سيدى صاحب السمو الملكى، سادتى
أحب قبل كل شىء أن أؤدى مهمة ليس شىء أحب إلى من أدائها، وهى أن أحمل إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم محمد الخامس وإلى صاحب السمو الملكى الأمير الحسن ولى عهد الدولة المغربية وإلى الشعب المغربى كله تحية ملؤها الود الصادق والحب العميق والإجلال والإكبار وتقدير الجهد العنيف الخصب الذى بذل فى تحقيق الأستقلال المغربى، وهذه التحية أؤديها إلى المغرب: إلى جلالة مليكه وإلى ولى عهده وشعبه الكريم وعن الجمهورية العربية المتحدة كلها: من رئيسها جمال عبدالناصر عن حكومتها وعن شعبها العربى الذى إنما يحيا بالعروبة وللعروبة ولإعزاز العروبة فى أى مكان من أماكنها، وهذه التحية التى تصدر من أعماق القلب العربى فى المشرق إلى القلب العربى فى المغرب، ليست تحية تؤدى بأطراف الألسنة، وإنما اللسان فيها مترجم عن القلوب، وإنى لأرجو أن تبلغ هذه التحية أسماعكم ثم لا تستقر فيها وإنما تستقر فى أعماق قلوبكم ودخائل ضمائركم وأن تشعروا بأن الجمهورية العربية المتحدة إنما تحييكم تحية الصديق المخلص للصديق المخلص.
أما بعد فإنى أعتذر من أن أتحدث إليكم حديثا لست أدرى أيروقكم أم لا يروقكم، ذلكم لأنى لا أتحرى، حين أتحدث، إرضاء الذين يسمعوننى، بمقدار ما أتحرى، إشعارهم بما يجب عليهم للأدب العربى وللأمة العربية كلها، وإذا لم يرقكم بعض ما سأقوله فى هذا الحديث فمعذرتى إليكم هى أننى لست من الذين يقنعون بالقليل فى كل ما يتصل بالحياة العقلية، فقد أكون من أنصار القناعة بالقليل فيما يتيح الله لى من أسباب الحياة، أما فيما أطمح اليه فى حياتنا العقلية فإنى لا أرضى أبدا ولا أطمئن مطلقا وإنما أنا قلق دائما ومثير للقلق حيثما كنت.
وأنا حريص أشد الحرص، على أن تشعر الأمة العربية كلها بأنها مهما تحقق من نهضة ومهما تبلغ من رقى فى حياتها العقلية فإنها ستظل دائما بعيدة عما ينبغى لها من النهضة الصحيحة والرقى ا لمؤكد والوصول إلى المثل الأعلى فى تقوية الحضارة وتنميتها وإغناء العالم الإنسانى كله ومشاركته فيما ينبغى أن تكون عليه الحياة الإنسانية من تقدم ورقى وازدهار.
وأريد أن أحدثكم الليلة عن »الأدب العربى وعن مكانته بين الآداب العالمية«. وهو موضوع ـ كما ترون ـ يشعر بشىء كثير من وجوب الاحتياط فى القول. فالعالم الآن بما بلغ من التقدم، وبما وصل إليه من الرقى، وبما انتهى إليه من هذا التطور الغريب، وبما وصلت إليه الاختراعات الحديثة، هذا العالم عندما ننظر إليه، وننظر إلى ما وصلنا نحن إليه فى بلادنا العربية، نشعر بالمسافة البعيدة التى تفصل بيننا وبين ما نحب أن نكون. والشىء الذى يعزينا ولكنه لا ينبغى أن ينسينا واجبنا، هو أن أدبنا العربى قد مرت عليه أطوار، نستطيع فيها، بحق عندما نتحدث عنها، أن نقرر أن هذا الأدب العالمى الممتاز فى عصر من عصوره. ذلك لأن هذا الأدب كان هو الادب العربى لم يكد يخرج من جزيرة العرب بعد ظهور الإسلام وبعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم حتى انتشر انتشارا رائعا وخطيرا حقا.
ولست أعرف فى اللغات القديمة لغة بلغت ما بلغته اللغة العربية من القوة والأيد ومن السعة والانتشار ومن القدرة على السيطرة على العالم القديم فى أكثر أجزائه، وقد كانت قبل اللغة العربية لغات قديمة أخرى انتشرت فى الشرق وسيطرت على سياسته وإدارته وثقافته، ولكنها لم تبلغ فى أى وقت من الأوقات أعماق الشعوب الشرقية، ولم تستطع أن تغير من نفوس الشرقيين ولا أن تغير من لغاتهم شيئا، وإنما فرضت نفسها هذا الفرض السياسى المعروف فكانت لغة الحكام، وكانت لغة الإدارة، وكانت لغة الثقافة الرسمية، وظلت الشعوب مع ذلك تتكلم لغاتها الخاصة، وتتوارث آدابها الخاصة، لم تغير لغتها، ولم تتخذ هذه اللغات القديمة المسيطرة لغات لها. فالأمة اليونانية فرضت لغتها على الشرق عشرة قرون، منذ عهد الإسكندر إلى الفتوح العربية.
ولكن الشعوب التى كانت تسكن هذه البلاد الشرقية ظلت محتفظة بلغاتها الخاصة. فكان المصريون محتفظين بلغتهم القبطية وكان السوريون وأهل الجزيرة والعراق محتفظين بلغاتهم السامية الآرامية وما يتفرع منها، ولم تستطع هذه اللغة اليونانية أن تؤثر فى هذه اللغات ولا أن تحول الشعوب عن لغاتها بحال من الأحوال.
وجاء الرومان بعد اليونان، ولغتهم اللاتينية لم تستطع أن تنتشر فى الشرق بحال من الأحوال، وإنما كان الحكام من الرومانيين، وكانت لغة الإدارة والسياسة والثقافة هى اللغة اللاتينية، وظلت الشعوب مع ذلك محافظة على لغاتها الموروثة، وعلى آدابها الموروثة، وعلى تقاليدها كلها، إلى أن جاءت اللغة العربية بعد الفتح الإسلامى، ودون أن يتخذ السلطان العربى أى قوة لفرض هذه اللغة، ودون أن تتخذ الحكومات العربية عى اختلافها أى إجراء لحمل الشعوب على أن تتكلم اللغة العربية، فإذا هذه اللغة العربية تنتشر شيئا فشيئا، ولكنها تنتشر، على ذلك ـ فى سرعة مدهشة، ولا تلبث أن تصبح هى اللغة العامة لكل البلاد التى فتحها المسلمون.
فى شرقى ا لدولة الإسلامية: فى بلاد إيران، وفى جزء من بلاد الهند كل هذا القسم كان يتكلم اللغة العربية ويكتب بها، ويحاول أن يغالب العرب عليها وفى المغرب، وفى الشام وفى مصر وشمال إفريقية، وفى الأندلس كذلك غلبت اللغة العربية كل اللغات التى كانت منتشرة فى كل هذه البلاد، وأصبحت هى لغة الحديث وهى لغة الثقافة ولغة الدين.
