مقـدمة:
تبوأ التناص مكانة كبيرة بين المصطلحات والمناهج النقدية الحديثة التي أخذت في الظهور على أيدي بعض أقطاب النقد سواء في الشرق أو في الغرب.
وأول من أشار إلى "التناص" الباحثة البلغارية (جوليا كريستيفا) في كثير من المحاولات المكتوبة بين عامي 1966 – 1967، والتي نشرت في مجلة "تيل – كل" Tel - Quel ، ومجلة كريتكCritique، ثم أعيد نشرها ضمن كتابيها سيميوتيك Semiotike ، ونص الرواية le Texteduroman وفي التقديم لكتاب (دويستوفسكى) لباختين،
وتعني التناصية عند هذه الباحثة:"التقاطع في نصٍّ ملفوظ مأخوذ من نصوص أخرى إنه نقل الملفوظات الداخلية أو المتزامنة"( ) وهذا التعريف يدل على أن التناص عند جوليا كريستيفا يمثل أحد مميزات النص؛ لأن التناص يحيل دائمًا إلى نصوص أخرى سابقة على النص المقروء أو متزامنة معه.
وقد نفت تلك الباحثة وجود نص خال من مدخلات نصوص أخرى , فالنص في نظرها ليس نظاما لغويا مقفلا أو مغلقا علي نفسه
"بل يجب أن يكون نقطة التقاء ليس فقط بين منتجه ومتلقيه بل أيضا بينه وبين النصوص المتعددة"( ).
وإذا كان النص في نظر كريستيفا ليس مغلقا , وإنما هو عملية استبدال من نصوص أخري فإن بارت يعرفه بأنه "كائن لغوى يشهد علي حضور التراث فيه."( ), وممن أعطوا هذا المصطلح أيضا اهتماما خاصا "جيرار جينيت" الذى كتب عنه عدة دراسات منها "جامع النص" أو "معمار النص" فالنص عنده "ليس هو موضوع الشعرية بل جامع النص , أى مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التى ينتمى إليها كل نص على حدة . ونذكر من بين هذه الأنواع: أصناف الخطابات , وصيغ التعبير , والأجناس الأدبية."( )
وقد حاول محمد مفتاح في كتابه تحليل الخطاب الشعرى "استراتيجية التناص" أن يعرض مفهوم التناص اعتمادا على طروحات الباحثين الغرب , ففي تعريفه للتناص عرض تعريفات هؤلاء النقاد وغيرهم ثم انتهى إلي وضعتعريف جامع للتناص هو "تعالق (الدخول في علاقة) نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة"( ).
فالتناص إذن "عملية تفاعل تبدو معقدة غالبا, كما أنها تحتاج إلي إنعام نظر, وطول تأمل , بينما النص فهو في طبيعته اللغوية تاريخى لايتحقق إلا بالنظر إلي نصوص أخرى عديدة"( )
وسيتم تناول التناص عند ابن مطروح( )من خلال المعنى الذي عناه جيرار جينيت وهو "حالة حضور نص أو أكثر في نص آخر استشهادًا، أو تلميحا، أو سرقة"( ).
وقد ورد التناص بكثرة في شعر ابن مطروح؛ حتى أنه شَكّل ملمحًا أسلوبيا له، حيث يلجأ الشاعر إلى التداخل مع الموروث القديم لخدمة غرض ما أو معنى من المعاني التي أراد أن يبثها من خلال أبياته وقصائده، ومن ثم يصبح بمقدور الناقد إبراز ما أنتجه النص الجديد من قيم جمالية.
وينقسم التناص عند ابن مطروح إلى:
أولاً: التناص الخارجي
وهو "التناص الذي تكون فيه العلاقة بين نص الكاتب مع نصوص غيره. ويطلق عليه التناص العام"( ).
وقد أطلق عليه أحمد ناهم "التناص المرجعي"( )، فقد تكون هذه المرجعيات دينية أو أدبية أو أسطورية أو شعبية أو تاريخية، وغير ذلك من المرجعيات التي تتكئ عليها النصوص الشعرية.
وقد انقسم التناص الخارجي عند ابن مطروح إلى تناص ديني، وتناص أدبي، ومن خلال دراسة هذين النوعين من التناص سيتم الكشف عن ثقافة المبدع وتأثره بالموروث العربي الديني، والأدبي.
1- التناص الديني:
أ- التناص مع القرآن الكريم:
ب- التناص مع الحديث الشريف:
أ- التناص مع القرآن الكريم:
القرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي. ويتمثل الجمال في أسلوب القرآن الكريم في أن "معظمه جاء متناسق المقاطع يصلح أن يضمن في شعر الشاعر دون مشقة أو عنت. فمن جمال الأسلوب القرآني أن وقع فيه ذلك القدر العظيم من آيات موزونة موسيقية تطمئن إليها الأسماع وتنفذ إلى القلوب"( ).
ويضيف الدكتور صلاح فضل أن " توظيف النصوص الدينية في الشعر يعد من أنجح الوسائل، وذلك لخاصية جوهرية في هذه النصوص تلتقي مع طبيعة الشعر نفسه، وهي أنها مما ينزع الذهن البشري لحفظه ومداومة تذكره، فلا تكاد ذاكرة الإنسان في كل العصور تحرص على الإمساك بنص إلا إذا كان دينيا أو شعريًا. ومن هنا يصبح توظيف التراث الديني في الشعر تعزيزًا قويا لشاعريته ودعمًا لاستمراره في حافظة الإنسان"( ).
وكانت أكثر نقاط التماس في شعر ابن مطروح معالقرآنالكريم؛ وذلك لأن الشاعر قد أتم دراسته في الأزهر كما تعلم القرآن والحديث، وجملة من المعارف الإسلامية والعربية، وهذا كان جوهر تعليم كل صبي عربي مسلم في تلك العصور.
ومن المواضع التي تناص فيها ابن مطروح مع القرآن الكريم قوله في وصف غلامه( ):
هذا نبي الحسن جاء فكلكم
صلوا عليه وسلموا تسليما
فالشاعر في الشطر الثاني من البيت يتناص مع قوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( ).
وقد ورد هذا التركيب (صلوا عليه وسلموا تسليما) بهذا الشكل مرة واحدة في القرآن الكريم( ).
هذه الآية شَرّف الله بها رسوله - عليه السلام - في حياته وبعد موته حيث ذكر منزلته منه، وطهرّ بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. وتتمثل الصلاة من الله في الرحمة والرضوان والمغفرة، ومن الملائكة في الدعاء والاستغفار، ومن الأمة في الدعاء والتعظيم لأمره( ).
فعندما نزلت هذه الآية ذهب قوم إلى النبي لمعرفة كيف تكون الصلاة على النبي ، لأنهم قد عرفوا السلام وأرادوا أن يسألوا النبي عن الصلاة، فأجابهم النبي بأن يقولوا "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد"، وأيضا كان السلام عليه في حياته ومماته، بأن يسلموا عليه عند حضورهم قبره.
وفي تناص ابن مطروح مع هذا الجزء من الآية تشريف لهذا الغلام الذي يتسم بالحسن والجمال فقد أطلق عليه نبي الحسن وأراد بهذا الاسم أن يقرنه بالأنبياء، لأن الحسن هو يوسف ، فاستدعى هذا الجزء من الآية حيث الصلاة والسلام على النبي، ولكن كيف يكون ذلك؟ وهذه الآية شَرُفَ بها النبي خاصة، وقد أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد دون أنبيائه تشريفا له، فكيف يُشَرِّف ابن مطروح غلامه بما شَرّف الله به نبيه؟ أي كيف يطلب ابن مطروح من الناظرين لهذا الغلام عند حضوره أن يصلوا عليه ويسلموا؟ وهل تكون الصلاة عليه كالصلاة التي عَلَّمها النبي للمؤمنين حينما سألوه عن كيفية الصلاة عليه بعد نزول الآية أمستختلف هذه الصلاة عنالصلاة على غلام ابن مطروح؟ بالطبع ستختلف إن كانت هناك صلاة على غلام ابن مطروح، وربما أراد بهذا التناص تشبيه غلامه بالنبي فقط لبلوغه أعلى المراتب وتشريفه، وطالما ذُكر النبي ذُكرت معه الصلاة والسلام عليه.
وبعد، فهذا التناص يجعل ابن مطروح غير موفق حيث قرن غلامه بالنبي في الصلاة والسلام عليه تشريفًا له، وشبهه بنبي الحسن يوسف في جماله وحسنه، وهذا إغراق وغلو يجعل غلامه يسمو إلى ما يسمو إليه الأنبياء.
يقول ابن مطروح في تائيته عن المشيب رقم (14) من الديوان( ):
أوقعتني يا ناظري
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَك التي
فالشاعر استدعى في الشطر الثاني قوله تعالى:وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ( ).
