الى فؤاد الركابي
1- الصورة
القاتل يضطجع أمامي ، على الطاولة الصغيرة بين زجاجة العرق وطبق المزة ، يتمطّى على ظهره بهدوء ، ويدلي باعترافاته أمام عدسات الكاميرا وأقلام الصحفيين ..... بدلته رمادية ذات خطوط سوداء ، ربطة عنقه مشدودة بعناية فائقة ، أرضيتها رمادية منقطة بالأحمر ، وعلى أرنبة أنفة استقرت نظارة سوداء كبيرة ، أخفت كل ملامحه ، كانت النظارة مستطيلة مثل فوهة لحد ، وسوداء.. سوداء ..قاتمة ....
-2- ......
اقتربت صاحبة الحان ، استندت إلى حافة الكرسي، التصقت بجانب كتفي .... أطلت على الصورة وسألت:
•- هذا ممثل ؟
غمرتني أنفاسها ، أختلط الريفدور برائحة العرق ، أجبت :
•- لا .
•- مطرب ؟
•- لا .
•- مصارع ؟
•- تحرك مرفقي باستحياء طفولي امتد إليها غاص في ثنايا لحمها..
•- لا
•- إذاً .. لماذا وضعوا صورته في المجلة ؟
•- أنه جني .
•- جني !!
ارتسمت علامات التعجب على وجهها ، نهاية مرفقي مثل شفتي قط تتشمم لحمها ... فتحت فمها ببلادة ، هي لم ترَ جنيا من قبل ، ومخيلتها لم تسعفها في رسم صورة واضحة لملامح الجني ، اختطفت المجلة من أمامي والتهمت نظراتها الصورة ... أجبت :
•- أنه الجني الأزرق الذي أختطف فارس الدهلا
•- من ؟ فارس الدهلا ؟ لم أسمع به من قبل .
في هذه الأثناء ناداها زبون يقبع في إحدى زوايا الحان ، أعادت المجلة إلى مكانها وانصرفت له ... عدت إلى التطلع في النظارة الزرقاء القاتمة ... تناولت رشفة من الكأس ، ثم ملعقة من طبقة المزّة ... سقطت من حافة الملعقة قطرة من الزيت المخلوط بالخل ، استقرت جوار النظارة الزرقاء ، تماما ...
3 إضاءة على وجه فارس ألد هلا
وقف ذات يوم على دكه في سوق المدينة ، وصاح بأعلى صوته ، أمام موكب الأمير الذي كان يتهادى في السوق آنذاك ، قال (( آري سبع أبل عجاف يطاردن سبع سمانا )) ثم حذر الناس من الجراد الذي يتربص بهم وراء النهر ، منتظرا موسم الحصاد ... كضم الأمير غيظه ولم يعلق بشيء ، وفي اليوم الثاني اختفى فارس الدهلا من المدينة ، اختلفت الآراء في سر اختفائه لكن المصادر الرسمية أكدت أن الله سلط جنيا ازرق فاختطفه ، ورماه في قصره المسحور ، لكبيرة اقترفها ، قال بعضهم إن فارس ألدهلا كان يقود الغرباء إلى مخدع أمه فأختطفه الجنّي .. منذ ذلك اليوم وفارس الدهلا غائب عن المدينة يشتم على كل المنابر ويلعن في كل الطرقات .
4 - الجراد
بعد أيام من اختفائه تحققت النبوءة ، جاءت أسراب الجراد من الضفة الأخرى من النهر ، كغيوم سوداء تسد منافذ الأفق ، أهل المدينة أبدوا مقاومة عنيفة في وجهها ، نزعوا أسمالهم وصنعوا منها فزاعات علقوها على أعواد القصب ونصبوها في كل الحقول ، قرعوا الصفائح الفارغة ... صفروا لها ، صرخوا في وجهها لكنها ظلت تتوغل في أعماق الحقول ... عندها رفعوا مذكرة إلى أمير المدينة يلتمسونه الإعانة في استعمال الأساليب الحديثة في مكافحة الجراد ... لكن الأمير اصدر مرسوما يعتبر بموجبه الجراد جزءا مهما من الثروة الحيوانية للبلاد وأن مكافحته بأي شكل من الأشكال تعد تآمرا على اقتصاديات الأمة وقد أعتبر المرسوم كافة الحقول المجاورة للنهر مداجن لتربية الجراد ..