ولأجل أن تتبينوا أن هذا لم يأت بقوة الحكومة ولا بتدخل السلطان، أحب أن أذكركم بمثل بسيط جدا، وهو أنه فى القرن الثالث، فى مصر، كان كثير من القضاة يتعلمون اللغة القبطية، ليستطيعوا أن يفهموا الخصوم إذا اختصموا إليهم وأن يقضوا بينهم. هذا يعطيكم فكرة واضحة عن موقف الحكومة، وموقف السلطان بالقياس إلى انتشار اللغة العربية. فاللغة العربية قد انتشرت وحدها بقوتها الخاصة، وبقوة الإسلام وقوة القرآن الكريم، بهذه القوة وحدها استطاعت اللغة العربية أن تكون لغة عالمية لأول مرة فى التاريخ الإنسانى، لغة عالمية بأوسع معانى هذه الكلمة، يتكلمها الفرس ويتكلمها جزء غير قليل من الهند وتتكلمها بلاد الشرق العربى الآن كلها ويتكلمها المغرب وشمال إفريقيا وتتكلمها الأندلس أيضا.
فالرومانيون استطاعوا أن ينشروا لاتينيتهم فى المغرب، فى المغرب الأوروبى: فى فرنسا وفى بريطانيا العظمى وفى إسبانيا، وحاولوا أن يجعلوها لغة منتشرة فى شمال إفريقيا، فلم يفلحوا إلا قليلا جدا.
ولكن اللغة العربية استطاعت أن تقهر اليونانية فى الشرق، وأن تقهر اللغات الشعبية التى كانت منتشرة فى هذه البلاد الشرقية، وأن تقهر اللغة الفارسية نفسها، ثم إن تقهر اللاتينية فى المغرب العربى وفى الأندلس، وأن تصبح هى اللغة العالمية التى يتكلمها الناس فى الشرق والغرب جميعا.
هذه اللغة منذ تم لها هذا الانتشار، لم تكن لغة حديثة فحسب، ولكنها كانت لغة حديثة، ولغة سياسية، ولغة إدارة، ولغة الدين.
وكانت فى الوقت نفسه لغة التفكير والإنتاج الأدبى والعقلى، وفى أقل من قرنين كانت هذه اللغة قد استطاعت أن تسيغ كل الثقافات التى كانت معروفة فى العصور القديمة: أساغت ثقافة اليونان، على سعتها وعلى صعوبتها وعلى عمقها، وأساغت فلسفتهم وعلومهم وطبهم وفنونهم العملية أيضا، وأساغت ثقافة الفرس، وثقافة الهند، وأساغت بعد ذلك الثقافات التى كانت متوارثة بين الأمم السامية، الثقافات التى نشأت عن التقاء الساميين بالأمم المختلفة، والتى نشأت عن توارث التوراة وتوارث الإنجيل بين تلك الأمم المسيحية فى هذه البلاد الشرقية والمغربية. كل هذه الثقافات استطاعت اللغة العربية أن تسيغها وأن تتمثلها وأن تجعلها ثقافة عربية، وبعد ذلك جاءت المعجزة الكبرى، وهى أن هذه اللغة انتشرت بهذه الطريقة المدهشة، والتى أساغت كل هذه الثقافات بهذه الطريقة المدهشة أيضا، أنشأت أمة جديدة، هذه الأمة الجديدة قوامها اللغة العربية والدين الإسلامى عند الكثرة، والمسيحية والإسرائيلية عند القلة.
وكل هذه الأمم امتزجت والتأمت وأصبحت أمة واحدة، هى الأمة الإسلامية العربية، وجعلت عناصرها المختلفة تتعاون على إنشاء هذه الحضارة الإسلامية العليا، التى لا تعرف أن حضارة أخرى قد سبقتها فى عالميتها وفى انتشارها.
فلست أعرف حضارة قبل الحضارة الإسلامية استطاعت أن تنتشر من الأندلس الى أعماق الهند، وإنما الحضارة التى انتشرت هذا الانتشار الغريب لأول مرة فى تاريخ العالم، هى هذه الحضارة الإسلامية.
فى تلك الأيام، نستطيع أن نقول إن أدبنا كان هو الأدب العربى الممتاز حقا. وهذا الأدب العالمى الذى لم يكن أدب يساميه فى وقته، سبقته آداب أخرى قديمة: سبقته الآداب اليونانية التى مازالت الإنسانية تعيش عليها الى الآن، ولكن هذه الآداب اليونانية استطاع العالم الإسلامى، بفضل اللغة العربية ومرونتها وسعتها، استطاع العالم العربى أن يسيغها وأن يحول هذا الأدب اليونانى القديم أو على الأقل الناحية الفلسفية منه الى فلسفلة عربية.
كان هذا الأدب إذن عالميا، والأدب الجدير بهذا الاسم هو الذى يستطيع أن يأخذ وأن يعطى: يأخذ من الآداب المختلفة، يتلقى كل ما يمكن أن ينفعه وأن يلائم طبيعته، فهو لا يعيش معتزلا وإنما يعيش متصلا بحياة أمته أولا، وبحياة الأمم البعيدة الأجنبية ثانيا، يأخذ منها ما استطاع ويعطيها فى الوقت نفسه ما يستطيع، وأنا أريد أن أبين لكم أن أدبنا فى هذه العصور القديمة كان هذا الأدب العالمى الذى كان يأخذ ويعطى، والذى أخذ حتى أنشأ حضارة جديدة، وأعطى حتى أتاح للأوروبيين نهضتهم الأولى. فبفضل المغرب، وبفضل الأندلس، استطاع الأدب العربى والعلم العربى أن يصلا الى أعماق أوروبا، وترجم هذا الأدب الى اللاتينية، نقله، الأوروبيون الى لاتينيتهم التى كانت لغة العلم والثقافة فى تلك الأيام فى المغرب الأوروبى، ترجم الى اللاتينية وأصبح أساسا للنهضة الأوروبية الأولى التى كانت فى القرن الثانى عشر والقرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، وكذلك استطاع هذا الأدب أن يأخذ من اليونانيين فى الشرق وأن يأخذ من الفرس والهند، وأن يأخذ من الأمم الشرقية، وأن يأخذ من اللاتينيين فى الغرب، فكان المغاربة هنا وفى الأندلس يترجمون من اللغة اللاتينية الى اللغة العربية، كما أن المشارقة كانوا يترجمون من اللغات اليونانية الى اللغة العربية ومن اللغة الفارسية والهندية أيضا الى اللغة العربية.
وقد يقال: إن الأدب العربى تأثر بهذه الآداب القديمة التى نقلها، وليس فى ذلك أى عيب.
