سقط جسده على كنبة خشبية عتيقة ، أمام دكان صغيرة مغلقة جر قدميه إليها ... رمى بجسده على ظهر الكنبة العارية ، كان خشبها متآكلا ومساميرها ناتئة وعلى جانبها وضعت مجموعة من الأقفاص الفارغة المصنوعة من الجريد ... شعر برأسه ثقيلا يوشك على الانفجار ، وضع مرفقه على مسند الكنبة وأراح رأسه على كفه ، أبصر الأشياء تدور حوله ببطيء ... كلها تدور ... أعمدة التلفونات ، مصابيح النيون ،جدران العمارات ، والأقفاص الجريدية ... كلها تدور في مدارات متباينة لكل واحدة مدارها المميز لكنه وحده القطب لكل هذه المدارات وتذكر فجأة :
•- المصريون القدماء حددوا سبع سماوات تتحرك فيها الكواكب حركة دائرية ، لكل كوكب سماء يدور بها : الأولى للقمر ، والثانية للزهرة ، والثالثة للشمس ... لكن الأرض كانت محورا لكل هذه السماوات ... الأرض التي يتربع على قمتها توت .. عنخ .. أمون . قالها أحد الصحاب الذين كانوا يشاركونه جلسة الشرب قبل سويعات .. لكن ما المناسبة وكيف كان مجرى الحديث ؟ لم يعد يتذكر شيئا . حاول أن يستدرج ذاكرته ، لكن الأشياء ما زالت تدور أمامه .. حتى إسفلت الشارع وبوابة الدكان المغلقة ، كلها تدور ... والكنبة التي تحته تدور بإصرار وتكاد تهوي به إلى الأرض .. أحس بألم حاد في ذراعه المنتصبة على مسند الكنبة .. رفع رأسه .. كانت جمجمته تتهدد بالانفجار في أية لحظة .. اعتصر رأسه بقوة عله يتذكر الجلسة الصاخبة ، حاول أن يستعرض شريط الذاكرة ، لكن الصور متشابكة والاضاءة باهتة .. كل ما يتذكر أن صحابه غادروا المكان الواحد تلو الآخر وتركوه وحيدا أمام الطاولة الكبيرة ثم جاء النادل يحمل طبقا معدنيا يجمع بها بقايا المزّة ، ويصفّ الكراسي بشكل مقلوب ، أرجلها إلى الأعلى ومساندها إلى الأسفل ، وقف أمامه وطرده بصلافه .. ماذا يتذكر عن الجلسة الملعونة - نقر رأسه بسبابته نقرات متتالية - القصيدة ... تذكر أنه ألقى أخر قصيدة نظمها .... وأنه استطاع أن يشد إليه كل الأسماع ... كانوا يصفقون له بحماس إلا ضفدعا تكوم فوق العشب على مقربة منهم كان يشاكسه بإصدار نقيق متواصل ... أعلن الجميع أستحسانهم لها وعلق كل واحد بعبارة مقتضبة .. ( ع ) وحده لم ترق له القصيدة قال إنها متشائمة ولا تنسجم مع طبيعة المرحلة وأسهب في الحديث ، كان يصوغ عباراته بمهارة فائقة ، تذكر أنه قال :
- الشاعر الجيد مطالب بأن يبرز الوجه الناصع للمرحلة .. مطالب بأن بتحدث عن المكاسب والإنجازات التي ............
قال بامتعاض :
•- بصراحة أكثر تريد من الشاعر أن يكون بحتريا يسجد أمام قصور الأمراء .
احتدم النقاش وتعالى الصخب ، عناوين الكتب ، والأسماء الشهيرة والألفاظ الجاهزة تتناثر من الأفواه ، تتساقط بين زجاجات العرق وصحون المزّة - والضفدع تقترب من الطاولة ويتعالى نقيقها - وهو يلاقي صعوبة في لجم جماح غضبه ، لولا علي الجالس إلى جانبه لانفلتت الشتائم البذيئة من بين أسنانه .. علي بصمته وبساطته وترقبه يجعله حذرا ينتقي عباراته بدقة ... حاول أن يجره إلى الحديث ...
