الشعور بـ«الاغتراب» غير «الغربة». فكلنا «نتغرب» إذ نترك المكان الذى نشأنا فيه أو اعتدنا عليه، ولكن الشعور بالاغتراب معناه أن تشعر بأنك غريب حتى وأنت بين أهلك ولم تغادر وطنك.
واحتمال الشعور بالاغتراب يزيد فى المجتمع الصناعى عنه فى المجتمع الزراعى، وفى المدن الكبيرة عنه فى القرية الصغيرة. لا أذكر أننى صادفت قط إشارة إلى مثل من أمثلة الاغتراب فى قراءتى عن العصور الوسطى فى أوروبا، ولكننى صادفت أمثلة متكررة للاغتراب (سواء استخدام هذا اللفظ أو غيره) فيما كتب عن المجتمع الأوروبى أثناء وبعد الثورة الصناعية.
وتحتل ظاهرة الاغتراب مكانة مهمة فى نقد كارل ماركس للرأسمالية ولدى الاشتراكيين التالين له. أما فى بلادنا التى سميت مرة بـ«المتخلفة»، ومرة بـ«بلاد العالم الثالث»، وتوصف اليوم بـ«النامية»، فهى لم تعد بلادا زراعية على النحو الذى كانت عليه منذ نصف قرن، ولا بلادا صناعية مثل الدول المسماة بالمتقدمة، كما أنها لا تستحق وصف الرأسمالية الذى تستحقه
البلاد الصناعية، بل هى مزيج غريب من مراحل مختلفة من التطور الاقتصادى، كما انها تطبق مزيجا غريبا من الرأسمالية وسيطرة الدولة والمحسوبية والتهاون فى تطبيق القانون (مما يسمى أحيانا برأسمالية المحاسيب). فى ظل هذه الظروف التى تعيش فيها بلادنا، لابد أن نتوقع أمثلة كثيرة للشعور بالاغتراب، ولكن لابد أن نتوقع أيضا اختلافات مهمة بين هذا الشعور
عندنا وبينه فى البلاد الصناعية الأكثر تقدما.
أظن أيضا أن «المثقف» بوجه عام أكثر تعرضا للشعور بالاغتراب من غيره من الناس. ووصف «المثقف» الذى أعنيه بهذا القول، لا يجب أن يؤخذ بمعنى سطحى يقاس بمدى اتساع المعرفة، بل هو أقرب إلى ما كان يقصده المتنبى بقوله:
«إن الكريم غريب أينما كانا».
فإذا جازفنا بالمقارنة بين حال المثقفين المصريين خلال الخمسين أو الستين عاما الماضية، وبين حال مثقفى الدول الصناعية المتقدمة فى نفس الفترة، لوجدنا أن معاناة المثقفين المصريين كانت أكثر بسبب الحكم الديكتاتورى، وبسبب تدهور مستوى وسائل الإعلام، التى كثيرا ما استخدمت لأغراض سياسية ولكنها كانت توجه عادة إلى الجمهور الواسع الأقل ثقافة، بل وأيضا
بسبب الصورة التى اتخذتها ظاهرة المجتمع الاستهلاكى عندنا، بالمقارنة بصورتها فى الدول الأكثر ثراء.
لاشك أن ظاهرة الحكم العسكرى كانت من سمات بلاد العالم الثالث خلال نصف القرن الماضى، أكثر مما كانت من سمات البلاد الصناعية، وكذلك استخدام وسائل الإعلام لخدمة أغراض سياسية. أما ظاهرة المجتمع الاستهلاكى، فقد استمرت مصدرا للشكوى من جانب مثقفى العالم المتقدم والمتخلف على السواء، ولكن هذه الظاهرة حدث لها شىء مهم عندما انتقلت من دول
المنشأ، فى العالم الغربى الصناعى، إلى دولنا البائسة. فالمحرومون من التمتع بالاستهلاك العالى أكثر بالطبع فى بلادنا، ولكن الأهم من ذلك أن سلع الاستهلاك البذخى كانت ولاتزال من صنع غيرنا، وتعبر عن ثقافة غير ثقافتنا ومن ثم أصبح استيرادها وشيوع استهلاكنا فى بلادنا أكثر إثارة للرثاء والسخرية.