فكل أدب جدير بهذا الاسم يجب أن يأخذ وأن يعطى وأن يتأثر وأن يؤثر، وإذا رأيتم أدبا يعيش معتزلا لا يأخذ ولا يعطى، ولا يتأثر ولا يؤثر، فثقوا بأنه أدب ميت.
ولسنا ننكر أن أدبنا العربى تأثر بالآداب والفلسفة اليونانية بعد نقلها، ولسنا ننكر أن هذا قد كان له تأثير خطير جدا فى حياة الأدب العربى أثناء العصر العباسى، وفى المغرب فى العصور المتأخرة بدءا من القرن الرابع فما بعده، لا ننكر شيئا من هذا، وقد يقال إننا تأثرنا بالآداب الفارسية، ولكنى لا أعرف أن الفرس أثروا فى آدابنا تأثيرا ذا خطر. كل ما ترجم الى لغتنا العربية عن الفرس كانت هذه الطائفة من الحكم التى نجدها فى كليلة ودمنة، والتى نجدها فى بعض ما كتب ابن المقفع، والتى نجدها فى بعض شعر أبى العتاهية، هذه الحكم وبعض الأمثال القديمة السائرة التى جاءتنا من الهند، وجاءتنا من عند الفرس، ترجمت ولكنها لم تؤثر فى الأدب العربى تأثيرا عميقا، كما أثر الأدب اليونانى. فالأدب اليونانى أثر فى تصور الشعراء وفى خيالهم، وبفضل هذا الأدب اليونانى وجد شاعر مثل أبى تمام، وبفضل هذا الأدب وجد شاعر مثل ابن الرومى، ويفضل هذا الأدب وجد شاعر مثل المتنبى، ومثل أبى العلاء، أولئك الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية وظهرت أثار الفلسفة اليونانية فى شعرهم، إما فى صور الشعر كما عند أبى تمام، وإما فى جوهر الشعر كما هى الحال فى كثير من شعر المتنبى، وفى شعر أبى العلاء الفلسفى كله، وأحيانا توثر فى الصورة وفى الجوهر كما هى عند ابن الرومى، فابن الرومى كان شديد التأثر بالأدب اليونانى: فى صوره الأدبية وفى أدائه اللفظى نفسه وفى بعض معانيه، وفى معانيه الفلسفية بنوع خاص، وهو أول الشعراء الذين أظهروا التشاؤم فى الأدب العربى.
أما الفرس فلم يؤثروا فى هذا الأدب العربى لسبب بسيط، هو أن أدب الفرس القديم لم يكن ذا خطر، بل انهم عندما عدلوا عن اتخاذ اللغة العربية لغة لهم فى حياتهم وفيما كانوا يكتبون، وأرادوا أن يكتبوا بلغتهم الفارسية الإسلامية الجديدة، لم تستطع هذه اللغة الفارسية الإسلامية أن تقهر اللغة العربية فى بلاد الفرس أنفسهم، فكثير من علماء الفرس كانوا يأنفون من كتابة العلم باللغة الفارسية، ويأبون أن يكتبوه إلا باللغة العربية، ونرى عالما من كبار علمائهم كالزمخشرى ينازعهم أشد المنازعة فى مقدمة كتابه فى النحو (كتاب المفصل فى النحو( ، ويأبى إلا أن تكون الكتابة باللغة العربية ويرى أن الفارسية لا تستطيع أن تؤدى المعانى التى تؤديها اللغة العربية. وبالفعل عندما أراد الفرس أن ينشئوا لأنفسهم أدبا فارسيا إسلاميا لم يستطيعوا أن ينشئوا نثرا فارسيا إلا فى العصر الحديث، وأذكر أنى سمعت بعض الناس ينشد شعرا فارسيا فيبتدئ إنشاد هذا الشعر على هذا النحو:
ألا يا أيها الساقى أدر كأسا وناولها
كه عشق أسان نمود أول ولى أفتاد مشكلها
البيت الأول هو بيت من الشعر العربى القديم:
«ألا يا أيها الساقى أدر كأسا وناولها»
البيت الثانى معناه »العشق فى أوله يسير سهل ولكنه لا يلبث إن تم حتى تنشأ مشكلاته.
كذلك كان الشعر العربى، وكذلك كان الأدب العربى فى هذا الطور من حياتنا، هو الأدب الممتاز فى العالم الإنسانى فى تلك الأيام، وكان هو المرجع للأمم الأوروبية التى كانت تريد أن تسترد حظها من الحضارة بعد أن فقدت حضارتها اللاتينية القديمة، ولكن الظروف تتغير، والأطوار تختلف، والخطوب يتبع بعضها بعضا. وقد جعلت هذه الخطوب تتوالى على الأمة العربية، وبدأت بتحول الحكم فى الشرق على الأقل من العرب إلى أمم أجنبية : إلى الفرس أولا وإلى التحكم التركى ثانيا، ثم إلى الفرس بعد ذلك، ثم إلى الترك آخر الأمر، ثم تأتى الدولة التركية العثمانية فتسيطر على الشرق العربى كله وعلى جزء من شمال إفريقيا. ومن حسن الحظ أنها لم تصل إلى المغرب ولم تسيطر عليه!
وأخص ما يحيى الأدب هو الاتصال بين الأمم صاحبة هذا الأدب وبين الأمم الأخرى، ومن أجل ذلك لم يكد الترك العثمانيون يسيطرون على العالم العربى حتى قطعوا كل صلة بين العالم العربى وبين الخارج، وفرضوا على هذا العالم العربى أن يعتزل وأن يعكف على نفسه، لا يتصل بالعالم الخارجى فى أوروبا، ولا يكون له أى اتصال حتى بين أجزاء العالم العربى نفسه. قطعت الصلات بين الأمم العربية وبين العالم الخارجى، واضطرت الأمم العربية إلى ن تعكف على نفسها، وجعل الأدب العربى يضعف قليلا، ثم دهم العالم العربى بخطوب أخرى: خطوب التتار فى الشرق، وخطوب الصليبيين وخطوب الدولة العثمانية، كما قلت، فكان هذا هو الذى أضعف اللغة العربية وأضعف أدابها، واضطرها إلى أن تعيش كما تعيش الجذوة تحت الرماد، ولولا أن الله اتاح لجزءين من العالم حظا من الاستقلال ومكن لهذين الجزءين من حماية الأدب العربى والتراث الإسلامى لضاعت هذه الأداب.
