راقت لنا فكرة إخراج شعرنا في ديوان مشترك، واتفقنا على أن نلتزم بهذا النهج، ولكننا لم ننفذه إلا مرة واحدة بعد ذلك سنة 1975 عندما أخرجنا الديوان المشترك الثاني (نافذة في جدار الصمت) الذي كتب مقدمته الدكتور محمود الربيعي، وكان أحمد وحامد قد سافرا مبعوثين إلى فرنسا، وأشرفت أنا على تنفيذه. فاجأنا حامد سنة 1984 بإخراج شعره في (ديوان حامد طاهر) وكان يتضمن ما نشر من قبل في (ثلاثة ألحان مصرية) و(نافذة في جدار الصمت) فكان هذا إعلانًا بالتخلي عن الاتفاق السابق، تحمسنا بعد ذلك في سنة 2001 في جلسة غداء جمعتنا لتكرار التجربة، ولكن الفكرة تبخرت بانتهاء الجلسة نفسها وكأنها طائف عابر من الحنين إلى الماضي.
كانت سنوات الدراسة بالكلية هي فترة التوهج الشعري، والأمل، والتطلع إلى المستقبل، والتفاؤل، والفوران العاطفي، وكان الجو العام كله مستجيبا لهذا التوهج على المستوى الوطني والقومي حتى فاجأتنا هزيمة يونيه المنكرة بما جرّته من إحباط وشعور بالخزي والعار.
وكان يوم 5 يونيه من أيام أداء امتحان الليسانس، فتعطلت الامتحانات، وكأن الحياة نفسها توحي بالتوقف، وكان حامد يقضي معي معظم الوقت، ورأينا أنفسنا معا نبدأ قصيدة تجمع بين السخرية والحسرة، كان حامد يبدأ بشطر وأكمل الشطر الثاني أو العكس.
تخرجنا في هذا العام بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، وعينا معيدين كل في قسم مختلف عن الآخر، واخترت قسم النحو والصرف والعروض، وظننت أن الشعر سوف يبتعد عني، ولكنه ظل مني قريبًا، يخايل أحيانا دون أن يتمكن مني، ويلح أحيانا فلا يفصم عني إلا بقصيدة. وكنت وما زلت أسعد بالقصيدة أكتبها، وأحس أني بكتابتها قد أسهمت في صياغة العالم من جديد، وأعتقد أن هذا الشعور الجميل هو المكافأة التي يتلقاها الشاعر على كتابة القصيدة، وقد كنا ثلاثتنا نحسّ أن الدنيا تجدد نفسها عندما يكتب أحدنا قصيدة، وإذا قال أحدنا قصيدة كان الآخران جمهوره وناقديه، ومن هنا قويت العلاقة وحدث ما يشبه الاستغناء عن الآخرين، وأصبح (الثلاثي) مقصورا على نفسه أو يكاد.