ويذكر الإمام الطبري في تفسيره أن (فعلت فعلتك التي فعلت) أي قتله النفس التي قتل من القبط، أي قَتَلْتَ الذي قتلت مِنَّا( ).
"والفَعْلَة بفتح الفاء المرة من الفعل، وقرأ الشعبي (فِعلتك) بكسر الفاء، والفتح أولى؛ لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعى مع علمنا بأحوالكبأن الله أرسلك"( ).
وقد تناص ابن مطروح مع هذا الجزء من الآية (وفعلت فعلتك التي فعلت) وحذف (فعلت) من البيت، لأنه قد عُلِم من السياق، حيثجاء الحديث عن المشيب وما فعله به حتى جعله يبكي ويتوجع على أيام الشبابالتيرحلت عنه وفقدها، فجاء بـ(وَفَعَلْتَ فعلتك) بفتح الفاء، أي المرة الواحدة؛ لأنه ما قصد الهيئة أو الحال حتى يأتي بكسر الفاء، ولكنه أراد أن يقص على القارئ ما فعله المشيب به فكما قتل موسى - عليه السلام – هذا الرجل بعد طول عيشه معهم وتربيتهم له، قتل المشيب روح ابن مطروح، وقضى على حياته بانتهاء أيام الشباب ورحيلها.
وهذا النوع من التناص يقع تحت ما يسمى بـ(التناص بالحذف)،والحذف هو"آلية تكثيفية يلجأ إليها الشاعر لغرض بلاغي شعري ويكون ثمة إشارة إلى هذا الحذف كالبياض والنقاط، وعلى القارئ ملء هذا البياض حتى يتم اكتمال المعنى المطلوب أو المعقول لدى القارئ "( ).
وحذف الشاعر للفعل هنا ليعظم ما يأتي بعد ذلك من عمل المشيب به. وقوله وقد كتب بها إلى مظفر الدين بن عبدالله المصري( ):
فأفيضوا علينا من الما
ء ومطلوب ما سواه تعدَّى
يتماس ابن مطروح مع القرآن الكريم في صدر مصراعه الأول مع قوله تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِين( ).
ويذكر الإمام القرطبي أن ابن آدم لا يستغنى عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب، ويعني بالإفاضة: التوسعة، وهي في هذه الآية دليل على أن سقى الماء من أفضل الأعمال( ).
فبعد أن سقط أهل النار في النار نادوا على أهل الجنة بأن يطعمونهم ويسقونهم، فأجابهم أهل الجنة بأن الله حَرّم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده، وكذّبوا في الدنيا رسله( ).
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل وُفق ابن مطروح في استدعائه لهذا الجزء من الآية للحديث عن مراده؟
الجواب: نعم وفق، والذي يوضح ذلك ما سبق هذا البيت من قوله:
نَحْنُ في مَنْزلٍ هُوَ النَّارُ حَرًّا
وَلَكُمْ مَنْزِلٌ كَجَنَّةِ خُلْدِ
ثم أتبعه بقوله:
فأفيضوا عَلَيْنَا من المَا
ءِ وَمطْلُوبٌ ما سِوَاه تَعَدَّى
فإذا كانت الآية تتحدث عمَّا دار بين أهل النار وأهل الجنة، وما طلبه أهل النار منهم بأن يعطوهم شيئًا مما أعطاهم الله وَرَفْضأهل الجنة ذلك،فإنابن مطروح يُشَبِّه مكانه هذا بالنار في حرارته، ومنزل الممدوح بالجنة المليئة بالنعيم والكرم الذي أعطاه الله له، فكما تحدث أهل النار إلى أهل الجنة بطلبهم، طلب هو من مظفر الدين أن يسقيه من الماء كما سقاه الله سبحانه وتعالى، ولأن سقى الماء من أفضل الأعمال فقد اكتفى ابن مطروح بطلب التوسعة في الحصول على الماء، وما قصده الشاعر هنا من الماء كرم الممدوح وفضله.
يقول في مدح فخر الدين بن الشيخ( ):
فهناك يُقْدِمُ ضاحكًا مستبشرًا
وهناك يُحْجِمُ كُلُّ لَيْثٍ عادي
تناص ابن مطروح في الشطر الأول من هذا البيت مع مفردات المعجم القرآني (ضاحكة – مستبشرة).
وقد وردت (ضاحكًا) اسم فاعل مذكر مرة واحدة في القرآن الكريم( ) من قوله تعالىفَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا( )
أما (ضاحكة) اسم فاعل مؤنث ألحقت به (التاء) فقد وردت مرة واحدة في سورة عبس تتبعها (مستبشرة) من قوله تعالى ضَاحِكَةٌمُسْتَبْشِرَةٌ( ).
ونجد أن المعنى الذي قصده الشاعر يقترب من السياق القرآني، "فالقرآن الكريم يصور حال البشر يوم القيامة، حيث صور وجوه المؤمنين عند لقاء ربها مليئة بالإشراق والضياء، وجوه مستنيرة قد علمت ما لها من الفوز والنعيم، مسرورة فرحة مستبشرة بما آتاها الله من الكرامة"( ).
وابن مطروح يشبه – فخرالدين بن شيخ الشيوخ – عند إقدامه على المعارك الحربية بوجه المؤمن المضيء المبتسم الفرح المستبشر بالنصر، فهو متيقن منه، مستعد لانتظاره لقوته وشجاعته، وضعف عدوه أمامه مع جبروت هذا العدو.
والضَّحِك " هو الابتسام وظهور الثنايا من الفرح، والضَّواحِكُ: الأسنان التي تظهر عند التبسم، أما الضَّحْكُ: فهو النور"( ).
وقد جمع ابن مطروح في المعنى بين الابتسامة والنور فوجه الرجل منير، مبتسم، مضيء بالإشراق.
وقد جاء اسم الفاعل هنا مذكرًا (ضاحكا – مستبشرًا)؛ لأنه قصد الممدوح ذاته، فهو يتحدث عن رجل واحد.
أما القرآن الكريم فإنه يتحدث عن وجوه المؤمنين عامة.
والسؤال الذي يرد هنا على الذهن:
لماذا آثر ابن مطروح استخدام لفظة (ضاحكا) في البيت وكان بإمكانه أن يستخدم لفظة أخرى بالمعنى نفسه مثل باسمًا، أو مضيئًا؟
الجواب: أن الرجل أراد أن يقترب من المعنى القرآني وإذا كان الضحك يعني الابتسام والنور والإشراق فإنه جاء بهذه اللفظة ليتبعها بلفظة (مستبشرًا) التي وردت في التعبير القرآني؛ حيث رأىفي إقدام الممدوح على المعارك الحربية ذلك اللقاء الحاسم أي لقاء وجوه المؤمنين بربهالتلقى جزاءها، ومن أجل ذلك فَضَّل استخدام تلك المفردات القرآنية وقد ساعده على ذلك ثقافته الدينية وحفظه لعلوم القرآن.
يقول في مدح الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى( ):
وَدَخَلْتُ مِنْ أَبْواَبِهِ في جَنَّةٍ
يا ليت قومي يعلمون بأنني
فقد تناص ابن مطروح في الشطر الثاني من هذا البيت مع قوله تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِييَعْلَمُونَ( ).
ورد هذا التعبير القرآني مرة واحدة في سورة يس، ولكن هذا التركيب القرآني (يَا لَيْتَ قَوْمِييَعْلَمُونَ) مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم الذي هو(بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين) وفي معنى تمنيه قولان: "أحدهما أنهتمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. والثاني: أنه تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله – قال ابن عباس: نصح قومه حيا وميتا. رفعه القشيري فقال: وفي الخبر أنه عليه السلام قال هذه الآية "إنه نصح لهم في حياته وبعد موته" وفي هذه الآية تنبيه عظيم على بعض الأشياء التي أمرنا الله بها والتي منها: وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه،والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه"( ) وفي كل ذلك نلاحظ أنه قد تمنى الخير لقتلته.
فالرجل المؤمن قد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة، فأراد أن يذكر قومه؛ لأنه كان طيب القلب، رضي النفس، يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضا والكرامة ليعرفوا الحق معرفة اليقين فهذا كان جزاء الإيمان في الحياة وبعد الممات.
فكان عطاء ربه له حيا وميتا كبيرًا، ولكنه لم يرد أن يكون هذا العطاء له وحده، فَذَكّرَ قومه بذلك.