•- وما رأي علي بكل هذا ؟
•- أنا عامل بسيط أحاول أن أستفيد من ثقافتكم .
تلقفه ( ع )
•- فعلا .. الطبقة العاملة يأتيها الوعي من خارجها .. من المثقفين الثورين ..
علي يقاطعه بصوت صارم :
•- ولكن هذا لا يعني أن يكون المثقفون أوصياء على الطبعة العاملة.
(ع) يرد بلباقة
•- العفو .. لم أقصد ......
يتناول جزءا من كأسه ويستطرد .. ينزلق الحديث من الأدب إلى السياسة ... الأمراض البرجوازية .. الطفولة اليسارية .. الاصطفاف الجديد للقوى الطبقية .. الضفدع يثب إلى مسافة أقرب ، لسانه يمتد خارج فمه ..غادرهم علي معتذرا أن عمله يبدأ في الرابعة صباحا و(ع) يواصل حديثه رافعا كأسه أمام وجهه بين الإبهام والسبابة بغياب علي شعر أن صمام الأمان يفلت من مكانه ودبيب الخمرة يتدفق إلى رأسه بغزارة ... وماذا حصل بعد ذلك ؟
الدنيا حوله تدور ، والكنبة تدفعه إلى الأرض ، الجوع والغثيان يعتصرانه، سائل لزج يتجمع تحت لسانه ، بصق باشمئزاز .. لا بد من وقف سيل الغثيان، وراءه الدكان المغلقة ، تكتظ بأصناف الفواكه حمراء ، صفراء ، خضراء ، مرصوفة بعناية بأقفاص من الجريد ، كل صنف عزل في ضلع من أضلاع الدكان سمر نظره إلى البوابة كانت تنتصب بشموخ خلف الكنبة المتآكلة ... انزلق بصره إلى الأسفل أبصر برتقالة صغيرة تناولها من الأرض مسح عنها التراب براحة يده ، اعتصرها بيده وجدها رخوة مطاوعة ومفقوءة شطرها نصفين وضع أحدهما على الكنبة وتناول الثاني بين أسنانه ، زمّ شفتيه عليها ، كانت جافه ، جافه كالخشب وخالية من أيما طعم ، أرخى جسمه وظل يمتص ألياف البرتقالة ... فجأة تذكر أنه نسي كتبه وأوراقه على طاوله الشرب وجد نفسه يركض متجها إلى الحان ، شعر بساقيه تعدوان بلا ارتعاش ولا تثاقل ، قفز من رصيف إلى آخر، التوى في سوق حنا الشيخ، تخطى سينما الرشيد ، أجتاز ملهى الفارابي ، سرعته تتزايد .. قفزاته تتسع وصل إلى الحان ، دفع الباب بقوة ، تلقفته الحديقة رطبة باردة خالية بلا أنوار ولا طاولات ... بلا زجاجات فارغة توقف في مكان الطاولة التي كانت تحت المصباح البنفسجي المكان فارغ تماما ... أين كتبه ؟ ... دفتر المذكرات ... القصيدة لا اثر لها ... لابد إن النادل احتفظ بها صفق بيديه وصاح :
•- أيها النادل
أتاه نقيق الضفدع من مكان ما في الحديقة ... سمع صخبا من داخل الصالة ... اجتاز الرواق ودلف إلى الصالة ... كانت مكتظة صاخبة ، امتلأ صدره بروائح العرق ودخان السجائر، والعطور الرخيصة ، رأى رجالا ونساءا بأوضاع مبتذلة ... تحت إحدى الطاولات اضطجعت امرأة ضئيلة عارية ، وفوقها ارتمى رجل ضخم كبير البطن ، المرأة تلفّ ساقيها حوله بتكاسل ، وفي مكان آخر رأى امرأة تخلع سروالها الداخلي وتلبسه رأس رجل يجلس قبالتها ، وعلى المسرح وفي صدر الصالة كانت الجوقة الراقصة تتكون من قزم وأربعة مخنثين ، للقزم شاربان غليظان وطاقية طويلة صفراء ، إحتزم في وسطه حزاما مفضضا يحمل خنجرا معقوفا ، المخنثون الأربعة يدورون حول القزم بباروكات ذهبية ، وأثواب برلون رقيقة ، أمعن النظر جيدا استطاع أن يميز من بينهم ( ع ) اجتاحه رعب مباغت صرخ من مكانه :
•- ( ع ) .. ماذا تفعل بنفسك ؟!