وظل الشعر بيننا زمنا طويلاً صلة قائمة مقام الوالد على حد تعبير أبي تمام:
أو يختلفْ نسبٌ يؤلف بينَنا * أدبٌ أقمناه مقام الوالد
نجتمع حوله، ونناقش أمره، ونتكاتب به أحيانا. عندما عاد حامد من بعثته في فرنسا سنة 1981 كنت في الكويت فكتبت له قصيدة موجهة إلى ابنته (دينا) مطلعها:
ردّي علينا إذا حييت يا دينا * إنا اتخذنا هواكم في الهوى دينا
وفيها:
سلي أباك فقد كانت أعنتنا * في كفه وهو أنّي شاء حادينا
كنا ثلاثة أتراب يراودنا * للنور شوقٌ ومنه كان هادينا
فكان من أنسه رَوْحٌ يراوحنا * وكان من رُوحه شعرٌ يغادينا
وكان إمّا افترقنا نبض مهجتنا * وكان إمّا التقينا قلب نادينا
وكم سعدنا به والدهر يجمعنا * وكم به كُبتتْ غيظا أعادينا
وكم تعبنا ولم يظفر بنا تعبٌ * ما غيرته عن الحسنى عوادينا
ويكتب أحمد درويش من فرنسا أنه اشترى سيارة (تاونس) فأهنئه بها قائلا:
أبا هشام وإني * محضتك الودّ محْضا
منّي إليك تهان * رأيتها لك فرضا
بتَوْنسٍ في سراها * تكاد تترك الارضا
وتمتطي الريح سبحًا * إن شئت طولاً وعرضا
ولا تشكَّى اهتزازًا * في السير عُلْوًا وخفضا
وأنت فيها مليكٌ * تشير فالأمر يُقْضى
من حولك الزُّهْر تلهو * والبعض يتبع بعضا
(رشا) تثير (هشامًا) * لعلّ (غادة) ترضى
فيُستثار (هشامُ) * ويقلب الأمر فوضى
فإن نظرت إليه * رنا حياء وأغضى
فدمتَ فيهم وداموا * في نعمة ليس تُنْضى
في ظل بيتٍ دفيء * يرقرق الحبّ غضا
أبا هشام وإن الحياة تسرع ركضا
مرني وأنت مطاع * بما تشاء وترضى
هذي حقوق وإنّ الحقوق عندىَ تقضى
أقدم الروح زلفى * والمال إن شئت قرضا
ومن اللطيف أن أحمد لم يعلق من القصيدة كلها إلا على الشطر الأخير منها (والمال – إن شئت – قرضا) معترضا على أن يكون المال (قرضا)!
وظل الشعر وسيلتنا طيلة فترة الشباب لنقد بعض الأوضاع التي لا تعجبنا، وقد كتبنا كثيرًا من القصائد الساخرة نشترك في كتابتها، وتتقافز بيننا الأبيات والأشطر، وقد احتفظ حامد بمعظم هذا الشعر، وكان حامد يتميز بقدرته الساحرة في تصوير من يصورهم في شكل كاريكاتوري ساخر، وبقدرته على اقتناص أهم الصفات المميزة للشخص المصور، ولذلك لم يكن غريبًا عليه أن ينفرد بعدد من قصائد هذا النوع، وأن يؤلف فيما بعد ديوانًا كاملاً بعنوان (ديوان النباحي) وهو ديوان شعر متخيل ينتقد فيه كثيرًا من الأوضاع والصفات والأشخاص. وهذا نموذج من هذا اللون من الشعر الساخر، فقد كتبنا معًا قصيدة عن (الرّصد) – وهو أحد أهم أعمال الامتحانات – عارضنا بها قصيدة طرفة بن العبد التي مطلعها:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر * ومن الحب جنون مستعر
نقول فيها إن لم تخني الذاكرة:
أرصدت اليوم أم شاقتك هر * ومن الرصد جنون مستعر
عَصْلجَ المفتاح في الباب فلم * يتحرك والتوى ثم انحشر
فأتى النجار في كوكبةٍ * من شواكيش وأشياء أُخَرْ
ومضى يبذل فيه جهده * ثم لما لم يلن معْه انكسر
فدخلنا كأسود جوعت * ثم ألفتْ فجأة سرب بقر
كل كف تهبش الكشف فإن * شدّ زيد نحوه صاح عمرْ
وطلبنا ألف ليمون فلم * يعصر الليمون والعمر انعصَرْ
وسعى كل مريد نمرة * سعى ثعبان إلى البيض حذر
فإذا أبصرها ناجحة * أطلق الساقين للريح وفر
وإذا ما ظهرت راسبة * قطب الوجه حزينا واكفهر
وإذا لم يتمكن منهما * لعن الإخوان سرا وانتظر
يا رفاق الرَّصد من عهد الأولى * رصدوا النجم وعاشوا في الحفر
لا تلوموا عاشقا في رصده * إنما الرصد قضاء وقدرْ
ولقد صور حامد هذه المرحلة في قصيدة من أجمل قصائد شعره بعث بها إلىّ من فرنسا وهي في ديوانه بعنوان (ثلاثة أصدقاء وقمر) يقول في مطلعها:
كنا ثلاثة أصدقاء
في الصبح يجمعنا لقاء
ومع المساءْ
قمر وأغنية شريده
وقد سعدت بالقصيدة جدا، ولكن لا أدري لماذا انقبضت نفسي من بدئها بـ (كنّا) الدالة على المضيّ، وتمنيت لو أنه قال: (إنّا). غير أن التعبير الشعري الصادق أدلّ على سوانح النفس من سواه.