•••
ولكننى لاحظت مع الأسف الشديد أن الشعور بالاغتراب لدى المثقفين المصريين قد زاد حدة خلال السنوات الأربع الماضية، أى فى أعقاب ثورة شعبية فى ٢٥ يناير ٢٠١١. كنا نتوقع أن يحدث العكس بالضبط، عن طريق التخلص من هذه الأمراض الثلاثة التى تشيع الاكتئاب والاغتراب: الديكتاتورية، وتدهور وسائل الإعلام، وشيوع الاستهلاك البذخى. لم يحدث شىء من
هذا، فلا غرابة أن يعود، بل وأن يشتد الشعور بالاغتراب.
قادنى هذا إلى البحث عما يمكن أن يكون قد كتبه بعض المهتمين بظاهرة الاغتراب فى توضيح ما يتكون منه هذا الشعور، فوجدت أربعة أو خمسة عناصر قد تجعل الفكرة أكثر وضوحا. هناك أولا الشعور بقلة الحيلة، أى بعدم القدرة على إحداث أى تغيير رغم الشعور القوى بالحاجة إلى هذا التغيير. هناك أيضا الشعور بـ«انعدام المعنى» أى كثرة ما يمر أمام أنظارنا من
أحداث لا يمكن تفسيرها، أويتعارض بعضها مع البعض الآخر. هناك ثالثا غياب القاعدة أو المبدأ الذى يمكن أن يهتدى به فى اختيار السلوك الواجب اتخاذه فى أى ظرف معين. فاتباع القواعد التى كانت سائدة فى الماضى لا يبدو أنه يؤدى إلى إحداث النتيجة المطلوبة، ولا توجد قواعد جديدة بدلا منها يمكن الوثوق فى نتيجتها. ولكن هناك أيضا، بالطبع، شعور المرء
بأنه لا يتعاطف مع ما يجرى من حوله، وأن ما تعبر عنه معظم وسائل الإعلام لا يتفق مع ما يشعر هو به.
أخذت أستعيد فى ذهنى ما يمكن أن أكون قد صادفته خلال الأربع سنوات الماضية ويمكن تصنيفه تحت أى من هذه المكونات أو المظاهر للشعور بالاغتراب وجدت أمثلة كثيرة من بينها ما حدث لبعض من كتابى المفضلين الذين كنت أحرص بشغف على متابعة ما يكتبون أسبوعيا فى الصحف. كانوا فضلا عن إجادتهم لصنعة الكتابة، وخفة ظلهم، يتسمون بحساسية
واضحة لمشاكل الوطن، مع حسن اختيارهم للموضوع الذى يكتبون فيه من بين المشكلات الكثيرة التى تطرأ بين الحين والآخر. وجدتهم يتحولون إلى الكتابة فى موضوعات غريبة لا صلة لها بما يجرى فى البلاد، فيتكلمون عن حادث وقع فى الماضى السحيق، أو يعلقون على أحداث قليلة الأهمية، أو يهجرون الكلام فى أى شىء وله علاقة بالسياسة إلى موضوع أدبى
أو فلسفى، (أو حتى إلى نوع من السيرة الذاتية كما فعلت أنا فى بعض مقالاتى). بدوا لى وكأنهم قرروا أنهم، إذا كانوا سيستمرون فى الكتابة، لابدأن يتجنبوا الكلام فى أى مشكلة جارية. هؤلاء لا يمكن أن يكونوا قد فقدوا فجأة حساسيتهم لما يجرى فى البلاد، أو قدرتهم على التمييز بين المهم وغير المهم، ولكنهم على الأرجح أصابهم شعور حاد بـ«الاغتراب».
•••
أحيانا أشرع فى الكتابة فى موضوع يبدو لى مهما وجديرا بالتفات المسئولين أملا فى إصلاحه. ثم أجد أننى أتساءل: «لمن بالضبط أوجه الكلام؟»، وقد أصبح الحوار تقريبا من طرف واحد فقط، ولا يرد عليك أحد؟ ثم أتخيل عدد الأبواب التى أصبحت موصدة فى وجهك. التظاهر ممنوع حتى لو كان سلميا. الإضراب عن العمل ممنوع ولو كان لمطلب عادل الاشتغال
بالسياسة من جانب أساتذة الجامعة يمكن أن يعرض صاحبه للعقاب. التعليق على الأحكام القضائية ممنوع لأنه ينال من هيبة القضاء. ولم يعد من السهل الجزم بما إذا كان من يكلمك أو يكتب لك صديقا أم عدوا. فإذا لم يكن هذا صورة من صور الشعور بالاغتراب.. فماذا يكون؟
جلال أمين
واحتمال الشعور بالاغتراب يزيد فى المجتمع الصناعى عنه فى المجتمع الزراعى، وفى المدن الكبيرة عنه فى القرية الصغيرة. لا أذكر أننى صادفت قط إشارة إلى مثل من أمثلة الاغتراب فى قراءتى عن العصور الوسطى فى أوروبا، ولكننى صادفت أمثلة متكررة للاغتراب (سواء استخدام هذا اللفظ أو غيره) فيما كتب عن المجتمع الأوروبى أثناء وبعد الثورة الصناعية.