(ع) يواصل دورانه حول القزم ، يبتسم بخبث ، ويرد عليه بحركة من ردفية .. عاوده الغثيان استدار ليغادر الصالة ، جذبته من ربطة عنقه البنفسجية امرأة مجدورة ... قالت :
•- تعال ... أنت من نصيبي ، كم ستدفع ؟
•- آسف ... لم أحضر لهذا الغرض ... جئت أبحث عن كتبي وأوراقي.
•- تعال ... أوراقك مخبأة هنا.
وأشارت بيدها إلى أعلى فخذيها وأطلقت قهقهة مبحوحة .
•- لا .. لا أريد
•- جذبته بقوة إلى صدرها أحس بثدييها ، رخوين ذابلتين .. جذبته امرأة أخرى ...
- اتركيه أيتها القبيحة .. لا يريدك .. تعال معي ، كم ستدفع ؟
•- صاحت ذات الوجه المجدور :
- أحذر الاقتراب منها، إنها مصابة بالسفلس ، أنظر البقع الحمراء على جسدها جذبته امرأة ثالثة ، رابعة ، خامسة ، حاول أن يقاوم ، صرخ بأعلى صوته ، ضرب بيديه ، رفس برجليه ، أيدي النسوة تجره من كل جانب ، ربطة العنق البنفسجية تعتصر رقبته ، خلعت سترته ، تمزق قميصه.. ( ع ) من خشبة المسرح يبتسم بخبث ويهز ردفيه .. هو يفلت من أيدي النسوة ، ينطلق خارج الصالة ، صوت (ع ) يأتيه ناعما ممطوطا
- لماذا تهرب يا فلان .. أنت متشائم كثيرا يا فلان .
يركض بأقصى سرعته .. ( لماذا تهرب يا .. ) يواصل الركض .. ( تهرب ) يلقي نظرة على نفسه يجد جسده عاريا تماما آلا من ربطة العنق البنفسجية... يا للخزي ... صوت ( ع ) ناعما ممطوطا ، لماذا تهرب ؟ ... يتلمّس جسده يبحث في الأرصفة عن خرقة تستر عورته ، الشوارع نظيفة لامعة ، خالية من المهملات ، أضواء النيون الفاقعة تنسكب ساخنة على جسده العاري .... يواصل الركض يتخطى ملهى الفارابي ... الربطة البنفسجية تتدلى من عنقه مثل حبل مشنقة . يتلفت في الأرصفة يقف أمام برميل قمامة يمد يده في البرميل يبحث عن شيء يستر عورته ، البرميل فارغ ، يركض .. يقف أمام برميل آخر ، يجده فارغا ، يركض ... يبصر كلبا أسود يتشمم باب أحد المطاعم الكلب يحدق بعينين محمرتين ، يزأر ، ذيله ينتصب ... هو يسرع بالركض .. الكلب يركض في أثره ، ينبح بصوت عال ، هو يبحث في الأرصفة عن حجر يرجم به الكلب ، الكلب يواصل النباح ، هو يطوح بيده في الهواء موهما الكلب بأنه يرجمه ، يدخل سوق حنا الشيخ والكلب خلفه يواصل النباح .... تتجمع كلاب كثيرة تقتفي أثره ... يخرج من السوق يقفز فوق السياج الحديدي، يهوي إلى النهر ، لا يرى فيه قطرة ماء ، يركض في أرض مشققه .... يتلمّس جسده العاري والربطة البنفسجية ... يا للفضيحة ... صوت (ع ) ناعما ممطوطا : ( . لماذا تهرب يا... ) ، يعاود الركض ، يسمع نقيقا متواصلا يتلفت ، يحاول أن يحدد مصدر الصوت ، الضفادع تخرج من بين الشقوق ، يتعالى نقيقها ، تثب بين قدميه ، ترتطم به ، جلودها مرقطة دبقة ، يحاول الإسراع تزاحمها أمامه يعيقه من الركض ، ويعرضه للانزلاق ... ...يتسلق المسناة الكونكريتية يصعد إلى الشارع ... تتقاذفه أزقة ضيقة متشابكة مثل أذرع أخطبوط ... يتحسس جسده ، وجه علي يطالعه بنظرة تأنيب
