لم يكنْ في تاريخِ حياتِها ما يُلفِتُ النظر، ولا هيَ من حَمَلةِ الشهاداتِ العُليا، ولا شيءَ يدلُّ على أنّها ستعيشُ غيرَ المُدةِ التي حدّدها الأطباء. وما زالتْ تملكُ ذلكَ السحرَ في جمالِها ومنطقِها الجذّاب، وبراعةَ أساتذةٍ في الإقناعِ لكُلِّ من يعرفها.
مرضُها الخطيرُ قد أصابَها بعدَ ولادةِ طفلِها الوحيد الذي فقدتْ قبلَه ثلاثَ بناتٍ يشبهنَ الشمسَ والقمر، فلم يبقَ لها سوى ابنةٍ كُبرى وهذا الطفلِ الذي أخذَ عافيتها وحدّدَ نهايةً لعمرها، قد وضعَها في عالمٍ كُلُّه غموض، فلم يفهم أحدٌ ماذا تُريد؟ كان تصرّفُها عصيًا على الآخرين.
وبالرغمِ من أنّ وضعَها الصحي بدأ يتدهوّر، وتظهرُ عليها أعراضَ الموت، لكنّ منطقَها كان سليمًا وحلاوة لسانِها تجعلُ الجميعَ يُنصِتُ إليها مثلَ كُلِّ مرة. وهناك أيضًا من ينتظرُ موتَها شماتةً وحسدًا؛ فالعائلةُ التي تنتمي لها مُنقسمةٌ، رغمَ أنهم من رحمٍ واحد، ويأكلونَ خبزَهم بنفسِ الوقتِ من تنورٍ واحد، الكُلُّ يحسدُ ويحقدُ على الكُلِّ بلا استثناء، لا أعرفُ سببًا وجيهًا لهذا الصراع، ولكن حين تعيشُ وسطَهم وتتعرّفُ على عالمِهم، تغرقُ ببحرٍ من التعقيدات والأوهام.
الشخصُ الفريدُ والمُميّزُ بينهم "صالحة" التي ينتظرون بفارقِ الصبرِ أنْ يأكلوا اللحمَ في مأتِم رحيلها، ربما بسببِ قوّتِها وجمالِها المُبهِر للعيون! وربّما بسببِ شخصيةِ زوجِها الذي يشبهها بكُلِّ شيءٍ وقوّته التي تسحقُ كُلَّ من يتطاولُ عليها فهو يعشقُها حدَّ الجنون! بل هي توأمُ روحه.
رجلٌ بمائةِ رجلٍ، قهرَ السُلُطاتِ من أجلِ الفقراءِ ووصلَ إلى حبلِ المشنقة، ولم يتنازلْ عن كلمةِ حقٍّ أو نُصرةِ مظلوم، فقد وقفَ بوجهِ أعتى مُديرٍ للأمنِ يُدعى (بهجت العطية) وشهدَ أمامَ العالم، وعِبرَ التلفازِ أنّ هذا المُجرم "عطية" قد خلعَ أظافره وأسنانه بآلةٍ قاطعة، ولم يسلمْ منه أحدٌ في سجونِ الحكومة. وحين حصلَ على البراءة، قرّروا إعدامَه في الشارع، ولأنَّ الشعبَ شاهدَ محكمةِ الشعب المهداوية عبرَ التلفاز، وقفوا بوجهِ الظالم وقفةَ شعبٍ أرادَ للحقِّ أنْ ينتصر.
تراءى له وهو يصلُ إلى بابِ بيتِه مرةً أخرى، أنّه عاشَ زمنًا إضافيًا ربما سيكونُ طويلًا من أجلِ "صالحة". حاولَ أنْ يُنقذَها بلا طائل، ناضلَ كثيرًا والحياةُ تعدو والعمرُ ينقضي على عُجالةٍ كالخيالِ وهي معه كظلِّه –أينما ولّى وجهَه- مشّاءةٌ خلفَه تعتلي جسمه، ترفعُ معنوياتِ حياتِه في فوضى اصطيادِ الحظ. تستطيعُ بسهولةٍ ومن النظرةِ الأولى أنْ تُميّزَ فيها ظلَّه، فرحيلُها يعني تشرُّدَه، تحطُّمَه، قد تخسرُ طفلها فيموتُ معها، وتُدافعُ خيالَ الموتِ في روحِها، وبدأتْ تقرأُ لنفسِها تعاويذَ البقاء، وبكتْ بشدّة. نظرتْ إليه بإشفاقٍ، واستغربَ من طلبِها:
- شاركتُ يومَ أمسٍ جيراننا الشيعة مأتمَهم حولَ سيّدنا العباس بن علي، وعندَ رجوعي إلى البيت صوتٌ بدأ يصرخُ في رأسي أنْ أزورَ ضريحَه، وأنْ أنامَ ليلةً في حضرتِه، هيَ أُمنيةٌ ورغبةٌ في الاطمئنانِ على روحي الراحلة إلى ربِّها.
على الرغمِ من أنّه لا علاقةَ له بالدين، فيساريتُه تعرفُها منطقتُه (أُمُّ النومي) وقد أطلقَ عليها (موسكو الصغيرة)؛ لكثرةِ فعّاليتِها الشبيبية، إلا أنّه استجابَ لها واستقبلَ حديثَها باحترامٍ كبيرٍ مشوبٍ بشيءٍ من التردُّدِ والوجلِ والتذمُّرِ المخفي.
