سيداتى، سادتى..
أرجو قبل كل شئ أن تتفضلوا فتقبلوا تحية العروبة الشرقية ترسلها إلى العروبة المغربية صادرة عن أعماق القلب وعن دخائل الضمائر، وأرجو أن تتقبلوها على ألا تستقر فى اسماعكم،
كما قلت فى الرباط وإنما تمر فى اسماعكم لتستقر فى أعماق قلوبكم كما صدرت من أعماق قلوب اخوانكم فى الجمهورية العربية المتحدة.
وإنى الحريص على أن اشكر اجمل الشكر وأصدقه للسيد الوزير ومدير الجامعة الآن، أشكر له أجمل الشكر وأصدقه هذه التحية الكريمة التى تفضل بها، واعترف وأشهد أنى منذ وصلت الى بلاد المغرب لم أجد فيها إلا أحسن لقاء وأحسن ترحيب ، لقاء الإخوان للأخ وترحيب الإخوان بالأخ الصديق. ومع ذلك فلست أوافق الأستاذ الوزير على ما قال من أن المغرب تلميذ لمصر، فالذى أعرفه أن علومكم وصلت الينا وأن علماءكم وصلوا إلى بلادنا، منهم من استقر فى الإسكندرية وأقرأ تلاميذ من المصريين والشرقيين، ومنهم من استقر فى القاهرة وأقرأ التلاميذ فى الأزهر الشريف، فإذا كان هناك اساتذة وتلامذة فأنتم الأساتذة ونحن التلاميذ.
وأنا أحب أن تعرفوا شيئا عن إخوانكم فى الجمهورية العربية المتحدة وعن حياة الأدب فيها أثناء هذا العصر الحديث لا لأنى أريد أن احدثكم عن نهضة الأدب هناك، ولكن لأنى أريد أن تعرفوا إخوانكم وأتمنى إن شاء الله أن يزورك الأستاذ الوزير وغيره من قادة الفكر فى هذه البلاد ليتحدثوا الى المصريين والسوريين عن إخوانهم من أهل المغرب فإن الزيارة لابد من أن ترد.
أريد أن تعرفوا أن تراثنا العربى بعد أن تعرض للخطر العظيم الذى أثاره التتار عندما غزوا العراق وعندما أضاعوا ما أضاعوا من الكتب، وأهدروا وهدموا ما هدموا من الحضارة الإسلامية فى العراق. كانت سورية وكانت مصر هما الملجأ الذى لجأ إليه التراث الإسلامى ،ونهض السوريون والمصريون يقرأون ما لجأ إلى سوريا ومصر من هذا التراث ويجمعونه ويدونونه فى كتب ضخمة تذكرنا بدوائر المعارف أو »الأنسكلوبيديات« فى هذه الأيام ، فنرى »النويري« يؤلف »نهاية الأرب« فى نحو ثلاثين مجلدا ونرى »العمري« يؤلف »مسالك الأمصار«، ونرى القلقشندي« يؤلف »صبح الأعشي، ونرى »ابن منظور« يؤلف »لسان العرب«،ونرى غير هؤلاء نرى ابن حجر فى الفقه والحديث وتلاميذ ابن حجر ونرى آخر الأمر »السيوطي« وما أكثر ما جمع السيوطى من الكتب القديمة فى كتبه التى ألفها وملأ بها البلاد الشرقية. فى أثناء هذه النهضة التى إن لم تكن أدبية خالصة فقد كانت نهضة علمية، وإلى جانبها كانت نهضة فنية يراها كل من زار القاهرة وكل من زار دمشق ورأى ما فى المدينتين من الآثار الإسلامية ومن المساجد.
فى أثناء هذا أقبل الترك العثمانيون على مصر فهدموا الحضارة الإسلامية فى الشرق العربى كما هدموا الحضارة البيزنطية فى قسطنطينية، وجرى هذا كله فى أقل من قرن واحد، هدموا هاتين الحضارتين ولم يؤتوا العالم حضارة تقوم مقام إحداهما، فضلا على أن يؤتوا العالم حضارة تقم مقام الحضارتين جميعاً.
ذلك لأن الترك العثمانيين عندما اقبلوا على مصر فى القرن السادس عشر فقطعوا كل صلة بينها وبين العالم الخارجي، قطعوا الصلة بينها وبين العالم العربى شرقاً وغربا، وقطعوا الصلة بينها وبين العالم الغربى الأوروبى وكانت قبل الغزو العثمانى متصلة بالعالم العربى فى الشرق وفى الغرب ومتصلة بالعالم الأوروبى المسيحى بواسطة التجارة وبواسطة المعاهدات السياسية ، وما إلى ذلك، فكان الأدب فى تلك الأيام، قبل الغزو العثمانى ، له حظ من حياة مهما تكن فقد كانت قوية خصبة منتجة، وما أكثر ما يقال عن عصر المماليك فى مصر وسوريا، فكثير من الذين يؤرخون الأدب يقولون: إن هذا العصر قد كان عصر ضعف وخمود لجذوة الأدب العربي، ولكننا عندما نحقق النظر فى شئون الأدب فى سوريا وفى مصر أيام المماليك نرى أن الأدب العربى أشبه شئ بالجذوة التى تكاثر عليها الرماد فهى محتفظة بقوتها ومحتفظة بما فيها من القدرة على الانتشار والإضاءة ،وأصبح كتابنا فى تلك الأيام يبداون ويعيدون فى الفاظ مزوقة منمقة لا تؤدى شيئا، وإنما كانوا غارقين فى شئ يشبه هذيان المحموم، كذلك كانت حياة الأدب، أيها السادة، فى ذلك العصر التركى العثماني.