وانظروا إلى حال الأمة العربية تحت تأثير التتار والترك بعد ذلك، الترك العثمانيين، وإلى الأمة العربية فى المغرب، فى اسبانيا، تحت تأثير العناصر المسيحية التى أخرجت العرب وأخرجت الإسلام من اسبانيا، إنما أتاح الله هذين الجزأين: المغرب الاقصى فى العالم الغربى العربى، وسوريا ومصر فى العالم الشرقى العربي، بفضل هذين الجزءين من العالم العربى حفظ التراث الإسلامى، حفظ التراث فى الكتب، وفى المكتبات، وفى المساجد، وحفظ هذا التراث فى المساجد التى كانت تعلم اللغة والدين والعلوم الإسلامية، حفظ هذا التراث فى هذه الأجزاء من العالم العربى فى سوريا وفى مصر فى الشرق، وفى المغرب الأقصى، فى القسم الغربى من العالم الإسلامى.
ثم يأتى هذا العصر، قبل هذا العصر الحديث كان التراث محفوظا ولكنه كان نائما، وكان مهملا، لم يكن أحد يلتفت إليه تقريبا، وكان كما قلت لحضراتكم كالجذوة التى تعيش تحت الرماد لم تنطفئ ولكنها لا تنشر لهبها ولا تنشر نورها وإنما تظل مستورة تحت الرماد، هذ العصر الحديث عندما جاء، وجدنا أدبنا العربى قد فقد كل قوته القديمة التى صورتها لكم الآن، وفقد عالميته وأصبح أدبا محليا، أصبح هناك أدب فى مصر، وأدب فى سوريا، وأدب فى العراق، واخر فى تونس وفى المغرب، وهكذا، ولكن هذه الآداب كلها كانت آدابا محلية كما يقال، لا يتجاوز حدود البلاد العربية إلى العالم الخارجى.
وفى أثناء هذه العصور الوسطى التى قضى فيها على الأدب العربى بها الخمود، قويت أوروبا، قويت بفضل النهضة الأولى التى أتاحها لها الأدب العربى، ثم قويت بفضل النهضة الثانية التى أتيحت لها بعد سقوط القسطنطينية فى يد الترك العثمانيين، وكنا نحن فى غاية الضعف وفى غاية الخمود، وكذلك ترون الواجب الخطير الذى يجب أن نثبت له وأن ننهض به، وأن نؤديه لأنفسنا أولا، ولتراثنا العربى القديم ثانيا، وللإنسانية آخر الأمر.
هذا الواجب هو إحياء هذا التراث القديم من جهة، وأن نضيف إليه من عند أنفسنا ـ من جهة أخرى ـ لنزيده وننميه ونقويه، ونرد إليه مكانته العالمية ونجعله أدبا لا ينتفع به أصحابه وحدهم، وإنما ينتفع به أصحابه وينتفع به العالم الخارجى على اختلاف أجناسه وعلى اختلاف حضاراته.
فهو يحتاج أولا الى أن ننشر كل هذا التراث المكدس فى المكتبات، فى أقطار العالم العربى، ننشره ونفسره ثم نضيف إليه من عند أنفسنا أدبا حديثا جديدا لا تنقطع صلته بالأدب العربى القديم، ورلكنها تتصل به من جهة، وتزيد عليه وتضيف إلى من جهة أخرى، ولا ينبغى أن نعيش فى هذه العزلة التى نعيش فيها الآن، أو نوشك أن نعيش فيها، لا ينبغى أن نعيش فى هذه العزلة، نستعير كل ما نحتاج إليه من الحضارات الأخرى الغربية فى أوروبا وفى أمريكا، ولا يستعير أحد منا شيئا. فنحن بهذه الطريقة نرضى لأنفسنا أن نكون عيالا على الغرب، وما عهد العرب فى أنفسهم أن يكونوا عيالا على أحد فى وقت من الأوقات كانوا يأخذون من اليونان، ومن الفرس، ومن الهند، ومن أمم أخرى كثيرة، ولكنهم كانوا يعطون، فلنأخذ من الغرب إذن، ولكن يجب أن نأخذ منه وأن نعطيه. والذى أتاح لنا أن نجاهد، وأتاح لنا أن نكافح، وأتاح لنا أن نصارع الأجنبى لنستخلص منه استقلالنا السياسى فى الشرق، وفى المغرب فى الغرب، هو الذى سيتيح لنا أن نجاهد وأن نكافح، لنرد إلى أدبنا العربى حياته وقوته ونشاطه.
وإنى لأسعد الناس بأن أشرف بإلقاء هذه المحاضرة بين يدى صاحب السمو الملكى وبين أيديكم، لأنى أرى فى جلالة الملك وفى سمو ولى العهد رمزا أى رمز لهذا الكفاح، ولهذا الجهاد. وأثق فى أن سمو الأمير ولى العهد خير من يستمع لهذه الدعوة، وخير من يستقبلها كما ينبغى أن تستقبل، وخير من يعين على إحياء الأدب فى المغرب. وسيشارك فى إحياء الأدب العربى فى جميع أقطار العروبة كلها، وأنا أجدد لسموح ولحضراتكم أصدق الشكر وأخلص التحية.
كل شىء يدعونا إلى أن نعيد النظر فى تراثنا القديم، نعيد النظر فيه لأننا نحبه ونريد أن نستخلص صفوته، ونريد أن نزيل عنه ما لصق به وما ران عليه من الأوهام والأساطير والخرافات. وأؤكد لكم أنكم إذا أعدتم النظر فى تاريخ الأدب العربى والتمستموه فى شعر الشعراء لا فى حديث الرواة، والتمستموه فى الدواوين لا فيما يختصر من الدواوين ستجدون متعة أى متعة، وستجدون نعمة أى نعمة، ستشعرون أنكم تستكشفون التاريخ العربى من جديد.
وقد قلت لكم فى أول هذا الحديث إنى قد أحببت دائما أن أثير المشكلات وأن أثير القلق من حولى. وإنى لأرجو أن أكون قد أثرت بين أيديكم من المشكلات ونشرت حولكم من القلق ما يدعوكم إلى ألا تقرأوا (الأغانى) إلا لتقرأوه ليس غير، ولتأخذوا منه بعض ما تحتاجون إليه من العلم، ولا تتخذوه وحده مصدرا للتاريخ الأدبى فالكذب فى كتاب الأغانى كثير، والانتحال فيه كثير، والتزوير على القدماء فيه كثير أيضا، والخير كل الخير فى أن نلتمس الأدب العربى فى النصوص القديمة نفسها وفى دواوين الشعراء وفى رسائل الكتاب لا فى ما يحكى عن الكتاب والشعراء. وإذا فعلنا هذا كنا أولا قد أنصفنا أدبنا العربى وطهرناه من الأوهام والأساطير، وكنا ثانيا قد أحييناه الحياة الجديرة به، وكنا ثالثا قد رددنا على أنفسنا عقولنا، وقد بحثنا كما ينبغى للعلماء أن يبحثوا، وخرجنا من هذا التقليد الطويل الذى أفسد علينا كثيرا من أمرنا إلى الآن.
أما بعد فإنى أجدد التحية وأجدد الشكر وأعتذر إليكم من هذا الحديث الذى أطلت فيه وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم بهذا الإسراف.