أمّا هي فقد شعرتْ بالراحةِ، وبثقةٍ أكبرَ بالنفسِ عندما أعلنَ أمامَ الجميعِ أنّه سيأخذُها إلى مدينةِ كربلاء للزيارة، فمنْ يرغبُ من العائلةِ أنْ يُشاهدَ كربلاء وعتباتِها المُقدّسة، السيارةُ تسعُ الجميع. وبالفعلِ أبدتِ العائلةُ بأكملِها رغبةً بالزيارة، ليس من أجلِ الزيارة، وإنّما من أجلِ توديعِ "صالحة" الى آخرتِها بأسرعِ وقتٍ ممكن.
جلستْ "صالحة" في مؤخرةِ السيارةِ بطريقةٍ حزينةٍ صامتةٍ، تضعُ تلكَ الشملةَ السوداء على رأسِها وتبدو كالقمرِ الذي يدخلُ غيمة، تحملُ في بطنِها أسرارًا لا يُمكنُ التكهُّنُ بها، فمهما ملكوا من قوّةِ الفراسةِ فهم لا يفهمونها جيدًا ولا يستطيعون فكَّ سرِّها المُتجِه إلى كربلاء، وهم يُضيفون تنبؤاتٍ مُضلة لرحلةٍ ليستْ على البال..
عند غروبِ الشمس، وقفتِ السيارةُ مارسيدس نوع (18 راكبًا) مواليد الستينيات، وسطَ المدينة، حركةُ الناسِ كثيفةٌ فوقَ الرصيفِ الذي توّقفتْ على امتداده مجموعةٌ من العرباتِ لباعةٍ مُتجوّلين. ترجّلَ الجميعُ من السيارةِ ورؤوسُهم مُنتصبةٌ، كانوا يتحرّون المكانَ بنظراتٍ مُترفِّعةٍ وأنفٍ مرفوعٍ وسيرٍ مُتصلِّفٍ وفي الواقعِ كانتِ العائلةُ تتصرّفُ بصورةٍ جدًا عدائية وهي تتجّهُ للأضرحةِ المُقدّسة.
أما صالحةُ فكانت بعيدةً عن تصرفاتِهم الغرائبية؛ نظراتُها نصفُ الشاردة، لا تسمعُ همجيتَهم ولا تُعارضُ أساليبِهم، فالذي يشغلُ بالَها تصميمُها على المُضي في إطفاءِ الصوتِ الذي يزدادُ قوةً في رأسِها كُلّما اقتربتْ من الضريح، بحيثُ توقّفتْ ويداها على رأسِها من شدّةِ الصوت، واهتاجتْ حتى الانفعال فصرختْ بعلوِ صوتِها: قادمةٌ يا أبا الفضل.
صدمتْ خيالَها رؤيةُ منائر وقُبّةِ الضريح، فانطلقتْ مُسرعةً بعفويةٍ لتقفَ عندَ بابِ العلقمي برغبةٍ فيها الكثيرُ من البُعدِ الإيماني، فيما كانَ رأسُها الذي لم يستقر الصوتُ فيه منذُ أنْ عرفتْ لـ(العباس) لقبًا عندَ الشدائدِ والمحن (قاض الحوائج)، عاشتْ لحظتَها في عالمٍ رمادي صامت، حلّقَتْ في فضاءِ الباب، تُفكِّرُ في كُلِّ شيءٍ في اللاشيء، تستوي لديها الابتسامةُ والدمعةُ.
تنفرجُ شفتاها أحيانًا عن ابتسامةٍ باهتةٍ لا تتعدّى حدودَ فمِها، [بينما قلبُها يتفطّرُ حُزنًا، في لحظاتِ الخفقِ المُتدفقِ من قلبِها، شعرتْ أنّ العالمَ أصغرُ بكثيرٍ من صحنِ (العباس)، تسرّبَتْ إلى داخلِ الحرمِ المُقدّسِ كورقةٍ في جدولِ ماءٍ، بلهفةٍ بدأتْ تبحثُ عن مكانٍ وسطَ الزينبيات كأنّها تبحثُ عن مجهولٍ موجودٍ حولَها، تسمعُ هسيسَ صوتِه يسحبُها نحوَ المكانِ دونَ إرادتِها. نطقتْ أولَ مُفردةٍ فورَ جلوسِها:
-يا (عباس) أعِرني صبرًا حتى أفوزَ بمعرفتك! أعِرني معرفةً لا تتغيّرُ بمرورِ الزمن، بل تصمُدُ معي حتى نهايةِ المصير، فوقتُ مُكوثي قصير.. أعِرْني لمسةً، أرجوك واخطف قلبي نحو ضيائك.
سيّدي، إذ تطفرُ من قلبي قطرةُ دمٍ تخرجُ من صدري صرخة هم.
سيّدي، إذ تسقطُ من عيني دمعةٌ تُطفئُ من عمري شمعة. فعلامَ يُحاربني العُذّال وأنا أرضي عطشى تبحثُ عن قطرةِ ماء؟!
ولكونِها شعرتْ بالإنهاكِ وبانَ عليها النُعاسُ، وهي ترنو إلى الضريحِ بعينين مُجهدتين، أضنتها آلامُ المرض. كان المُصلىّ الذي تُصلّي به النساء، يخلُدُ إلى الصمتِ في انعكاسِ أشعةِ الأنوارِ عندَ مُنتصفِ الليل. وعلى واجهةِ المُصلى الذي تُزيّنُه النقوشُ الزُجاجية، وآياتٌ قرآنيةٌ بألوانٍ زرقاء وصفراء وخضراء صافية، كانتْ مرسومةً بأحرُفٍ مخطوطةٍ بفنِّ الخطِّ العربي القُرآني، كانَ نظرُها يضيعُ فيها؛ لأنّها لا تعرفُ القراءةَ والكتابة، فتجمّعَ خوفٌ بريءٌ في عينيها.