فعندما أقبل الفرنسيون الى مصر، يخيل إلى أنهم طرقوا باب العروبة المصرية طرقاً عنيفا، أيقظ النيام، فهم قد اقبلوا بأشياء لم يكن المصريون يقدرون أنها موجودة . وهم قد عرضوا على المصريين ألواناً من العلم وألوانا من النشاط لم يكن المصريون يعرفون أنها يمكن أن توجد فى بلد من البلاد، عرضوا عليهم ـ أول ما عرضوا ـ المطبعة. وكان المصريون لا يعرفون إلا أن الكتب تكتب بالأيدى وتستنسخ وتذاع على هذا النحو البسيط الضئيل. فلما رأوا عمل المطبعة ونشر الآثار والمكتوبات دهشوا لهذا أشد الدهش، ثم عرضوا عليهم بعض التجارب العلمية: تجارب الكيمياء والطبيعة فخيل إلى الذين رأوا هذه التجارب أن هؤلاء الفرنسيين كانوا أصحاب سحر لا أصحاب علم، وكذلك استيقظ المصريون وقاوموا الفرنسيين أشد المقاومة حتى أدرك الفرنسيون ألا مقام لهم بأرض مصر فزالوا عنها ولم يقيموا فيها إلا ما يقرب من ثلاثة اعوام. زالوا عنها ولكنهم كانوا قد أيقظوها وقد نبهوها إلى أنها كانت بمعزل من حياة قوية نشيطة، توجد فى بعض البلاد . ومنذ أوائل القرن الماضى بدأ المصريون يرسلون أبناءهم إلى الخارج، يرسلونهم إلى إيطاليا وإلى فرنسا وإلى بريطانيا العظمى ، ليعلموا علم هذه البلاد، وليتعلموا فى مدارسها وجامعاتها وليعودوا بما تعلموا لينشروه فى بلادهم، وكثرت هذه البعثات التى كانت تسافر إلى هذه البلاد، وإلى فرنسا خاصة وفى الوقت نفسه انهزمت جيوش نابليون فى أوائل القرن، وضاق كثير من الفرنسيين ببلادهم هذه المنهزمة، التى احتلها العدو، فجعلوا يخرجون من بلادهم ويهاجرون إلى بلاد مختلفة. وجاء فريق منهم إلى مصر فاستغلت مصر مقدم هؤلاء ، استغلت بعضهم فى تنظيم جيشها، واستغلت بعضهم فى تنظيم مدارسها، ومن ذلك الوقت نشأ فى مصر تياران أحدهما يأتى من أعماق التاريخ الإسلامى والآخر يأتى مما وراء البحر، فأما التيار الأول الذى كان يأتى من أعماق التاريخ الإسلامي، فكانت تصوره هذه الكتب العربية القديمة التى كانت نائمة فى المساجد ، فى مكتبات المساجد، لايكاد أحد يقرؤها ولايكاد أحد ينظر فيها. جعلت هذه الكتب تأخذ طريقها الى المطبعة قليلا قليلا، وجعل الناس يشترونها ويقرأونها وينظرون فيها شيئا فشيئا، وجعل هذا التيار يقوى ثم يقوى حتى استأثر بعقول فريق من المصريين واستأثر بأوراقهم ثم استأثر بألسنتهم وأقلامهم آخر الأمر.
وفى أثناء ذلك كان التيار الآخر يأتى من وراء البحر ويقوى كذلك شيئا فشيئا. جعل المصريون يتعلمون اللغة الفرنسية ثم جعلوا يتعلمون غيرها من اللغات الأوروبية، وبخاصة اللغة الإنجليزية، وجعلوا يترجمون بعض الكتب التى كانت تأتيهم من فرنسا ومن بلاد الإنجليز ، وجعلت العقول والقلوب والأذواق المصرية تتأثر بهذين التيارين: بالتيار الذى يأتى من أعماق التاريخ العربى الإسلامي، والتيار الذى يأتى من وراء البحر، وجعلت قلوب المصريين وعقولهم وأذواقهم تلائم بين التيارين وتنشئ منهما شخصية جديدة للأدب، فيصف طموح مصر إلى الاستقلال ويصف طموح مصر الى الحرية ويصف الحرب وقد خاض غمارها فى غير موطن، ويصف الطبيعة ويحرض على الثورة، ويشارك فى الثورة العرابية التى كانت سبب النكبة، نكبة مصر بالاحتلال البريطاني، ونجده لا يكتفى بتقليد القدماء ولكنه يختار من شعر القدماء مجموعة ضخمة تنشر بعد وفاته فى أربعة مجلدات.. وعلى نحو السيرة التى سارها البارودى فى أدبه وفى شعره خاصة، ينهض أو يظهر شعراء آخرون يذهبون نفس المذهب ،ونرى حافظا ثم شوقى وغير حافظ وشوقى من شعرائنا فى آخر القرن الماضى وأوائل هذا القرن، حتى أتيح لمصر فى هذا العصر الحديث ما لم يتح لها أثناء العصر