وإن كان الرجل المؤمن قد اطلع على ما آتاه الله من النعيم والكرامة والمغفرة في الجنة، فإن ابن مطروح قد دخل جنة الأشرف "مظفرالدين أبي الفتح موسى" من أبوابها، ورأى ما أغدقه عليه هذا الرجل من الكرم والنعيم والحماية فأراد أن يُعلم بذلك من يتكلمون في حق هذا الرجل وَيُشَنِّعون عليه؛ ليعلم هؤلاء القوم ما في هذا الرجل من صلاح وهداية وكرم ونعيم.
ولكن ابن مطروح تصرف في هذا التعبير المقتبس من القرآن فالتعبير القرآني يقول (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي).أما ابن مطروح فيقول (ياليت قومي يعلمون بأنني) وتوقف عن إكمال الحديث، ولكن المعنى لم يتم عندئذ؛ لأن هناك كلاما محذوفا قد عرف من السياق وتأويله (ياليت قومي يعلمون بأنني كنت على حق من هذا الرجل وبأنني على صلاح وتقوى فكان السبب في إدخالي جنة هذا الرجل صلاحي وتقواي؛ لأنه رجل صالح تقي، لا يدخل جنته إلا من كان صالحًا، وتقيا، مؤمنا بالله )، وهذا يؤكد ما يبتغيه ابن مطروح من وراء هذا المدح، فهويريد منالممدوح أن يزيده من العطاء والإغداق حيث دخل جنته وما في الجنة سوى الخير والنعيم.
وهذا النوع من التناص يسمى التناص (بالحذف)
وقوله في طلب العفو من مجد الدين اللمطي والي قوص( ):
لك الله إن العَفْو أَقْرَبُ للتقوى
وَمِثْلُكَ أَوْلى مِثْلِيَ الصَّفْحَ والعَفْوَا
تناص ابن مطروح هنا في الشطر الأول من البيت مع قوله تعالى:وَأَنْتَعْفُواأَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( ).
فالقرآن الكريم يضع الأسس التي تحكم حالات الطلاق ففي هذه الآية يبين حال المطلقة التي لم يُدخل بها، فالعفو عن الفريضة التي فُرضت لهذه المطلقة قبل الدخول بها أفضل عند الله وأقرب للتقوى التي تقرب الإنسان من ربه، وهذا الأمر وضعه الله في أيدي الذي بيده عقدة النكاح.
وإن كان العفو أقرب للتقوى في حالة الطلاق هذه التي تحدث عنها القرآن الكريم، فإن ابن مطروح يتوسل إلى الأمير "مجد الدين إسماعيل بن اللَّمَطِيّ" والي قوص بأن يعفو عنه؛ حيث إن العفووالصفح من شروط التقوى التي يتحدث عنها القرآن الكريم فيطلب منه أن يصفح ويعفو عنه، لأن هذا الوالي أكبر من أن يعاقب هذا الرجل الذي يتهم نفسه بالجهالة تجاه الوالي وأراد أن يتوب عن هذا الذنب. وإن كان رب البشر يعفو ويصفح، فالأولى للبشر تنفيذ أمر الله من العفو والصفح لينالوا منزلة التقوى التي وعد الله بها المتقين.
ولكن ابن مطروح لم يتماس مع التعبير القرآني بنصه وإنما تصرف فيه، فالتعبير القرآني مكون من مبتدأ + خبر.
(وأن تعفو – أقرب للتقوى)، أما تعبير ابن مطروح فقد تكون من (إنّ واسمها وخبرها) (إن العفو أقرب للتقوى) وإن كان الرجل لم يبتعد عن التعبير القرآني كثيرًا؛ لأن التعبيرين كليهما جملة اسمية وجاء (العفو) في البيت الشعري مصدرًا؛ ليعظم الشاعر من هذا الأمر ويهوله على والى قوص الذي طُلب منه هذا الأمر، كما أَكّد هذا المصدر بـ(إنَّ) لتعظيم الأمر المطلوب وتضخيمه.
وقوله في غزليته من مدح صاحب حماة( ):
أَتَرْضَى بِأَنْ أُمْسِي أَسِيرَ أَسِيرةٍ
مُحَصَّنَةٍ أو من وراء جدار؟
تناص ابن مطروح مع مفردات المعجم القرآني (محصنة – من وراء جدار)
وقد وردت لفظة (جدار) مرتين في القرآن الكريم( ).
الأولى: قوله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا( )
وقوله تعالى:وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا( ).
أما (جُدُر) جمع جدار فقد وردت مرة واحدة في سورة الحشر قال :
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ( )
وقد تناص ابن مطروح مع هذا التعبير القرآني الذي ورد في سورة الحشر (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)، وكانت قراءة العامة (جُدُر) على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم؛ لأنها نظير قوله تعالى: (فِي قُرىً مُحَصَّنَة) وذلك جمع، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن مُحيْصِن وأبو عمرو (جدَار) على التوحيد( )، "وقراءة أبي رجاء وأبي دحية (جُدْر) بضم الجيم وتسكينالدال، قال أبو الفتح: هذه مخففة من جُدُر، جمع جِدَار. وأما من قرأ "من وراء جِدَار" فيحتمل أمرين:
الأول: أن يكون واحدًا وقع موقع الجماعة، كقوله تعالى:ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، أي: أطفالاً.
والثاني: وفيه الصنعة، وهو أن يكون (جدَار) تكسير جدار أيضًا، فتكون ألف جدار في الواحد، كألف كتاب وحساب، وفي الجماعة كألف ظِرَاف وكِرام، فكما أن ألف جِدَار في الواحد ليست ألف جدار في الجمع – فكذلك كسرة الجيم فيه غير كسرته فيه، وفتحة الدال فيه غير فتحته فيه"( ).
أي لا يقاتلكم يهود بني النضير مجتمعين إلا في قرى محصنة بالحصون أو من خلف حيطان ( ).
فإنهم يظنون أن هذه الحصون وتلك الحيطان تمنعهم من هؤلاء المسلمين.
وإن كانت هذه الآية تنطبق على اليهود وخوفهم واختبائهم وراء الحصون والحيطان، فإن ابن مطروح يخاطب من يلومه على هجر محبوباته بقوله:
وَيَا عاذلي في هَجْرِ هِنْدٍ وَزَيْنَبٍ
وَقَدْ لاَحَ عُذْرِي كالصَّباحِ لساري
أَتَرْضَى بِأَنْ أُمْسِي أَسِيرَ أَسِيرةٍ
مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَار؟
أترضى بأن أكون أسيرًا لمحبوبة أسيرة لا حول لها ولا قوة محصنة مختبئة خلف الحيطان وراء الحصون، فتمنعني تلك الحصون وهذه الحيطان من وصلها.
والسؤال الذي يرد هنا على الذهن:
لماذا استخدم ابن مطروح في هذا البيت لفظة (جدار) وكان بإمكانه أن يأتي بلفظة أخرى ولتكن (حجاب)؟
الجواب: إذا كان الجواب هو المحافظة على السياق القرآني المقتبس فإن لفظة (حجاب) أيضا وردت في القرآن الكريم مرتين( ).
الأولى: قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب( ).
والثانية: قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم( ).
ولكن ابن مطروح أراد أن يتبع لفظة (محصنة) بمثيلتها التي وردت إثرها في التعبير القرآني وهي (جدار).
"والجدار: الحائط، والجمع جُدُرٌ، وَجُدْرانٌ جمع الجمع( ).
أما الحجابُ: فهو السِّتْرُ. حَجَبَ الشئَ يَحْجُبُه حَجْبًا وَحِجَِابًا وَحَجَّبَه: ستره"( ).
وبعد، فلما كانت لفظة (الحجاب) بمعنى (محصنة) أي مستترة وراء الحصون، كان لابد لابن مطروح أن يأتي بلفظة مكملة لمعنى (محصنة) ولم يجد غير التمثيل لما جاء في القرآن الكريم وهي ( من وراء جدار) ليُتم المعنى الذي أراد أن يوصله لمن يلومه على هجر محبوباته.
وقوله من غزليته رقم (154) من الديوان( ):
يا أيها القمر الذي
نجم السلو به هوى
ما ضل صاحب مُهْجَةٍ
ذابت عليك وما غوى
حاكى ابن مطروح التعبير القرآني الذي ورد في سورة النجم من قوله تعالى:وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى( ).
فقد عرض القرطبي في تفسيره أقوالاً كثيرة عن المراد بالنجم "حيث قال ابن عباس ومجاهد: معنى (والنجم إذا هَوَى) والثُّرَيَّا إذا سقطت مع الفجر؛ والعرب تسمى الثُّريَّا نجما وإن كانت في العدد نجوما، وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدّي: إن النجم ههنا الزُّهْرة لأن قومًا من العرب كانوا يعبدونها" ( ).
ويرى الطبري أن الصواب ما قاله (مجاهد) من أنه عنى بالنجم في هذا الموضع: الثريا، وذلك أن العرب تدعوها النجم فهذا أصوب الآراء( ).
