حدق في صفحة السماء وقال : انظر..
اعتدلت .. صوبت عينى هناك : براح لا نهائي كابي اللون تغوص في قيعانه قطع صغيرة متناثرة في حجم حبة العين .. دهشتني اللحظة .. كأنها المرة الأولى التي أبحر فيها وحدي .. قلت ماذا ؟!
قال : كل هذا البراح ونموت خنقا .
قلت له : هذه مشكلتنا .
أشعل سيجارة ونفث نفسا عميقا .. دفعت عنى خيوط الدخان بحركة من يدى .. غير أني أحسست بمرارة الذرات القليلة المناسبة في خياشيمى.. أشار مرة أخرى إلى السماء وقال : مغرفة ..!
شكلت بعض النجوم البعيدة – التى في حجم حبة العين – فيما بينها ما يشبه المغرفة .. أكد : عددها سبع ثم أردف : يمكنك بها أن تحدد منتصف السماء حيث تشير دوما إلى النجم القطبي الأكبر القابع هناك في استسلام أبدي ..
أنزلت رأسي بصعوبة كطفل .. كانت كلها تتساوى في نظرى ما خفت ضؤها وما لمع .
الآن : تزداد المسافات بينها وتتسع..
حكيت له عن البوصلة ومدرس الجغرافيا وأبى .. ادار لى وجهه النحيف وضمنى وقال : بناتي السبع طوق برقبتي وسلسلة فى عنقك – بعدى – بوصفك الخال.
هبت نسمة باردة لها رائحة الزرع ..
قال : أنا أخوك وزوج أختك أدركت كم يحتاج كل منا للآخر وكم مضى على وجوده معنا.
كنت صغيرا حين مات أبى، وتزوجت أختى، وفتحت عيني عليه، حنونا عطوفا .. في البداية : كنت أعزف عن الجلوس معه أو التحدث إليه . لم يغضب أو يتبرم مع الوقت صرنا صديقين، يقول فأسمع وأأمر فيرضخ .. كنا نجلس بالساعات نحكي دون ملل أو ضجر .. سألته : ماذا في البلدان الأخرى يغويكم ؟
أجاب : لا شئ ..
قلت : أنت واحد ممن سافروا ..
هز رأسه في أسى . وغام وجهه . شرع عينيه قليلا كما لو كان يمحو شريط عدسته وأكد : بلدنا أجمل .
لا أعرف بالضبط كيف تحول مجرى الكلام، لكننى ارتعشت حين لامست ذلك الجزء المتحجر في جنبه .. قلت مخففا : لى مثله.
قال : لا أشعر بألم .. لكنى فقط أريد أن أعرف.
ها أنت تعرف كل شئ وتضحك من غباوتي في اختيارى وقعودي للآن – أنا ابن المدارس – عاجزا عن فعل شئ تجاه بناتك أو لي.
كان قد عاد لتوه من غربة طالت عاما أو يزيد محملا بالهدايا : أقمشة حريرية ملونة ، وجهاز تسجيل ناشيونال ، وبطانية يرتع في صدرها سبعة نمور .. قلت في نفسى : هو الشوق احتواه ، فذابت الراحة في جوانحه خدرا وقلقا . حط الصمت للحظات بيننا .. كنا نسير بالشارع الكبير وعبرنا الميدان الواسع المزدان بنافورة قديمة .
قلت : إذا كنت مصمما على الذهاب إلى دكتور فلننتظر الصباح. شاعت البسمة في وجهه .. وبقدرة فائقة – تلك التي تعودتها منه – امتصت يده ، وهى تربت على ، قلقى المفاجئ .. أذعنت .. شعرت ساعتها أن بإمكاني التفاؤل .. وأن لا لزوم لأن ندفع بأنفسنا للهوة السحيقة داخلنا .. وأن الأمر لا يعدو كونه فضول.