الإسلامى كله، فمصر لم يتح لها الامتياز فى الشعر فى عصورها الإسلامية المختلفة، كان الشعر عراقيا أول الأمر ، وكان نجديا وحجازيا ثم صار الشعر سوريا أيام بنى العباس فى القرن الثالث ما بعده أيام أبى تمام والبحترى ثم المتنبى وأبى العلاء المعري، وصار الشعر أندلسيا ومغربيا وظلت مصر قليلة الحظ من الشعر، منذ الفتح العربى الى العصر التركى العثمانى إلى أواسط القرن التاسع عشر لكن بفضل هذه النهضة الحديثة ، وبفضل التقائها بين التيارين: التيار القديم الإسلامى والتيار الحديث الغربي أصبحت مصر ولها مدرسة شعرية للمرة الأولى فى تاريخها الأدبى العربي، وبهذه المدرسة التى نسميها بالمدرسة المصرية التقليدية فى الشعر، بهذه المدرسة الشعرية ختم الشعر العربى فى مصر ، فلم يكد هؤلاء الشعراء يتركون هذه الحياة الدنيا الى العالم الآخر حتى عادت مصر إلى ما كانت عليه قبل وجود هذه المدرسة، قليلة الحظ من الشعر. يوجد فيها الذين يقولون القصائد وينشئون القصص التمثيلية على نحو ما كان يصنع شوقي، ولكن كل هؤلاء الشعراء لا يبلغون مبلغ الشعراء التقليديين الذين ذكرتهم آنفا البارودى وحافظ وشوقى وإسماعيل صبرى وخليل مطران وسائر شعراء هذه الطبقة.
إنما الفن الأدبى الذى امتازت فيه مصر امتيازا ظاهراً حقاً هو فن النثر، فقد جعل المصريون يقرأون للكتاب القدماء ويقرأون للكتاب الأوروبيين ويحاولون أن ينشئوا لأنفسهم نثراً يتبع مذهب القدماء فى اللفظ وفى الأسلوب ولكنهم يؤدون بهذا اللفظ وبهذا الأسلوب معانى لم تخطر للقدماء لأنها معان جديدة جاء بعضها من الغرب الأوروبى وابتكر بعضها فى مصر.
ففى أوائل هذا القرن يظهر كتاب صغير، جعل ينشر فى صحيفة أسبوعية: كان اسمها »مصباح الشرق« وهذا الكتاب كان ينشر أحاديث، وكان يسمى حديث عيسى بن هشام ويكتب على أسلوب الهمذانى وعلى طريقته ولكنه يصل الحياة الاجتماعية ويعرض عليها قصة طويلة على طريقة الأوروبيين.
وتمضى أعوام وإذا كاتب آخر يظهر وهو مصطفى لطفى المنفلوطي، وإن لم يكن مصطفى لطفى المنفلوطى يعرف لغة الأوروبيين فإنه كان يعيش بين الذين يعرفون لغة الأوروبيين كان عنوانها »النظرات« ثم جعل تترجم له كتب فرنسية ترجمة عادية ويؤديها هو بلغته العربية الرائقة الجميلة على الأسلوب العربى القديم ، ولكن الحرب العالمية الأولى تفجع مصر بنوع خاص، ولا تكاد تنقضى حتى يثور المصريون مطالبين بالاستقلال وتكون ثورتهم عنيفة حقاً، ولم تخل من سفك دماء بين المصريين والإنجليز المحتلين، وهذه الثورة التى كانت فى أول أمرها سياسية لم تلبث أن تصبح ثورة سياسية وفكرية بالمعنى الواسع الدقيق،
.. ويثورون على الأساليب القديمة فى الشعر وفى النثر، فتنشأ طائفة تعبث بشوقى وحافظ وبالمدرسة الشعرية التقليدية وتريد أن تنشئ شعراً جديداً تذهب فيه مذهب الشعراء الأوروبيين وتنشأ فى مصر ثورة عنيفة بين القدماء والمحدثين، فهناك أصحاب المذهب القديم الذين يحافظون على الكتابة العربية كما ورثت عن الجاحظ وابن المقفع وعن الهمذانى وعن الحريرى ومن إليهما. وآخرون يريدون أن يطلقوا أنفسهم على سجيتها وأن يؤدوا المعانى كما يجدونها فى نفوسهم، لايتكلفون ولايتعلمون ولا يلتزمون شيئا، إلا أن يكونوا معربين حين يكتبون ، واضحين للذين يقرأونهم أو يسمعونهم، ثم لا يريدون أكثر من هذا. وتقوى هذه الثورة شيئا فشيئا حتى تسيطر على الحياة الفكرية المصرية أثناء العصر الأول للثورة المصرية من انتهاء الحرب العالمية الى نحو ثلاثين وتسع مائة والف ، وبعد ذلك تفرض على مصر الوان من الاستبداد الداخلى والخارجى ايضا: تعاون بين القصر الملكى وبين الانجليز.