•- ماذا تفعل بنفسك يا فلان
يركض ... صوت (ع ) : ( لماذا تهرب يا فلان )
يركض ... المدينة ميتة وأبواب البيوت شواهد منقوشة بخطوط كوفية .. يبصر حارسا يجلس على دكه واطئة ، يستر عورته بيده ويسرع بالركض ... الحارس يقف مبهوتا لحظة ، ثم يصفر بصفارة معدنية مشدودة إلى عنقه ، تجيبه صفارة حارس آخر ... صفارة ثالثة ... رابعة تتقاذفه الأزقة ... يصعد تلالا وعرة ، ينحدر بوديان عميقة .. يدخل خرائب مهدّمة ، كهوف ، مغارات مظلمة ، أصداء الأصوات تتداخل ، نباح الكلاب ، نقيق الضفادع ،صفير الحراس ....
يتوقف لحظة يسترد أنفاسه ...يفكر بتحديد الموقع الذي وصل إليه .. يتلفت حوله ... يجد نفسه أمام الحان ثانية !!! المرأة ذات الوجه المجدور على الشرفة تؤشر له بالدخول ... هو يركض بأقصى سرعة ... صوتها يأتيه مبحوحا
•- تعال ... كم ستدفع ...
يركض .. تلسعه أضواء النيون ... نباح الكلاب يتعالى ... ينزل إلى النهر ... الضفادع ... يدخل الأزقة الملتوية ... صفارات الحراس .. يركض .. الحراس يركضون خلفه ، تتلوى به الدروب الضيقة ، الحراس يقتربون ..... يصل نهاية زقاق مسدود ... يحاول العودة ... الحراس يحاصرونه ، يصوبون بنادقهم إلى جسده العاري ، يحدث دوي هائل ، يتحسس سائلا يبلل رأسه ، ويسيل على وجهه ورقبته ... يتفقد رأسه بأصابعه ، البنادق ما زالت مصوبة على جسده ... الدوي يتكرر ... ألم حاد يعصر بطنه ... معدته تقفز إلى فمه ، سائل ساخن يتدفق من فمه بغزارة ... تمتد يداه تبحثان عن شيء يتثبت به ، جسده يهتز بعنف ، ألم بطنه يشتد ..... يسمع صرير الكنبة الخشبية ، اصابعة تتقلص على خشبها المتآكل ... والقيء ما زال يتدفق ، نهض من الأريكة واقفا على الأرض ، سمع صوت سيارة تتوقف ، وشخصا ينزل منها ... ادخل سبابته في فمه حتى لامست بلعومه تقيأ من جديد ، واصل القيء حتى افرغ ما في جوفه ، شعر بان الألم يخف ... ربت الرجل النازل من السيارة الكبيرة على كتفه قائلا :-
•- انهض ماذا فعلت بنفسك ؟
التفت إليه وجده عليا ، غمرته موجه من الخجل والانكسار ... أجابه معتذرا
•- كما ترى لم استطع الوصول إلى البيت
•- اصعد لا وقت لدينا وأشار إلى الشاحنة الكبيرة
وقبل أن تتحرك الشاحنة ألقى نظرة على نفسه ، وجد بدلته مبلله برشاش المطر وربطة عنقه البنفسجية تتوهج تحت ضوء القمر ، ثم تلفّت حوله فألفى الكنبة الخشبية مفككة ومائلة على أحد جانبيها توشك على السقوط ، والنهر الممتد بجانبه كان مترعا بالماء حتى حافته .