وقد ظلت هذه العلاقة قوية ما كان هناك شعر يقال، وما كانت هناك رغبة في صديق يسمع، فهذه علاقة قامت من أول أمرها على الشعر وظلت عليه، ولم تطور نفسها في غيره، فلما باعدت بينا الإعارات، وجرى المال في أيدينا، واختلفت الأهواء وخفت صوت الشعر؛ تقطعت الأسباب، ولم يبق إلا ذماء واهن يربطها بذكريات عهد الشباب الخصيب.
كنت أتمنى أن يحب أولادي الشعر وأن يكتبوه، حاوله ولدايَ حاتم وأشرف. حاوله حاتم وهو طفل وكتب أشياء أقَمْتها له. وحاوله أشرف شابا، ولكنه لم يشركني في كثير مما كتب، ولكن محاولاته افتقدت أهم مقومات الشعر وهو الوزن. وحاولته ابنتاي مي ونورا، وكانت نورا أقرب إلى تحقيق شيء في هذا الطريق لولا أنها شغلت بدراسة الطب.
قالت لي مي يومًا – شأن كل بنت – أنت أعظم رجل، وأنت أكثر الرجال وجاهة، فقلت لها أبياتًا ما تزال تحتفظ بها في اعتزاز، وهي:
تقول ميّ وكادتْ * تطير عُجْبَا وتيها
أبي أراك عظيما * وفي الرجال وجيها
فقلت والحق عندي * خليقة أبديها
يا ميّ كل فتاةٍ * مفتونة بأبيها
دفعني حب الشعر من حيث لا أدري إلى إخضاع تخصصي العلمي لبعض مطالبه، فأنجزت رسالتي الجامعية الأولى عن الضرورة الشعرية، وكتبت فصلاً من رسالتي الجامعية الثانية عنه، وعقدت فصلاً عن بناء الجملة في الشعر القديم في أول كتبي بعد ذلك، وكتبت كتابًا عن الجملة في الشعر العربي، وكتابًا عن اللغة وبناء الشعر، وكتابًا عن الإبداع الموازي: التحليل النصي للشعر، وكتابًا عن الظواهر النحوية في الشعر الحر، وعددًا من الأبحاث المختلفة تتناول بعض الظواهر فيه. وكان الاشتغال بالشعر يشبع شيئًا من الشوق القديم الكامن إلى كتابته، ولكن كتابة الشعر شيء والكتابة عن الشعر شيء آخر.
وتراودني بين الحين والآخر تلك الرغبة الملحة في كتابة قصيدة، كثيرًا ما لا تكتمل، وقليلا ما تكتمل. ويظل التعلق بأهداب الشعر سرابًا يشدني وأصدّقه حتى إذا جئته لم أجده شيئًا.