الخميس 26 يونيو1958
أحب قبل كل شىء أن أؤدى مهمة ليس شىء أحب إلى من أدائها، وهى أن أحمل إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم محمد الخامس وإلى صاحب السمو الملكى الأمير الحسن ولى عهد الدولة المغربية وإلى الشعب المغربى كله تحية ملؤها الود الصادق والحب العميق والإجلال والإكبار وتقدير الجهد العنيف الخصب الذى بذل فى تحقيق الأستقلال المغربى، وهذه التحية أؤديها إلى المغرب: إلى جلالة مليكه وإلى ولى عهده وشعبه الكريم وعن الجمهورية العربية المتحدة كلها: من رئيسها جمال عبدالناصر عن حكومتها وعن شعبها العربى الذى إنما يحيا بالعروبة وللعروبة ولإعزاز العروبة فى أى مكان من أماكنها، وهذه التحية التى تصدر من أعماق القلب العربى فى المشرق إلى القلب العربى فى المغرب، ليست تحية تؤدى بأطراف الألسنة، وإنما اللسان فيها مترجم عن القلوب، وإنى لأرجو أن تبلغ هذه التحية أسماعكم ثم لا تستقر فيها وإنما تستقر فى أعماق قلوبكم ودخائل ضمائركم وأن تشعروا بأن الجمهورية العربية المتحدة إنما تحييكم تحية الصديق المخلص للصديق المخلص.
أما بعد فإنى أعتذر من أن أتحدث إليكم حديثا لست أدرى أيروقكم أم لا يروقكم، ذلكم لأنى لا أتحرى، حين أتحدث، إرضاء الذين يسمعوننى، بمقدار ما أتحرى، إشعارهم بما يجب عليهم للأدب العربى وللأمة العربية كلها، وإذا لم يرقكم بعض ما سأقوله فى هذا الحديث فمعذرتى إليكم هى أننى لست من الذين يقنعون بالقليل فى كل ما يتصل بالحياة العقلية، فقد أكون من أنصار القناعة بالقليل فيما يتيح الله لى من أسباب الحياة، أما فيما أطمح اليه فى حياتنا العقلية فإنى لا أرضى أبدا ولا أطمئن مطلقا وإنما أنا قلق دائما ومثير للقلق حيثما كنت.
وأنا حريص أشد الحرص، على أن تشعر الأمة العربية كلها بأنها مهما تحقق من نهضة ومهما تبلغ من رقى فى حياتها العقلية فإنها ستظل دائما بعيدة عما ينبغى لها من النهضة الصحيحة والرقى ا لمؤكد والوصول إلى المثل الأعلى فى تقوية الحضارة وتنميتها وإغناء العالم الإنسانى كله ومشاركته فيما ينبغى أن تكون عليه الحياة الإنسانية من تقدم ورقى وازدهار.
وأريد أن أحدثكم الليلة عن »الأدب العربى وعن مكانته بين الآداب العالمية«. وهو موضوع ـ كما ترون ـ يشعر بشىء كثير من وجوب الاحتياط فى القول. فالعالم الآن بما بلغ من التقدم، وبما وصل إليه من الرقى، وبما انتهى إليه من هذا التطور الغريب، وبما وصلت إليه الاختراعات الحديثة، هذا العالم عندما ننظر إليه، وننظر إلى ما وصلنا نحن إليه فى بلادنا العربية، نشعر بالمسافة البعيدة التى تفصل بيننا وبين ما نحب أن نكون. والشىء الذى يعزينا ولكنه لا ينبغى أن ينسينا واجبنا، هو أن أدبنا العربى قد مرت عليه أطوار، نستطيع فيها، بحق عندما نتحدث عنها، أن نقرر أن هذا الأدب العالمى الممتاز فى عصر من عصوره. ذلك لأن هذا الأدب كان هو الادب العربى لم يكد يخرج من جزيرة العرب بعد ظهور الإسلام وبعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم حتى انتشر انتشارا رائعا وخطيرا حقا.
ولست أعرف فى اللغات القديمة لغة بلغت ما بلغته اللغة العربية من القوة والأيد ومن السعة والانتشار ومن القدرة على السيطرة على العالم القديم فى أكثر أجزائه، وقد كانت قبل اللغة العربية لغات قديمة أخرى انتشرت فى الشرق وسيطرت على سياسته وإدارته وثقافته، ولكنها لم تبلغ فى أى وقت من الأوقات أعماق الشعوب الشرقية، ولم تستطع أن تغير من نفوس الشرقيين ولا أن تغير من لغاتهم شيئا، وإنما فرضت نفسها هذا الفرض السياسى المعروف فكانت لغة الحكام، وكانت لغة الإدارة، وكانت لغة الثقافة الرسمية، وظلت الشعوب مع ذلك تتكلم لغاتها الخاصة، وتتوارث آدابها الخاصة، لم تغير لغتها، ولم تتخذ هذه اللغات القديمة المسيطرة لغات لها. فالأمة اليونانية فرضت لغتها على الشرق عشرة قرون، منذ عهد الإسكندر إلى الفتوح العربية.
ولكن الشعوب التى كانت تسكن هذه البلاد الشرقية ظلت محتفظة بلغاتها الخاصة. فكان المصريون محتفظين بلغتهم القبطية وكان السوريون وأهل الجزيرة والعراق محتفظين بلغاتهم السامية الآرامية وما يتفرع منها، ولم تستطع هذه اللغة اليونانية أن تؤثر فى هذه اللغات ولا أن تحول الشعوب عن لغاتها بحال من الأحوال.
وجاء الرومان بعد اليونان، ولغتهم اللاتينية لم تستطع أن تنتشر فى الشرق بحال من الأحوال، وإنما كان الحكام من الرومانيين، وكانت لغة الإدارة والسياسة والثقافة هى اللغة اللاتينية، وظلت الشعوب مع ذلك محافظة على لغاتها الموروثة، وعلى آدابها الموروثة، وعلى تقاليدها كلها، إلى أن جاءت اللغة العربية بعد الفتح الإسلامى، ودون أن يتخذ السلطان العربى أى قوة لفرض هذه اللغة، ودون أن تتخذ الحكومات العربية عى اختلافها أى إجراء لحمل الشعوب على أن تتكلم اللغة العربية، فإذا هذه اللغة العربية تنتشر شيئا فشيئا، ولكنها تنتشر، على ذلك ـ فى سرعة مدهشة، ولا تلبث أن تصبح هى اللغة العامة لكل البلاد التى فتحها المسلمون.
فى شرقى ا لدولة الإسلامية: فى بلاد إيران، وفى جزء من بلاد الهند كل هذا القسم كان يتكلم اللغة العربية ويكتب بها، ويحاول أن يغالب العرب عليها وفى المغرب، وفى الشام وفى مصر وشمال إفريقية، وفى الأندلس كذلك غلبت اللغة العربية كل اللغات التى كانت منتشرة فى كل هذه البلاد، وأصبحت هى لغة الحديث وهى لغة الثقافة ولغة الدين.