5- الخاتم
الذين هربوا الخاتم قالوا انهم شهدوا فارس الدهلا يتقلب عاريا في مقلاة الجنّي الأزرق ، يقلّى كما تقلى السمكة وانه قال له وهو على تلك الحال ((إن أردتم قتل الجني الأزرق فعليكم بقتل روحه )) وحين سألوه عن روحه قال لهم أن اللعين قد وضع روحه في حوصلة غراب ووضع الغراب في علبة ثم أدخلها في سبع علب ووضع العلب في سبع صناديق ووضع الصناديق في طابق من رخام ورماه في أعماق البحر .... فأن شئتم قتله عليكم أن تصلوا إلى هذه الروح وتقتلوها .
ثم سلمهم خاتما فضيا فيه يا قوته تلهث كجمرة متوهجة قال لهم :
- اذا وصلتم خارج أسوار القصر المسحور شقّوا بهذا الخاتم ظهر البحر ستجدون البحر يهيج ويزبد حتى يلفظ طابق الرخام على الشاطئ عندها هشموا الطابق واخنقوا الغراب فيستحيل الجني رمادا منثورا .
ولكي يخفوا الخاتم عن أنظار الجني الأزرق طلوا الياقوتة بزيت أسود ، حتى إذا خرجوا من أسوار القصر ووصلوا ساحل البحر ، وجدوا الياقوتة المتوهجة استحالت فحمه سوداء كلما سلخوا عنها جلدا أسود تبدى لهم جلد أكثر سوادا ...
7- البحر
كانوا يأتون كل يوم إلى البحر ... يقفون أمامه ساهمين يتضرعون لعظمته وجبروته عله يهيج فيرمي لهم من أعماقه طابق الرخام ... وحين يهيج البحر وتتلاطم أمواجه ويعلو زبده ، يدوخون ، يصابون بدوار البحر ، ثم يغطون في غيبوبة طويلة ... وحين يصحون يجدون البحر عاد إلى هدوئه .. ورغم أنهم جاءوا ذات يوم فوجدوا جثة فارس الدهلا مرمية على الساحل عارية كما رأوها في مقلاة الجنّي الأزرق ، ومحزوزة من الرقبة ... لكنهم ظلوا يواصلون طقوسهم البحرية كل يوم .
8- الصورة الأخرى
صاحبة الحان تجلس بجانبي ، تتصفح المجلة باهتمام ، تنورتها تنحسر عن فخذين بضتين ممتلئتين ، صورة القاتل تملأ صفحات المجلة بأوضاع مختلفة ، واقفا مرة ، وأخرى يسند ظهره على أريكة مريحة ، وثالثة يتحدث بهدوء إلى الصحفيين ، ورابعة وراء القضبان ... ، النظارة لم تفارق أرنبة أنفه في جميع الحالات ، صاحبة الحان تسأل بسذاجة .
•- ولكن لماذا يخفي عينيه وراء النظارة ؟
ارتشفت ما تبقى في قعر الزجاجة مباشرة من فوهتها، لسعتني حرارتها ، انسابت عبر البلعوم كحية صحراوية ، أحسست بأحشائي تشتعل ، التقطت حبة حمص من طبق المزة ، ازدرتها بسرعة ولفظت قشرتها من بين شفتي استقرت القشرة على فخذها اليمنى ، بدت مثل دمّلة مفقوءة ، التقطت حبة أخرى ، رميت قشرتها على الفخذ الأخرى ، توالت قشور الحمص على الفخذين البضتين ، صاحبة الحان مشغولة بتصفح المجلة ، ناداها زبون آخر، رمت المجلة بعجالة على الطاولة الصغيرة ... قاتل فارس الدهلا ينكفئ على وجهه فوق قشور المزّة وأعقاب السجائر المطفأة ومستنقعات الزيت والخل ...
أمعنت النظر إلى الصورة التي تملأ الصفحة الأخيرة من المجلة ، كانت صورة فتاة شقراء بمايوه أخضر ، نهداها نافران وشعرها غزير متهدل إلى الوراء كشلال ذهبي ، تقف على ساحل البحر متهيأة للوثوب إلى أحضان الماء .
