المفرّق والمعوّق والجارح. حيث أنني أرى في دعوة السيكولوجيا العربية مدرسة تتوضح من حيث البنية والوظيفة أو من حيث الطبيعة والخصائص المميزة بالمقارنة مع المدرسة العربية في الفلسفة وعن ثم في العلوم الإنسانية كافة. حيث نفرق بين الدراسة المنهجية لمشكلات مدرسة فكرية أو لأيديولوجيا [ليست هي تلك المدرسة أو تلك الأيديولوجيا) ولنن الطرح النظري والتطبيقي لهذه المدرسة ولأسسها على بساط المناقشة والبحث عن التكامل. إذ يشير مؤلف "نحو سيكولوجيا عربية ، إلى ذلك بقوله: (إن مجمل محتويات هذا الكتاب هي أفكار أولية لا يمكنها أن تتشكل في قالب فكري- علمي إلا من خلال توسيع حلقة النقاش حتى تشمل وجهات النظر المختلفة بعيدا عن الأسر العقلي وعن التمرد النرجسي (الاحتجاجي).
6- الدراسات السابقة- لمحة عن رواد علم النفس في الفكر العربي
كان للباحثين العرب، في الجامعات المصرية، من مثل زيــور وصفــوان وعلــي ومــراد والقوصــي فضل الريادة والمؤسس والحارث الشجاع والصبور.
ولقد ذكرت مرارا أن زيور (وصفوان من بعده) قد لعب دور البطل في جذب كثيرين (وأنا منهم) إلى التحليل النفسي. ثم إن القوصي، على سبيل الشاهد الآخر، قد حظي بمركز واحترام عالميين.
ولقد نبهنا سابقا إلى أن أولئك المنتجين القديرين قد التفتوا إلى المحلي والخصوصي وهم قد دجنوا وعربوا ونشروا وعلموا ثم نظموا المؤسسات وتولوا توجيهها. حتى بات هؤلاء الفوارس هم المرجعية في تراثنا النفسي الحديث. لكنهم لم ينادوا بمدرسة عربية لها خصائصها واهتماماتها في علم النفس العام. بالرغم من تمكنهم من تنظيم تيارات اختصاصية وجماعات منظمة مثل جماعة علم النفس التكاملي (التي أسسها يوسف مراد) وجماعة التحليل النفسي (التي أسسها مصطفى زيور). لكن هذه التيارات لم تنجح في التحول إلى حركات فكرية بمعنى الكلمة. فإما المقصود بالتيار الراهن فهو المنطلق المحلي والبنية العامة والمشكلات والطموحات الخصوصية وأدوات الإنتاج المصنعة في هذا المجتمع وهذه المصطلحات والحقل... لكأننا هنا في مجال ينتمي إلى الفكر الاستراتيجي والوعي العقلاني بالقدرة على الضبط الذاتي والتحكم والاكتفاء.
في هذا الاتجاه خطا الرواد خطوات تأسيسية حاسمة. إذ درس زيور الشخصية الإسرائيلية (مصطفى زيور، 1990) وعقد المقارنة بينها وبين الشخصية العربية. كما تطرق إلى الخصوصيات الحضارية في عيادة التحليل النفسي. حيث بين خصوصية المريض اليهودي الذي عالجه في فرنسا كما بين خصوصيات مرضاه الحرب (مصطفى زيور، 1990).
وفي هذا الاتجاه الحضاري المقارن عمل العديد من الزملاء المصريين. ثم جاءت بعد هذه التأسيسات "موسوعة التحليل النفسي الأناسي..." (من تأليفي) التي قدمت للمحلل النفسي، في الفكر العربي، نظرية في الشخصية وفي مقامات الجهاز النفسي. وهي تبدو أوسع مدى و أقرب إلى الواقعي والإفهام من النظرية الفرويدية الكلاسيكية دون ابتعاد ساحق أو تناقض مبدئي مع هذه الأخيرة. ذلك أن التعديل يطال الناحية الخصوصية (عبر الحضارية) والمميزات الاناسية للشخصية العربية .
كما قدمت "الموسعة"، للمثال أيضا، نظرية في الاختبارات الإسقاطية (الاخفائية) وأفكارا حول العلاج النفسي متأسسة على المعهود والمألوف بل وأفكارا حول الطب النفسي هي عبارة عن تقميشات للمعتقدات والأجواء الثقافية العربية في ذلك الشأن.