فقد أقسم الله بالنجم إذا سقط وقامت القيامة بأن محمدًا ما حاد عن الحق ولا زاغ عنه، بل كان على استقامة وسداد وما صار غويّا،فعندما أرسله إليهمجعله شاهدًا عليهم، فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاويًا، وصار الآن منقذًا من الضلالة ومرشدًا وهاديًا( ).
وإذا كان المراد بالنجم هنا الثريا فقد أقسم الله به؛ لأنه أظهر النجوم عند الرائي حيث يتميز بعلامة تجعله لا يلتبس بغيره في السماء ويظهر واضحًا جليًّا، والنبي تميز عن الكل بآيات بينات فعند ظهوره قل الشك والأمراض القلبية( ).
وإذا كان سقوط النجم هنا سقوطًا ماديًّا، فإن سقوطه في بيت ابن مطروح كان سقوطًا معنويًّا؛ فهو لم يزغ عن حب الحبيب، ولم يحد عنه، بل كان هاديًا على استقامة، راشدًا، سديدًا، لازالت مهجته تذوب في حب هذا المحبوب.
ونجد أن ابن مطروح قد حَلّ التركيب القرآني، وغير أماكن المفردات القرآنية.
فقد ورد التعبير القرآني (والنجم إذا هوى) في سياق القسم فهو مكون من (حرف القسم أداته، المقسم به، ثم إذا، ثم الفعل (هوى)).
أما تعبير ابن مطروح (نجم السلو به هوى) جاء في سياق الخبر مكون من (خبر + المكملات التي تتكون من مضاف إليه + الجار والمجرور+ الفعل) والآية (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)جاءت جوابا للقسم، أقسم (الله) بأن محمدًا ما حاد عن الحق وما صار غويا ولكنه على استقامة ورشد سديد.
أما ابن مطروح فيقول:
ما ضل صاحب مُهْجَةٍ
ذابت عليك وما غوى
فالتركيب مكون من ثلاث جمل فعلية: الفعل (ضل) + الفاعل (صاحب) + المضاف إليه (مهجة)، والفعل (ذابت) + الجار والمجرور) والفاعل مستتر تقديره (هي) أي المهجة، ثم الفعل (غوى) والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو).
وأيضًا في التعبير القرآني كان (صاحبكم) مضافًا إلى معرفة (الضمير).
أما في السياق الشعري كان صاحب مضافًا إلى نكرة وهي (مهجة).
وهذا دليل على أن خطاب (الله) تعالى كان لفئة معروفة معينة أعلمها (الله) لنا وهي قريش.
أما خطاب ابن مطروح لهذا المحبوب كان يشير من ورائه إلى كل صاحب مهجة تذوب في حب الحبيب.
ويقترب من المعنى نفسه: قوله( ):
فخذوا أحاديث الهوى عن صادقٍ
ما ضَلّ في شرع الغرام وما غوى
والمعنى المقتبس من القرآن هو (ما ضل صاحبكم وما غوى) فابن مطروح هنا يشبه نفسه بالنبي؛ لأن الذي يقول الأحاديث وتؤخذ عنه هو النبي وهو الصادق الأمين، فجعل نفسه نبيًّا للحب تروى عنه أحاديثه، ويأخذها عنه العشاق فيصف نفسه بالصادق الذي يجب أن تؤخذ عنه هذه الأحاديث؛ لأنه ما حاد عن شرع الغرام، بل لا زال عليه سديدًا راشدًا ليس غويا.
وقوله في جيميته رقم (18) من الديوان( ):
أهوى الغصون إذا مَرّ النسيمُ بها
ترنحت غير ما أَمْتٍ من الْعِوَج
إن الشاعر في الشطر الثاني يشير إلى قوله تعالى: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا( ) وقد وردت (عِوَج) بغير تنوين مرتين في القرآن الكريم( ).
الأولى: قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا( ).
الثانية: قوله عز شأنه:قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون)( )
أما (عِوَجًا) بالتنوين فقد وردت ست مرات في القرآن الكريم( ) قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( )
وقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُون( ).
وقوله تعالى أيضاً وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون( ).
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ( ).
وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا( ).
وقوله تعالى: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا( ).
أما (أَمْتٍ) فقد وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في الآية السابقة من سورة طه، وهي من قوله تعالى: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا.
والعِوَج في اللغة: " فالِعَوجُ في الأرض: أن لا تستوي"( ).
أما (الأمْتُ): "فهو المكان المرتفع، وقال الفراء: الأمْتُ النَّبَك من الأرض ما ارتفع"( ).
والعِوَجِ هو التعوج في الفجاج، والأمْت النَّبَك، وقال أبو عمرو: الأمْت النِّبَاك: وهي التلال الصغار واحدها نَبَك؛ أي هي أرض مستوية لا انخفاض فيها ولا ارتفاع( ).
لأنهم حينماسألوا محمدًا عن الجبال يوم القيامة أجابهم بأن (الله) يطيرها ويقلعها من أصولها ثم يصيرها رملاً يسيل سيلا، ثم يصيرهاكالصوفالمنقوش تطيرها الرياح فتكون في النهاية أرضا ملساء مستوية ليس بها انخفاض ولا ارتفاع( ). أي لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا
فإذا كان هذا شكل الجبال يوم القيامة أنها ستكون أرضا ملساء مستوية لا انخفاض فيها ولا ارتفاع، فإن "ابن مطروح" يهوى الغصون وخاصة عندما يمر بها النسيم فيحركها فتتحرك حينئذ وتميل جميعا في استواء واتجاه واحد في غير انخفاض أو ارتفاع.
فالشاعر قد غيَّر في التعبير الذي اقتبسه من القرآن الكريم؛ لأن (عوجًا وأمتا) جاءتا في محل نصب الآية القرآنية.
أما ابن مطروح قد أتى بها في محل جر.
وأيضًا قد قدّم الأمت على العوج، أما القرآن الكريم فجاء بالعوج أولاً ثم الأمت.
وقوله في مدح الملك الصالح نجم الدين أيوب( ):
أَغْنَى وَأَقْنَى فالذي عِنْدَنَا
مِن نِعَم الله ومِنْ عِنْدِهِ
فقد تناص ابن مطروح في الشطر الأول من البيت مع التعبير القرآني الذي ورد في سورة النجم من قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى( ).
ذكر الرازي في تفسيره أن "أغنى" دفع حاجته ولم يتركه محتاجًا، والغنى في مقابلة الفقر وزاد عليه بالإقناء، ولمّا كان مخرج القاف فوق مخرج الغين جعل الإقناء لحالة فوق الإغناء، وعلى هذا فالإغناء هو ما آتاه الله من العين واللسان، وهداه إلى الارتضاع في صباه أو هو ما أعطاه الله تعالى من القوت واللباس الذي يحتاج إليهما فكل ما دفع الله بهالحاجة هو إغناء، وكل ما زاد عليه فهو إقناء( ).
وأقنى"أعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك"( ).
وقد عرض ابن منظور لبعض الأقوال في (أقنى): "قال أبو إسحاق: أقنى قيل فيها قولان: أحدهما أقنى: أرضى، والآخر جعل قِنْية أي جعل الغنى أصلاً لصاحبه ثابتًا، ومنه قولك: قد أقتنيت كذا وكذا أي عملت على أن يكون عندي لا أُخرجه من يدي. قال الفراء: أغنى: أرضى الفقير بما أغناه به، وابن الأعرابي: أقنى: أعطاه ما يدّخره بعد الكفاية"( ).
ولمّا دفع الله حاجة نبيه وأغناه من عنده بل زاد على ذلك بالإقناء حيث جعله ثابتًا عنده، فإن الصالح نجم الدين أيوب قد وهبه الله من عنده من المال والجاه فلم يبخل به على غيره بل أعطى ابن مطروح من نعم الله التي وُهبت له فأغناه وزاد عليه.
وقد يحاكي ابن مطروح قصة وردت في القرآن الكريم ليستوحي ما بها من معان، ولإبراز وجه الشبه بين هذه القصة، وقصته التي يتحدث عنها.
يقول في تغزله لغلامه( ):
لما بدا للغانيات وقد بدا
من حسنه مالا يُحد وَيُوصَفُ
قطعن أيديهن حين رأينه
مما افتتن وَقُلْنَ هذا يُوسُفُ
فحاكى ابن مطروح بقصة هذه القصيدة قصة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز زليخا حين وجه لها نسوة المدينة اللوم في حبها ليوسف: ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَأَيْدِيَهُنَّوَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ( )
فعندما لُمن نسوة المدينة امرأة العزيز في حبها لهذا الغلام النبي الذي يتصف بالجمال البديع والحسن الرفيع أرسلت إلى النسوة اللاتي تحدثن بشأنها وشأن يوسف وأعدت لهن مجلسًا للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد وآتت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن بها ما أمامهن من أشياء تؤكل؛ لأنه قد اخُتلف في نوع هذه الأشياء التي قُدِّمَتْ لهن ثم قالت ليوسف أخرج عليهن فخرج عليهن يوسف، فلمّا رأينه أعظمنه وأجللنه وقلن: معاذا الله ما هذا إلا ملك من الملائكة( ).
