أمل الكردفاني - أنا كموضوع للآخر.. قصة قصيرة

المرأة التي تجلس بجانبي الآن، تتململ من طول الإنتظار. أشعر بأنها تريد أن تقول شيئاً لي. إنها تفكر فيَّ، في رد فعلي. أي تحاول بناء توقعاتها تجاه ردود أفعالي. المفاوضات تجري دائماً داخل الذات، مفاوضات من جانب واحد، تجاهي أنا كطيف. فأنا موضوع غير مستقر. وهكذا تتأسس تفاعلاتنا البشرية على تبادل التوقعات ثم المجازفة. أما عني فلا أرغب في الحديث، لذلك قمت بدوري ببعض المؤشرات التي تعزز توقعاتها السلبية. أمسكت الجوال ودرت إلى جنبي الأيمن وأنا في جلستي. أحسستُ بأنها أصبحت أكثر قلقاً، واضح أن مؤشراتي قد أدت لنتيجة عكسية عندما شعرت بالرفض، الرفض .. الرفض..الرفض...البشر يحبون أن يَرفضوا لا أن يُرفضوا، وهذه ليست نزعة عند النساء فقط، غير أن الرجال يستطيعون تجاوز الرفض في وقت أسرع..أما النساء فلا يستطعن حتى ولو كانت رقابهن تحت المقصلة.
لذلك تمتمَتِ المرأةُ بكلمات ما، فدُرت بجسدي أكثر، كانت متوترة..وأنا لا أملك مزاجاً مناسبا للتضحية.
إنني لم أعد أملك مزاجاً للآخر منذ وقت طويل جداً لم أعد أتذكره..تلك الحالة البائسة التي لا ترغب فيها أن تكون موضوعاً للآخر ولا الآخر موضوعا لك. وليس الأمر يتعلق بعزلة إستعراضية نرجسية. لكن لأنه يبدو بأن الحياة تتساوى في كل عناصرها، بحيث تكون العزلة تجنباً للألم، ويتحول التخلي إلى اكتساب.
مددت بطاقتي للموظف فنظر للصورة وعاد فنظر لي. موضوع داخل موضوع. إنني أبداً لم أكن صورتي، حتى عندما أنظر للمرآة فإنني أرى أجنبياً تافهاً، أجنبياً أبلهاً، جسداً قبيحاً، مترهلاً، تتساقط شحوم غريبة على جنبيه، ووجهاً خنزيرياً لا يشبهني البتة، أي لا يشبهني أنا القابع داخل ذلك الجسد. أنا الوسيم، ذو البنية الرياضية، والشعر الناعم المتساقط على كتفي، والذراعين اللتين تزحف حولهما العروق متشبثة بالعضلات النافرة. وعندما أدقق النظر أكثر أكتشف روح خنزير لا تتسق مع روح الأسد، وعقلَ مصابٍ بتخلف عقلي، وليس عقلي أنا. لذلك بت أتجنب النظر إلى المرآة، فذلك الآخر، ينتهكني، ويغتصب حقي في أن أكون موجوداً كما أناْ؛ بدون ذلك التزييف غير المتقن للحقيقة. حيث يضحى من الجنون أن اقول: (أنا لستُ أنا)..
يعود الموظف ليتحقق من صورة البطاقة، ثم يغمغم بتوتر رجل أمن: هل لديك وثيقة أخرى؟ أخرج له جواز سفري، فيفتحه بأصابع مرتعشة، وينظر للصورة، ثم ينظر للصورة التي على البطاقة، ثم ينظر لوجهي. هناك تشابه، ولكن ليس كبيراً، الصور الثلاثة (صورة البطاقة، وصورة جواز السفر، وصورة الأنا التي ليست أنا) بها علامات أساسية. كالشعر الخشن، الأنف المفلطح، لون البشرة، أما غير ذلك فلا.. يسحب كرسيه للوراء قليلاً..ويبقى صامتاً وهو يتأملني، ثم يحسم أمره ويكمل باقي إجراءاته ثم يسلمني النقود. لقد حسم رأيه لأنني بدوت كئيباً جداً كئيباً أكثر مما يمكن لذي قلب أن يتحمل. أمسكت برزمة النقود وتأملتها. كانت قد ترسخت داخلي كعلامة نحس، فدفعت بها داخل فتحة النافذة نصف الدائرية، وقلت:
- خذها...لا أحتاجها...