قلت : لى صديق في السنة النهائية بكلية الطب ويمكنه أن يعرضك على أستاذه في الجامعة .. ثم أردفت : هه ..كنت مشتاقا لأن أسمع موافقته على اقتراحي . وكانت عيناه تجوبان اليافطات الكثيرة المتباينة الأحجام والاشكال وتشم عطرها.
تأملتها سريعاً ، قلت لتوى : حديثو التخرج ولا رقيب على اليافطات
ضحك في قلبه .. نظرت له مليا .. قال: أسلمت نفسك للمدينة .. !
صغار اليوم كبار الغد .. لم يولد أستاذك كبيرا . في يوم من الأيام كان كذلك.
كانت الساعة الثانية عشرة ليلا، وللأسفلت ريح البراح وعطر الخلاء ..
لم اشأ القول .. سكت .. عند بناية ذات طابقين هتف : هي ذى .
المدخل زقاق جانبي مظلم ودرجات السلم يعلوها التراب .. قال : سيعجبك حين تراه .. قلت : عنوانه يكفى .. سحبنى من يدى وأكد : المهم الرجل وليس المكان.
من حين لآخر أستشعر شؤم الرائحة الكريهة والباب الموصد . كانت شقة العيادة سيئة بالفعل .. حتى تلك الصور القليلة المعلقة على الجدران والموسومة بحروف أجنبية باهتة كأنما اختيرت لتقبض العين والقلب معا
ما الخبر ؟
ما أن خرج "التمرجى" حتى سألته – في آلية من لهم باع طويل – لم يبد أى انفعال غير أنه مد يده بورقة قائلا : انزل اصرف الروشتة.
فجرت اللحظة دمامل الغيظ داخلى وانتابتنى الدهشة : هل الحالة بهذا السوء ؟
أو أن هؤلاء لا ضمير لهم ولا شرف ؟
ولماذا دائما أخاف من الغيب ؟
وأي معرفة تلك التى تجرنا إليها وتغرقنا متاهاتها ؟!
كان كيس الأدوية بيدى وصوت داخلي يوخزني : لم كل هذا ؟!
قلت للصيدلى : الروشتة.
قال : الروشته هنا .. معك الدواء كله مخدر .. وممنوع – ممنوع !
حين رأي غيمة وجهى قال بلين : الدكتور هناك يعرف ذلك.
ها هو كل شئ يسوقنى إلى المجهول .. إلى ذلك الركن المظلم في ..
هل كنت تعرف الآتي ؟ أو دفعك شغفك للذى لا يأتى ؟!
قلت لى : جاءوك بالمنام وخطفوا ابنتك الوسطى .. قالوا : يكفيك الستة ..
قلت لهم : هى ما تريد..
ضحكوا .. قلت لهم : خذونى عوضا عنها .. غابوا – بها في غيمة السماء البعيدة . وحين صحوت وجدتها شفيت من الحمى .
كان ممددا على طاولة خشبية مرتفعة قليلا ..
قال : لا تفقد الثقة بالله
قلت : لا إله إلا الله ..
ثم زاد : الطحال عملية لا تستغرق ساعة .. في اليوم الثالث سنغادر هنا ..
قلت: أي طحال .. ليس لك بطن
قال : لا تخبر أحدا في الدار قبل الصباح.
حدق في صفحة السماء .. دهشته اللحظة .. كانت المرة الألف التي يبحر فيها ..
هل صحيح هذا أنا ؟!
الجسم دافئ ورائحة البنج تزكم الأنف .. والسائق لا يجرؤ على النظر إلى الكرسى الخلفي حيث أجلس .. كنت أملت رأسه على كتفى موهما نفسى قبل الآخرين : إنه لم يزل على قيد الحياة .. وصوت أمى ممزوجا بصوت أختى وبناته السبع : لم طاوعته .. وصوتى المقبور داخلى يثن : هل عرف ما يريد فطاوع قدميه ؟ أو نحن مساقون ، مساقون ، مساقون ؟
هناك : براح لا نهائي كابى اللون تغوص في قيعانه قطع صغيرة متناثرة في حجم حبة العين تنقشع وتغيم.