ولأجل أن تتبينوا أن هذا لم يأت بقوة الحكومة ولا بتدخل السلطان، أحب أن أذكركم بمثل بسيط جدا، وهو أنه فى القرن الثالث، فى مصر، كان كثير من القضاة يتعلمون اللغة القبطية، ليستطيعوا أن يفهموا الخصوم إذا اختصموا إليهم وأن يقضوا بينهم. هذا يعطيكم فكرة واضحة عن موقف الحكومة، وموقف السلطان بالقياس إلى انتشار اللغة العربية. فاللغة العربية قد انتشرت وحدها بقوتها الخاصة، وبقوة الإسلام وقوة القرآن الكريم، بهذه القوة وحدها استطاعت اللغة العربية أن تكون لغة عالمية لأول مرة فى التاريخ الإنسانى، لغة عالمية بأوسع معانى هذه الكلمة، يتكلمها الفرس ويتكلمها جزء غير قليل من الهند وتتكلمها بلاد الشرق العربى الآن كلها ويتكلمها المغرب وشمال إفريقيا وتتكلمها الأندلس أيضا.
فالرومانيون استطاعوا أن ينشروا لاتينيتهم فى المغرب، فى المغرب الأوروبى: فى فرنسا وفى بريطانيا العظمى وفى إسبانيا، وحاولوا أن يجعلوها لغة منتشرة فى شمال إفريقيا، فلم يفلحوا إلا قليلا جدا.
ولكن اللغة العربية استطاعت أن تقهر اليونانية فى الشرق، وأن تقهر اللغات الشعبية التى كانت منتشرة فى هذه البلاد الشرقية، وأن تقهر اللغة الفارسية نفسها، ثم إن تقهر اللاتينية فى المغرب العربى وفى الأندلس، وأن تصبح هى اللغة العالمية التى يتكلمها الناس فى الشرق والغرب جميعا.
هذه اللغة منذ تم لها هذا الانتشار، لم تكن لغة حديثة فحسب، ولكنها كانت لغة حديثة، ولغة سياسية، ولغة إدارة، ولغة الدين.
وكانت فى الوقت نفسه لغة التفكير والإنتاج الأدبى والعقلى، وفى أقل من قرنين كانت هذه اللغة قد استطاعت أن تسيغ كل الثقافات التى كانت معروفة فى العصور القديمة: أساغت ثقافة اليونان، على سعتها وعلى صعوبتها وعلى عمقها، وأساغت فلسفتهم وعلومهم وطبهم وفنونهم العملية أيضا، وأساغت ثقافة الفرس، وثقافة الهند، وأساغت بعد ذلك الثقافات التى كانت متوارثة بين الأمم السامية، الثقافات التى نشأت عن التقاء الساميين بالأمم المختلفة، والتى نشأت عن توارث التوراة وتوارث الإنجيل بين تلك الأمم المسيحية فى هذه البلاد الشرقية والمغربية. كل هذه الثقافات استطاعت اللغة العربية أن تسيغها وأن تتمثلها وأن تجعلها ثقافة عربية، وبعد ذلك جاءت المعجزة الكبرى، وهى أن هذه اللغة انتشرت بهذه الطريقة المدهشة، والتى أساغت كل هذه الثقافات بهذه الطريقة المدهشة أيضا، أنشأت أمة جديدة، هذه الأمة الجديدة قوامها اللغة العربية والدين الإسلامى عند الكثرة، والمسيحية والإسرائيلية عند القلة.
وكل هذه الأمم امتزجت والتأمت وأصبحت أمة واحدة، هى الأمة الإسلامية العربية، وجعلت عناصرها المختلفة تتعاون على إنشاء هذه الحضارة الإسلامية العليا، التى لا تعرف أن حضارة أخرى قد سبقتها فى عالميتها وفى انتشارها.
فلست أعرف حضارة قبل الحضارة الإسلامية استطاعت أن تنتشر من الأندلس الى أعماق الهند، وإنما الحضارة التى انتشرت هذا الانتشار الغريب لأول مرة فى تاريخ العالم، هى هذه الحضارة الإسلامية.
فى تلك الأيام، نستطيع أن نقول إن أدبنا كان هو الأدب العربى الممتاز حقا. وهذا الأدب العالمى الذى لم يكن أدب يساميه فى وقته، سبقته آداب أخرى قديمة: سبقته الآداب اليونانية التى مازالت الإنسانية تعيش عليها الى الآن، ولكن هذه الآداب اليونانية استطاع العالم الإسلامى، بفضل اللغة العربية ومرونتها وسعتها، استطاع العالم العربى أن يسيغها وأن يحول هذا الأدب اليونانى القديم أو على الأقل الناحية الفلسفية منه الى فلسفلة عربية.
كان هذا الأدب إذن عالميا، والأدب الجدير بهذا الاسم هو الذى يستطيع أن يأخذ وأن يعطى: يأخذ من الآداب المختلفة، يتلقى كل ما يمكن أن ينفعه وأن يلائم طبيعته، فهو لا يعيش معتزلا وإنما يعيش متصلا بحياة أمته أولا، وبحياة الأمم البعيدة الأجنبية ثانيا، يأخذ منها ما استطاع ويعطيها فى الوقت نفسه ما يستطيع، وأنا أريد أن أبين لكم أن أدبنا فى هذه العصور القديمة كان هذا الأدب العالمى الذى كان يأخذ ويعطى، والذى أخذ حتى أنشأ حضارة جديدة، وأعطى حتى أتاح للأوروبيين نهضتهم الأولى. فبفضل المغرب، وبفضل الأندلس، استطاع الأدب العربى والعلم العربى أن يصلا الى أعماق أوروبا، وترجم هذا الأدب الى اللاتينية، نقله، الأوروبيون الى لاتينيتهم التى كانت لغة العلم والثقافة فى تلك الأيام فى المغرب الأوروبى، ترجم الى اللاتينية وأصبح أساسا للنهضة الأوروبية الأولى التى كانت فى القرن الثانى عشر والقرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، وكذلك استطاع هذا الأدب أن يأخذ من اليونانيين فى الشرق وأن يأخذ من الفرس والهند، وأن يأخذ من الأمم الشرقية، وأن يأخذ من اللاتينيين فى الغرب، فكان المغاربة هنا وفى الأندلس يترجمون من اللغة اللاتينية الى اللغة العربية، كما أن المشارقة كانوا يترجمون من اللغات اليونانية الى اللغة العربية ومن اللغة الفارسية والهندية أيضا الى اللغة العربية.
وقد يقال: إن الأدب العربى تأثر بهذه الآداب القديمة التى نقلها، وليس فى ذلك أى عيب.