هز رأسه بدهشة:
- ماذا تقصد؟!!!..
قلت:
- لا أريدها..سأتركها هنا..إن كنت تريدها فخذها أو اتركها لغيرك..لن أحمل معي دبوساً في منطقة الذاكرة من دماغي..
صاح:
- هل أنت طبيعي؟
قلت:
- لقد عاملتني كحشرة...
ثم درت وغادرت..
كحشرة...هذا الشعور بالإضطهاد الذي يلازمني كبقعة داكنة شوهت جفن امرأة حسناء. لا يمكنني أن أحاكم الموظف، بل ولا حتى نفسي. إن الكون بأسره كان يحتاج لمزيد من الوقت قبل أن يحصل على شهادة التخرج. كان عليه أن ينضج قليلاً على الأقل. الكون الذي هو كل شيء ما عدا أنا.
وفي الخارج؛ رأيت المرأة تضم كفيها إلى صدرها وتقف وكأنها كانت تنتظرني. فدرت عكس اتجاهها، في الواقع لم تكن لي وجهة محددة بعد أن خرجت من البنك مفلساً. سيلقي بي صاحب الشقة إلى الشارع. فليكن، سأحمل حقيبتي وأنام في حديقة القصر الرئاسي..وعليهم أن يطردوني بالقوة، أن يلقوا بي خارجاً مع ركلة في العصعص. ومع ذلك سأتحملها وأعود، وهكذا حتى يزجوا بي في سجن تحت الأرض. سأنتقم من ذلك الذي يتلبسني، أما كينونتي، فستظل حرة دائماً. كينونتي هي صوتي الداخلي ولا شيء آخر، هذا الصوت الذي يتحدث الآن، ويصرخ ويضحك دون صوت في الواقع، صوت بلا صوت ولكنه أقوى من كل صوت، ذلك الصوت الذي يطالب بقطع رؤوس الأعداء ويطالب بالحب أحياناً قليلة. ستظل الكينونة حرة دائماً حيثما كانت بلا أمل.
- تعاملهم سخيف جداً..
قالت المرأة وهي تلحق بي..إلتفتُّ نحوها..ورأيت وجهها لأول مرة..في منتصف الأربعين..لم تجرب الرجال من قبل.. ذلك القندس الصغير أسفلها يرتعش فيرتعش صوتها..مهزومة.. مكسورة.. مُحتاجة..مثلي تماماً، برأسي خنزير تبادلنا النظرات.. رأس خنزير وردي..ذا خدود منتفخة وجلد مقرف، وخطم طويل وصوت مثير للقلق.. كانت تقف على بعد مترين، رأسها مرفوع قليلاً، قدماها مضمومتان لتخفيا تلك اللهفة..عجوز خائرة القوى، مستعدة لتعمل جاسوسة كي تجد أناها. وحرت جواباً..بقيت صامتاً..بل جامداً.. أربكها ذلك فقالت كلاماً بنبرة سريعة لم أفهمه..وقضت ليلتها معي..في شقة بسرير واحد وسخان للشاي ومنفضة للسجائر وأنا الذي لست أنا ..ولا شيء آخر..ثم ليالٍ أخرى، دفعَتْ فيها الإيجار، واشترت بتوجازاً وثلاجة ومقاعد بلاستيك وطقماً من أربع طاولات متعددة الحجم وستة قمصان وبنطالين وحذاءً ومعجون أسنان وفرشتين للسواك، ورمت بمرآتي المعلقة ذات الخلفية المقشرة إلى المزبلة واشترت مرآة بطول متر ونصف داخل إطار ذهبي. وأدوات حلاقة، ومكانس لتنظيف الأرض وغسالة ومكواة ومجموعة واقيات ذكرية، ولكنها لم تشترِ حبوب منع حمل، بل اشترت صابون حمام، وليف، وقفص طيور صغير وعصفورين داخل القفص، ومرتبة بسوست، وملاءات هندية، ووسادتين من الطراز القديم..وقلامة أظافر، وأطقم ملاعق وسكاكين وأطباق، وحشت الثلاجة باللحوم، ورشت المطبخ بموبيد الحشرات، ووضعت سماً لقتل الفئران، ورصت التوابل داخل دولاب المطبخ الخشبي المعلق على الجدار. وورطتني تماماً..كانت تتعمد أن تورطني، لذلك، عندما خرجت لعملها في الصباح، جمعت ملابسي داخل حقيبتي وخرجت بلا عودة..