اعتدلت .. صوبت عينى هناك : براح لا نهائي كابي اللون تغوص في قيعانه قطع صغيرة متناثرة في حجم حبة العين .. دهشتني اللحظة .. كأنها المرة الأولى التي أبحر فيها وحدي .. قلت ماذا ؟!
قال : كل هذا البراح ونموت خنقا .
قلت له : هذه مشكلتنا .
أشعل سيجارة ونفث نفسا عميقا .. دفعت عنى خيوط الدخان بحركة من يدى .. غير أني أحسست بمرارة الذرات القليلة المناسبة في خياشيمى.. أشار مرة أخرى إلى السماء وقال : مغرفة ..!
شكلت بعض النجوم البعيدة – التى في حجم حبة العين – فيما بينها ما يشبه المغرفة .. أكد : عددها سبع ثم أردف : يمكنك بها أن تحدد منتصف السماء حيث تشير دوما إلى النجم القطبي الأكبر القابع هناك في استسلام أبدي ..
أنزلت رأسي بصعوبة كطفل .. كانت كلها تتساوى في نظرى ما خفت ضؤها وما لمع .
الآن : تزداد المسافات بينها وتتسع..
حكيت له عن البوصلة ومدرس الجغرافيا وأبى .. ادار لى وجهه النحيف وضمنى وقال : بناتي السبع طوق برقبتي وسلسلة فى عنقك – بعدى – بوصفك الخال.
هبت نسمة باردة لها رائحة الزرع ..
قال : أنا أخوك وزوج أختك أدركت كم يحتاج كل منا للآخر وكم مضى على وجوده معنا.
كنت صغيرا حين مات أبى، وتزوجت أختى، وفتحت عيني عليه، حنونا عطوفا .. في البداية : كنت أعزف عن الجلوس معه أو التحدث إليه . لم يغضب أو يتبرم مع الوقت صرنا صديقين، يقول فأسمع وأأمر فيرضخ .. كنا نجلس بالساعات نحكي دون ملل أو ضجر .. سألته : ماذا في البلدان الأخرى يغويكم ؟
أجاب : لا شئ ..
قلت : أنت واحد ممن سافروا ..
هز رأسه في أسى . وغام وجهه . شرع عينيه قليلا كما لو كان يمحو شريط عدسته وأكد : بلدنا أجمل .
لا أعرف بالضبط كيف تحول مجرى الكلام، لكننى ارتعشت حين لامست ذلك الجزء المتحجر في جنبه .. قلت مخففا : لى مثله.
قال : لا أشعر بألم .. لكنى فقط أريد أن أعرف.
ها أنت تعرف كل شئ وتضحك من غباوتي في اختيارى وقعودي للآن – أنا ابن المدارس – عاجزا عن فعل شئ تجاه بناتك أو لي.
كان قد عاد لتوه من غربة طالت عاما أو يزيد محملا بالهدايا : أقمشة حريرية ملونة ، وجهاز تسجيل ناشيونال ، وبطانية يرتع في صدرها سبعة نمور .. قلت في نفسى : هو الشوق احتواه ، فذابت الراحة في جوانحه خدرا وقلقا . حط الصمت للحظات بيننا .. كنا نسير بالشارع الكبير وعبرنا الميدان الواسع المزدان بنافورة قديمة .
قلت : إذا كنت مصمما على الذهاب إلى دكتور فلننتظر الصباح. شاعت البسمة في وجهه .. وبقدرة فائقة – تلك التي تعودتها منه – امتصت يده ، وهى تربت على ، قلقى المفاجئ .. أذعنت .. شعرت ساعتها أن بإمكاني التفاؤل .. وأن لا لزوم لأن ندفع بأنفسنا للهوة السحيقة داخلنا .. وأن الأمر لا يعدو كونه فضول.