وبينما ضريحُ (العباس) يشعُّ نورًا يستمدُ منه الطائفون حولَه النورَ الإلهي وإذا بروح صالحةٍ تُسافرُ وهي تغفو بأمانٍ عندَ رأسِ أبي الفضلِ العباس، لم تدرِ صالحةُ إذا الرجلُ الذي أيقظها وانتشلها من أحلامِ يقظتِها طلعَ من داخلِ شباكِ الجدث، أم طلعَ من داخلِ المُصلى، كان ذا قامةٍ مُعتدلةٍ، ضخمًا في الطولِ والجسدِ، وجههُ كالقمر، رجلٌ يشبهُ الأسدَ، عمامتُه سوداءُ جزءٌ منها ينزلُ على صدرِه، تُضفي عليهِ الوجاهة والعَظَمَة والوقار مسحة من يأتي من عوالمَ أخرى تزخرُ بالنورِ والصفاء.
ما إنْ وصلَ عندَ رأسِها حتى صاحَ بنعومةٍ ورهافةٍ لا تخلو من قوّةِ العظمة: انهضنَ يا حبيباتِ زينب، اليومَ ضيفتُنا صالحةُ تحتاجُ أنْ ننقذَ حياتَها بإذنِ اللهِ بعمليةٍ إلهيةٍ ستجعلُها من سُكّانِ كربلاء، لتخدمَ زوّارَ أخي أبي عبدِ اللهِ الحسين طيلةَ أيامِ عاشوراء، ومن ثم ابتسمَ والحكمةُ تنفجرُ من عينيهِ وجوانبه، وبصوتٍ ملائكي اهتزَّ لهُ جسدها الغائر قال: ستشفينَ يا صالحةُ، وليكنْ موطنُك كربلاء.
وفورًا غطّتِ الزائراتُ جسدَها بكُلِّ عباءاتِهن، شعرتْ صالحةُ بأنّها تحتَ جبلٍ من السوادِ ونورٍ يتغلغلُ في جسدِها، تريدُ أنْ ترى ما يجري، لكن جثمتْ عليها أثقالُ العباءات. فأحسّتْ في داخلِها وهي مُندهشةٌ بإحساسٍ جديدٍ بحيث وقفتْ وتوّجهتْ فورًا إلى الشباكِ مُسَمِّرةً يديها به، وهي تتفحّصُ طبيعةَ حركتِها وانفعالِها وموضعَ ذلك المرضِ المُميت، إنّها تمشي بسهولةٍ، ترغبُ بالصلاة، اهتاجتْ حدّ الهلوسة، بدأتْ تُهلِّلُ بالصلاةِ للرسولِ الأعظم، تؤمِنُ أنّ مُعجزةً قد نالتْها، كانتْ تراه كما يراها، لكن أينَ هو؟ تغوصُ في عُمقِ الضريح وتقفُ عندَ كُلِّ ظِلٍّ، تمتدُّ تحتَه تبقى مُسَمَّرة في موضعِها حتى يُغادرها الظل، فتعومُ بينَ الزائرين، عيناها مُنحرفتانِ ونظراتُها جامدة، وقلبُها يخفقُ خفقًا أشدّ من الخوفِ ومن الرغبةِ أنْ تكونَ في تمامِ صحتِها.
كانتْ ترى ما لم ترَ من قبل، إنّها بينَ الملائكةِ عائمة بيضاء ملابسها كالثلجِ، لكأنّ وجهَها المُضيء تغمُرُه فرحةُ المكانِ وسعادةُ الإحساسِ بالشفاء، هبّتْ من نومِها على صوتِ أذانِ الفجرِ مذعورةً، وقد توقّدَتْ عيناها فبدتْ كجمرتينِ أو كوّتينِ مفتوحتينِ على جنةِ الحرم المقدس، هبّتْ نسائمُ طريّةٌ طيبةٌ على وجهِها، مُشبَعةٌ برائحةِ الضريح، فتذكّرتْ رؤيتَها بتفاصيلِها، تجمّعتِ الدموعُ في عينيها وبدأتْ تنسابُ على وجهِها الملائكي كغيومٍ مُمطرِةٍ، وهي تتصفّحُ الوجوهَ المُحدِّقةَ بها، إحداهن ابتسمتْ في وجهِها، أرادتْ أنْ تُبدِّدَ عنها خوفَها ودهشتَها فقالت:
- صلاةُ الصُبحِ في وقتِها تمنحُكِ الطُمأنينة، عليكِ أنْ تُجدّدي الوضوء، فالنومُ العميقُ يُبطلهُ!
وقفتْ صالحةُ صامتةً مُستسلمةً لقدرِها الذي رسمَ الطريقَ من الكاظميةِ إلى كربلاء! من المرضِ المُميتِ إلى الشفاءِ في التدبيرِ الإلهي، وقبلَ أنْ تخطوَ أولى خطواتِ الشفاء التامِ باتجاهِ شباكِ الجدثِ ألقتْ نظرةَ رجاءٍ على مَن حولِها من الزائرين لعلّه يكونُ بينهم فتُقبِّلُ يدَه الكريمةَ في عالمِ الوجود.