لم أدرِ إلى أين سأذهب، فلم أعرف يوماً المشهد الثاني قبل أن أراه. لكنني أتوقع أشياء فلا تحدث، ولذلك أدرك بأن هناك من يعبث معي، وأنه يتلذذ بذلك العبث، بل أناْ نفسي صرت أنتظر المشهد الذي سيكتبه ذلك العابث، ليبدو العالم شديد الفوضوية. وبدون تلك الفوضى لن تحدث المفاجآت، وبدون تلك الفوضى لما انهزمت كل السرديات الكبرى، التي حاولت وضع الفوضى داخل نظام أحادي. تلك النزعة البشرية الصادقة للخروج من دائرة اللا معنى المغلقة. كانت رائحة قرنفل تعم المكان، المقاعد الخشبية البنية والمورنشة جيداً خالية، والمذبح على يساري به شمعات بعضها مضيء، تقف أمامها فتاة تشعل المزيد من الشموع بخشوع لا واعٍ. ترتدي بنطلون جينز -ومؤخرتها التي تواجهني- مترهلة تسقط للأسفل كعلامة استفهام رسمها طفل. شعرها خفيف في المفرق، تظهر فروته الرمادية في خط مستقيم، ولديها أكتاف مموسقة، تهبط بانحناءة موجية على الذراعين. وحين تثبت الشمعة، أرى أظافرها المصبوغة باللون الأحمر تحت اللهب. إنها فتاة طيبة. هكذا بدت لي من سلوكها الإيماني وهدوء حركتها وصمت صوتها الخارجي، يدل على ضجيج صوتها الداخلي، الكينونة الممزقة. هناك فقد ما، حب ميت، أمل ميت.. شيء ما مات..لتحيا روحها عليه.
جلستُ داخل الصمت. داخل حرف لم يُنطق بعد. واتجهت هي إلى المحراب، فجثت وصلت مغمضة العينين. كم تكون المعابد مترعة بالقداسة حينما لا يكون داخلها كاهن، أليس ذلك بالمستغرب!!! إتسقت مادة الفتاة بكينونتها، فانبثق الرب. وحين أنهت صلاتها الطويلة دارت على عقبيها، وغادرت مطأطأة الرأس.
لم انم من قبل كما نمت البارحة، فحملت حقيبتي وغادرت عند الفجر، لألتقي بالكاهن أمام الباب. نظر لي بريبة، وسألني: هل أنت من طائفتنا؟ إنني لم أرَك من قبل. قلت: لا أعرف ما هي طائفتك، لكنني أعرف أن المؤمنين كلهم يتفقون على وجود الرب ويختلفون فيما دونه.. سألني بخبث: وأنت مؤمن؟. فخرجت دون أن أجبه.
عدت إلى البنك، ورأيت الموظف خلف نافذته الزجاجية. لم يلحظني حتى عندما جاء دوري ووقفت أمامه، لم يرفع رأسه إلا حينما طال الصمت، نظر لي عن كثب، ثم مدَّ يده تحت درجه، وأخرج ظرفاً أبيض اللون، وناولني إياه. فحملته وخرجت.
لقد تنازلت، كما أفعل دائماً، لأن التنازل هروب. أخذت المال، واشتريت باقة ورد. وحين فتَحَت لي الباب، غمرتني بنظرة حانية. وهمست: هل تعرف أننا لا نعرف أسماء بعضنا البعض. نظرت إلى حذائي الذي اشترته لي، كان مغبراً قليلاً، فخلعته، وانحنت هي فالتقطته. ثم تبعتها إلى الداخل.

(تمت).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...