أراني اليوم وقد أكملت الثالثة والستين من العمر أشعر بالخجل إذا عدّني أحد من الشعراء، وأشعر بالحزن والأسى إذا لم أعد منهم. وسواء عددت من الشعراء أو لم أعد منهم فإنني على صلة بالشعر، أقرؤه، وأحاوله، وأستمتع بقراءته، وأستمتع بمحاولته، وكلما تقدمت بي السن أجدني مشدودًا إلى الشعر القديم أتأمله وأتطعم بناءه، وأجد أننا لم نعطه حقه، ولم ندرك كل أسراره، كما أجدني إذا حاولت شيئًا منه مبتعدًا عن الشعر الحر، مائلاً إلى الكلام الموزون المقفى، وأجدني أعدل عن الأبحر الشائعة المطروقة إلى الأبحر غير الشائعة، وأجدني أحب القافية الواضحة الجلية غير الذلول وحبذا لو كان بها لزوم ما لا يلزم حتى تكون أكثر وضوحًا وجلاء، وأحس الآن أن العبقرية في الفن تكمن في الإبداع من خلال القواعد لا تحطيمها، ومن هنا انصرفت نفسي عما يسمى (قصيدة النثر) وأرى أن التسمية ساعدت على الانصراف عنها، فأصحابها يريدوننا على أن نتجرع شيئًا لا صلة له بما ألفنا أنه شعر على أنه شعر. ويذكرني هذا بموقف في فيلم (طاقية الإخفاء) إذ يُخرج الممثل القدير توفيق الدقن علبة كبريت ويسأل الممثل عبد المنعم إبراهيم عما في العلبة، ويرغمه على أن يقول إن الذي فيها فيل. هذا حال أصحاب قصيدة النثر معنا، يريدون أن يرغمونا على أن هذا شعر. إن جزءا من تذوق أي عمل فني معرفة قالبه، ومطابقة هذا القالب ولو جزئيًا لما هو مصطلح عليه في تاريخه. ولو نجح هؤلاء في تسمية فنهم تسمية مستقلة على أنه ضرب جديد من ضروب الفن القولي لربما كان ذلك أدعى لقبوله وتذوقه.
كنت – وأنا شاب صغير – أسمع القصيدة فيعتريني عند جزء منها ما يشبه القشعريرة تسري في جسمي كله، فأدرك من فوري منها أن هذه قصيدة جيدة، وكنت أسمع القصيدة فتحملني بعض صورها إلى وادٍ غريب، وتفجر بعض جملها دلالات جديدة في نفسي، فأدرك أن هذه قصيدة جيدة. وكنت أسمع القصيدة فلا يعتريني شيء من هذا ولا ذاك، فأتهم نفسي بأني لم أحسن استقبالها، وأعود إليها، فإذا بي أحسّ فحسب أنها قعقعة لغوية وطنين أوزان فتنصرف عنها نفسي وأنا أرثي لصاحبها، وكثيرًا ما أرثي لأولئك الذين يتمسحون بالشعر ولا يحققون منه شيئًا، ويتأكد لديَّ يومًا بعد يوم أن (الشعر صعب وطويل سلّمه).
كانت سنوات الدراسة بالكلية هي فترة التوهج الشعري، والأمل، والتطلع إلى المستقبل، والتفاؤل، والفوران العاطفي، وكان الجو العام كله مستجيبا لهذا التوهج على المستوى الوطني والقومي حتى فاجأتنا هزيمة يونيه المنكرة بما جرّته من إحباط وشعور بالخزي والعار.
وكان يوم 5 يونيه من أيام أداء امتحان الليسانس، فتعطلت الامتحانات، وكأن الحياة نفسها توحي بالتوقف، وكان حامد يقضي معي معظم الوقت، ورأينا أنفسنا معا نبدأ قصيدة تجمع بين السخرية والحسرة، كان حامد يبدأ بشطر وأكمل الشطر الثاني أو العكس.
تخرجنا في هذا العام بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، وعينا معيدين كل في قسم مختلف عن الآخر، واخترت قسم النحو والصرف والعروض، وظننت أن الشعر سوف يبتعد عني، ولكنه ظل مني قريبًا، يخايل أحيانا دون أن يتمكن مني، ويلح أحيانا فلا يفصم عني إلا بقصيدة. وكنت وما زلت أسعد بالقصيدة أكتبها، وأحس أني بكتابتها قد أسهمت في صياغة العالم من جديد، وأعتقد أن هذا الشعور الجميل هو المكافأة التي يتلقاها الشاعر على كتابة القصيدة، وقد كنا ثلاثتنا نحسّ أن الدنيا تجدد نفسها عندما يكتب أحدنا قصيدة، وإذا قال أحدنا قصيدة كان الآخران جمهوره وناقديه، ومن هنا قويت العلاقة وحدث ما يشبه الاستغناء عن الآخرين، وأصبح (الثلاثي) مقصورا على نفسه أو يكاد.