تصاعدتْ صيحاتُ الصلواتِ على مُحمّدٍ وآلِ مُحمّد في أرجاءِ الضريحِ ومزَّقَ الزائرون سمائلَ الذي دخلَ لا يقوى على المشي وما إنْ وصلَ الشباك حتى نهضَ سالمًا لا يشكو العَوَق الذي حرَمَه المشي لسنينَ طوال.
وتكرَّرَ المشهدُ الصباحي داخلَ الحرمِ المُقدّسِ حينَ عادَ البصرُ لشابةٍ تشبهُ الزهرةَ في جمالِها. خافتْ صالحةُ من ردّةِ فعلِ الكراماتِ التي تحدثُ أمامَ عينيها ولا تحتاجُ إلى شاهدٍ فهي نهضتْ وتعافتْ بكرامةِ سيّدِها أبي الفضل العباس بن عليّ بعدَ أنْ أوشكتْ روحُها على الرحيلِ إلى بارئها.
كانَ الهواءُ الرطبُ باردًا والصباحُ تغمرُه أشعةُ الشمسِ الذهبيةُ تُنيرُ بخيوطِها المُتوهجة مدينةَ كربلاء المُقدّسة لتزيدها جمالًا وهيبةً وقدسية.
خرجتْ صالحةُ من الضريحِ كأنّها ولِدَتْ من جديد، وجهُها المُضيءُ تغمرُه الفرحةُ والسعادةُ كمن جاءَ يبحثُ عن النورِ ففرَّ من (الناصبية) المُظلمة التي تُبيحُ العِداءَ العلني والسرّي لأهلِ بيتِ النبوّةِ ومعدنِ الرسالة. تأوّهتْ بحسرةٍ مُمتلئةٍ بالحزن، كانتْ تُدرِكُ ما سيحلُّ بها بعدَ أنْ يراها زوجُها وأهله وأهلها ومن جاءَ من بابِ الفضولِ بهيئتِها الجديدة، وهي تدخلُ من بابِ (كف العباس) تحملُ صينةَ القيمرِ والصمونِ الحار والدبس الكربلائي، التقت عيناها بوجه زوجِها الذي كانَ يبحثُ عنها في الضريحِ وأواوين الصحن، وما إنْ رأته حتى أفترَ عن ابتسامةٍ أرادَ أنْ يُبدِّدَ عنها خوفَها، ولكن المُفاجأة أنّه لم يتمالك نفسه فصرخ: صدقتَ يا مولاي أبا الفضل العباس، قد منحتَ صالحةَ عمرًا جديدًا.
وعلى أثر هذا الصراخ استيقظت العمّات والخالات وأولادهن، ليَرينَ صالحةَ بعافيةٍ وصحةٍ مُمتلئةٍ بالحيوية، اتجهت أنظارُهن إلى جهةِ الضريح، وشعرنَ بالخوفِ فلَمْلَمْنَ أنفسَهن ورتَّبْنَ أوضاعَهن غير المُبالية، خوفًا مما هُنَّ عليه من استهزاءٍ وعدمِ مُبالاة. حينَما رأتْ صالحةُ هذا الخوفَ في عيونهن، قالت:
- هذا قيمر أُمِّ البنين أُمِّ العباس، كلن باسمها واستغفرن الله. فالإمام لن يؤذي ضيفًا يزوره أولَ مرةٍ، بل يهديه إلى الصراط المستقيم. وستأخُذن هديةَ مولاتِنا أم البنين برضا الله عنكن، هدية قلبية تشعرنَ بها بعدَ تناولِ ثوابِها.
سادَ الصمتُ وفرشتْ صالحةُ سُفرةَ الطعامِ بيدينِ مُتعافيتينِ وجسدٍ قوي، والإيمانُ يضجُّ في قلبِها والدموعُ تتجمّعُ في عينيها بغزارةٍ وهي تتصفّحُ الوجوهَ المُحدّقةَ بها وترى تأثيرَ الخوفِ والقلقِ في عيونِ حاسديها، ومع ذلك أغلقتْ صفحاتِ حياتِها الماضية، ثم تجوّلت في كُلِّ ركنٍ من أركانِ الضريح، وأصختِ السمعَ مُتمتعةً بصوتِ الزيارةِ والدُعاءِ والتوسُّلِ بالمُنتظَرِ القائم (عجل الله فرجه)، وهي تجهشُ بالبُكاء بذكرِ الإمامِ الحُسين (عليه السلام) بلا شعورٍ تتأثّرُ بكلمةِ (يا حسين) كأنّها تعيشُ تلك المظلوميةَ الخالدةَ التي أبكتْ أفلاكَ السماء والأرض.
وحين تصحو تقول مع نفسها: أصبحتُ بنتَ مدينةِ الإمامِ الحُسينِ بأمرِ سيّدي العباس، يُمكنُني الذهاب إلى حيثُ أشاء؛ فكربلاءُ أراها تقتربُ منّي وتُبعِدُ عنّي كُلَّ الماضي، يكفيني عودةُ الروحِ لي، وتغيُّرُ حياتي واستنشاقُ الهواءِ النقي بأخفّ روحًا وأكثر حُريةً.
يا لها من ليلةٍ بيومها، تغيّرتْ صالحةُ من حالٍ إلى حال، بعدَ أنْ حلّقَتْ روحُها في عالم الذرّ، خالعتْ إهابَها الجسدي لتتسلَّلَ العافيةُ إليها، وقد أسفرَ يومُها عن قرارٍ لا رجعةَ فيه، وهي أشدُّ القراراتِ هولًا في تغيُّرِ مصيرِ الإنسانِ، هو أنْ لا ترجعَ إلى مدينتِها وتسكن كربلاء.