وتفرض احكام عرفية تحجر على الأفكار وتمنع الناس من أن يعربوا على ذات نفوسهم كما يحبون، ونجتهد نحن الكتاب والشعراء فى تلك الأيام فى أن نخادع السلطان وفى أن نعبث بالأحكام العرفية وفى أن نؤدى ما نريد على رغم القوانين المفروضة وعلى رغم الأحكام العنيفة التى كانت تفرض علينا، ونصل إلى التغلب على الحكام أيضا، ولا أنسى كتاباً كتبته أنا فى ظل أقوى ما يمكن أن يكون من قسوة الأحكام العرفية ولكنه كان كتاباً لم أصارح فيه أحداً بشئ ، وقلت فيه مع كل ما أريد أن أقول، وسميته »جنة الشوك« لأن هذا الكتاب كان يتألف من مقطوعات قصار ليس فيها مقطوعة إلا وفيها غمزة لحاكم أو لملك أو لوزير... وفى أثناء هذا، أيها السادة، نشأ فى مصر فى الأدب العربى فنان جديدان لم يألفهما الأدب العربى من قبل، أما أحدهما فمن القصص الطويل والقصير ، القصاص تحرروا من السجع ومن تقليد الكتاب القدماء وأنشؤوا لأنفسهم لغتهم الخاصة العربية.
وإذا أتيح لكم أن تقرؤوا ما ينشر فى مصر من القصص الآن فإنى أحب أن تقرؤوا ما يكتبه كاتب مصرى من الكتاب الشبان الذين تخرجوا فى جامعة القاهرة وهو نجيب محفوظ، كتب طائفة من القصص أعتبرها أنا أروع ما أنتج فى الأدب المصرى الحديث: كتب قصصاً وهو يتحرى حين يكتب أن يختار شارعاً من شوارع القاهرة أو حياً من أحيائها ويختار فى هذا الحى أسرة من الأسر ويكتب تاريخ الأسرة وبكتابة تاريخ الأسرة يصور تاريخ الحى ويصور تاريخ القاهرة ويصور تاريخ الأحداث السياسية التى كانت تحدث فى القاهرة، وإذا أتيح لكم أن تقرؤوا هذه السلسلة التى كتبها باسم »قصر الشوق« وباسم »بين القصرين« و«السكرية« فسترون قصصاً عربية أصيلة بأدق معانى الكلمة.
أما الفن الآخر فهو فن التمثيل: الأدب التمثيلي، فقد جعل بعض كتابنا ينشئون قصصاً تمثيليا، ونشأ عندنا كاتب ـ كلكم سمع اسمه فيما أظن ـ هو »توفيق الحكيم« هو الذى وظف التمثيل فى اللغة العربية وجعله مصرياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة: أنشأ طائفة من القصص التمثيلية، أكثرها يقرأ ولايكاد يمل، وهو قد أنشأ طائفة من القصص كلها جيد وكلها رائع.. ونحن الآن أمام حكومة جديدة فى مصر: حكومة الثورة ، وقد التزمت إحياء التراث العربى ووضعت نظاماً خاصاً لنشر هذا التراث، وإلى جانب ما تفعله الحكومة
وسألنى سائل فى جريدة (العلم)، هل سنظل نذكر القدماء ونذكر أبا تمام وأمثاله؟ أو هل يجب أن نعيد النظر فى مقاييسنا وفى أحكامنا وفى تفكيرنا؟
وأجيب عن هذا السؤال بأننا سنظل نذكر قدماءنا نظل نذكرهم وسنظل نحفظهم وندرسهم، وهم قد عاشوا إلى الآن وما نريد أن نحتمل الإثم فنقضى عليهم بالموت، ولو حاولنا ذلك لما بلغنا منه شيئا، لأنهم كانوا أقوى من الزمن، وأقوى من الدول، وأقوى من الخطوب : عاشوا وسيعيشون ، ولكنى لا أريد أن نقتصر ولا أن نكتفى بذكر القدماء وحفظهم ودرسهم، وإنما أريد أن نعرف كل ماعند الغرب ، نعرفه معرفة المتقصى المتعمق، وأن نجمع مانعرفه مما عند الغرب إلى ما نعرفه من أمر قدمائنا، وأن نكون لأنفسنا شخصيتنا الجديدة القوية المستقلة وأن نضيف إلى ما تركه العرب لنا تراثاً جديداً، فلا ينبغى أن نورث أبناءنا ما ورثناه فحسب وإنما ينبغى أن نورث أبناءنا ما ورثناه وما أنتجناه نحن، ويمضى الأمر على هذا الحال وترقى الحياة العقلية والأدبية العربية بمقدار ما ترقى الحياة العلمية كلها وبمقدار ما ترقى الحياة السياسية.
وإنى لسعيد أيها السادة بأن ألقيت اليكم بهذه الأحاديث التى تضطرب دائما فى أعماق نفسى ،فهذا البلد هو أجدر البلاد العربية بأن يكون فى مقدمة الحماة للتراث العربي. وفى مقدمة البلاد التى تحيى العقلية العربية الجديدة وتشارك فى إنشاء الشخصية العربية الجديدة.
ويكفى أن أقول هذا وأن اعتمد فيه على جلالة الملك المعظم وعلى سمو ولى العهد وعلى الأستاذ السيد محمد الفاسى وأمثاله من أعلامكم ويكفى أن أنشد فى هذا المقام:
إذا أيقظتك خطوب الزمان فنبه لها عمراً ثم نم
وقد نبهت عمر ولكنى أعدكم أننى إن شاء الله لن أنام.