وتحتل ظاهرة الاغتراب مكانة مهمة فى نقد كارل ماركس للرأسمالية ولدى الاشتراكيين التالين له. أما فى بلادنا التى سميت مرة بـ«المتخلفة»، ومرة بـ«بلاد العالم الثالث»، وتوصف اليوم بـ«النامية»، فهى لم تعد بلادا زراعية على النحو الذى كانت عليه منذ نصف قرن، ولا بلادا صناعية مثل الدول المسماة بالمتقدمة، كما أنها لا تستحق وصف الرأسمالية الذى تستحقه
البلاد الصناعية، بل هى مزيج غريب من مراحل مختلفة من التطور الاقتصادى، كما انها تطبق مزيجا غريبا من الرأسمالية وسيطرة الدولة والمحسوبية والتهاون فى تطبيق القانون (مما يسمى أحيانا برأسمالية المحاسيب). فى ظل هذه الظروف التى تعيش فيها بلادنا، لابد أن نتوقع أمثلة كثيرة للشعور بالاغتراب، ولكن لابد أن نتوقع أيضا اختلافات مهمة بين هذا الشعور
عندنا وبينه فى البلاد الصناعية الأكثر تقدما.
أظن أيضا أن «المثقف» بوجه عام أكثر تعرضا للشعور بالاغتراب من غيره من الناس. ووصف «المثقف» الذى أعنيه بهذا القول، لا يجب أن يؤخذ بمعنى سطحى يقاس بمدى اتساع المعرفة، بل هو أقرب إلى ما كان يقصده المتنبى بقوله:
«إن الكريم غريب أينما كانا».
فإذا جازفنا بالمقارنة بين حال المثقفين المصريين خلال الخمسين أو الستين عاما الماضية، وبين حال مثقفى الدول الصناعية المتقدمة فى نفس الفترة، لوجدنا أن معاناة المثقفين المصريين كانت أكثر بسبب الحكم الديكتاتورى، وبسبب تدهور مستوى وسائل الإعلام، التى كثيرا ما استخدمت لأغراض سياسية ولكنها كانت توجه عادة إلى الجمهور الواسع الأقل ثقافة، بل وأيضا
بسبب الصورة التى اتخذتها ظاهرة المجتمع الاستهلاكى عندنا، بالمقارنة بصورتها فى الدول الأكثر ثراء.
لاشك أن ظاهرة الحكم العسكرى كانت من سمات بلاد العالم الثالث خلال نصف القرن الماضى، أكثر مما كانت من سمات البلاد الصناعية، وكذلك استخدام وسائل الإعلام لخدمة أغراض سياسية. أما ظاهرة المجتمع الاستهلاكى، فقد استمرت مصدرا للشكوى من جانب مثقفى العالم المتقدم والمتخلف على السواء، ولكن هذه الظاهرة حدث لها شىء مهم عندما انتقلت من دول
المنشأ، فى العالم الغربى الصناعى، إلى دولنا البائسة. فالمحرومون من التمتع بالاستهلاك العالى أكثر بالطبع فى بلادنا، ولكن الأهم من ذلك أن سلع الاستهلاك البذخى كانت ولاتزال من صنع غيرنا، وتعبر عن ثقافة غير ثقافتنا ومن ثم أصبح استيرادها وشيوع استهلاكنا فى بلادنا أكثر إثارة للرثاء والسخرية.