وظل الشعر بيننا زمنا طويلاً صلة قائمة مقام الوالد على حد تعبير أبي تمام:
أو يختلفْ نسبٌ يؤلف بينَنا * أدبٌ أقمناه مقام الوالد
نجتمع حوله، ونناقش أمره، ونتكاتب به أحيانا. عندما عاد حامد من بعثته في فرنسا سنة 1981 كنت في الكويت فكتبت له قصيدة موجهة إلى ابنته (دينا) مطلعها:
ردّي علينا إذا حييت يا دينا * إنا اتخذنا هواكم في الهوى دينا
وفيها:
سلي أباك فقد كانت أعنتنا * في كفه وهو أنّي شاء حادينا
كنا ثلاثة أتراب يراودنا * للنور شوقٌ ومنه كان هادينا
فكان من أنسه رَوْحٌ يراوحنا * وكان من رُوحه شعرٌ يغادينا
وكان إمّا افترقنا نبض مهجتنا * وكان إمّا التقينا قلب نادينا
وكم سعدنا به والدهر يجمعنا * وكم به كُبتتْ غيظا أعادينا
وكم تعبنا ولم يظفر بنا تعبٌ * ما غيرته عن الحسنى عوادينا
ويكتب أحمد درويش من فرنسا أنه اشترى سيارة (تاونس) فأهنئه بها قائلا:
أبا هشام وإني * محضتك الودّ محْضا
منّي إليك تهان * رأيتها لك فرضا
بتَوْنسٍ في سراها * تكاد تترك الارضا
وتمتطي الريح سبحًا * إن شئت طولاً وعرضا
ولا تشكَّى اهتزازًا * في السير عُلْوًا وخفضا
وأنت فيها مليكٌ * تشير فالأمر يُقْضى
من حولك الزُّهْر تلهو * والبعض يتبع بعضا
(رشا) تثير (هشامًا) * لعلّ (غادة) ترضى
فيُستثار (هشامُ) * ويقلب الأمر فوضى
فإن نظرت إليه * رنا حياء وأغضى
فدمتَ فيهم وداموا * في نعمة ليس تُنْضى
في ظل بيتٍ دفيء * يرقرق الحبّ غضا
أبا هشام وإن الحياة تسرع ركضا
مرني وأنت مطاع * بما تشاء وترضى
هذي حقوق وإنّ الحقوق عندىَ تقضى
أقدم الروح زلفى * والمال إن شئت قرضا
ومن اللطيف أن أحمد لم يعلق من القصيدة كلها إلا على الشطر الأخير منها (والمال – إن شئت – قرضا) معترضا على أن يكون المال (قرضا)!