قد يكون ما قدمناه في الموسعة طموحا ورغبة اكثر مما كان عملا واقعيا ربما لكن ذلك موضوع آخر. أنا أتساءل هل يستطع محلل نفسي أو معالج أو طبيب نفسي عربي الاستغناء عن تحليل الأحلام ولا سيما عن تفسير الرموز الذي قام به الجزء الـ 15 من "موسعة التحليل النفسي"؟
فيما يلي، وعلى سبيل العينة، قطاعان من المدرسة العربية يمثلان ما هو فيها عادات ونظر ومحاكمة وطرائق إنتاج ومنطق ضمني وتوجهات عامة وفلسفة وعلم:
أ- القطاع الأول: تقديم اختبار إسقاطي قادر على استكشاف شخصية المفحوص أي على قراءة المكبوت والمقموع والكذب والمستور والمعتم والثانوي. وقد أسميت هذا. الاختبار بر (الرورشاخ العربي) واقترح له صديقي الدكتور النابلسي تسمية "اختبار تنقيط الكلمات". حيث يقوم الاختبار على تقديم كلمات غير منقطة للمفحوص والطلب إليه أن ينقطها ليعطيها المعاني. مثال ذلك أن نعطيه كلمة (قبل) فنجد أن بعضهم يخرجها قبل وآخر قتل... الخ.
ب- القطاع الثاني: التقويم والمقاضاة، في ضوء النقدية الاستيعابية، للحركة التي تزرع في ميدان معاد للعلم الباحث عن المعرفة والقوانين من أجل الفهم الواقعي العقلاني للنفسية أو للظواهر النفسية الاجتماعية عند الإنسان.
إن القراءة المعمقة لكتاب (نحو سيكولوجيا عربية) تتيح للقارئ ملاحظة اتفاق منطلقات الفكرية مع "الموسعة" والتقائها مع الدعوات السابقة في الميادين الفرعية من دراسات الشخصية والحقل العربيين. فاختلاف مشروع النابلسي عن هذه المشاريع إن هو إلا ظاهري شكلاني يعود في أساسه إلى الإشكاليات المألوفة دين النظري والتطبيقي. حتى نرى أن هذه التيارات الفكرية إنما تأتي لتكامل بعضها البعض على طريق إرساء مدرسة علمية عربية تقدم الخدمات وتثبت فعاليتها في تلبية حاجات الإنسان العربي.
فالرورشاخ العربي أو "اختبار تنقيط الكلمات"، على سبيل العينة، لن يجد طريقة للاستعمال العيادي إذا لم يتم تقنينه على يد التطبيقيين. ولعل مركز الدراسات النفسية هو الجهة الأصلح للقيام بمثل هذه المشاركة التكاملية. ليس فقط بسبب الإمكانيات العلمية للمركز بل لسبب رئيسي آخر يتمثل بالحضور العربي الواسع للمركز ولمجلته الثقافة النفسية بالإضافة إلى الاحترام الذي يتمتع به شخص الدكتور النابلسي في أجواء الاختصاص في العالم العربي. هذا الاحترام الذي رسخته محاولات العصابيين للانتقاص من ريادته. فالعصابي يسفه الآخر لتعويض احتقاره لذاته الاختصاصيون العرب يعرفون جيدا مثل هذه الحيل الدفاعية. فلا تزيدهم محاولات النيل من النابلسي إلا احتراما له.
المراجع
افرفار علي: كلية الآداب- فاس (المغرب) مجلة دراسات عربية 1995.
عبد الواحد الفقيهي: دراسات عربية، العدد 7- 8، ص 17- 30- 1989.
علي زيعور: قطاع الفلسفة الراهن في الذات العربية، بيروت، مؤسسة عز الدين، 1995.
محمد احمد النابلسي: نحر سيكولوجيا عربية ، بيروت، دار الطليعة، 1995.
يوسف مراد: نشاط العرب في العلوم الاجتماعية- عن تاريخ علم النفس في الفكر العربي- إشراف هيئة الدراسات العربية في الجامعات الأميركية، بيروت 1965
سعد جلال: المرجع في علم النفس ، القاهرة، دار المعارف، 1966.
مصطفى زيور: في النفس، بيروت، دار النهضة العربية.