إدريس على بابكر - هكذا قست الايام.. قصة قصيرة

شعر فاته قطار الأمنيات بعد ما أعتقد تصحر عمره و تصلب الدم في الشرايين ، وقع في شرك صبية صغيرة متعمدآ زرع أشواقه في حديقتها الغنا، (ابو ادم) يشتهي الدلال حينما تلتوي اليانعة شفتيها بالوعود و الكلام المعسول، تحرك رموشها الجارحة تنعكس في عيونها البلورية أحلامه الضائعة، تضحك ضحكة حادة كحد السكين تراقص جسمها الفتان كزهرة ندية تفوح منها رائحة المسك، تبتسم له بغنج تدفعه من صدره يوشك على السقوط فيعد توازنه كطائر يفرهد جناحيه ليحلق فوق فضاء الأحلام، يضع يديه على محيط خصرها يدور معها فتمطر السماء ورود أشكال و ألوان.،
يمكن أن يقبل أي مغامرة من أجلها، يجذبه سحر دفاق تدفعه لكسب الرهان من أجل جمالها الاخاذ يمكن أن يتحدى العالم أجمع، يغار عليها من النسائم إذا هبت على وجهها الطفولي و بعثرت بضفائرها المسدلة ، يغار عليها من إسمها إذا سبقتها يا النداء من كل شخص.
من جانبها صار العجوز مدينة محتلة تعربد فيها كل أحلامها و افراحها تصدر قراراتها متى ما شاءت و حكم مزاجها و كيف ما طالبت نالت كل شيء بلا حساب أو اعتبار، هي لا تقبل الإعتذار او أنصاف الحلول، أصبح العجوز مثل رقعة الشطرنج يتم تحريكه وقت ما أرادت و كيف ما أحبت.
بعد ما أرهقته ماديآ و معنويآ اكتشف العجوز الخداع، الحب بينهما ماهو الا جسر ليعبر عليه حواشة العمر لجهة حبيب منتظرها في ضفاف بعيدة، قبل أن يضربه الجفاف أشعل العجوز مكره بدأ في رسم خطته الجهنمية لهذه البنت اللعوبة، أستل سكينه في منتصف الليل بغاتها و هي نائمة على فراشها وضع يده في فمها و غرز سكينه في جوفها، ثوانى صارت الصبية جثة هامدة و طوي معها نهاية تاريخ كاذب غرقت وسط بركة من الدماء، نظرة العجوز نظرة حادة إلى سكينه الملطخ بالدماء و أطلق صرخة داوية فيها شيء من الجنون.
استيقظ (ابو ادم) من النوم مرعوبآ لم يكن سوى مجرد كابوس حلم مزعج، وضع يده في رقبته يتأوه بنفس عميق كآنه نجاة من حبل المشنقة.
سمعت أم فاطمة رفيقة العمر لصوته الممتلئ بالخوف فاقت من نومها مسرعة الخطى حنينة كعادتها وضعت يدها على رأسه و اليد الأخرى على قلبه ينبض بدقات خوف مثل شخص هجمه أسد مفترس.
أم فاطمة قالت : اشهد ان لا اله الا الله محمد رسول الله قرأت له المعوذتين ثم ذهبت و أحضرت له الماء
بعاطفة جياشة للمرة الثانية قالت له ماذا حدث يا ابو محمد ؟
بصوت متحشرج اجابها : لا شيء... لا شيء
لم يقص لها عن حلمه ربما خيانة قفزت من ذكريات منسية، حاولت استنطاقه عدة مرات لكنه رفض الاعتراف حاول النهوض من سريره لكنه لم يستطيع القيام، بدأ عليه الرعاش الشديد كان الحلم نقطة تحول عند حياته الصحية، علم مسبقآ إصابته بالشلل النصفي تمر عليه الأيام ثقيلآ محتقرآ لم يتحمل معه قسوة الأيام والليالي العصية الا أم فاطمة رفيقة العمر، تعايشت معه على الواقع الجديد من حياته اصيلة كمعدنها لم تفارق وجهها الابتسامة من كدر الأيام، كل الزوار يمرون عليه في محنته على عجل مثل سلام مسافرون مشحون بالشفق الأليم، يلتفت يمينآ و شمالآ لا يجد الا أم فاطمة المرأة التي وهبت عمرها له لم يبدلها الزمن ولا اتغيرت إحاسيسها نحوه ترافقه مثل ظله.
هكذا قست الظروف فزاده وهن على وهن وقف في النقطة الفاصلة بين الحياة والموت لا سحبته الحياة إلى لبها و لا التهمه الموت في غياهبه، يبحلق على عيون الجميع صامتآ سارحه في محنته شعر سلامهم سلام الوداع الأخير، أم فاطمة وحدها تكتم دموعها تبث فيه روح الأمل لم تعطيه منديل الإستسلام.
دخل في غيبوبة مفاجئة كل الناس في انتظار ساعة الصفر لإعلان وفاته، شهور يزداد حالته الصحية سوآ على حال ، كآن لهذا الكهل سبع أرواح الدهشة استيقظ من غيبوبته الطويلة كطائر الفينق الذي ينهض من تحت الرماد عاد إلى وعيه الطبيعي شعر بشئ مفقود حوله بدأ بالقلق و الانزعاج اول ما فاق سأل الجميع عن أم فاطمة، دسوا منه الخبر الحزين لكن بعد ما بدأ عليه التوتر خبروه إنها توفيت حزنآ و اشفاقآ عليه بعد ما ساءت صحته أثناء فترة الغيبوبة.
رحلت رفيقة العمر التي لم تخونه لحظة و لا حتي في الحلم الفسيح، شعر أنه فقد العمر بأكمله ذهب معها أنبل و أجمل فصول الوفاء صار ابو ادم يتيم الروح يمشي بجسده النصف مشلول مرتكزآ بعصاته التي لا تفارقه يجول من هنا و هناك، تسلل الملل إلى روحه التي أبت أن تنطفئ، الناس يرونه قريب من الموت لو كان للموت أبواب تطرق لطرق باب الموت الأكثر سرعة و وحشية ليلحق برفيقة العمر.
جلس كعادته أمام منزله المهجور في كرسي متهالك تحت ظل الشجرة الوريفة التي غرزتها أم فاطمة قبل وفاتها بخمسون عامآ تقريباً، كأنها تريد أن تذكره تضحياتها و وفائها حين تتساقط الأوراق حوله و هو يستمع إلى الراديو الذي لا يفارقه.
أسدل الليل الكئيب ستائره و هو ممتد في سريره على حوش منزله الفارغ من كل شيء كانت الساعة تشير تمام اليأس العقارب تسحبها ببطء شديد نحو المجهول، الأحلام تتهاوى إلى السقوط مثل نجمة تخبو مسرعة في عمق الظلام، نزلت منه دموع حزينة كحال طفل يتيم، شارد بزهنه إلى السماء كدرويش سابح في الملكوت فجأة سرقه النوم.
استيقظ ابو ادم مبكرآ لم يذهب إلى خلوته ليصلي الراديو الذي تركه مشغول حتى الصباح تبث أخبار العالم و هو لا يعي ما يقوله فقد ذاكرته إلى الأبد مسح ذهنه كل الحاضر و الماضي و المستقبل روحه متغربة في الجسد النحيل، إنساق إلى دار العجزة و المسنين في حضن السجن الرحيم، طال الزمن و مازال احفاده للحين و الآخر ينتظرون شهادة وفاته.

(تمت)

إدريس على بابكر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...