الاثنين 30 يونيو عام1958
أرجو قبل كل شئ أن تتفضلوا فتقبلوا تحية العروبة الشرقية ترسلها إلى العروبة المغربية صادرة عن أعماق القلب وعن دخائل الضمائر، وأرجو أن تتقبلوها على ألا تستقر فى اسماعكم،
كما قلت فى الرباط وإنما تمر فى اسماعكم لتستقر فى أعماق قلوبكم كما صدرت من أعماق قلوب اخوانكم فى الجمهورية العربية المتحدة.
وإنى الحريص على أن اشكر اجمل الشكر وأصدقه للسيد الوزير ومدير الجامعة الآن، أشكر له أجمل الشكر وأصدقه هذه التحية الكريمة التى تفضل بها، واعترف وأشهد أنى منذ وصلت الى بلاد المغرب لم أجد فيها إلا أحسن لقاء وأحسن ترحيب ، لقاء الإخوان للأخ وترحيب الإخوان بالأخ الصديق. ومع ذلك فلست أوافق الأستاذ الوزير على ما قال من أن المغرب تلميذ لمصر، فالذى أعرفه أن علومكم وصلت الينا وأن علماءكم وصلوا إلى بلادنا، منهم من استقر فى الإسكندرية وأقرأ تلاميذ من المصريين والشرقيين، ومنهم من استقر فى القاهرة وأقرأ التلاميذ فى الأزهر الشريف، فإذا كان هناك اساتذة وتلامذة فأنتم الأساتذة ونحن التلاميذ.
وأنا أحب أن تعرفوا شيئا عن إخوانكم فى الجمهورية العربية المتحدة وعن حياة الأدب فيها أثناء هذا العصر الحديث لا لأنى أريد أن احدثكم عن نهضة الأدب هناك، ولكن لأنى أريد أن تعرفوا إخوانكم وأتمنى إن شاء الله أن يزورك الأستاذ الوزير وغيره من قادة الفكر فى هذه البلاد ليتحدثوا الى المصريين والسوريين عن إخوانهم من أهل المغرب فإن الزيارة لابد من أن ترد.
أريد أن تعرفوا أن تراثنا العربى بعد أن تعرض للخطر العظيم الذى أثاره التتار عندما غزوا العراق وعندما أضاعوا ما أضاعوا من الكتب، وأهدروا وهدموا ما هدموا من الحضارة الإسلامية فى العراق. كانت سورية وكانت مصر هما الملجأ الذى لجأ إليه التراث الإسلامى ،ونهض السوريون والمصريون يقرأون ما لجأ إلى سوريا ومصر من هذا التراث ويجمعونه ويدونونه فى كتب ضخمة تذكرنا بدوائر المعارف أو »الأنسكلوبيديات« فى هذه الأيام ، فنرى »النويري« يؤلف »نهاية الأرب« فى نحو ثلاثين مجلدا ونرى »العمري« يؤلف »مسالك الأمصار«، ونرى القلقشندي« يؤلف »صبح الأعشي، ونرى »ابن منظور« يؤلف »لسان العرب«،ونرى غير هؤلاء نرى ابن حجر فى الفقه والحديث وتلاميذ ابن حجر ونرى آخر الأمر »السيوطي« وما أكثر ما جمع السيوطى من الكتب القديمة فى كتبه التى ألفها وملأ بها البلاد الشرقية. فى أثناء هذه النهضة التى إن لم تكن أدبية خالصة فقد كانت نهضة علمية، وإلى جانبها كانت نهضة فنية يراها كل من زار القاهرة وكل من زار دمشق ورأى ما فى المدينتين من الآثار الإسلامية ومن المساجد.
فى أثناء هذا أقبل الترك العثمانيون على مصر فهدموا الحضارة الإسلامية فى الشرق العربى كما هدموا الحضارة البيزنطية فى قسطنطينية، وجرى هذا كله فى أقل من قرن واحد، هدموا هاتين الحضارتين ولم يؤتوا العالم حضارة تقوم مقام إحداهما، فضلا على أن يؤتوا العالم حضارة تقم مقام الحضارتين جميعاً.
ذلك لأن الترك العثمانيين عندما اقبلوا على مصر فى القرن السادس عشر فقطعوا كل صلة بينها وبين العالم الخارجي، قطعوا الصلة بينها وبين العالم العربى شرقاً وغربا، وقطعوا الصلة بينها وبين العالم الغربى الأوروبى وكانت قبل الغزو العثمانى متصلة بالعالم العربى فى الشرق وفى الغرب ومتصلة بالعالم الأوروبى المسيحى بواسطة التجارة وبواسطة المعاهدات السياسية ، وما إلى ذلك، فكان الأدب فى تلك الأيام، قبل الغزو العثمانى ، له حظ من حياة مهما تكن فقد كانت قوية خصبة منتجة، وما أكثر ما يقال عن عصر المماليك فى مصر وسوريا، فكثير من الذين يؤرخون الأدب يقولون: إن هذا العصر قد كان عصر ضعف وخمود لجذوة الأدب العربي، ولكننا عندما نحقق النظر فى شئون الأدب فى سوريا وفى مصر أيام المماليك نرى أن الأدب العربى أشبه شئ بالجذوة التى تكاثر عليها الرماد فهى محتفظة بقوتها ومحتفظة بما فيها من القدرة على الانتشار والإضاءة ،وأصبح كتابنا فى تلك الأيام يبداون ويعيدون فى الفاظ مزوقة منمقة لا تؤدى شيئا، وإنما كانوا غارقين فى شئ يشبه هذيان المحموم، كذلك كانت حياة الأدب، أيها السادة، فى ذلك العصر التركى العثماني.