فأراد ابن مطروح أن يحاكي بحديثه عن غلامه ووصفه إياه تلك القصة التي حدثت لنبي الله يوسف ، فما أشبه غلام ابن مطروح بسيدنا يوسف في حسنه وجماله، فهذا الغلام حينما أقبل وظهر علىهؤلاء النسوة عجزتأَلْسنتهن عن وصف جماله وحسنه، فقطعن أيديهن دون وعي أمام هذا الجمال الذي فُتِنَّ به.
فأخذ ابن مطروح هذا المجلس وهذه العُدة التي وُجدت فيه، ووضعه في قصته وهو يبرز جمال غلامه وحسنه، فمن فرط جماله وحسنه لم يجد شخصًا يُشَبِّه به غلامه أفضل ولا أبدع من (نبي الحسن) وهو سيدنا يوسف .
وإذا كان ابن مطروح قد حاكى هذه القصة، فإنه قد صَرَّح بذلك عندما صرح باسم سيدنا يوسف أثناء دخول الغلام على الفتيات فما أشبه غلامه بسيدنا يوسف في الجمال والحسن.
وأيضا عندما اقتبس جزءًا من الآية التي تحكي هذا الموقف وهي"وقطعن أيديهن".
وبعد، فقد كثر تناص ابن مطروح مع القرآن الكريم، وليس بمستغرب في ذلك، فقد ملك ثقافة دينية وعربية ساعدته على ذلك،وعلى أن يربط قصصه الشعرية وأغراضه بما ورد في القرآن الكريم.
ب- التناص مع الحديث الشريف:
وإذا كان ابن مطروح قد تناص بكثرة لافتة للنظر مع القرآن الكريم، فإن تناصه في إطار الحديث الشريف كان بقلة شديدة إذا ما قورن بالقرآن الكريم والتراث الشعري.
ونجد ابن مطروح يمدح الرسول بقوله( ):
فالمصطفى وإليه كل معجزةٍ
تروي وعنه الهدى والصدق قد وُرِثا
قد قال صلى عليه الله في الملأ
ما طاب مني وللشيطان ما خَبُثا
ومن المواضع التي حدث فيها تناص ابن مطروح مع الحديث الشريف قوله في غزليته رقم (154) من الديوان( ):
مولاي حُبُّك نيتي
وَلِكُلِّ عَبْدٍ ما نَوَى
فابن مطروح يتناص مع قول الرسول :
{حدثنا الحميدي عبدالله بن الزبير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيي بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي: أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعت رسول الله يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"}( ).
فهذا الحديث أورده البخاري في (باب بدء الوحي)، فهو أول الأحاديث التي أوردها - وإن لم يكن له تعلق بالوحي – من أجل أن يبين أن العمل يجب أن يكون مخصصا لله ، وأن يريد الإنسان بعمله وجه الله والدار الآخرة؛ ولذا فقد كان هذا الحديث العظيم لابد من ذكره في أبواب العلم كلها وقوله " إنما الأعمال بالنيات" أي أنه لا عمل إلا بنية، فكل إنسان عاقل يعمل عملاً فلابد أن ينويه ولا يمكن لعاقل أن يعمل عملاً بلا نية أبدًا، ولهذا قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملاًَ بلا نية لكان من تكليف مالا يُطاق، ثم إن ما نواه الإنسان فهو له، فإن نوى شيئًا نافعًا فهو له، وإن نوى شيئاً ضارًا فهو له، وضرب النبي لذلك مثلا بالهجرة، بأنه من كانت هِجَرتُهُ إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله؛ يعني فقد نال ما أراد، وهذا يدل على أن الله سَيُيَسِّرُ له الأمر حتى يصل إلى مراده فإن لم يصل فقد قالالله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( ).
وأما الآخر فقد هاجر أيضًا، لكن كانت هجرته لدنيا يصيبها؛ للتجارة أو امرأة يتزوجها، فهو قد هاجر من أجل شهوة البطن، وشهوة الفَرْج وقوله "فهجرته إلى ما هاجر إليه" ولم يقل إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها؛ تحقيرًا لشأنهما، وأنهما أحقر من أن يعادا بلفظهِمَا( ).
وقد قال بعض العلماء إن الجملتين: "إنما الأعمال بالنيات" ، و"إنما لكل امرئ ما نوى" معناهما واحد، وهو أن عملك بنيتك، فإن نويت شيئا حصل حسب ما تنوي( ).
فإذا كان كل عمل بنية صاحبه، فإننية ابن مطروحقد ملئت بحب المحبوب وعشقه وله حسب ما نوى، وينطبق على ابن مطروح المثال الثاني الذي ذكره الرسول أي الهجرة إلى الدنيا أو الزواج من امرأة فهذه كانت نية من هاجر. ويُشبهه في ذلك ابن مطروح فنيته حب الحبيب -الحب الدنيوي – الذي يبغى من ورائه تحقيق شهواته وله ما نوى.
وقول ابن مطروح في نونيته رقم (138) من الديوان( ):
قاربت معترك المنايا فاتئد
ودع التصابي عنك يا مسكين
يتناص ابن مطروح مع حديث الرسول : {معترك المنايا ما بين ستين وسبعين} أخرجه أبو يعلي من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد عن أبي هريرة. وهو حديث ضعيف( ).
وهذا الحديث جاء في إطار الحديث عن التعمير حيث جاء عن {عبدالسلام بن مُطهر حدثنا عمُر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المُقبرى عن أبي هريرة عن النبي : قال "أعذر الله إلى امرئ أخر أجَله حتى بَلَّغَهُ ستين سنة} وأما طريق محمد بن عجلان فأخرجه أحمد منرواية سعيد بنأبي أيوب عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبرى عن أبي هريرة بلفظ "من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر"( ).
وكانت الستون حدًا لهذا لأنها قريبة من المعترك وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية فهذا إعذار بعد إعذار لطفًا من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل، لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة ويزجروا عما نهوا عنه من المعصية. وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل( ).
لذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله في كل شيء ولا سيما عندما يقترب عمره من الستين؛ لأن الله يعذره على كل ما يفعله قبل هذه السن، وعند بلوغه الستين وهو (المعترك) فإن الله ينقله من حالة الجهل إلى حالة العلم، ولا يعذره بعد ذلك بل يحاسبه حسابًا شديدًا على كل ما يفعله.
فاقتدى إذن ابن مطروح بهذا الحديث في نصيحته لبلوغ هذا الإنسان المعترك، فيجب عليه أن يترك كل ما كان يفعله في صباه من لهو وعبث ويتقي الله في كل شيء، وَيُكوِّن له رصيدًا حيث اقترب أجله اقتداءً بقول الرسول {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك} أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبدالرحمن بن أبي هريرة( ).
فإذا جاءت الستون فقد اقترب الأجل فاترك اللهو والتصابي والتغزل، واقترب من ربك ليصح عملك.
وقول ابن مطروح عند موته لزوجه( ):
وقد سألُوه (عنه) قال: بل اعْمَلُوا
وفي خَبَرٍ قال: اعْقِلُوا وَتَوكَّلُوا
تناص ابن مطروح في الشطر الثاني من البيت مع قول الرسول:{أخبرنا الحسين بن عبدالله القطَّان، قال: حدثنا هشام ابن عمَّار، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، قال: حدثنا يعقوب بن عبدالله عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: قال رجل للنبي أُرْسِلُ ناقتِي وأتوكل؟ قال: "اعْقِلْها وَتَوكَّلْ"}( ).
وقد رُوى هذا الحديث برواية أخرى {حدثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، ثنا أسد بن موسى، ثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا يعقوب بن عمرو بن عبدالله بن أمية الضمري، عن جعفر ابن عمرو بن أمية، عن أبيه عمرو بن أمية الضمري أنه قال يا رسول الله أرسل راحلتي وأتوكل فقال الرسول "بل قيدها وتوكل"( ).
وقوله : "(أعقلها) بصيغة المتكلم وحرف الاستفهام محذوف: وعقل البعير شد وظيفه إلى ذراعه كعقله واعتقله و(أتوكل) أي: على اللهبعد العقل و(أطلقها)أي أرسلها و(أتوكل) أي على الله بعد الإرسال، لأن عقل الناقة لا ينافي التوكل على الله "( ).