مرضُها الخطيرُ قد أصابَها بعدَ ولادةِ طفلِها الوحيد الذي فقدتْ قبلَه ثلاثَ بناتٍ يشبهنَ الشمسَ والقمر، فلم يبقَ لها سوى ابنةٍ كُبرى وهذا الطفلِ الذي أخذَ عافيتها وحدّدَ نهايةً لعمرها، قد وضعَها في عالمٍ كُلُّه غموض، فلم يفهم أحدٌ ماذا تُريد؟ كان تصرّفُها عصيًا على الآخرين.
وبالرغمِ من أنّ وضعَها الصحي بدأ يتدهوّر، وتظهرُ عليها أعراضَ الموت، لكنّ منطقَها كان سليمًا وحلاوة لسانِها تجعلُ الجميعَ يُنصِتُ إليها مثلَ كُلِّ مرة. وهناك أيضًا من ينتظرُ موتَها شماتةً وحسدًا؛ فالعائلةُ التي تنتمي لها مُنقسمةٌ، رغمَ أنهم من رحمٍ واحد، ويأكلونَ خبزَهم بنفسِ الوقتِ من تنورٍ واحد، الكُلُّ يحسدُ ويحقدُ على الكُلِّ بلا استثناء، لا أعرفُ سببًا وجيهًا لهذا الصراع، ولكن حين تعيشُ وسطَهم وتتعرّفُ على عالمِهم، تغرقُ ببحرٍ من التعقيدات والأوهام.
الشخصُ الفريدُ والمُميّزُ بينهم "صالحة" التي ينتظرون بفارقِ الصبرِ أنْ يأكلوا اللحمَ في مأتِم رحيلها، ربما بسببِ قوّتِها وجمالِها المُبهِر للعيون! وربّما بسببِ شخصيةِ زوجِها الذي يشبهها بكُلِّ شيءٍ وقوّته التي تسحقُ كُلَّ من يتطاولُ عليها فهو يعشقُها حدَّ الجنون! بل هي توأمُ روحه.
رجلٌ بمائةِ رجلٍ، قهرَ السُلُطاتِ من أجلِ الفقراءِ ووصلَ إلى حبلِ المشنقة، ولم يتنازلْ عن كلمةِ حقٍّ أو نُصرةِ مظلوم، فقد وقفَ بوجهِ أعتى مُديرٍ للأمنِ يُدعى (بهجت العطية) وشهدَ أمامَ العالم، وعِبرَ التلفازِ أنّ هذا المُجرم "عطية" قد خلعَ أظافره وأسنانه بآلةٍ قاطعة، ولم يسلمْ منه أحدٌ في سجونِ الحكومة. وحين حصلَ على البراءة، قرّروا إعدامَه في الشارع، ولأنَّ الشعبَ شاهدَ محكمةِ الشعب المهداوية عبرَ التلفاز، وقفوا بوجهِ الظالم وقفةَ شعبٍ أرادَ للحقِّ أنْ ينتصر.
تراءى له وهو يصلُ إلى بابِ بيتِه مرةً أخرى، أنّه عاشَ زمنًا إضافيًا ربما سيكونُ طويلًا من أجلِ "صالحة". حاولَ أنْ يُنقذَها بلا طائل، ناضلَ كثيرًا والحياةُ تعدو والعمرُ ينقضي على عُجالةٍ كالخيالِ وهي معه كظلِّه –أينما ولّى وجهَه- مشّاءةٌ خلفَه تعتلي جسمه، ترفعُ معنوياتِ حياتِه في فوضى اصطيادِ الحظ. تستطيعُ بسهولةٍ ومن النظرةِ الأولى أنْ تُميّزَ فيها ظلَّه، فرحيلُها يعني تشرُّدَه، تحطُّمَه، قد تخسرُ طفلها فيموتُ معها، وتُدافعُ خيالَ الموتِ في روحِها، وبدأتْ تقرأُ لنفسِها تعاويذَ البقاء، وبكتْ بشدّة. نظرتْ إليه بإشفاقٍ، واستغربَ من طلبِها:
- شاركتُ يومَ أمسٍ جيراننا الشيعة مأتمَهم حولَ سيّدنا العباس بن علي، وعندَ رجوعي إلى البيت صوتٌ بدأ يصرخُ في رأسي أنْ أزورَ ضريحَه، وأنْ أنامَ ليلةً في حضرتِه، هيَ أُمنيةٌ ورغبةٌ في الاطمئنانِ على روحي الراحلة إلى ربِّها.
على الرغمِ من أنّه لا علاقةَ له بالدين، فيساريتُه تعرفُها منطقتُه (أُمُّ النومي) وقد أطلقَ عليها (موسكو الصغيرة)؛ لكثرةِ فعّاليتِها الشبيبية، إلا أنّه استجابَ لها واستقبلَ حديثَها باحترامٍ كبيرٍ مشوبٍ بشيءٍ من التردُّدِ والوجلِ والتذمُّرِ المخفي.
