أمل الكردفاني- الكلب الطريد- قصة قصيرة

لن تتحمل أبداً حياتي ككلب مطرود من قطيعه، إنني مهدد دائماً كلما عبرت الأزقة الضيقة، إذ تنفرد بي مجموعات الكلاب لتنهش لحمي، تعضني وتقطع ذيلي، ذيلي علامة رجولتي الوحيد. عندما تجد كلباً مقطوع الذيل فاعلم أنه قد فقد رمز رجولته..ولن تقبل به أي كلبة أخرى مهما كان صوت نباحه قوياً، إنني أخاف كثيراً من كسري أمام الكلبات الجميلات بقطع ذيلي.
كم بكيت لقبيلتي حتى لا يطردونني من قطيعهم، لكن القائد الحاقد رفض كل توسلاتي، تعنت وحرض باقي الكلاب على رفض أي التماسات بإعادة النظر في قضيتي..وها أنا أعيش مشرداً بلا حماية، بلا سند. وكم سيكون عالمي قاسياً في هذه المدينة المزدحمة بالبنايات الضخمة.
لا .. لابد من التفكير في مخرج آمن ، في رجل من البشر يتبناني ككلب منزلي، سأعيش من أجله عبداً مطيعا، ولكنني لن أتحمل عيش الكلب الطريد.. لا لن اتحمل"..
وسار الكلب الطريد مهزوم الروح، يرفع أذنيه متنصتاً بذعر كلما سمع صوتاً غريباً، وهو أثناء ذلك يفضل السير في الشوارع الواسعة، مستعداً لإطلاق أقدامه للريح في أي لحظة.
الحياة ليس آمنة، يقول، وهو يشرب من ماء البرك العفنة، ثم يتجشأ ويريِّض فكيه بفتحهما لأوسع نطاق ثم ليِّهما بعد ذلك ليَّاً متعرجاً، قبل أن يغلقهما لوهلة ثم يعود لفتحهما حتى يواصل لهاثه الذي لا ينقطع ولو كان في قلب الشتاء.
"حياة الكلاب ليست سهلة يا صديقي".. يقول لقط يلعق فرو ذراعيه بغير اكتراث، فيواصل هو "لا يستطيع أن يحيا الكلب بلا سيد من البشر أو ضمن قطيع من الكلاب، لكنكم تستطيعون".. يلقي نظرة متأملة على القط الذي يلعق فروه، ثم يعود ليتأمل السماء وهو يتمطق.."كيف تحيون فرادى هكذا، انتم قساة"..فيتوقف القط عن لعق فروه، ثم يقول:"لأننا رومانسيون وليس لأننا قساة، نحن نفضل العُزلة"..ثم يتقدم القط خطوتين ويدور بجسده مواجها الكلب قائلاً بأسلوب مسرحي "إن الإبداعات العبقرية لا تتحقق بمخالطة التافهين من الحيوانات.. فلتحيا العزلة أيها الكلب البائس".
ثم يقفز متسلقاً جدار معبد وهو يقول "استأذنك..حان وقت صيد الفئران".. فيصيح الكلب "متى ستعود".. فيتوقف القط فوق الجدار ويقول " لن أعود..وداعاً".. ويختفي. "من مزايا القطط أنها تستطيع تسلق المرتفعات بسهولة فجسدها أكثر مرونة من أجسادنا نحن الكلاب" ويدور حول الجدار، ثم يدخل من بوابة المعبد، ويستمع لترانيم الصبية. تعجبه الترانيم فيجلس مستمعاً، حتى يغشاه النعاس وينام.
