إيهاب الورداني - الوقوف على ما يحدث..

من بين أعواد البوص وحشائش الحلفا أطلقنا عيوننا للبر الثاني : غربان هائلة تكوم التراب ، نسور ممسوخة صفراء وخضراء ، تروح وتجئ ، ترمى أشياء ، وترفع أشياء والجو مخنوق بالتراب . ثمة آخرون يشدون أسلاكا شائكة بمحاذاة الطريق . عند شجرة السنط العتيقة كشك خشبي صغير ، وأمامه برميلان من الصاج مدهونان ، أبيض وأسود ، باللون الباهت . دغدغت أجسادنا قشعريرة خاطفة . مكثنا فترة دون كلام ، وقبل أن تمتد قررنا الدخول ........
كنا فيما بيننا نقول إذا ما ضمتنا القعدة كل ليلة :
ــ شيوخ " مجول " ارتاحوا للنساء وللرقاد وعلينا وحدنا مطاردة الذئاب والذباب وأكلى لحوم القرى.
ــ الفرجة وحدها لا تكفي ..
عندها استعرضنا بعض الأمور ......
: المصرف الذي أمامنا يحمل في جوفه نفايات مدينة العمال من زيوت وشحوم بالإضافة إلى كونه مجرورا . المعدية الوحيدة القريبة منا عبارة عن فلق نخل عريض موكول حراستها لخفير تخين بيده خيزرانة وفى كتفه بندقية بلا خزنة .
تذكرنا يوم حاول "بلبل" التخفى في ذيل امرأة تعمل هناك، وكان نصيبه ، ساعة أن خلع جلبابه أمامنا ، عاريا على مدار الساقية ، خطوطا حمراء وزرقاء على جسده النحيل .. بعدها داس بقدمه الصغيرة على دمعتين ساخنتين سقطتا منه . مشينا منكسي الرؤوس . في حقل فول العمدة القريب انتشرنا . مضغنا حبات غضبنا ملأ " بلبل " حجره بالقرون .. فكر أن يفعصها ..
قال أحدنا : حرام .
أزحناها من الطريق في الترعة ، وضحكنا
ــ هيه .. قلتم إيه ؟؟
قال بلبل وقد بدأ في خلع الجلباب.
نظرنا إلى بعضنا ، وهمسات البوص لحن جماعى مسموع ، والبر الثاني يشغي بالحركة
ــ وأين نستحم ؟؟
ــ تفرج.
مد بلبل يده واستقبل أولنا ، والثاني ، والرابع ، وكنت الأخير .
ناولتهم الملابس على دفعتين . قام بلبل بلفهما فوق رأس الثاني والثالث ..
ــ اخلع.
اصطكت قدماى في بعضهما .. قلت :
ــ أنتظركم هنا .
ــ اخلع.
آمرة وناهية ..
قلت : سأنزل بملابسي .
الشمس تغطس وتقب في بحر السماء ، وقطع السحب الداكنة تركض وتتكاثر ، والنسور المممسوخة تخلف وراءها ، على الطريق ، شريطا من الغبار غامقا .
تكومنا عند مصب ماسورة صرف كل منهم يلبس ملابسه ويلتفت إلى : بين قدمى تساقط ماء كثير وأنا أحاول أن أكبح رعشتي بين أسناني .. قلت :
ــ سأحرسكم من هنا .
ــ عند الخطر اعط إشارة.
قالها بلبل بعد أن انقسما إلى مجموعتين ، كل مجموعة بها اثنان .
ارتعشت السماء ، عبرت المجموعة الأولى السلك الشائك وتوارت في حقل برسيم . تلكأت المجموعة الثانية عند مرور سيارة من جانبها .. تماسكت وصفرت . كانت العربة ترجع بظهرها
بدا بلبل ورفيقه جادين في مشيتهما :
ــ أين تذهبان ؟؟
ــ نعلف البهائم .
بجسارة قالاها .. ولم يتوقفا . رمقهما السائق بنظرة فاحصة ومضى . مهللا قفزت وهما يعبران السلك غابا عن عينى خلف تل من التراب .
وحدى ، على الصمت المغبر : رسمت هضابا وتلالا وأشباحا بينهم خمسة عساكر بجلابيب ، يدخلون فوهة ويخرجون من أخرى ويعتلون مدافع وصواريخ ، ويركبون طائرات تداعب سعف النخيل المنتشرة بالمكان . هزتنى قشعريرة ..
ــ الفرجة وحدها لا تكفى ..
تماسكت وصفرت .. لم أستطع تخليص جلبابي من السلك الشائك وحدى، زجرنى بلبل ، قلت بتودد :
ــ المشى جماعة أفضل.
اجتزنا حقل البرسيم وعرجنا إلى حقل قمح وقفنا مبهورين : عشرات من الطائرات مرصوصة جوار بعضها ، مدهونة ببقع صفراء وخضراء ، درنا حولها .. خبطنا عليها .. قال أحدنا :
ــ خشب !
لم يرد احد .. صعدنا تلا . ردار كبير بثلاثة أجنحة ، أدرناه كما لو كان ساقية قديمة تئز .. هس صوت منا :
ــ خشب !
جرينا نحو حفرة بها مدفع ذو ماسورة كبيرة .. تحسسناه
ركلة بلبل بقدمه وصرخ : خشب !
ارتعدت السماء .. ارتبكت .. علت زمجرتها وانشرخت الشمس .. فسقطت في حجر سحابة هائلة .
على شاطئ المصرف وقفنا ، نخلع ملابسنا ، ونلفها على رؤوسنا ، بانت قريتنا – على البعد – عجوزا وخطها الحزن .
في نفس الليلة ، ولأول مرة ، لم نجتمع
في الليلة التي تلت ، اكتشفنا أننا شيوخ ، الذئاب في آذاننا تعوى ، والذباب على وجوهنا يحط ، ونساؤنا تضاجع آكلى اللحوم على مرأى منا..




L’image contient peut-être : 1 personne, plein air et gros plan


أعلى