أمّا هي فقد شعرتْ بالراحةِ، وبثقةٍ أكبرَ بالنفسِ عندما أعلنَ أمامَ الجميعِ أنّه سيأخذُها إلى مدينةِ كربلاء للزيارة، فمنْ يرغبُ من العائلةِ أنْ يُشاهدَ كربلاء وعتباتِها المُقدّسة، السيارةُ تسعُ الجميع. وبالفعلِ أبدتِ العائلةُ بأكملِها رغبةً بالزيارة، ليس من أجلِ الزيارة، وإنّما من أجلِ توديعِ "صالحة" الى آخرتِها بأسرعِ وقتٍ ممكن.
جلستْ "صالحة" في مؤخرةِ السيارةِ بطريقةٍ حزينةٍ صامتةٍ، تضعُ تلكَ الشملةَ السوداء على رأسِها وتبدو كالقمرِ الذي يدخلُ غيمة، تحملُ في بطنِها أسرارًا لا يُمكنُ التكهُّنُ بها، فمهما ملكوا من قوّةِ الفراسةِ فهم لا يفهمونها جيدًا ولا يستطيعون فكَّ سرِّها المُتجِه إلى كربلاء، وهم يُضيفون تنبؤاتٍ مُضلة لرحلةٍ ليستْ على البال..
عند غروبِ الشمس، وقفتِ السيارةُ مارسيدس نوع (18 راكبًا) مواليد الستينيات، وسطَ المدينة، حركةُ الناسِ كثيفةٌ فوقَ الرصيفِ الذي توّقفتْ على امتداده مجموعةٌ من العرباتِ لباعةٍ مُتجوّلين. ترجّلَ الجميعُ من السيارةِ ورؤوسُهم مُنتصبةٌ، كانوا يتحرّون المكانَ بنظراتٍ مُترفِّعةٍ وأنفٍ مرفوعٍ وسيرٍ مُتصلِّفٍ وفي الواقعِ كانتِ العائلةُ تتصرّفُ بصورةٍ جدًا عدائية وهي تتجّهُ للأضرحةِ المُقدّسة.
أما صالحةُ فكانت بعيدةً عن تصرفاتِهم الغرائبية؛ نظراتُها نصفُ الشاردة، لا تسمعُ همجيتَهم ولا تُعارضُ أساليبِهم، فالذي يشغلُ بالَها تصميمُها على المُضي في إطفاءِ الصوتِ الذي يزدادُ قوةً في رأسِها كُلّما اقتربتْ من الضريح، بحيثُ توقّفتْ ويداها على رأسِها من شدّةِ الصوت، واهتاجتْ حتى الانفعال فصرختْ بعلوِ صوتِها: قادمةٌ يا أبا الفضل.
صدمتْ خيالَها رؤيةُ منائر وقُبّةِ الضريح، فانطلقتْ مُسرعةً بعفويةٍ لتقفَ عندَ بابِ العلقمي برغبةٍ فيها الكثيرُ من البُعدِ الإيماني، فيما كانَ رأسُها الذي لم يستقر الصوتُ فيه منذُ أنْ عرفتْ لـ(العباس) لقبًا عندَ الشدائدِ والمحن (قاض الحوائج)، عاشتْ لحظتَها في عالمٍ رمادي صامت، حلّقَتْ في فضاءِ الباب، تُفكِّرُ في كُلِّ شيءٍ في اللاشيء، تستوي لديها الابتسامةُ والدمعةُ.
تنفرجُ شفتاها أحيانًا عن ابتسامةٍ باهتةٍ لا تتعدّى حدودَ فمِها، [بينما قلبُها يتفطّرُ حُزنًا، في لحظاتِ الخفقِ المُتدفقِ من قلبِها، شعرتْ أنّ العالمَ أصغرُ بكثيرٍ من صحنِ (العباس)، تسرّبَتْ إلى داخلِ الحرمِ المُقدّسِ كورقةٍ في جدولِ ماءٍ، بلهفةٍ بدأتْ تبحثُ عن مكانٍ وسطَ الزينبيات كأنّها تبحثُ عن مجهولٍ موجودٍ حولَها، تسمعُ هسيسَ صوتِه يسحبُها نحوَ المكانِ دونَ إرادتِها. نطقتْ أولَ مُفردةٍ فورَ جلوسِها:
-يا (عباس) أعِرني صبرًا حتى أفوزَ بمعرفتك! أعِرني معرفةً لا تتغيّرُ بمرورِ الزمن، بل تصمُدُ معي حتى نهايةِ المصير، فوقتُ مُكوثي قصير.. أعِرْني لمسةً، أرجوك واخطف قلبي نحو ضيائك.
سيّدي، إذ تطفرُ من قلبي قطرةُ دمٍ تخرجُ من صدري صرخة هم.
سيّدي، إذ تسقطُ من عيني دمعةٌ تُطفئُ من عمري شمعة. فعلامَ يُحاربني العُذّال وأنا أرضي عطشى تبحثُ عن قطرةِ ماء؟!
ولكونِها شعرتْ بالإنهاكِ وبانَ عليها النُعاسُ، وهي ترنو إلى الضريحِ بعينين مُجهدتين، أضنتها آلامُ المرض. كان المُصلىّ الذي تُصلّي به النساء، يخلُدُ إلى الصمتِ في انعكاسِ أشعةِ الأنوارِ عندَ مُنتصفِ الليل. وعلى واجهةِ المُصلى الذي تُزيّنُه النقوشُ الزُجاجية، وآياتٌ قرآنيةٌ بألوانٍ زرقاء وصفراء وخضراء صافية، كانتْ مرسومةً بأحرُفٍ مخطوطةٍ بفنِّ الخطِّ العربي القُرآني، كانَ نظرُها يضيعُ فيها؛ لأنّها لا تعرفُ القراءةَ والكتابة، فتجمّعَ خوفٌ بريءٌ في عينيها.