قلت : لى صديق في السنة النهائية بكلية الطب ويمكنه أن يعرضك على أستاذه في الجامعة .. ثم أردفت : هه ..كنت مشتاقا لأن أسمع موافقته على اقتراحي . وكانت عيناه تجوبان اليافطات الكثيرة المتباينة الأحجام والاشكال وتشم عطرها.
تأملتها سريعاً ، قلت لتوى : حديثو التخرج ولا رقيب على اليافطات
ضحك في قلبه .. نظرت له مليا .. قال: أسلمت نفسك للمدينة .. !
صغار اليوم كبار الغد .. لم يولد أستاذك كبيرا . في يوم من الأيام كان كذلك.
كانت الساعة الثانية عشرة ليلا، وللأسفلت ريح البراح وعطر الخلاء ..
لم اشأ القول .. سكت .. عند بناية ذات طابقين هتف : هي ذى .
المدخل زقاق جانبي مظلم ودرجات السلم يعلوها التراب .. قال : سيعجبك حين تراه .. قلت : عنوانه يكفى .. سحبنى من يدى وأكد : المهم الرجل وليس المكان.
من حين لآخر أستشعر شؤم الرائحة الكريهة والباب الموصد . كانت شقة العيادة سيئة بالفعل .. حتى تلك الصور القليلة المعلقة على الجدران والموسومة بحروف أجنبية باهتة كأنما اختيرت لتقبض العين والقلب معا
ما الخبر ؟
ما أن خرج "التمرجى" حتى سألته – في آلية من لهم باع طويل – لم يبد أى انفعال غير أنه مد يده بورقة قائلا : انزل اصرف الروشتة.
فجرت اللحظة دمامل الغيظ داخلى وانتابتنى الدهشة : هل الحالة بهذا السوء ؟
أو أن هؤلاء لا ضمير لهم ولا شرف ؟
ولماذا دائما أخاف من الغيب ؟
وأي معرفة تلك التى تجرنا إليها وتغرقنا متاهاتها ؟!
كان كيس الأدوية بيدى وصوت داخلي يوخزني : لم كل هذا ؟!
قلت للصيدلى : الروشتة.
قال : الروشته هنا .. معك الدواء كله مخدر .. وممنوع – ممنوع !
حين رأي غيمة وجهى قال بلين : الدكتور هناك يعرف ذلك.
ها هو كل شئ يسوقنى إلى المجهول .. إلى ذلك الركن المظلم في ..
هل كنت تعرف الآتي ؟ أو دفعك شغفك للذى لا يأتى ؟!
قلت لى : جاءوك بالمنام وخطفوا ابنتك الوسطى .. قالوا : يكفيك الستة ..
قلت لهم : هى ما تريد..
ضحكوا .. قلت لهم : خذونى عوضا عنها .. غابوا – بها في غيمة السماء البعيدة . وحين صحوت وجدتها شفيت من الحمى .
كان ممددا على طاولة خشبية مرتفعة قليلا ..
قال : لا تفقد الثقة بالله
قلت : لا إله إلا الله ..
ثم زاد : الطحال عملية لا تستغرق ساعة .. في اليوم الثالث سنغادر هنا ..
قلت: أي طحال .. ليس لك بطن
قال : لا تخبر أحدا في الدار قبل الصباح.
حدق في صفحة السماء .. دهشته اللحظة .. كانت المرة الألف التي يبحر فيها ..
هل صحيح هذا أنا ؟!
الجسم دافئ ورائحة البنج تزكم الأنف .. والسائق لا يجرؤ على النظر إلى الكرسى الخلفي حيث أجلس .. كنت أملت رأسه على كتفى موهما نفسى قبل الآخرين : إنه لم يزل على قيد الحياة .. وصوت أمى ممزوجا بصوت أختى وبناته السبع : لم طاوعته .. وصوتى المقبور داخلى يثن : هل عرف ما يريد فطاوع قدميه ؟ أو نحن مساقون ، مساقون ، مساقون ؟
هناك : براح لا نهائي كابى اللون تغوص في قيعانه قطع صغيرة متناثرة في حجم حبة العين تنقشع وتغيم.