"أتذكر أن سيدي القديم والذي مات كان يستمع إلى الراديو وكنت أنام بصوته.. البارحة رأيته في المنام، يفتح ذراعيه، وعلى غير عادته كان مبتسماً، تتألق ابتسامته وتلمع عيناه فرحاً، ..كان يحتضنني ويصيح مُرحِّبا بحضوري له، لقد كان قد مات عندما سقطت عليه سقالة فكسرت كتفه، ثم تدهورت صحته، حتى وجدته منتفخ الجثة ومتعفناً، كنت جرواً صغيراً لم أعرف معنى الموت من قبل، لذلك رحت أنبح أمام وجهه، لكنه كان جامد الملامح. وعندما فاحت رائحته، رأيتهم يهجمون علينا، ويحملون جثته وهم ملثمون، فتتبعت رائحته حتى بلغت المقبرة وجلست فوقها أنتظر خروجه من تحت الأرض، لكنني شعرت باليأس والجوع بعد أسبوعين من الإنتظار، فغادرت وكانت رائحته قد اختفت تماماً..علمت بعد أن كبرت مع القطيع بأن هذا يسمى موتاً، وأن الموت شيء يعني اللا شيء..، لكنني رأيته في المنام أثناء غفوي داخل المعبد..وأعتقد أن منح الكاهن لي بعض الطعام وقبول بقائي في الباحة الخلفية للمعبد كان بسبب ظهور سيدي لي في المنام، لقد بشرني بالخلاص..، ها أنا الآن أحيا مترهبناً داخل باحة المعبد، وهنا حيث الرب لا يكون هنا أشرار، لقد قال لي الكاهن ذلك حينما تقيأت الطعام أول مرة لأنني لم آكل منذ أسبوعين..ولا أعرف كيف شعر بخوفي من الأشرار..إنه كاهن الرب ولا بد أن الرب ألهمه بذلك..".. وتأمل بطة وبناتها الصغيرات يسرن خلفها ثم يهبطن داخل ترعة صنعها كهنة المعبد لهن..، كانت البطة الأم والبطات الصغيرات بيضاوات اللون، ذكيات جداً، ويعشن في سلام، "هنا مع الرب يعيش الجميع في سلام"...قال ذلك، ووضع خطمه بين ذراعيه واسترخى بارتياح.
ثم لاحظ مروق عنزة بيضاء من خلف أكمة صغيرة ترتفع من تحت جدار المعبد إلى اعلى وأخذت العنزة تثغوا محدثة إزعاجاً له وللبطات، ثم توقفت قرب الترعة واخذت تشرب منها، "كل شي يكفي الجميع، مع الرب كل شيء يكفي الجميع"...
نظر إلى العنزة وقال"صباح جميل..وعالم جميل" لكن العنزة توقفت عن الشرب دون أن تبعد فمها عن سطح الماء ثم عادت لتواصل شربها وبعد أن انتهت رفعت رأسها وقالت"تعلَّم إختيار الوقت المناسب لمخاطبة الآخرين".. ثم مضت منعطفة وراء الأكمة. فقالت البطة" عنزة متعجرفة"..ثم أخذت تسبح مع صغيراتها في خط مستقيم جيئة وذهاباً "حركن أقدامكن حتى تتمكنَّ من إتقان الثبات فوق الماء" ثم التفتت نحو الكلب "ألا تعرف السباحة"..رفع رأسه وقال "لم أجرب السباحة في مكان عميق" فقالت "تعالَ وجرب هنا".. قال "ليس عميقاً بما يكفي لأتعلَّم" قالت البطة "إنه عميق بما يكفي" قال "ولكنني أطول منك قامة وأثقل منك وزناً" قالت وهي تدور عائدة "آه..يبدو أن العنزة كانت صائبة..إنك تحب الجدل"..قال "هل قالت ذلك عني؟".. لكن البطة لم ترد. فتثاءب وتمطى ثم أغمض عينيه، لكنه فتحهما عندما سمع صوتاً يقول "النساء..