فعندما أقبل الفرنسيون الى مصر، يخيل إلى أنهم طرقوا باب العروبة المصرية طرقاً عنيفا، أيقظ النيام، فهم قد اقبلوا بأشياء لم يكن المصريون يقدرون أنها موجودة . وهم قد عرضوا على المصريين ألواناً من العلم وألوانا من النشاط لم يكن المصريون يعرفون أنها يمكن أن توجد فى بلد من البلاد، عرضوا عليهم ـ أول ما عرضوا ـ المطبعة. وكان المصريون لا يعرفون إلا أن الكتب تكتب بالأيدى وتستنسخ وتذاع على هذا النحو البسيط الضئيل. فلما رأوا عمل المطبعة ونشر الآثار والمكتوبات دهشوا لهذا أشد الدهش، ثم عرضوا عليهم بعض التجارب العلمية: تجارب الكيمياء والطبيعة فخيل إلى الذين رأوا هذه التجارب أن هؤلاء الفرنسيين كانوا أصحاب سحر لا أصحاب علم، وكذلك استيقظ المصريون وقاوموا الفرنسيين أشد المقاومة حتى أدرك الفرنسيون ألا مقام لهم بأرض مصر فزالوا عنها ولم يقيموا فيها إلا ما يقرب من ثلاثة اعوام. زالوا عنها ولكنهم كانوا قد أيقظوها وقد نبهوها إلى أنها كانت بمعزل من حياة قوية نشيطة، توجد فى بعض البلاد . ومنذ أوائل القرن الماضى بدأ المصريون يرسلون أبناءهم إلى الخارج، يرسلونهم إلى إيطاليا وإلى فرنسا وإلى بريطانيا العظمى ، ليعلموا علم هذه البلاد، وليتعلموا فى مدارسها وجامعاتها وليعودوا بما تعلموا لينشروه فى بلادهم، وكثرت هذه البعثات التى كانت تسافر إلى هذه البلاد، وإلى فرنسا خاصة وفى الوقت نفسه انهزمت جيوش نابليون فى أوائل القرن، وضاق كثير من الفرنسيين ببلادهم هذه المنهزمة، التى احتلها العدو، فجعلوا يخرجون من بلادهم ويهاجرون إلى بلاد مختلفة. وجاء فريق منهم إلى مصر فاستغلت مصر مقدم هؤلاء ، استغلت بعضهم فى تنظيم جيشها، واستغلت بعضهم فى تنظيم مدارسها، ومن ذلك الوقت نشأ فى مصر تياران أحدهما يأتى من أعماق التاريخ الإسلامى والآخر يأتى مما وراء البحر، فأما التيار الأول الذى كان يأتى من أعماق التاريخ الإسلامي، فكانت تصوره هذه الكتب العربية القديمة التى كانت نائمة فى المساجد ، فى مكتبات المساجد، لايكاد أحد يقرؤها ولايكاد أحد ينظر فيها. جعلت هذه الكتب تأخذ طريقها الى المطبعة قليلا قليلا، وجعل الناس يشترونها ويقرأونها وينظرون فيها شيئا فشيئا، وجعل هذا التيار يقوى ثم يقوى حتى استأثر بعقول فريق من المصريين واستأثر بأوراقهم ثم استأثر بألسنتهم وأقلامهم آخر الأمر.
وفى أثناء ذلك كان التيار الآخر يأتى من وراء البحر ويقوى كذلك شيئا فشيئا. جعل المصريون يتعلمون اللغة الفرنسية ثم جعلوا يتعلمون غيرها من اللغات الأوروبية، وبخاصة اللغة الإنجليزية، وجعلوا يترجمون بعض الكتب التى كانت تأتيهم من فرنسا ومن بلاد الإنجليز ، وجعلت العقول والقلوب والأذواق المصرية تتأثر بهذين التيارين: بالتيار الذى يأتى من أعماق التاريخ العربى الإسلامي، والتيار الذى يأتى من وراء البحر، وجعلت قلوب المصريين وعقولهم وأذواقهم تلائم بين التيارين وتنشئ منهما شخصية جديدة للأدب، فيصف طموح مصر إلى الاستقلال ويصف طموح مصر الى الحرية ويصف الحرب وقد خاض غمارها فى غير موطن، ويصف الطبيعة ويحرض على الثورة، ويشارك فى الثورة العرابية التى كانت سبب النكبة، نكبة مصر بالاحتلال البريطاني، ونجده لا يكتفى بتقليد القدماء ولكنه يختار من شعر القدماء مجموعة ضخمة تنشر بعد وفاته فى أربعة مجلدات.. وعلى نحو السيرة التى سارها البارودى فى أدبه وفى شعره خاصة، ينهض أو يظهر شعراء آخرون يذهبون نفس المذهب ،ونرى حافظا ثم شوقى وغير حافظ وشوقى من شعرائنا فى آخر القرن الماضى وأوائل هذا القرن، حتى أتيح لمصر فى هذا العصر الحديث ما لم يتح لها أثناء العصر