فكل أدب جدير بهذا الاسم يجب أن يأخذ وأن يعطى وأن يتأثر وأن يؤثر، وإذا رأيتم أدبا يعيش معتزلا لا يأخذ ولا يعطى، ولا يتأثر ولا يؤثر، فثقوا بأنه أدب ميت.
ولسنا ننكر أن أدبنا العربى تأثر بالآداب والفلسفة اليونانية بعد نقلها، ولسنا ننكر أن هذا قد كان له تأثير خطير جدا فى حياة الأدب العربى أثناء العصر العباسى، وفى المغرب فى العصور المتأخرة بدءا من القرن الرابع فما بعده، لا ننكر شيئا من هذا، وقد يقال إننا تأثرنا بالآداب الفارسية، ولكنى لا أعرف أن الفرس أثروا فى آدابنا تأثيرا ذا خطر. كل ما ترجم الى لغتنا العربية عن الفرس كانت هذه الطائفة من الحكم التى نجدها فى كليلة ودمنة، والتى نجدها فى بعض ما كتب ابن المقفع، والتى نجدها فى بعض شعر أبى العتاهية، هذه الحكم وبعض الأمثال القديمة السائرة التى جاءتنا من الهند، وجاءتنا من عند الفرس، ترجمت ولكنها لم تؤثر فى الأدب العربى تأثيرا عميقا، كما أثر الأدب اليونانى. فالأدب اليونانى أثر فى تصور الشعراء وفى خيالهم، وبفضل هذا الأدب اليونانى وجد شاعر مثل أبى تمام، وبفضل هذا الأدب وجد شاعر مثل ابن الرومى، ويفضل هذا الأدب وجد شاعر مثل المتنبى، ومثل أبى العلاء، أولئك الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية وظهرت أثار الفلسفة اليونانية فى شعرهم، إما فى صور الشعر كما عند أبى تمام، وإما فى جوهر الشعر كما هى الحال فى كثير من شعر المتنبى، وفى شعر أبى العلاء الفلسفى كله، وأحيانا توثر فى الصورة وفى الجوهر كما هى عند ابن الرومى، فابن الرومى كان شديد التأثر بالأدب اليونانى: فى صوره الأدبية وفى أدائه اللفظى نفسه وفى بعض معانيه، وفى معانيه الفلسفية بنوع خاص، وهو أول الشعراء الذين أظهروا التشاؤم فى الأدب العربى.
أما الفرس فلم يؤثروا فى هذا الأدب العربى لسبب بسيط، هو أن أدب الفرس القديم لم يكن ذا خطر، بل انهم عندما عدلوا عن اتخاذ اللغة العربية لغة لهم فى حياتهم وفيما كانوا يكتبون، وأرادوا أن يكتبوا بلغتهم الفارسية الإسلامية الجديدة، لم تستطع هذه اللغة الفارسية الإسلامية أن تقهر اللغة العربية فى بلاد الفرس أنفسهم، فكثير من علماء الفرس كانوا يأنفون من كتابة العلم باللغة الفارسية، ويأبون أن يكتبوه إلا باللغة العربية، ونرى عالما من كبار علمائهم كالزمخشرى ينازعهم أشد المنازعة فى مقدمة كتابه فى النحو (كتاب المفصل فى النحو( ، ويأبى إلا أن تكون الكتابة باللغة العربية ويرى أن الفارسية لا تستطيع أن تؤدى المعانى التى تؤديها اللغة العربية. وبالفعل عندما أراد الفرس أن ينشئوا لأنفسهم أدبا فارسيا إسلاميا لم يستطيعوا أن ينشئوا نثرا فارسيا إلا فى العصر الحديث، وأذكر أنى سمعت بعض الناس ينشد شعرا فارسيا فيبتدئ إنشاد هذا الشعر على هذا النحو:
ألا يا أيها الساقى أدر كأسا وناولها
كه عشق أسان نمود أول ولى أفتاد مشكلها
البيت الأول هو بيت من الشعر العربى القديم:
«ألا يا أيها الساقى أدر كأسا وناولها»
البيت الثانى معناه »العشق فى أوله يسير سهل ولكنه لا يلبث إن تم حتى تنشأ مشكلاته.
كذلك كان الشعر العربى، وكذلك كان الأدب العربى فى هذا الطور من حياتنا، هو الأدب الممتاز فى العالم الإنسانى فى تلك الأيام، وكان هو المرجع للأمم الأوروبية التى كانت تريد أن تسترد حظها من الحضارة بعد أن فقدت حضارتها اللاتينية القديمة، ولكن الظروف تتغير، والأطوار تختلف، والخطوب يتبع بعضها بعضا. وقد جعلت هذه الخطوب تتوالى على الأمة العربية، وبدأت بتحول الحكم فى الشرق على الأقل من العرب إلى أمم أجنبية : إلى الفرس أولا وإلى التحكم التركى ثانيا، ثم إلى الفرس بعد ذلك، ثم إلى الترك آخر الأمر، ثم تأتى الدولة التركية العثمانية فتسيطر على الشرق العربى كله وعلى جزء من شمال إفريقيا. ومن حسن الحظ أنها لم تصل إلى المغرب ولم تسيطر عليه!
وأخص ما يحيى الأدب هو الاتصال بين الأمم صاحبة هذا الأدب وبين الأمم الأخرى، ومن أجل ذلك لم يكد الترك العثمانيون يسيطرون على العالم العربى حتى قطعوا كل صلة بين العالم العربى وبين الخارج، وفرضوا على هذا العالم العربى أن يعتزل وأن يعكف على نفسه، لا يتصل بالعالم الخارجى فى أوروبا، ولا يكون له أى اتصال حتى بين أجزاء العالم العربى نفسه. قطعت الصلات بين الأمم العربية وبين العالم الخارجى، واضطرت الأمم العربية إلى ن تعكف على نفسها، وجعل الأدب العربى يضعف قليلا، ثم دهم العالم العربى بخطوب أخرى: خطوب التتار فى الشرق، وخطوب الصليبيين وخطوب الدولة العثمانية، كما قلت، فكان هذا هو الذى أضعف اللغة العربية وأضعف أدابها، واضطرها إلى أن تعيش كما تعيش الجذوة تحت الرماد، ولولا أن الله اتاح لجزءين من العالم حظا من الاستقلال ومكن لهذين الجزءين من حماية الأدب العربى والتراث الإسلامى لضاعت هذه الأداب.
وانظروا إلى حال الأمة العربية تحت تأثير التتار والترك بعد ذلك، الترك العثمانيين، وإلى الأمة العربية فى المغرب، فى اسبانيا، تحت تأثير العناصر المسيحية التى أخرجت العرب وأخرجت الإسلام من اسبانيا، إنما أتاح الله هذين الجزأين: المغرب الاقصى فى العالم الغربى العربى، وسوريا ومصر فى العالم الشرقى العربي، بفضل هذين الجزءين من العالم العربى حفظ التراث الإسلامى، حفظ التراث فى الكتب، وفى المكتبات، وفى المساجد، وحفظ هذا التراث فى المساجد التى كانت تعلم اللغة والدين والعلوم الإسلامية، حفظ هذا التراث فى هذه الأجزاء من العالم العربى فى سوريا وفى مصر فى الشرق، وفى المغرب الأقصى، فى القسم الغربى من العالم الإسلامى.