1974
* * *
تمت
د. عبد الهادي الفرطوسي
•- المصريون القدماء حددوا سبع سماوات تتحرك فيها الكواكب حركة دائرية ، لكل كوكب سماء يدور بها : الأولى للقمر ، والثانية للزهرة ، والثالثة للشمس ... لكن الأرض كانت محورا لكل هذه السماوات ... الأرض التي يتربع على قمتها توت .. عنخ .. أمون . قالها أحد الصحاب الذين كانوا يشاركونه جلسة الشرب قبل سويعات .. لكن ما المناسبة وكيف كان مجرى الحديث ؟ لم يعد يتذكر شيئا . حاول أن يستدرج ذاكرته ، لكن الأشياء ما زالت تدور أمامه .. حتى إسفلت الشارع وبوابة الدكان المغلقة ، كلها تدور ... والكنبة التي تحته تدور بإصرار وتكاد تهوي به إلى الأرض .. أحس بألم حاد في ذراعه المنتصبة على مسند الكنبة .. رفع رأسه .. كانت جمجمته تتهدد بالانفجار في أية لحظة .. اعتصر رأسه بقوة عله يتذكر الجلسة الصاخبة ، حاول أن يستعرض شريط الذاكرة ، لكن الصور متشابكة والاضاءة باهتة .. كل ما يتذكر أن صحابه غادروا المكان الواحد تلو الآخر وتركوه وحيدا أمام الطاولة الكبيرة ثم جاء النادل يحمل طبقا معدنيا يجمع بها بقايا المزّة ، ويصفّ الكراسي بشكل مقلوب ، أرجلها إلى الأعلى ومساندها إلى الأسفل ، وقف أمامه وطرده بصلافه .. ماذا يتذكر عن الجلسة الملعونة - نقر رأسه بسبابته نقرات متتالية - القصيدة ... تذكر أنه ألقى أخر قصيدة نظمها .... وأنه استطاع أن يشد إليه كل الأسماع ... كانوا يصفقون له بحماس إلا ضفدعا تكوم فوق العشب على مقربة منهم كان يشاكسه بإصدار نقيق متواصل ... أعلن الجميع أستحسانهم لها وعلق كل واحد بعبارة مقتضبة .. ( ع ) وحده لم ترق له القصيدة قال إنها متشائمة ولا تنسجم مع طبيعة المرحلة وأسهب في الحديث ، كان يصوغ عباراته بمهارة فائقة ، تذكر أنه قال :
- الشاعر الجيد مطالب بأن يبرز الوجه الناصع للمرحلة .. مطالب بأن بتحدث عن المكاسب والإنجازات التي ............
قال بامتعاض :
•- بصراحة أكثر تريد من الشاعر أن يكون بحتريا يسجد أمام قصور الأمراء .
احتدم النقاش وتعالى الصخب ، عناوين الكتب ، والأسماء الشهيرة والألفاظ الجاهزة تتناثر من الأفواه ، تتساقط بين زجاجات العرق وصحون المزّة - والضفدع تقترب من الطاولة ويتعالى نقيقها - وهو يلاقي صعوبة في لجم جماح غضبه ، لولا علي الجالس إلى جانبه لانفلتت الشتائم البذيئة من بين أسنانه .. علي بصمته وبساطته وترقبه يجعله حذرا ينتقي عباراته بدقة ... حاول أن يجره إلى الحديث ...
•- وما رأي علي بكل هذا ؟
•- أنا عامل بسيط أحاول أن أستفيد من ثقافتكم .
تلقفه ( ع )
•- فعلا .. الطبقة العاملة يأتيها الوعي من خارجها .. من المثقفين الثورين ..