وبينما ضريحُ (العباس) يشعُّ نورًا يستمدُ منه الطائفون حولَه النورَ الإلهي وإذا بروح صالحةٍ تُسافرُ وهي تغفو بأمانٍ عندَ رأسِ أبي الفضلِ العباس، لم تدرِ صالحةُ إذا الرجلُ الذي أيقظها وانتشلها من أحلامِ يقظتِها طلعَ من داخلِ شباكِ الجدث، أم طلعَ من داخلِ المُصلى، كان ذا قامةٍ مُعتدلةٍ، ضخمًا في الطولِ والجسدِ، وجههُ كالقمر، رجلٌ يشبهُ الأسدَ، عمامتُه سوداءُ جزءٌ منها ينزلُ على صدرِه، تُضفي عليهِ الوجاهة والعَظَمَة والوقار مسحة من يأتي من عوالمَ أخرى تزخرُ بالنورِ والصفاء.
ما إنْ وصلَ عندَ رأسِها حتى صاحَ بنعومةٍ ورهافةٍ لا تخلو من قوّةِ العظمة: انهضنَ يا حبيباتِ زينب، اليومَ ضيفتُنا صالحةُ تحتاجُ أنْ ننقذَ حياتَها بإذنِ اللهِ بعمليةٍ إلهيةٍ ستجعلُها من سُكّانِ كربلاء، لتخدمَ زوّارَ أخي أبي عبدِ اللهِ الحسين طيلةَ أيامِ عاشوراء، ومن ثم ابتسمَ والحكمةُ تنفجرُ من عينيهِ وجوانبه، وبصوتٍ ملائكي اهتزَّ لهُ جسدها الغائر قال: ستشفينَ يا صالحةُ، وليكنْ موطنُك كربلاء.
وفورًا غطّتِ الزائراتُ جسدَها بكُلِّ عباءاتِهن، شعرتْ صالحةُ بأنّها تحتَ جبلٍ من السوادِ ونورٍ يتغلغلُ في جسدِها، تريدُ أنْ ترى ما يجري، لكن جثمتْ عليها أثقالُ العباءات. فأحسّتْ في داخلِها وهي مُندهشةٌ بإحساسٍ جديدٍ بحيث وقفتْ وتوّجهتْ فورًا إلى الشباكِ مُسَمِّرةً يديها به، وهي تتفحّصُ طبيعةَ حركتِها وانفعالِها وموضعَ ذلك المرضِ المُميت، إنّها تمشي بسهولةٍ، ترغبُ بالصلاة، اهتاجتْ حدّ الهلوسة، بدأتْ تُهلِّلُ بالصلاةِ للرسولِ الأعظم، تؤمِنُ أنّ مُعجزةً قد نالتْها، كانتْ تراه كما يراها، لكن أينَ هو؟ تغوصُ في عُمقِ الضريح وتقفُ عندَ كُلِّ ظِلٍّ، تمتدُّ تحتَه تبقى مُسَمَّرة في موضعِها حتى يُغادرها الظل، فتعومُ بينَ الزائرين، عيناها مُنحرفتانِ ونظراتُها جامدة، وقلبُها يخفقُ خفقًا أشدّ من الخوفِ ومن الرغبةِ أنْ تكونَ في تمامِ صحتِها.
كانتْ ترى ما لم ترَ من قبل، إنّها بينَ الملائكةِ عائمة بيضاء ملابسها كالثلجِ، لكأنّ وجهَها المُضيء تغمُرُه فرحةُ المكانِ وسعادةُ الإحساسِ بالشفاء، هبّتْ من نومِها على صوتِ أذانِ الفجرِ مذعورةً، وقد توقّدَتْ عيناها فبدتْ كجمرتينِ أو كوّتينِ مفتوحتينِ على جنةِ الحرم المقدس، هبّتْ نسائمُ طريّةٌ طيبةٌ على وجهِها، مُشبَعةٌ برائحةِ الضريح، فتذكّرتْ رؤيتَها بتفاصيلِها، تجمّعتِ الدموعُ في عينيها وبدأتْ تنسابُ على وجهِها الملائكي كغيومٍ مُمطرِةٍ، وهي تتصفّحُ الوجوهَ المُحدِّقةَ بها، إحداهن ابتسمتْ في وجهِها، أرادتْ أنْ تُبدِّدَ عنها خوفَها ودهشتَها فقالت:
- صلاةُ الصُبحِ في وقتِها تمنحُكِ الطُمأنينة، عليكِ أنْ تُجدّدي الوضوء، فالنومُ العميقُ يُبطلهُ!
وقفتْ صالحةُ صامتةً مُستسلمةً لقدرِها الذي رسمَ الطريقَ من الكاظميةِ إلى كربلاء! من المرضِ المُميتِ إلى الشفاءِ في التدبيرِ الإلهي، وقبلَ أنْ تخطوَ أولى خطواتِ الشفاء التامِ باتجاهِ شباكِ الجدثِ ألقتْ نظرةَ رجاءٍ على مَن حولِها من الزائرين لعلّه يكونُ بينهم فتُقبِّلُ يدَه الكريمةَ في عالمِ الوجود.
تصاعدتْ صيحاتُ الصلواتِ على مُحمّدٍ وآلِ مُحمّد في أرجاءِ الضريحِ ومزَّقَ الزائرون سمائلَ الذي دخلَ لا يقوى على المشي وما إنْ وصلَ الشباك حتى نهضَ سالمًا لا يشكو العَوَق الذي حرَمَه المشي لسنينَ طوال.
