أحمد الوارث - رَكِبتُ الحافِلَةَ... قصة قصيرة

كان الجو حارا، والركاب؛ بعضهم ضاق صدره من طول الانتظار، وراح يـــَلْعَن الحافلة وأهلها، وبعضهم غارق في دخان سيجارته غَير عابئ بِشيءٍ ولا بأحد، وبعضهم منكب على أكله، بينما اِنْزَوى بعضٌ على بعض يتضاحكون...
ما إن أخذت مكاني حتى شرع الباعة المتجولون في الظهور؛ كانوا يصعدون من الباب الأمامي وينزلون من الخلف، وهم يحملون بَضَائِع وسلعا محلية ومهربة، ومأكولات معلبة وغير معلبة، وأدوية صينية وهندية... ثم جاء دور المتسولين، الذكور والإناث؛ كان بعضهم يسْتَجْدِي المعونة بالنوح والبكاء، وبعضهم بالعزف أو بالترنُّم والإنشاد، وبعضهم بقراءة القرآن وأدعية السفر. ولا أحد منهم يكترث لاستفزازات المسافرين أو لإهمالهم، ولا لصراخ السائق أو معاونيه .
انعقد في الحافلة سوق شعبي، وكثر الهرج والمرج، واشتد ارتجاج الحافلة وعم أزيز محركها، واختلط الغبار والدخان بأشعة الشمس، فبدأت رؤوس الصبية والضعاف من الرّكاب تتمايل يمينا وشمالا كأنهم سكارى. وأنا... قابع في الصف الخلفي، أنتظر، وأنظر بين الفينة والأخرى في جريدة، بينما وضعت أخرى في المقعد المجاور.
من وسط ذلك الزحام، ظهرتْ امرأة شابة، على محياها مَسْحة من جمال ذابل، وهي تبحث عن مكان فارغ. مددت يدي بسرعة، وأزلتُ الجريدة، ففَهِمَتِ الإشارة، وجلسَتْ إلى جواري.
انشرح صدري، وارتاح بالي، حتى إني لم أدر متى انطلقت الحافلة. وبعد إباء وعناد منها، وإصرار وعزم مني، طابت نفسُها للحديث، وصرت أتمنى لو طالت بنا الرحلة.
قبيل بلوغ المنتهى، غادرت المرأة الحافلة، وأنا أتابع خطاها من نافذة الاستغاثة. كان في انتظارها كهل بدين، وصبية شقراء جرت نحوها بمجرد أن رأتها، وهي تنادي: ماما، ماما...
حمَلت المرأة ابنتها بين يديها، وألقت على الرجل سلاما فاترا، ومضت وراءه في تثاقل واضح... ثم التَفَتتْ، ونظرت إليّ بإمعان...
كان في عينيها حسرة ذات لهب، ولسان حالها يردد: أنا عانس، كما أخبرتك، يا أحمد، ولو أني متزوجة.






2

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...