علي يقاطعه بصوت صارم :
•- ولكن هذا لا يعني أن يكون المثقفون أوصياء على الطبعة العاملة.
(ع) يرد بلباقة
•- العفو .. لم أقصد ......
يتناول جزءا من كأسه ويستطرد .. ينزلق الحديث من الأدب إلى السياسة ... الأمراض البرجوازية .. الطفولة اليسارية .. الاصطفاف الجديد للقوى الطبقية .. الضفدع يثب إلى مسافة أقرب ، لسانه يمتد خارج فمه ..غادرهم علي معتذرا أن عمله يبدأ في الرابعة صباحا و(ع) يواصل حديثه رافعا كأسه أمام وجهه بين الإبهام والسبابة بغياب علي شعر أن صمام الأمان يفلت من مكانه ودبيب الخمرة يتدفق إلى رأسه بغزارة ... وماذا حصل بعد ذلك ؟
الدنيا حوله تدور ، والكنبة تدفعه إلى الأرض ، الجوع والغثيان يعتصرانه، سائل لزج يتجمع تحت لسانه ، بصق باشمئزاز .. لا بد من وقف سيل الغثيان، وراءه الدكان المغلقة ، تكتظ بأصناف الفواكه حمراء ، صفراء ، خضراء ، مرصوفة بعناية بأقفاص من الجريد ، كل صنف عزل في ضلع من أضلاع الدكان سمر نظره إلى البوابة كانت تنتصب بشموخ خلف الكنبة المتآكلة ... انزلق بصره إلى الأسفل أبصر برتقالة صغيرة تناولها من الأرض مسح عنها التراب براحة يده ، اعتصرها بيده وجدها رخوة مطاوعة ومفقوءة شطرها نصفين وضع أحدهما على الكنبة وتناول الثاني بين أسنانه ، زمّ شفتيه عليها ، كانت جافه ، جافه كالخشب وخالية من أيما طعم ، أرخى جسمه وظل يمتص ألياف البرتقالة ... فجأة تذكر أنه نسي كتبه وأوراقه على طاوله الشرب وجد نفسه يركض متجها إلى الحان ، شعر بساقيه تعدوان بلا ارتعاش ولا تثاقل ، قفز من رصيف إلى آخر، التوى في سوق حنا الشيخ، تخطى سينما الرشيد ، أجتاز ملهى الفارابي ، سرعته تتزايد .. قفزاته تتسع وصل إلى الحان ، دفع الباب بقوة ، تلقفته الحديقة رطبة باردة خالية بلا أنوار ولا طاولات ... بلا زجاجات فارغة توقف في مكان الطاولة التي كانت تحت المصباح البنفسجي المكان فارغ تماما ... أين كتبه ؟ ... دفتر المذكرات ... القصيدة لا اثر لها ... لابد إن النادل احتفظ بها صفق بيديه وصاح :
•- أيها النادل
أتاه نقيق الضفدع من مكان ما في الحديقة ... سمع صخبا من داخل الصالة ... اجتاز الرواق ودلف إلى الصالة ... كانت مكتظة صاخبة ، امتلأ صدره بروائح العرق ودخان السجائر، والعطور الرخيصة ، رأى رجالا ونساءا بأوضاع مبتذلة ... تحت إحدى الطاولات اضطجعت امرأة ضئيلة عارية ، وفوقها ارتمى رجل ضخم كبير البطن ، المرأة تلفّ ساقيها حوله بتكاسل ، وفي مكان آخر رأى امرأة تخلع سروالها الداخلي وتلبسه رأس رجل يجلس قبالتها ، وعلى المسرح وفي صدر الصالة كانت الجوقة الراقصة تتكون من قزم وأربعة مخنثين ، للقزم شاربان غليظان وطاقية طويلة صفراء ، إحتزم في وسطه حزاما مفضضا يحمل خنجرا معقوفا ، المخنثون الأربعة يدورون حول القزم بباروكات ذهبية ، وأثواب برلون رقيقة ، أمعن النظر جيدا استطاع أن يميز من بينهم ( ع ) اجتاحه رعب مباغت صرخ من مكانه :
•- ( ع ) .. ماذا تفعل بنفسك ؟!