وظل الشعر وسيلتنا طيلة فترة الشباب لنقد بعض الأوضاع التي لا تعجبنا، وقد كتبنا كثيرًا من القصائد الساخرة نشترك في كتابتها، وتتقافز بيننا الأبيات والأشطر، وقد احتفظ حامد بمعظم هذا الشعر، وكان حامد يتميز بقدرته الساحرة في تصوير من يصورهم في شكل كاريكاتوري ساخر، وبقدرته على اقتناص أهم الصفات المميزة للشخص المصور، ولذلك لم يكن غريبًا عليه أن ينفرد بعدد من قصائد هذا النوع، وأن يؤلف فيما بعد ديوانًا كاملاً بعنوان (ديوان النباحي) وهو ديوان شعر متخيل ينتقد فيه كثيرًا من الأوضاع والصفات والأشخاص. وهذا نموذج من هذا اللون من الشعر الساخر، فقد كتبنا معًا قصيدة عن (الرّصد) – وهو أحد أهم أعمال الامتحانات – عارضنا بها قصيدة طرفة بن العبد التي مطلعها:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر * ومن الحب جنون مستعر
نقول فيها إن لم تخني الذاكرة:
أرصدت اليوم أم شاقتك هر * ومن الرصد جنون مستعر
عَصْلجَ المفتاح في الباب فلم * يتحرك والتوى ثم انحشر
فأتى النجار في كوكبةٍ * من شواكيش وأشياء أُخَرْ
ومضى يبذل فيه جهده * ثم لما لم يلن معْه انكسر
فدخلنا كأسود جوعت * ثم ألفتْ فجأة سرب بقر
كل كف تهبش الكشف فإن * شدّ زيد نحوه صاح عمرْ
وطلبنا ألف ليمون فلم * يعصر الليمون والعمر انعصَرْ
وسعى كل مريد نمرة * سعى ثعبان إلى البيض حذر
فإذا أبصرها ناجحة * أطلق الساقين للريح وفر
وإذا ما ظهرت راسبة * قطب الوجه حزينا واكفهر
وإذا لم يتمكن منهما * لعن الإخوان سرا وانتظر
يا رفاق الرَّصد من عهد الأولى * رصدوا النجم وعاشوا في الحفر
لا تلوموا عاشقا في رصده * إنما الرصد قضاء وقدرْ
ولقد صور حامد هذه المرحلة في قصيدة من أجمل قصائد شعره بعث بها إلىّ من فرنسا وهي في ديوانه بعنوان (ثلاثة أصدقاء وقمر) يقول في مطلعها:
كنا ثلاثة أصدقاء
في الصبح يجمعنا لقاء
ومع المساءْ
قمر وأغنية شريده
وقد سعدت بالقصيدة جدا، ولكن لا أدري لماذا انقبضت نفسي من بدئها بـ (كنّا) الدالة على المضيّ، وتمنيت لو أنه قال: (إنّا). غير أن التعبير الشعري الصادق أدلّ على سوانح النفس من سواه.
وقد ظلت هذه العلاقة قوية ما كان هناك شعر يقال، وما كانت هناك رغبة في صديق يسمع، فهذه علاقة قامت من أول أمرها على الشعر وظلت عليه، ولم تطور نفسها في غيره، فلما باعدت بينا الإعارات، وجرى المال في أيدينا، واختلفت الأهواء وخفت صوت الشعر؛ تقطعت الأسباب، ولم يبق إلا ذماء واهن يربطها بذكريات عهد الشباب الخصيب.
كنت أتمنى أن يحب أولادي الشعر وأن يكتبوه، حاوله ولدايَ حاتم وأشرف. حاوله حاتم وهو طفل وكتب أشياء أقَمْتها له. وحاوله أشرف شابا، ولكنه لم يشركني في كثير مما كتب، ولكن محاولاته افتقدت أهم مقومات الشعر وهو الوزن. وحاولته ابنتاي مي ونورا، وكانت نورا أقرب إلى تحقيق شيء في هذا الطريق لولا أنها شغلت بدراسة الطب.
قالت لي مي يومًا – شأن كل بنت – أنت أعظم رجل، وأنت أكثر الرجال وجاهة، فقلت لها أبياتًا ما تزال تحتفظ بها في اعتزاز، وهي:
تقول ميّ وكادتْ * تطير عُجْبَا وتيها
أبي أراك عظيما * وفي الرجال وجيها
فقلت والحق عندي * خليقة أبديها
يا ميّ كل فتاةٍ * مفتونة بأبيها
دفعني حب الشعر من حيث لا أدري إلى إخضاع تخصصي العلمي لبعض مطالبه، فأنجزت رسالتي الجامعية الأولى عن الضرورة الشعرية، وكتبت فصلاً من رسالتي الجامعية الثانية عنه، وعقدت فصلاً عن بناء الجملة في الشعر القديم في أول كتبي بعد ذلك، وكتبت كتابًا عن الجملة في الشعر العربي، وكتابًا عن اللغة وبناء الشعر، وكتابًا عن الإبداع الموازي: التحليل النصي للشعر، وكتابًا عن الظواهر النحوية في الشعر الحر، وعددًا من الأبحاث المختلفة تتناول بعض الظواهر فيه. وكان الاشتغال بالشعر يشبع شيئًا من الشوق القديم الكامن إلى كتابته، ولكن كتابة الشعر شيء والكتابة عن الشعر شيء آخر.