فالرسول يجيب على الرجل حينما سأله عن عقل الناقة وعدم تركها فقال له اربط دابتك، ولا تدعها مطلقة فتذهب وتضيع.
و(اعقلها) هنا ليست من العقل بمعنى التفكير والإدراك، وإنما أراد الرسول أن يعلم الرجل بأن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله بل عدم الأخذ به يقع تحت ما يسمى بـ(التواكل).
فابن مطروح في تناصه مع هذا الحديث كان يريد المعنى الذي يدور حول الأخذ بالأسباب والتوكل على الله فقط، دونما ربط الناقة وعدم إطلاقهافالموقف الذي كان يدور حوله الحديث الشريف يختلف عن موقف ابن مطروح،حيث كان خائفًا قلقًا عندما اقترب منه الموت خائفا من لقاء ربه، يفكر فيما فعله، وهل كان مذنبًا؟ وهل غفر الله له أم لا؟ فقال ردًا على زوجته حينما أرادت أن تؤكد مغفرة الله له.
ويكفيِك قَوْلُ المُصْطَفَى وَهْوَ الذِيِ
بِهِ صَارَ في كُلِّ الأمورِ التوسُّلُ
وَقَدْ سَألُوُه (عنه) قَالَ: بَلْ اعْمَلُوِا
وَفَيِ خَبَرٍ قال: اعْقِلُوا وَتَوكَّلُوا
فافعل ما عليك مبتغيا وجه ربك، ودع الأمر كله لله، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب في كل شيء مع علمه بالمسبب الذي خلق هذه الأسباب.
وقول ابن مطروح في مدح فخر الدين بن الشيخ( ):
أنَا فِي زِمَامِ ابْنِ الأكَارِمِ نَازِلٌ
مِنْ ظِلِّهِ فِي سَجْسَجٍ وَبُرَادِ
فقد تناص ابن مطروح في الشطر الثاني من هذا البيت مع قول الرسول عندما تحدث عن وصف هواءالجنة.
{حدثنا أبو بكر عبدالله بن محمد، ثنا محمد بن شلبي، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، ثنا زكريا، عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن عوسجة، عن علقمة، عن عبدالله: قال الرسول " إنَّ الجنَّة سَجْسَجٌ، لا قرَّ فيها، ولا حرَّ، ولهم فيها ما اشتهت أنفسهم"}( ).
وذكره ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الجنة: حدثنا أبو أسامة، قال حدثنا زكريا عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن عوسجة عن علقمة عن عبدالله: قال"الجنَّة سَجْسَجٌ لا قرَّ فيها ولا حرَّ"( ).
والسجسج: هو"النسيم المعتدل لا حر فيه ولا برد"( ).
فعندما تحدث الرسول عن وصف هواء الجنة ونسيمها وصفهبالسجسج، فهواء الجنة طيب معتدل ليس بالحر ولا بالبرد.
وعندما مدح ابن مطروح فخر الدين بن الشيخ وآل الشيخ جميعهم وصفهم بالكرماء الذين يستظل بظلهم، فظل فخر الدين لابن مطروح طيب معتدل لا بالحر ولا بالبرد، فظله كهواء الجنة الذي وصفهالرسول بالطيب المعتدل، فمن فرطمحبة ابن مطروح لأولاد الشيخ بالغ في مدحهم حتى جعل ظل فخر الدين الذي يحمي ابن مطروح، ويعيش في كنفه كهواء الجنة الطيب المعتدل الذي ينعم فيه المؤمن الموحد، ويسعد بطيب رائحته.
2- التناص مع التراث الشعري:
يحتل التناص مع التراث الشعري في ديوان ابن مطروح المرتبة الثانية بعد التناص مع القرآن الكريم.
ولا يعني تناص الشاعر مع غيره من الشعراء وتأثره بألفاظهم ومعانيهم أن ذلك يمثل بالضرورة تقليدًا ولكن يعني "عمق التفاعل بين الشعراء، ويعكس الثقافة الرفيعة للشاعر الذي يستطيع أن يوظِّف ثقافته الأدبية في تعميق رؤاه الشعرية، وإثراء خياله الفني بالاستعانة بما سبقه والإضافة إليه في آن"( ).
ومن المواضع التي حدث فيها التناص مع الشعر القديم، قول ابن مطروح حين يرثي توران شاه( ):
خلّ ذا واندبْ معي ملكا
ولت الدنيا على أثره
كانت الدنيا تطيب لنا
بين باديه ومحتضره
فهذه الأبيات تناص فيها ابن مطروح مع قول علي بن جبلة (ت 213 هـ) في مدح أبي دُلَف العجلي( ):
إنما الدنيا أبودُلَفٍ
بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولي أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
حيث بلغ (علي بن جبلة) أن الناس يقصدون أبا دلف لجوده وما كان يعطي الشعراء فقصده، - وكان يسمى العكوك - فامتدحه بقصيدته التي أولها:
ذاد ورد الغي عن صدره
وارعوى واللهو من وطره
وجاء هذان البيتان بعد ذلك وهما اللذان أحفظا المأمون على (علي بن جبلة) "حتى سل لسانه من قفاه"( )؛ حيث كان أبو دلف جوادًا يعطي ويمنح فمدحه بأن الدنيا كلها كأنها أبو دلف في البادية والحضر، حتى إذا ذهب أبو دلف ورحل رحلت الدنيا على أثر هذا الرجل الكريم الجواد.
فالتناص الشعري في هذا الموضع يقع تحت ما يسمى بـ(الإيداع).
والإيداع كما عرفه ابن أبي الإصبع المصري هو أن يأتي الشاعر "إلى نصف بيت لغيره يودعه شعره سواء أكان صدرًا أم عجزًا"( ).
فابن مطروح في رثائه لتوران شاه لم يكتف بالاستعانة بالمعنى فقط بل استعان أيضًا بالألفاظ في بكائه على توران شاه هذا الرجلالجواد، كريم الأرومة والأصل، فالدنيا من البادية إلى الحضر تطيب لوجود هذا الرجل وتسعد بلقائه فإذا رحل وولى، ولت هي الأخرى ولم يعد لها بقاء من بعده وما فعله ابن مطروح أنه قلب شطري (علي ابن جبلة) فكان يتحدث مباشرة عن رحيل توران شاه، ورحيل الدنيا على أثره، أما (علي بن جبلة) فإنه يقرن وجود الدنيا بوجود أبي دلف ورحيلها برحيله.
وإن كان الإيداع هو إتيان الشاعر في شعره بنصف بيت لغيره سواء أكان صدرًا أم عجزًا، فإنه بهذا المفهوم " صورة من صورالتناص؛ لأنه عبارة عن آلية يُدْخل بها الشاعر في العمل الأدبي ما ليس منه من شعر غيره"( ).
وابن مطروح في تغزله بمحبوبه يعجز عن وصفه بأي شيء؛ حيث إن جماله يفوق كل شيء.
يقول: ( )
إِنْ قِسْتَهُ بِالْبَدْرِ مَا أَنْصَفْتَهُ
أَوْ بِالْغَزَالِ وَجَدْتَهُ مَظْلُومَا
ويقول أيضًا: ( )
شَبَّهْتُهُ بِالبَدْرِ قَالَ: ظَلَمْتَنِيِ
يَا عَاشِقَي وَالله ظُلْمًا بَيِّنَا
ولا شك أن الأبيات المسيطرة على هذه الروح الشعرية هي قول أبي الطيب المتنبي (ت 354 هـ) في الغزل من بائيته في مدح المغيث بن علي بن بشر العجلي( ):
هامَ الفُؤَادُ بأعرابيةٍ سَكَنَتْ
بيتًا مِنَ القَلْب لِم تَمْدُدْ لَهُ طُنُبا
مَظْلُومَةُ القَدّ في تَشْبِيهِه غُصُنا
مَظْلُوَمَةُ الرّيقِ في تَشْبِيهِه ضَرَبا
"حيث ملكت تلك الأعرابية قلب الرجل بلا كلفة أو مشقة فاتخذت منه بيتا فنزلته والقلب بيت بلا أطناب ولا أوتاد، ومن شبهها بالغصن ظلمها، ومن شبه ريقها بالعسل ظلمها أيضًا؛ لأنها ذات قوام أعدل وأحسن من الغصن، وذات رُضاب (ريق) أحلى من العسل الخالص"( ).