وتكرَّرَ المشهدُ الصباحي داخلَ الحرمِ المُقدّسِ حينَ عادَ البصرُ لشابةٍ تشبهُ الزهرةَ في جمالِها. خافتْ صالحةُ من ردّةِ فعلِ الكراماتِ التي تحدثُ أمامَ عينيها ولا تحتاجُ إلى شاهدٍ فهي نهضتْ وتعافتْ بكرامةِ سيّدِها أبي الفضل العباس بن عليّ بعدَ أنْ أوشكتْ روحُها على الرحيلِ إلى بارئها.
كانَ الهواءُ الرطبُ باردًا والصباحُ تغمرُه أشعةُ الشمسِ الذهبيةُ تُنيرُ بخيوطِها المُتوهجة مدينةَ كربلاء المُقدّسة لتزيدها جمالًا وهيبةً وقدسية.
خرجتْ صالحةُ من الضريحِ كأنّها ولِدَتْ من جديد، وجهُها المُضيءُ تغمرُه الفرحةُ والسعادةُ كمن جاءَ يبحثُ عن النورِ ففرَّ من (الناصبية) المُظلمة التي تُبيحُ العِداءَ العلني والسرّي لأهلِ بيتِ النبوّةِ ومعدنِ الرسالة. تأوّهتْ بحسرةٍ مُمتلئةٍ بالحزن، كانتْ تُدرِكُ ما سيحلُّ بها بعدَ أنْ يراها زوجُها وأهله وأهلها ومن جاءَ من بابِ الفضولِ بهيئتِها الجديدة، وهي تدخلُ من بابِ (كف العباس) تحملُ صينةَ القيمرِ والصمونِ الحار والدبس الكربلائي، التقت عيناها بوجه زوجِها الذي كانَ يبحثُ عنها في الضريحِ وأواوين الصحن، وما إنْ رأته حتى أفترَ عن ابتسامةٍ أرادَ أنْ يُبدِّدَ عنها خوفَها، ولكن المُفاجأة أنّه لم يتمالك نفسه فصرخ: صدقتَ يا مولاي أبا الفضل العباس، قد منحتَ صالحةَ عمرًا جديدًا.
وعلى أثر هذا الصراخ استيقظت العمّات والخالات وأولادهن، ليَرينَ صالحةَ بعافيةٍ وصحةٍ مُمتلئةٍ بالحيوية، اتجهت أنظارُهن إلى جهةِ الضريح، وشعرنَ بالخوفِ فلَمْلَمْنَ أنفسَهن ورتَّبْنَ أوضاعَهن غير المُبالية، خوفًا مما هُنَّ عليه من استهزاءٍ وعدمِ مُبالاة. حينَما رأتْ صالحةُ هذا الخوفَ في عيونهن، قالت:
- هذا قيمر أُمِّ البنين أُمِّ العباس، كلن باسمها واستغفرن الله. فالإمام لن يؤذي ضيفًا يزوره أولَ مرةٍ، بل يهديه إلى الصراط المستقيم. وستأخُذن هديةَ مولاتِنا أم البنين برضا الله عنكن، هدية قلبية تشعرنَ بها بعدَ تناولِ ثوابِها.
سادَ الصمتُ وفرشتْ صالحةُ سُفرةَ الطعامِ بيدينِ مُتعافيتينِ وجسدٍ قوي، والإيمانُ يضجُّ في قلبِها والدموعُ تتجمّعُ في عينيها بغزارةٍ وهي تتصفّحُ الوجوهَ المُحدّقةَ بها وترى تأثيرَ الخوفِ والقلقِ في عيونِ حاسديها، ومع ذلك أغلقتْ صفحاتِ حياتِها الماضية، ثم تجوّلت في كُلِّ ركنٍ من أركانِ الضريح، وأصختِ السمعَ مُتمتعةً بصوتِ الزيارةِ والدُعاءِ والتوسُّلِ بالمُنتظَرِ القائم (عجل الله فرجه)، وهي تجهشُ بالبُكاء بذكرِ الإمامِ الحُسين (عليه السلام) بلا شعورٍ تتأثّرُ بكلمةِ (يا حسين) كأنّها تعيشُ تلك المظلوميةَ الخالدةَ التي أبكتْ أفلاكَ السماء والأرض.
وحين تصحو تقول مع نفسها: أصبحتُ بنتَ مدينةِ الإمامِ الحُسينِ بأمرِ سيّدي العباس، يُمكنُني الذهاب إلى حيثُ أشاء؛ فكربلاءُ أراها تقتربُ منّي وتُبعِدُ عنّي كُلَّ الماضي، يكفيني عودةُ الروحِ لي، وتغيُّرُ حياتي واستنشاقُ الهواءِ النقي بأخفّ روحًا وأكثر حُريةً.
يا لها من ليلةٍ بيومها، تغيّرتْ صالحةُ من حالٍ إلى حال، بعدَ أنْ حلّقَتْ روحُها في عالم الذرّ، خالعتْ إهابَها الجسدي لتتسلَّلَ العافيةُ إليها، وقد أسفرَ يومُها عن قرارٍ لا رجعةَ فيه، وهي أشدُّ القراراتِ هولًا في تغيُّرِ مصيرِ الإنسانِ، هو أنْ لا ترجعَ إلى مدينتِها وتسكن كربلاء.