•••
ولكننى لاحظت مع الأسف الشديد أن الشعور بالاغتراب لدى المثقفين المصريين قد زاد حدة خلال السنوات الأربع الماضية، أى فى أعقاب ثورة شعبية فى ٢٥ يناير ٢٠١١. كنا نتوقع أن يحدث العكس بالضبط، عن طريق التخلص من هذه الأمراض الثلاثة التى تشيع الاكتئاب والاغتراب: الديكتاتورية، وتدهور وسائل الإعلام، وشيوع الاستهلاك البذخى. لم يحدث شىء من
هذا، فلا غرابة أن يعود، بل وأن يشتد الشعور بالاغتراب.
قادنى هذا إلى البحث عما يمكن أن يكون قد كتبه بعض المهتمين بظاهرة الاغتراب فى توضيح ما يتكون منه هذا الشعور، فوجدت أربعة أو خمسة عناصر قد تجعل الفكرة أكثر وضوحا. هناك أولا الشعور بقلة الحيلة، أى بعدم القدرة على إحداث أى تغيير رغم الشعور القوى بالحاجة إلى هذا التغيير. هناك أيضا الشعور بـ«انعدام المعنى» أى كثرة ما يمر أمام أنظارنا من
أحداث لا يمكن تفسيرها، أويتعارض بعضها مع البعض الآخر. هناك ثالثا غياب القاعدة أو المبدأ الذى يمكن أن يهتدى به فى اختيار السلوك الواجب اتخاذه فى أى ظرف معين. فاتباع القواعد التى كانت سائدة فى الماضى لا يبدو أنه يؤدى إلى إحداث النتيجة المطلوبة، ولا توجد قواعد جديدة بدلا منها يمكن الوثوق فى نتيجتها. ولكن هناك أيضا، بالطبع، شعور المرء
بأنه لا يتعاطف مع ما يجرى من حوله، وأن ما تعبر عنه معظم وسائل الإعلام لا يتفق مع ما يشعر هو به.
أخذت أستعيد فى ذهنى ما يمكن أن أكون قد صادفته خلال الأربع سنوات الماضية ويمكن تصنيفه تحت أى من هذه المكونات أو المظاهر للشعور بالاغتراب وجدت أمثلة كثيرة من بينها ما حدث لبعض من كتابى المفضلين الذين كنت أحرص بشغف على متابعة ما يكتبون أسبوعيا فى الصحف. كانوا فضلا عن إجادتهم لصنعة الكتابة، وخفة ظلهم، يتسمون بحساسية
واضحة لمشاكل الوطن، مع حسن اختيارهم للموضوع الذى يكتبون فيه من بين المشكلات الكثيرة التى تطرأ بين الحين والآخر. وجدتهم يتحولون إلى الكتابة فى موضوعات غريبة لا صلة لها بما يجرى فى البلاد، فيتكلمون عن حادث وقع فى الماضى السحيق، أو يعلقون على أحداث قليلة الأهمية، أو يهجرون الكلام فى أى شىء وله علاقة بالسياسة إلى موضوع أدبى
أو فلسفى، (أو حتى إلى نوع من السيرة الذاتية كما فعلت أنا فى بعض مقالاتى). بدوا لى وكأنهم قرروا أنهم، إذا كانوا سيستمرون فى الكتابة، لابدأن يتجنبوا الكلام فى أى مشكلة جارية. هؤلاء لا يمكن أن يكونوا قد فقدوا فجأة حساسيتهم لما يجرى فى البلاد، أو قدرتهم على التمييز بين المهم وغير المهم، ولكنهم على الأرجح أصابهم شعور حاد بـ«الاغتراب».
•••
أحيانا أشرع فى الكتابة فى موضوع يبدو لى مهما وجديرا بالتفات المسئولين أملا فى إصلاحه. ثم أجد أننى أتساءل: «لمن بالضبط أوجه الكلام؟»، وقد أصبح الحوار تقريبا من طرف واحد فقط، ولا يرد عليك أحد؟ ثم أتخيل عدد الأبواب التى أصبحت موصدة فى وجهك. التظاهر ممنوع حتى لو كان سلميا. الإضراب عن العمل ممنوع ولو كان لمطلب عادل الاشتغال
بالسياسة من جانب أساتذة الجامعة يمكن أن يعرض صاحبه للعقاب. التعليق على الأحكام القضائية ممنوع لأنه ينال من هيبة القضاء. ولم يعد من السهل الجزم بما إذا كان من يكلمك أو يكتب لك صديقا أم عدوا. فإذا لم يكن هذا صورة من صور الشعور بالاغتراب.. فماذا يكون؟
جلال أمين