* * *
1973
د. عبد الهادي الفرطوسي
1- الصورة
القاتل يضطجع أمامي ، على الطاولة الصغيرة بين زجاجة العرق وطبق المزة ، يتمطّى على ظهره بهدوء ، ويدلي باعترافاته أمام عدسات الكاميرا وأقلام الصحفيين ..... بدلته رمادية ذات خطوط سوداء ، ربطة عنقه مشدودة بعناية فائقة ، أرضيتها رمادية منقطة بالأحمر ، وعلى أرنبة أنفة استقرت نظارة سوداء كبيرة ، أخفت كل ملامحه ، كانت النظارة مستطيلة مثل فوهة لحد ، وسوداء.. سوداء ..قاتمة ....
-2- ......
اقتربت صاحبة الحان ، استندت إلى حافة الكرسي، التصقت بجانب كتفي .... أطلت على الصورة وسألت:
•- هذا ممثل ؟
غمرتني أنفاسها ، أختلط الريفدور برائحة العرق ، أجبت :
•- لا .
•- مطرب ؟
•- لا .
•- مصارع ؟
•- تحرك مرفقي باستحياء طفولي امتد إليها غاص في ثنايا لحمها..
•- لا
•- إذاً .. لماذا وضعوا صورته في المجلة ؟
•- أنه جني .
•- جني !!
ارتسمت علامات التعجب على وجهها ، نهاية مرفقي مثل شفتي قط تتشمم لحمها ... فتحت فمها ببلادة ، هي لم ترَ جنيا من قبل ، ومخيلتها لم تسعفها في رسم صورة واضحة لملامح الجني ، اختطفت المجلة من أمامي والتهمت نظراتها الصورة ... أجبت :
•- أنه الجني الأزرق الذي أختطف فارس الدهلا
•- من ؟ فارس الدهلا ؟ لم أسمع به من قبل .
في هذه الأثناء ناداها زبون يقبع في إحدى زوايا الحان ، أعادت المجلة إلى مكانها وانصرفت له ... عدت إلى التطلع في النظارة الزرقاء القاتمة ... تناولت رشفة من الكأس ، ثم ملعقة من طبقة المزّة ... سقطت من حافة الملعقة قطرة من الزيت المخلوط بالخل ، استقرت جوار النظارة الزرقاء ، تماما ...
3 إضاءة على وجه فارس ألد هلا
وقف ذات يوم على دكه في سوق المدينة ، وصاح بأعلى صوته ، أمام موكب الأمير الذي كان يتهادى في السوق آنذاك ، قال (( آري سبع أبل عجاف يطاردن سبع سمانا )) ثم حذر الناس من الجراد الذي يتربص بهم وراء النهر ، منتظرا موسم الحصاد ... كضم الأمير غيظه ولم يعلق بشيء ، وفي اليوم الثاني اختفى فارس الدهلا من المدينة ، اختلفت الآراء في سر اختفائه لكن المصادر الرسمية أكدت أن الله سلط جنيا ازرق فاختطفه ، ورماه في قصره المسحور ، لكبيرة اقترفها ، قال بعضهم إن فارس ألدهلا كان يقود الغرباء إلى مخدع أمه فأختطفه الجنّي .. منذ ذلك اليوم وفارس الدهلا غائب عن المدينة يشتم على كل المنابر ويلعن في كل الطرقات .
4 - الجراد
بعد أيام من اختفائه تحققت النبوءة ، جاءت أسراب الجراد من الضفة الأخرى من النهر ، كغيوم سوداء تسد منافذ الأفق ، أهل المدينة أبدوا مقاومة عنيفة في وجهها ، نزعوا أسمالهم وصنعوا منها فزاعات علقوها على أعواد القصب ونصبوها في كل الحقول ، قرعوا الصفائح الفارغة ... صفروا لها ، صرخوا في وجهها لكنها ظلت تتوغل في أعماق الحقول ... عندها رفعوا مذكرة إلى أمير المدينة يلتمسونه الإعانة في استعمال الأساليب الحديثة في مكافحة الجراد ... لكن الأمير اصدر مرسوما يعتبر بموجبه الجراد جزءا مهما من الثروة الحيوانية للبلاد وأن مكافحته بأي شكل من الأشكال تعد تآمرا على اقتصاديات الأمة وقد أعتبر المرسوم كافة الحقول المجاورة للنهر مداجن لتربية الجراد ..