وتراودني بين الحين والآخر تلك الرغبة الملحة في كتابة قصيدة، كثيرًا ما لا تكتمل، وقليلا ما تكتمل. ويظل التعلق بأهداب الشعر سرابًا يشدني وأصدّقه حتى إذا جئته لم أجده شيئًا.
أراني اليوم وقد أكملت الثالثة والستين من العمر أشعر بالخجل إذا عدّني أحد من الشعراء، وأشعر بالحزن والأسى إذا لم أعد منهم. وسواء عددت من الشعراء أو لم أعد منهم فإنني على صلة بالشعر، أقرؤه، وأحاوله، وأستمتع بقراءته، وأستمتع بمحاولته، وكلما تقدمت بي السن أجدني مشدودًا إلى الشعر القديم أتأمله وأتطعم بناءه، وأجد أننا لم نعطه حقه، ولم ندرك كل أسراره، كما أجدني إذا حاولت شيئًا منه مبتعدًا عن الشعر الحر، مائلاً إلى الكلام الموزون المقفى، وأجدني أعدل عن الأبحر الشائعة المطروقة إلى الأبحر غير الشائعة، وأجدني أحب القافية الواضحة الجلية غير الذلول وحبذا لو كان بها لزوم ما لا يلزم حتى تكون أكثر وضوحًا وجلاء، وأحس الآن أن العبقرية في الفن تكمن في الإبداع من خلال القواعد لا تحطيمها، ومن هنا انصرفت نفسي عما يسمى (قصيدة النثر) وأرى أن التسمية ساعدت على الانصراف عنها، فأصحابها يريدوننا على أن نتجرع شيئًا لا صلة له بما ألفنا أنه شعر على أنه شعر. ويذكرني هذا بموقف في فيلم (طاقية الإخفاء) إذ يُخرج الممثل القدير توفيق الدقن علبة كبريت ويسأل الممثل عبد المنعم إبراهيم عما في العلبة، ويرغمه على أن يقول إن الذي فيها فيل. هذا حال أصحاب قصيدة النثر معنا، يريدون أن يرغمونا على أن هذا شعر. إن جزءا من تذوق أي عمل فني معرفة قالبه، ومطابقة هذا القالب ولو جزئيًا لما هو مصطلح عليه في تاريخه. ولو نجح هؤلاء في تسمية فنهم تسمية مستقلة على أنه ضرب جديد من ضروب الفن القولي لربما كان ذلك أدعى لقبوله وتذوقه.
كنت – وأنا شاب صغير – أسمع القصيدة فيعتريني عند جزء منها ما يشبه القشعريرة تسري في جسمي كله، فأدرك من فوري منها أن هذه قصيدة جيدة، وكنت أسمع القصيدة فتحملني بعض صورها إلى وادٍ غريب، وتفجر بعض جملها دلالات جديدة في نفسي، فأدرك أن هذه قصيدة جيدة. وكنت أسمع القصيدة فلا يعتريني شيء من هذا ولا ذاك، فأتهم نفسي بأني لم أحسن استقبالها، وأعود إليها، فإذا بي أحسّ فحسب أنها قعقعة لغوية وطنين أوزان فتنصرف عنها نفسي وأنا أرثي لصاحبها، وكثيرًا ما أرثي لأولئك الذين يتمسحون بالشعر ولا يحققون منه شيئًا، ويتأكد لديَّ يومًا بعد يوم أن (الشعر صعب وطويل سلّمه).