واستدعاء ابن مطروح لأبيات المتنبي عن محبوبه وعجزه عن وصف أي شيء فيه، ليؤكد مدى جمال محبوبه، وأنه لا يجد ما يصفه به لا البدر ولا الغصن ولا الغزال ففي هذا التشبيه ظلم بين للمحبوب، ومحبوب ابن مطروح هنا يختلف عن محبوب (المتنبي) حيث كانت محبوبة المتنبي (أعرابية)، أما محبوب ابن مطروح فكان غلامًا يتغزل فيه، ومن فرط جمال هذا الغلام عجز ابن مطروح عن وصفه بأي شيء لذلك نجده في معظم أبياته يعوض هذا العجز بوصف الغلام بنبي الحسن وهو سيدنا يوسف.
يقول: ( )
إِنْ قِسْتَهُ بِالْبَدْرِ مَا أَنْصَفْتَهُ
أَوْ بِالْغَزَالِ وَجَدْتَهُ مَظْلُومَا
هَذَا نَبِيُّ الحُسْنِ جاءَ فكُلُّكُمْ
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
وحين يقول ابن مطروح في مدح عماد الدين بن الشيخ( )
عفافٌ وإقدامٌ وحزم ونائلٌ
ألا في سبيل المجد ما أنت فاعله
فإنه يأخذ ما قاله أبو العلاء المعري (ت 449 هـ)، ولكنه يحل التركيب ويقلبه يقول أبو العلاء:
ألا في سَبِيلِ المْجَدِ ما أنا فَاعلُ
عَفَافٌ وَإِقْدَامٌ وَحَزْمٌ وَنَائِلُ
فأبو العلاء هنا يتحدث عن الأشياء التي تجتمع لمن يريد المجد أو لمن له المجد يقول التبريزي: أبو العلاء جمع العِفّة والشجاعة والحزم والجُود، وسلوك هذه الطريقة هو المجد.
أما البطليوسي يقول: كُلّ ما أسعى فيه وأتصرف، فإنما هو فيما يكسبني النباهة والشرف؛ فمن أين يتطرّق الذمّ إلىّ وَيُقْبِل من يختلق الكذب عليّ! ثم فسر الأمور التي كَسَبَتْه المجد والفضائل، فذكر أنهاالعفاف والإقدام والحزم والنائل. والمجد هو الشرف، والإقدام: الجُرأة، أما الحزم فهو صحة التدبير، والعزم فإنه النفاذ في الأمور. وكذلك تقول العرب: "قد أُحْزمُ لو أُعْزمُ" وقد كان الوجه هاهنا أن يذكر العَزْمَ مع الحزم ليكونَ أبلغ في غرضه الذي قصده، ولكن ذكره الإقدام أغناه عن ذكر العَزْم. والنائل: العطاء بمعنى النَوال( ).
ونجد ابن مطروح حين يمدح (عماد الدين بن شيخ الشيوخ) يذكر أنه ملك المجد والشرف بجمعه لكل ما ذكره أبو العلاء من الأشياء التي تساعد على وجود المجد والشرف وهي العفاف والإقدام والعزم والحزم والنوال والعطاء، فهذه هي المدعمات التي تجعل صاحبها يمتلك المجد والشرف معًا.
فالتناص هنا يقع تحت ما يسمى (بالاستعانة)، والاستعانة كما عرفها ابن أبي الإصبع المصري "أن يأتي الشاعر أو الناثر في أثناء شعره أو نثره ببيت لغيره"( ).
فحين كان يمدح ابن مطروح (عماد الدين بن شيخ الشيوخ) تحدث عن فضائله وكرمه وثناء الليل والنهار عليه حتى الدهر قد تحلى به، فمثل هذا الرجل قد امتلك المجد؛ ولكن ما علامة امتلاكه لهذا المجد؟
فوجد ابن مطروح أن علامة امتلاكه المجد هي جمعه لهذهالأشياء التي تحدث عنها أبو العلاء ألا وهي المدعمات التي عن طريقها يكتسب الإنسان المجد، فاستعان ببيت أبي العلاء الذي تحدث فيه عن ذلك، ولكنه لم يأت به كما هو عند أبي العلاء.
فقام بقلب البيت الأول حيث قدّم المدعمات التي من خلالها يمتلك الإنسان المجد، وكانت عند أبي العلاء في عجز البيت.
يقول ابن مطروح في مدح الملك الصالح نجم الدين أيوب( ):
دَارُ عَمَرْنَاهَا بِإنْعَامٍ مَنْ
لَمْ تَخْلُ دَارُ قَطُّ مِنْ رِفْدِهِ
المَلكُ الصَّاِلحُ رَبُّ العُلاَ
أَيوبُ زَادَ الله في مَجْدِهِ
أغْنَى وَأَقْنَى فَالذِي عِنْدَنَا
مِن نِعَم الله وَمِنْ عِنْدِهِ
فَقُلْ لِحُسَّادِي ألاَ هَكَذا
فَلْيَصْنَعْ الَماِلكُ مَعْ عَبْدِهِ
فإن ابن مطروح يتناص مع قول ابن أبي حصينة (ت 456 هـ) في مدحه لأسد الدولة عطية بن صالح بن مرداس( ):
دارٌ بنَينَاها وَعِشْنَا بها
في دَعةٍ من آل مرداسِ
قومُ مَحَوا بُؤْسي وَلَم يتركوا
عليَّ في الأيام من باسِ
قل لبني الدنيا ألا هكذا
فليفعل الناسُ مع الناسِ
فابن أبي حصينة يعبر عن رغده المكتسب من هؤلاء القوم حيث جعله "أسد الدولة عطية بن مرداس" أميرًا يجلس مع الأمراء، وقرَّبه منه فصار يحضر مجلسه في زمرة الأمراء، ثم وهبه الأمير نصر بن صالح مكانا بحلب تجاه حمام الواساني فجعله دارًا وزخرفها فلم تم بناؤها نقش عليها هذه الأبيات الثلاثة، التي أراد بها أن يمدح هؤلاء القوم فقد أبدلوا بؤسه بنعيم وفرح، ولما تكامل بناء هذه الدار عمل دعوة كبيرة وأحضر إليها "نصر بن صالح" وعندما رأى تكامل الدار وتعميرها سأل ابن أبي حصينة عما خسره على بنائها، فحوله ابن أبي حصينة إلى المعمار الذي تولى الأمر ليسأله، فأجابه ثم دفع لمن قام بذلك الأجر كاملاً وزاد عنه، وقال لابن أبي حصينة( ):
قل لبني الدنيا ألا هكذا
فليفعل الناسُ مع الناسِ
فهذا البيت الذي ختم به ابن أبي حصينة أبياته يدل على الاستجداء والإسفاف، فهذا حال الدنيا أن يعطى الغني الفقير، ويزيده رغدا منرغده الذيأنعم الله به عليه، مما جعل "نصر بن صالح" يدفع له كل ما أنفقه على هذه الدار.
وعندما أنعم "الملك الصالح نجم الدين أيوب" على ابن مطروح بدار جميلة على النيل، جعل ابن مطروح يستلهم معنى "ابن أبي حصينة" وينسجه على منواله، فاستدعائه لهذا المعنى اعترافا منه بفضل هذا الملك عليه وبنعمه التي أغدقها على ابن مطروح، حتى دعا له بأن يزيده الله في مجده ورغده وختم أبياته أيضا بما ختمه سابقا ابن أبي حصينة، ليدل على الطلب والاستجداء والإسفاف فهذا حال الدنيا فليصمت الحساد على هذه النعم؛ لأنها من نعم المالك التي يهبها لعبده.
والتناص هنا يقع تحت ما يسمى بـ(التلميح) والتلميح هو"الإشارة إلى قصة أو شعر من غير ذكره"( ).
فابن مطروح أشار هنا من خلال هذه الأبيات إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب من خلال تصريحه باسم الملك، كما أشار إلى أبيات ابن أبي حصينة في مدح آل مرداس من غير ذكر.
فالقصة التي تدور حولها الأبيات تكاد تقترب من قصة أبيات ابن أبي حصينة وتشاركها في المناسبة.
ثانيًا: التناص الداخلي:
وهو "الذي تكون فيه العلاقة بين نصوص الكاتب ذاته"( ) أو هو "ذلك النوع من المفردات، والتراكيب، والصور، والأصوات، والموسيقى، يحاكى بعضه بعضًا، عبر نوع من تكرار ملحوظ، سواء أكان هذا في عمل بذاته، أم في أعمال كاتب بعينه"( ).