5- الخاتم
الذين هربوا الخاتم قالوا انهم شهدوا فارس الدهلا يتقلب عاريا في مقلاة الجنّي الأزرق ، يقلّى كما تقلى السمكة وانه قال له وهو على تلك الحال ((إن أردتم قتل الجني الأزرق فعليكم بقتل روحه )) وحين سألوه عن روحه قال لهم أن اللعين قد وضع روحه في حوصلة غراب ووضع الغراب في علبة ثم أدخلها في سبع علب ووضع العلب في سبع صناديق ووضع الصناديق في طابق من رخام ورماه في أعماق البحر .... فأن شئتم قتله عليكم أن تصلوا إلى هذه الروح وتقتلوها .
ثم سلمهم خاتما فضيا فيه يا قوته تلهث كجمرة متوهجة قال لهم :
- اذا وصلتم خارج أسوار القصر المسحور شقّوا بهذا الخاتم ظهر البحر ستجدون البحر يهيج ويزبد حتى يلفظ طابق الرخام على الشاطئ عندها هشموا الطابق واخنقوا الغراب فيستحيل الجني رمادا منثورا .
ولكي يخفوا الخاتم عن أنظار الجني الأزرق طلوا الياقوتة بزيت أسود ، حتى إذا خرجوا من أسوار القصر ووصلوا ساحل البحر ، وجدوا الياقوتة المتوهجة استحالت فحمه سوداء كلما سلخوا عنها جلدا أسود تبدى لهم جلد أكثر سوادا ...
7- البحر
كانوا يأتون كل يوم إلى البحر ... يقفون أمامه ساهمين يتضرعون لعظمته وجبروته عله يهيج فيرمي لهم من أعماقه طابق الرخام ... وحين يهيج البحر وتتلاطم أمواجه ويعلو زبده ، يدوخون ، يصابون بدوار البحر ، ثم يغطون في غيبوبة طويلة ... وحين يصحون يجدون البحر عاد إلى هدوئه .. ورغم أنهم جاءوا ذات يوم فوجدوا جثة فارس الدهلا مرمية على الساحل عارية كما رأوها في مقلاة الجنّي الأزرق ، ومحزوزة من الرقبة ... لكنهم ظلوا يواصلون طقوسهم البحرية كل يوم .
8- الصورة الأخرى
صاحبة الحان تجلس بجانبي ، تتصفح المجلة باهتمام ، تنورتها تنحسر عن فخذين بضتين ممتلئتين ، صورة القاتل تملأ صفحات المجلة بأوضاع مختلفة ، واقفا مرة ، وأخرى يسند ظهره على أريكة مريحة ، وثالثة يتحدث بهدوء إلى الصحفيين ، ورابعة وراء القضبان ... ، النظارة لم تفارق أرنبة أنفه في جميع الحالات ، صاحبة الحان تسأل بسذاجة .
•- ولكن لماذا يخفي عينيه وراء النظارة ؟
ارتشفت ما تبقى في قعر الزجاجة مباشرة من فوهتها، لسعتني حرارتها ، انسابت عبر البلعوم كحية صحراوية ، أحسست بأحشائي تشتعل ، التقطت حبة حمص من طبق المزة ، ازدرتها بسرعة ولفظت قشرتها من بين شفتي استقرت القشرة على فخذها اليمنى ، بدت مثل دمّلة مفقوءة ، التقطت حبة أخرى ، رميت قشرتها على الفخذ الأخرى ، توالت قشور الحمص على الفخذين البضتين ، صاحبة الحان مشغولة بتصفح المجلة ، ناداها زبون آخر، رمت المجلة بعجالة على الطاولة الصغيرة ... قاتل فارس الدهلا ينكفئ على وجهه فوق قشور المزّة وأعقاب السجائر المطفأة ومستنقعات الزيت والخل ...
أمعنت النظر إلى الصورة التي تملأ الصفحة الأخيرة من المجلة ، كانت صورة فتاة شقراء بمايوه أخضر ، نهداها نافران وشعرها غزير متهدل إلى الوراء كشلال ذهبي ، تقف على ساحل البحر متهيأة للوثوب إلى أحضان الماء .
* * *
1973
د. عبد الهادي الفرطوسي