(ع) يواصل دورانه حول القزم ، يبتسم بخبث ، ويرد عليه بحركة من ردفية .. عاوده الغثيان استدار ليغادر الصالة ، جذبته من ربطة عنقه البنفسجية امرأة مجدورة ... قالت :
•- تعال ... أنت من نصيبي ، كم ستدفع ؟
•- آسف ... لم أحضر لهذا الغرض ... جئت أبحث عن كتبي وأوراقي.
•- تعال ... أوراقك مخبأة هنا.
وأشارت بيدها إلى أعلى فخذيها وأطلقت قهقهة مبحوحة .
•- لا .. لا أريد
•- جذبته بقوة إلى صدرها أحس بثدييها ، رخوين ذابلتين .. جذبته امرأة أخرى ...
- اتركيه أيتها القبيحة .. لا يريدك .. تعال معي ، كم ستدفع ؟
•- صاحت ذات الوجه المجدور :
- أحذر الاقتراب منها، إنها مصابة بالسفلس ، أنظر البقع الحمراء على جسدها جذبته امرأة ثالثة ، رابعة ، خامسة ، حاول أن يقاوم ، صرخ بأعلى صوته ، ضرب بيديه ، رفس برجليه ، أيدي النسوة تجره من كل جانب ، ربطة العنق البنفسجية تعتصر رقبته ، خلعت سترته ، تمزق قميصه.. ( ع ) من خشبة المسرح يبتسم بخبث ويهز ردفيه .. هو يفلت من أيدي النسوة ، ينطلق خارج الصالة ، صوت (ع ) يأتيه ناعما ممطوطا
- لماذا تهرب يا فلان .. أنت متشائم كثيرا يا فلان .
يركض بأقصى سرعته .. ( لماذا تهرب يا .. ) يواصل الركض .. ( تهرب ) يلقي نظرة على نفسه يجد جسده عاريا تماما آلا من ربطة العنق البنفسجية... يا للخزي ... صوت ( ع ) ناعما ممطوطا ، لماذا تهرب ؟ ... يتلمّس جسده يبحث في الأرصفة عن خرقة تستر عورته ، الشوارع نظيفة لامعة ، خالية من المهملات ، أضواء النيون الفاقعة تنسكب ساخنة على جسده العاري .... يواصل الركض يتخطى ملهى الفارابي ... الربطة البنفسجية تتدلى من عنقه مثل حبل مشنقة . يتلفت في الأرصفة يقف أمام برميل قمامة يمد يده في البرميل يبحث عن شيء يستر عورته ، البرميل فارغ ، يركض .. يقف أمام برميل آخر ، يجده فارغا ، يركض ... يبصر كلبا أسود يتشمم باب أحد المطاعم الكلب يحدق بعينين محمرتين ، يزأر ، ذيله ينتصب ... هو يسرع بالركض .. الكلب يركض في أثره ، ينبح بصوت عال ، هو يبحث في الأرصفة عن حجر يرجم به الكلب ، الكلب يواصل النباح ، هو يطوح بيده في الهواء موهما الكلب بأنه يرجمه ، يدخل سوق حنا الشيخ والكلب خلفه يواصل النباح .... تتجمع كلاب كثيرة تقتفي أثره ... يخرج من السوق يقفز فوق السياج الحديدي، يهوي إلى النهر ، لا يرى فيه قطرة ماء ، يركض في أرض مشققه .... يتلمّس جسده العاري والربطة البنفسجية ... يا للفضيحة ... صوت (ع ) ناعما ممطوطا : ( . لماذا تهرب يا... ) ، يعاود الركض ، يسمع نقيقا متواصلا يتلفت ، يحاول أن يحدد مصدر الصوت ، الضفادع تخرج من بين الشقوق ، يتعالى نقيقها ، تثب بين قدميه ، ترتطم به ، جلودها مرقطة دبقة ، يحاول الإسراع تزاحمها أمامه يعيقه من الركض ، ويعرضه للانزلاق ... ...يتسلق المسناة الكونكريتية يصعد إلى الشارع ... تتقاذفه أزقة ضيقة متشابكة مثل أذرع أخطبوط ... يتحسس جسده ، وجه علي يطالعه بنظرة تأنيب