ثم يأتى هذا العصر، قبل هذا العصر الحديث كان التراث محفوظا ولكنه كان نائما، وكان مهملا، لم يكن أحد يلتفت إليه تقريبا، وكان كما قلت لحضراتكم كالجذوة التى تعيش تحت الرماد لم تنطفئ ولكنها لا تنشر لهبها ولا تنشر نورها وإنما تظل مستورة تحت الرماد، هذ العصر الحديث عندما جاء، وجدنا أدبنا العربى قد فقد كل قوته القديمة التى صورتها لكم الآن، وفقد عالميته وأصبح أدبا محليا، أصبح هناك أدب فى مصر، وأدب فى سوريا، وأدب فى العراق، واخر فى تونس وفى المغرب، وهكذا، ولكن هذه الآداب كلها كانت آدابا محلية كما يقال، لا يتجاوز حدود البلاد العربية إلى العالم الخارجى.
وفى أثناء هذه العصور الوسطى التى قضى فيها على الأدب العربى بها الخمود، قويت أوروبا، قويت بفضل النهضة الأولى التى أتاحها لها الأدب العربى، ثم قويت بفضل النهضة الثانية التى أتيحت لها بعد سقوط القسطنطينية فى يد الترك العثمانيين، وكنا نحن فى غاية الضعف وفى غاية الخمود، وكذلك ترون الواجب الخطير الذى يجب أن نثبت له وأن ننهض به، وأن نؤديه لأنفسنا أولا، ولتراثنا العربى القديم ثانيا، وللإنسانية آخر الأمر.
هذا الواجب هو إحياء هذا التراث القديم من جهة، وأن نضيف إليه من عند أنفسنا ـ من جهة أخرى ـ لنزيده وننميه ونقويه، ونرد إليه مكانته العالمية ونجعله أدبا لا ينتفع به أصحابه وحدهم، وإنما ينتفع به أصحابه وينتفع به العالم الخارجى على اختلاف أجناسه وعلى اختلاف حضاراته.
فهو يحتاج أولا الى أن ننشر كل هذا التراث المكدس فى المكتبات، فى أقطار العالم العربى، ننشره ونفسره ثم نضيف إليه من عند أنفسنا أدبا حديثا جديدا لا تنقطع صلته بالأدب العربى القديم، ورلكنها تتصل به من جهة، وتزيد عليه وتضيف إلى من جهة أخرى، ولا ينبغى أن نعيش فى هذه العزلة التى نعيش فيها الآن، أو نوشك أن نعيش فيها، لا ينبغى أن نعيش فى هذه العزلة، نستعير كل ما نحتاج إليه من الحضارات الأخرى الغربية فى أوروبا وفى أمريكا، ولا يستعير أحد منا شيئا. فنحن بهذه الطريقة نرضى لأنفسنا أن نكون عيالا على الغرب، وما عهد العرب فى أنفسهم أن يكونوا عيالا على أحد فى وقت من الأوقات كانوا يأخذون من اليونان، ومن الفرس، ومن الهند، ومن أمم أخرى كثيرة، ولكنهم كانوا يعطون، فلنأخذ من الغرب إذن، ولكن يجب أن نأخذ منه وأن نعطيه. والذى أتاح لنا أن نجاهد، وأتاح لنا أن نكافح، وأتاح لنا أن نصارع الأجنبى لنستخلص منه استقلالنا السياسى فى الشرق، وفى المغرب فى الغرب، هو الذى سيتيح لنا أن نجاهد وأن نكافح، لنرد إلى أدبنا العربى حياته وقوته ونشاطه.
وإنى لأسعد الناس بأن أشرف بإلقاء هذه المحاضرة بين يدى صاحب السمو الملكى وبين أيديكم، لأنى أرى فى جلالة الملك وفى سمو ولى العهد رمزا أى رمز لهذا الكفاح، ولهذا الجهاد. وأثق فى أن سمو الأمير ولى العهد خير من يستمع لهذه الدعوة، وخير من يستقبلها كما ينبغى أن تستقبل، وخير من يعين على إحياء الأدب فى المغرب. وسيشارك فى إحياء الأدب العربى فى جميع أقطار العروبة كلها، وأنا أجدد لسموح ولحضراتكم أصدق الشكر وأخلص التحية.
كل شىء يدعونا إلى أن نعيد النظر فى تراثنا القديم، نعيد النظر فيه لأننا نحبه ونريد أن نستخلص صفوته، ونريد أن نزيل عنه ما لصق به وما ران عليه من الأوهام والأساطير والخرافات. وأؤكد لكم أنكم إذا أعدتم النظر فى تاريخ الأدب العربى والتمستموه فى شعر الشعراء لا فى حديث الرواة، والتمستموه فى الدواوين لا فيما يختصر من الدواوين ستجدون متعة أى متعة، وستجدون نعمة أى نعمة، ستشعرون أنكم تستكشفون التاريخ العربى من جديد.
وقد قلت لكم فى أول هذا الحديث إنى قد أحببت دائما أن أثير المشكلات وأن أثير القلق من حولى. وإنى لأرجو أن أكون قد أثرت بين أيديكم من المشكلات ونشرت حولكم من القلق ما يدعوكم إلى ألا تقرأوا (الأغانى) إلا لتقرأوه ليس غير، ولتأخذوا منه بعض ما تحتاجون إليه من العلم، ولا تتخذوه وحده مصدرا للتاريخ الأدبى فالكذب فى كتاب الأغانى كثير، والانتحال فيه كثير، والتزوير على القدماء فيه كثير أيضا، والخير كل الخير فى أن نلتمس الأدب العربى فى النصوص القديمة نفسها وفى دواوين الشعراء وفى رسائل الكتاب لا فى ما يحكى عن الكتاب والشعراء. وإذا فعلنا هذا كنا أولا قد أنصفنا أدبنا العربى وطهرناه من الأوهام والأساطير، وكنا ثانيا قد أحييناه الحياة الجديرة به، وكنا ثالثا قد رددنا على أنفسنا عقولنا، وقد بحثنا كما ينبغى للعلماء أن يبحثوا، وخرجنا من هذا التقليد الطويل الذى أفسد علينا كثيرا من أمرنا إلى الآن.
أما بعد فإنى أجدد التحية وأجدد الشكر وأعتذر إليكم من هذا الحديث الذى أطلت فيه وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم بهذا الإسراف.
الخميس 26 يونيو1958