محمد فيض خالد - عفريت الرّاديو.. قصة قصيرة

ما تكاد بنات الشّمس تلتصق بالجدرانِ ، وتفيضُ الحياة في جنباتِ الزقاق ، حتى ينساب صوت راديو الأفندي العتيق ، تتماوج أنغامه ، وتجلجل موسيقاه في صخبٍ لا يُقاوم ، وفي داخلِ البيتِ ينشط الأفندي يستقبل في همةٍ ؛ بوادر النّهار الجديد بحيويتهِ المعهودة ، وكأنّ الحياة اهتاجته ، فشرعَ يعافرها كشابٍ في شرخِ الشّباب ، يضطرم فيهِ حماس موفور ، هكذا الرجل مُنذ عهدته ، تُغرِد أماني قلبه بالحبِّ ، لتمحو منه كُلّ أثرٍ للكُرهِ.
شغلني طويلا أمر الرّاديو الخشبي الرّابض فوقَ طاولتهِ القديمة ، يتوزّع فكري ويشتعل خاطري بعشراتِ الأسئلة البريئة ، ارخيت في كُلّ مرةٍ العنان لخيالي السّاذج يمرح كيفما شاء .
منذ زيارتي الأولى لبيتِ صاحبنا ، رشقت الراديو المُزعج بعيني الباردة، استغربت مشدوها لمنظرهِ ، سألت الافندي في عمايةٍ : لماذا تضع الكوب النحاسي فوق سطحِ الراديو .؟!
انغمس صاحبي فجأةً في لذتهِ ، يكاد شغاف قلبه يتمزّق فرِحا ، علت وجهه الشّاحب ابتسامة عريضة ، ذابت بين ثناياه في صمتٍ ، اطرقَ برأسهِ المُدبب ؛ يتسمّع خفيف النّسيم الواني البليل ، وكأنّه يُثير في نفسهِ الاعجاب ، امسكَ يد "الطولمبة " في تصابي مرذول ، ثم بدأت جلجلة كجلجلةِ الرّعدِ ، وعادَ الماء يتدفق بقوةٍ ، فتتّفتح فيهِ روح الثّقة ، مرّر يده فوقَ جبهتهِ ، وفي نهنهتهِ المعتادة ، أجاب : لازم علشان العفريت الموجود في قلبه يسكت ، وإلا مش هيدور..
ثم عادَ لعملهِ جادا ، لا يلوي على شيءٍ المرة ، حرّكت كلماتهِ أغوارَ نفسي ، وعبثت بخواطري سريعا ، وعادت اسئلتي تُلِح في إزعاجٍ ..
لم يكن أمامي إلا التلصّص بين أعوادِ الذرة المُشرعة، التي اتخذتها أمي ستارا لنا عن بيتهِ ، يهجيني صوت الرّاديو المدوي ، والفرح يدور في عينيّ الرّجل ، وقد اتخذ مجلسه المعتاد في أجملِ هندام ، يحتسي في سكينةٍ كوب الشّاي ، يسحب عينيه كالعادةِ بين زروع حديقتهِ الخضراء ، وكأنّه يسير بين الأطلالِ الشّاحبة ، وبينَ الحينِ والآخر يُردّد في انشراحٍ : الله .. كمان يا سيدي .. قول كمان.
قلبل ما أراه منحرف المزاج _ هذا وإن حدث _ يتبدى وجهه باردا حجريّا ، يُلقي ما في يدهِ ساخطا يُبرطم ، ترتسم على وجههِ قشعريرة مخيفة ، وتتلون سحنته بوهجِ الغضب والنفور ، يدلف للداخلِ ؛ يسبّ ويلعن الراديو ، عندها ينقطع الصّوت قليلا ، تدور نغمته في حشرجةٍ غير واضحة ، تدوم ثورة الأفندي وغمغمته ، لا يكف عن السّبابِ في اهتياجٍ ، اظل في مكاني فرِحا مسرورا ، اطالعُ في تشفي ما يدور أمامي ، ولسان حالي يُردّد : أخيرا طاش فأله ، وتعكّر صفو عفريته ، واظهر تمرده .
دقائق ويعود الأفندي لمكانهِ ، مصحوبا بأنغامِ الراديو وكأنّ شيئا لم يكن ، اهبط في أسفٍ وحسرة ، تعود كلماته سريعا عن عفريتِ الرّاديو ، والكوب النحاسي الكبير المُستقر فوق ظهرهِ ..
في الآونةِ الأخيرة سارت الأمور على ما يُرام ، ها أنا اشاهد صاحبي وهو يهزّ رأسه في انبساطٍ ، والرّاديو يعمل دون انقطاعٍ ، لابدّ أن سحر الكوب تغلّب على العفريتِ ، فلا يُمكنه التمرّد عليهِ.
ذاتَ مرةٍ وأنا اربع بحماري البني الصّغير ، وسط الزراعات ساعة المغربية ، مددت عيني نحو السّماءِ ارتجيها أن تبطل أثر الكوب النحاسي ، وأن تهب العفريت القوة كي يتحرّر من سطوةِ عزيمتهِ.
عدت يوما من الجامعةِ ، كان عليّ المرور على بيتِ الأفندي ، فقد طلب مني أن اجلب له بذور الخسّ ، ألقيتُ ببصري داخلَ الصّالة ، كان صوت المذياع يتهادى بأغنيةِ للعندليب الأسمر ، وبجوارهِ ألقى الرّجل كوبه النحاسي العتيق بلا اكتراثٍ ، بعدَ أن علته طبقة خضراء من الجنزارِ ..
هرولت دون وعيٍ ، مددت يدي ووضعت بإحكامٍ الكوب فوقَ ظهرهِ ، رماني الأفندي بابتسامتهِ الزابلة ، ثم سحب بصره بعيدا في هدوء...







تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...