الإسلامى كله، فمصر لم يتح لها الامتياز فى الشعر فى عصورها الإسلامية المختلفة، كان الشعر عراقيا أول الأمر ، وكان نجديا وحجازيا ثم صار الشعر سوريا أيام بنى العباس فى القرن الثالث ما بعده أيام أبى تمام والبحترى ثم المتنبى وأبى العلاء المعري، وصار الشعر أندلسيا ومغربيا وظلت مصر قليلة الحظ من الشعر، منذ الفتح العربى الى العصر التركى العثمانى إلى أواسط القرن التاسع عشر لكن بفضل هذه النهضة الحديثة ، وبفضل التقائها بين التيارين: التيار القديم الإسلامى والتيار الحديث الغربي أصبحت مصر ولها مدرسة شعرية للمرة الأولى فى تاريخها الأدبى العربي، وبهذه المدرسة التى نسميها بالمدرسة المصرية التقليدية فى الشعر، بهذه المدرسة الشعرية ختم الشعر العربى فى مصر ، فلم يكد هؤلاء الشعراء يتركون هذه الحياة الدنيا الى العالم الآخر حتى عادت مصر إلى ما كانت عليه قبل وجود هذه المدرسة، قليلة الحظ من الشعر. يوجد فيها الذين يقولون القصائد وينشئون القصص التمثيلية على نحو ما كان يصنع شوقي، ولكن كل هؤلاء الشعراء لا يبلغون مبلغ الشعراء التقليديين الذين ذكرتهم آنفا البارودى وحافظ وشوقى وإسماعيل صبرى وخليل مطران وسائر شعراء هذه الطبقة.
إنما الفن الأدبى الذى امتازت فيه مصر امتيازا ظاهراً حقاً هو فن النثر، فقد جعل المصريون يقرأون للكتاب القدماء ويقرأون للكتاب الأوروبيين ويحاولون أن ينشئوا لأنفسهم نثراً يتبع مذهب القدماء فى اللفظ وفى الأسلوب ولكنهم يؤدون بهذا اللفظ وبهذا الأسلوب معانى لم تخطر للقدماء لأنها معان جديدة جاء بعضها من الغرب الأوروبى وابتكر بعضها فى مصر.
ففى أوائل هذا القرن يظهر كتاب صغير، جعل ينشر فى صحيفة أسبوعية: كان اسمها »مصباح الشرق« وهذا الكتاب كان ينشر أحاديث، وكان يسمى حديث عيسى بن هشام ويكتب على أسلوب الهمذانى وعلى طريقته ولكنه يصل الحياة الاجتماعية ويعرض عليها قصة طويلة على طريقة الأوروبيين.
وتمضى أعوام وإذا كاتب آخر يظهر وهو مصطفى لطفى المنفلوطي، وإن لم يكن مصطفى لطفى المنفلوطى يعرف لغة الأوروبيين فإنه كان يعيش بين الذين يعرفون لغة الأوروبيين كان عنوانها »النظرات« ثم جعل تترجم له كتب فرنسية ترجمة عادية ويؤديها هو بلغته العربية الرائقة الجميلة على الأسلوب العربى القديم ، ولكن الحرب العالمية الأولى تفجع مصر بنوع خاص، ولا تكاد تنقضى حتى يثور المصريون مطالبين بالاستقلال وتكون ثورتهم عنيفة حقاً، ولم تخل من سفك دماء بين المصريين والإنجليز المحتلين، وهذه الثورة التى كانت فى أول أمرها سياسية لم تلبث أن تصبح ثورة سياسية وفكرية بالمعنى الواسع الدقيق،
.. ويثورون على الأساليب القديمة فى الشعر وفى النثر، فتنشأ طائفة تعبث بشوقى وحافظ وبالمدرسة الشعرية التقليدية وتريد أن تنشئ شعراً جديداً تذهب فيه مذهب الشعراء الأوروبيين وتنشأ فى مصر ثورة عنيفة بين القدماء والمحدثين، فهناك أصحاب المذهب القديم الذين يحافظون على الكتابة العربية كما ورثت عن الجاحظ وابن المقفع وعن الهمذانى وعن الحريرى ومن إليهما. وآخرون يريدون أن يطلقوا أنفسهم على سجيتها وأن يؤدوا المعانى كما يجدونها فى نفوسهم، لايتكلفون ولايتعلمون ولا يلتزمون شيئا، إلا أن يكونوا معربين حين يكتبون ، واضحين للذين يقرأونهم أو يسمعونهم، ثم لا يريدون أكثر من هذا. وتقوى هذه الثورة شيئا فشيئا حتى تسيطر على الحياة الفكرية المصرية أثناء العصر الأول للثورة المصرية من انتهاء الحرب العالمية الى نحو ثلاثين وتسع مائة والف ، وبعد ذلك تفرض على مصر الوان من الاستبداد الداخلى والخارجى ايضا: تعاون بين القصر الملكى وبين الانجليز.