•- ماذا تفعل بنفسك يا فلان
يركض ... صوت (ع ) : ( لماذا تهرب يا فلان )
يركض ... المدينة ميتة وأبواب البيوت شواهد منقوشة بخطوط كوفية .. يبصر حارسا يجلس على دكه واطئة ، يستر عورته بيده ويسرع بالركض ... الحارس يقف مبهوتا لحظة ، ثم يصفر بصفارة معدنية مشدودة إلى عنقه ، تجيبه صفارة حارس آخر ... صفارة ثالثة ... رابعة تتقاذفه الأزقة ... يصعد تلالا وعرة ، ينحدر بوديان عميقة .. يدخل خرائب مهدّمة ، كهوف ، مغارات مظلمة ، أصداء الأصوات تتداخل ، نباح الكلاب ، نقيق الضفادع ،صفير الحراس ....
يتوقف لحظة يسترد أنفاسه ...يفكر بتحديد الموقع الذي وصل إليه .. يتلفت حوله ... يجد نفسه أمام الحان ثانية !!! المرأة ذات الوجه المجدور على الشرفة تؤشر له بالدخول ... هو يركض بأقصى سرعة ... صوتها يأتيه مبحوحا
•- تعال ... كم ستدفع ...
يركض .. تلسعه أضواء النيون ... نباح الكلاب يتعالى ... ينزل إلى النهر ... الضفادع ... يدخل الأزقة الملتوية ... صفارات الحراس .. يركض .. الحراس يركضون خلفه ، تتلوى به الدروب الضيقة ، الحراس يقتربون ..... يصل نهاية زقاق مسدود ... يحاول العودة ... الحراس يحاصرونه ، يصوبون بنادقهم إلى جسده العاري ، يحدث دوي هائل ، يتحسس سائلا يبلل رأسه ، ويسيل على وجهه ورقبته ... يتفقد رأسه بأصابعه ، البنادق ما زالت مصوبة على جسده ... الدوي يتكرر ... ألم حاد يعصر بطنه ... معدته تقفز إلى فمه ، سائل ساخن يتدفق من فمه بغزارة ... تمتد يداه تبحثان عن شيء يتثبت به ، جسده يهتز بعنف ، ألم بطنه يشتد ..... يسمع صرير الكنبة الخشبية ، اصابعة تتقلص على خشبها المتآكل ... والقيء ما زال يتدفق ، نهض من الأريكة واقفا على الأرض ، سمع صوت سيارة تتوقف ، وشخصا ينزل منها ... ادخل سبابته في فمه حتى لامست بلعومه تقيأ من جديد ، واصل القيء حتى افرغ ما في جوفه ، شعر بان الألم يخف ... ربت الرجل النازل من السيارة الكبيرة على كتفه قائلا :-
•- انهض ماذا فعلت بنفسك ؟
التفت إليه وجده عليا ، غمرته موجه من الخجل والانكسار ... أجابه معتذرا
•- كما ترى لم استطع الوصول إلى البيت
•- اصعد لا وقت لدينا وأشار إلى الشاحنة الكبيرة
وقبل أن تتحرك الشاحنة ألقى نظرة على نفسه ، وجد بدلته مبلله برشاش المطر وربطة عنقه البنفسجية تتوهج تحت ضوء القمر ، ثم تلفّت حوله فألفى الكنبة الخشبية مفككة ومائلة على أحد جانبيها توشك على السقوط ، والنهر الممتد بجانبه كان مترعا بالماء حتى حافته .
1974
* * *
تمت
د. عبد الهادي الفرطوسي