كن حذراً".. كان الكاهن، ورآه يضع أمامه الطعام وكذلك شتت خبزا على ترعة البط، ثم وضع قشاً قرب الأكمة، فأقبلت العنزة وتشممت القش وأخذت تأكل بصمت متأمل. جلس الكاهن وسطهم، وأخذ يتأملهم، كان نحيلاً ولا يمكن تحديد عمره بوضوح، ولكنه قد يكون في الخمسين أو الستين، فعيناه كانتا خائرتين كمن يمشي وهو نائم. أصلح من جلسته وأخرج ناياً واخذ ينفخه فخرجت منه أصوات عجائبية. حينها ترك الكلب طعامه وأغمض عينيه ونام، ورأى في المنام سيده القديم، كان يقف تحت المطر ولكن المطر كان يعبره دون أن يمس جلده او رداءه. "هل انت سعيد" فيجيبه "أنا كذلك يا سيدي"..فيطير سيده إلى السماء ويختفي بين السحب فيستيقظ هو، ولا يجد أحداً، وإذ انتصفت الشمس، تفيأ ظل أحد الجدران. "العالم منتظم جداً" يقول، فيسمع صوت العنزة "أيها الكلب الحالم.."..وتضيف "إنك لم تخض تجارب كثيرة..أليس كذلك؟" فيجيب بحيرة "لا أدري" تقول "ليست التجارب سوى تعلم المرونة للتعامل مع فوضى العالم"..تتقدم وتجلس قربه وتقول وهي تتشمم التراب "لذلك تعتقد الكائنات أن هناك قدراً مرسوما داخل تلك الفوضى بسبب عدم فهمهم لتلك الفوضى التي تحيط بهم وتربكهم"...يقول الكلب "لا أشعر به كذلك"..تقول بسخرية "ككل الكائنات الأخرى"، ويسمعا البطة تصرخ مهرولة "لقد سرق أحدهم البيضة"..فتقول العنزة "أخذها الكاهن ولم يسرقها" فتصيح البطة مستنكرة "ولكن الكاهن لا يفعل ذلك"..تجيب العنزة "آه..لقد تذكرت..سيكون القداس عصر هذا اليوم، وسيأتي جمع غفير للتراتيل".. ثم تقفز وتلقي بجسدها على الكلب وهي تقول بذعر "كم أنا خائفة..كم أنا خائفة" فتقول البطة "ما هذا العهر، كان بإمكانك أن تطلبي حضني بدلا عن حضن ذكر، أعرف هذه الأساليب الملتوية".. فتقول العنزة "كيف أحتضنك وأنت بربع حجمي.."..تصمت البطة.وبالفعل يقبل الكاهن من بعيد فتصيح "سيذبحني كما ذبح أمي".. يشعر الكلب بالذعر فينبح "ماذا تقولين..هذا مستحيل..مستحيل طبعاً.."..ووسط دهشته يجرها الكاهن من أذنها وهي تتشبث بحوافرها على الأرض "هيا أيتها العنزة العنيدة..لا وقت لدي".. ثم يخرج سكينه وهو يُضجع العنزة على جنبها، فيشعر الكلب بالفزع "إنك لن تفعل ذلك" تصيح العنزة " لا تفعل ذلك أيها الكلب..لا تتدخل..سيطردك" لكن الكلب يقفز عندما يرى الكاهن يمرر السكين فوق رقبة العنزة، وبقوة يعضه في مؤخرته، فيسقط الكاهن ويضرب الكلب بالسكين "أيها الكلب المجنون.." ينبح الكلب دون فائدة، فالعنزة كانت مسجاة والدماء الغزيرة تخرج من حلقها، وينهض الكاهن ثم يركل الكلب في وجهه "لقد أخطأتُ حين آويتك..هيا أغرب عن وجهي..أخرج من معبد الرب الطاهر أيها النجس"..
وبأسى يمضي الكلب تائها في الشوارع، ودون أن يشعر يجد نفسه وسط زقاق ضيق، وقد أحاطت به مجموعة من الكلاب الشرسة، لكنه لا يحرك ساكنا، فتنقض عليه، وتغرز فيه أنيابها، ويقطع كلابٌ آخرون ذيله، دون أن تبدو منه أدنى مقاومة. وحين تنتهي الكلاب، تنتشر متوزعة على جوانب الحيطان، تاركة جثة الكلب تنتفخ وتتعفن ساعة بعد أخرى، تماما كجثة سيده.

(تمت)..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...