وتفرض احكام عرفية تحجر على الأفكار وتمنع الناس من أن يعربوا على ذات نفوسهم كما يحبون، ونجتهد نحن الكتاب والشعراء فى تلك الأيام فى أن نخادع السلطان وفى أن نعبث بالأحكام العرفية وفى أن نؤدى ما نريد على رغم القوانين المفروضة وعلى رغم الأحكام العنيفة التى كانت تفرض علينا، ونصل إلى التغلب على الحكام أيضا، ولا أنسى كتاباً كتبته أنا فى ظل أقوى ما يمكن أن يكون من قسوة الأحكام العرفية ولكنه كان كتاباً لم أصارح فيه أحداً بشئ ، وقلت فيه مع كل ما أريد أن أقول، وسميته »جنة الشوك« لأن هذا الكتاب كان يتألف من مقطوعات قصار ليس فيها مقطوعة إلا وفيها غمزة لحاكم أو لملك أو لوزير... وفى أثناء هذا، أيها السادة، نشأ فى مصر فى الأدب العربى فنان جديدان لم يألفهما الأدب العربى من قبل، أما أحدهما فمن القصص الطويل والقصير ، القصاص تحرروا من السجع ومن تقليد الكتاب القدماء وأنشؤوا لأنفسهم لغتهم الخاصة العربية.
وإذا أتيح لكم أن تقرؤوا ما ينشر فى مصر من القصص الآن فإنى أحب أن تقرؤوا ما يكتبه كاتب مصرى من الكتاب الشبان الذين تخرجوا فى جامعة القاهرة وهو نجيب محفوظ، كتب طائفة من القصص أعتبرها أنا أروع ما أنتج فى الأدب المصرى الحديث: كتب قصصاً وهو يتحرى حين يكتب أن يختار شارعاً من شوارع القاهرة أو حياً من أحيائها ويختار فى هذا الحى أسرة من الأسر ويكتب تاريخ الأسرة وبكتابة تاريخ الأسرة يصور تاريخ الحى ويصور تاريخ القاهرة ويصور تاريخ الأحداث السياسية التى كانت تحدث فى القاهرة، وإذا أتيح لكم أن تقرؤوا هذه السلسلة التى كتبها باسم »قصر الشوق« وباسم »بين القصرين« و«السكرية« فسترون قصصاً عربية أصيلة بأدق معانى الكلمة.
أما الفن الآخر فهو فن التمثيل: الأدب التمثيلي، فقد جعل بعض كتابنا ينشئون قصصاً تمثيليا، ونشأ عندنا كاتب ـ كلكم سمع اسمه فيما أظن ـ هو »توفيق الحكيم« هو الذى وظف التمثيل فى اللغة العربية وجعله مصرياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة: أنشأ طائفة من القصص التمثيلية، أكثرها يقرأ ولايكاد يمل، وهو قد أنشأ طائفة من القصص كلها جيد وكلها رائع.. ونحن الآن أمام حكومة جديدة فى مصر: حكومة الثورة ، وقد التزمت إحياء التراث العربى ووضعت نظاماً خاصاً لنشر هذا التراث، وإلى جانب ما تفعله الحكومة
وسألنى سائل فى جريدة (العلم)، هل سنظل نذكر القدماء ونذكر أبا تمام وأمثاله؟ أو هل يجب أن نعيد النظر فى مقاييسنا وفى أحكامنا وفى تفكيرنا؟
وأجيب عن هذا السؤال بأننا سنظل نذكر قدماءنا نظل نذكرهم وسنظل نحفظهم وندرسهم، وهم قد عاشوا إلى الآن وما نريد أن نحتمل الإثم فنقضى عليهم بالموت، ولو حاولنا ذلك لما بلغنا منه شيئا، لأنهم كانوا أقوى من الزمن، وأقوى من الدول، وأقوى من الخطوب : عاشوا وسيعيشون ، ولكنى لا أريد أن نقتصر ولا أن نكتفى بذكر القدماء وحفظهم ودرسهم، وإنما أريد أن نعرف كل ماعند الغرب ، نعرفه معرفة المتقصى المتعمق، وأن نجمع مانعرفه مما عند الغرب إلى ما نعرفه من أمر قدمائنا، وأن نكون لأنفسنا شخصيتنا الجديدة القوية المستقلة وأن نضيف إلى ما تركه العرب لنا تراثاً جديداً، فلا ينبغى أن نورث أبناءنا ما ورثناه فحسب وإنما ينبغى أن نورث أبناءنا ما ورثناه وما أنتجناه نحن، ويمضى الأمر على هذا الحال وترقى الحياة العقلية والأدبية العربية بمقدار ما ترقى الحياة العلمية كلها وبمقدار ما ترقى الحياة السياسية.
وإنى لسعيد أيها السادة بأن ألقيت اليكم بهذه الأحاديث التى تضطرب دائما فى أعماق نفسى ،فهذا البلد هو أجدر البلاد العربية بأن يكون فى مقدمة الحماة للتراث العربي. وفى مقدمة البلاد التى تحيى العقلية العربية الجديدة وتشارك فى إنشاء الشخصية العربية الجديدة.
ويكفى أن أقول هذا وأن اعتمد فيه على جلالة الملك المعظم وعلى سمو ولى العهد وعلى الأستاذ السيد محمد الفاسى وأمثاله من أعلامكم ويكفى أن أنشد فى هذا المقام:
إذا أيقظتك خطوب الزمان فنبه لها عمراً ثم نم
وقد نبهت عمر ولكنى أعدكم أننى إن شاء الله لن أنام.
الاثنين 30 يونيو عام1958