ومما ورد عنده من تناص داخلي:
تكرار بعض الألفاظ في أكثر من موضع والمعنى واحد مثل قوله( ):
قُلْ لِلعَواذِلِ طَوّلُوا
إِنْ شِئْتُمُ أَوْ قَصِّرُوا
لا أنتهي، لا أَرْعَوى
لا أَنْثَنِي، لا أَصْبِرُ
وقوله( ):
قل للعواذل في هواهُ: ألا اْنتَهُوا
لا أَنْتَهِي، لا أرْعَوى، لا أَنْثَنِي
وأيضاً:
قال العواذِلُ: إنني في حُبِّهَا
لا أَرْعَوِى، لا أَنْتَهِي، لا أَنْثَنِي
وقوله( ):
لا أنتهي، لا أرعوى عن حُبِّه
لا أَنْثَنِي، فَلَيْهذِ فيه مَنْ هَذَى
فالتناص الداخلي عند ابن مطروح كان في تكرار ملحوظ للمعنى كما كان تكرارًا للفظ أيضًا، فالمعنى واحد يدور حول تمسكه بحبه وعدم ابتعاده وانصرافه عنه مهما لامه العواذل في حقه فهو لا يهتم بهم غير مبالٍ لذلك.
ومما ورد عنده أيضًا من هذا النوع: تكرار بعض التراكيب: كقوله( ):
يا شمسُ، قلبي في هَوَا
كِ عُطَارِدٌ وَقَدْ احْتَرقْ
فقد تكرر هذا التركيب في قصيدة أخرى، من قوله( ):
يا شمسُ، قلبي في هَوَاكِ عُطَارِدٌ
لَوْلاَ تَعَرُّضُهُ لها لم يُحْرَقِ
فقد تكرر التركيب حيث إن قلبه محترق في هوى المحبوب، فالقلب كعطارد أقرب الكواكب إلى الشمس، فلولا تعرض هذا الكوكب وقربه من الشمس لما احترق، وكذلك لولا تعرض قلب ابن مطروح لحب هذا الحبيب ولهيب عشقه لما احترق بهذا الحب.
تبوأ التناص مكانة كبيرة بين المصطلحات والمناهج النقدية الحديثة التي أخذت في الظهور على أيدي بعض أقطاب النقد سواء في الشرق أو في الغرب.
وأول من أشار إلى "التناص" الباحثة البلغارية (جوليا كريستيفا) في كثير من المحاولات المكتوبة بين عامي 1966 – 1967، والتي نشرت في مجلة "تيل – كل" Tel - Quel ، ومجلة كريتكCritique، ثم أعيد نشرها ضمن كتابيها سيميوتيك Semiotike ، ونص الرواية le Texteduroman وفي التقديم لكتاب (دويستوفسكى) لباختين،
وتعني التناصية عند هذه الباحثة:"التقاطع في نصٍّ ملفوظ مأخوذ من نصوص أخرى إنه نقل الملفوظات الداخلية أو المتزامنة"( ) وهذا التعريف يدل على أن التناص عند جوليا كريستيفا يمثل أحد مميزات النص؛ لأن التناص يحيل دائمًا إلى نصوص أخرى سابقة على النص المقروء أو متزامنة معه.
وقد نفت تلك الباحثة وجود نص خال من مدخلات نصوص أخرى , فالنص في نظرها ليس نظاما لغويا مقفلا أو مغلقا علي نفسه
"بل يجب أن يكون نقطة التقاء ليس فقط بين منتجه ومتلقيه بل أيضا بينه وبين النصوص المتعددة"( ).
وإذا كان النص في نظر كريستيفا ليس مغلقا , وإنما هو عملية استبدال من نصوص أخري فإن بارت يعرفه بأنه "كائن لغوى يشهد علي حضور التراث فيه."( ), وممن أعطوا هذا المصطلح أيضا اهتماما خاصا "جيرار جينيت" الذى كتب عنه عدة دراسات منها "جامع النص" أو "معمار النص" فالنص عنده "ليس هو موضوع الشعرية بل جامع النص , أى مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التى ينتمى إليها كل نص على حدة . ونذكر من بين هذه الأنواع: أصناف الخطابات , وصيغ التعبير , والأجناس الأدبية."( )
وقد حاول محمد مفتاح في كتابه تحليل الخطاب الشعرى "استراتيجية التناص" أن يعرض مفهوم التناص اعتمادا على طروحات الباحثين الغرب , ففي تعريفه للتناص عرض تعريفات هؤلاء النقاد وغيرهم ثم انتهى إلي وضعتعريف جامع للتناص هو "تعالق (الدخول في علاقة) نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة"( ).
فالتناص إذن "عملية تفاعل تبدو معقدة غالبا, كما أنها تحتاج إلي إنعام نظر, وطول تأمل , بينما النص فهو في طبيعته اللغوية تاريخى لايتحقق إلا بالنظر إلي نصوص أخرى عديدة"( )
وسيتم تناول التناص عند ابن مطروح( )من خلال المعنى الذي عناه جيرار جينيت وهو "حالة حضور نص أو أكثر في نص آخر استشهادًا، أو تلميحا، أو سرقة"( ).
وقد ورد التناص بكثرة في شعر ابن مطروح؛ حتى أنه شَكّل ملمحًا أسلوبيا له، حيث يلجأ الشاعر إلى التداخل مع الموروث القديم لخدمة غرض ما أو معنى من المعاني التي أراد أن يبثها من خلال أبياته وقصائده، ومن ثم يصبح بمقدور الناقد إبراز ما أنتجه النص الجديد من قيم جمالية.
وينقسم التناص عند ابن مطروح إلى:
أولاً: التناص الخارجي
وهو "التناص الذي تكون فيه العلاقة بين نص الكاتب مع نصوص غيره. ويطلق عليه التناص العام"( ).
وقد أطلق عليه أحمد ناهم "التناص المرجعي"( )، فقد تكون هذه المرجعيات دينية أو أدبية أو أسطورية أو شعبية أو تاريخية، وغير ذلك من المرجعيات التي تتكئ عليها النصوص الشعرية.
وقد انقسم التناص الخارجي عند ابن مطروح إلى تناص ديني، وتناص أدبي، ومن خلال دراسة هذين النوعين من التناص سيتم الكشف عن ثقافة المبدع وتأثره بالموروث العربي الديني، والأدبي.
1- التناص الديني:
أ- التناص مع القرآن الكريم:
ب- التناص مع الحديث الشريف:
أ- التناص مع القرآن الكريم:
القرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي. ويتمثل الجمال في أسلوب القرآن الكريم في أن "معظمه جاء متناسق المقاطع يصلح أن يضمن في شعر الشاعر دون مشقة أو عنت. فمن جمال الأسلوب القرآني أن وقع فيه ذلك القدر العظيم من آيات موزونة موسيقية تطمئن إليها الأسماع وتنفذ إلى القلوب"( ).
ويضيف الدكتور صلاح فضل أن " توظيف النصوص الدينية في الشعر يعد من أنجح الوسائل، وذلك لخاصية جوهرية في هذه النصوص تلتقي مع طبيعة الشعر نفسه، وهي أنها مما ينزع الذهن البشري لحفظه ومداومة تذكره، فلا تكاد ذاكرة الإنسان في كل العصور تحرص على الإمساك بنص إلا إذا كان دينيا أو شعريًا. ومن هنا يصبح توظيف التراث الديني في الشعر تعزيزًا قويا لشاعريته ودعمًا لاستمراره في حافظة الإنسان"( ).
وكانت أكثر نقاط التماس في شعر ابن مطروح معالقرآنالكريم؛ وذلك لأن الشاعر قد أتم دراسته في الأزهر كما تعلم القرآن والحديث، وجملة من المعارف الإسلامية والعربية، وهذا كان جوهر تعليم كل صبي عربي مسلم في تلك العصور.
ومن المواضع التي تناص فيها ابن مطروح مع القرآن الكريم قوله في وصف غلامه( ):
هذا نبي الحسن جاء فكلكم
صلوا عليه وسلموا تسليما
فالشاعر في الشطر الثاني من البيت يتناص مع قوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( ).
وقد ورد هذا التركيب (صلوا عليه وسلموا تسليما) بهذا الشكل مرة واحدة في القرآن الكريم( ).
هذه الآية شَرّف الله بها رسوله - عليه السلام - في حياته وبعد موته حيث ذكر منزلته منه، وطهرّ بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. وتتمثل الصلاة من الله في الرحمة والرضوان والمغفرة، ومن الملائكة في الدعاء والاستغفار، ومن الأمة في الدعاء والتعظيم لأمره( ).
فعندما نزلت هذه الآية ذهب قوم إلى النبي لمعرفة كيف تكون الصلاة على النبي ، لأنهم قد عرفوا السلام وأرادوا أن يسألوا النبي عن الصلاة، فأجابهم النبي بأن يقولوا "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد"، وأيضا كان السلام عليه في حياته ومماته، بأن يسلموا عليه عند حضورهم قبره.
وفي تناص ابن مطروح مع هذا الجزء من الآية تشريف لهذا الغلام الذي يتسم بالحسن والجمال فقد أطلق عليه نبي الحسن وأراد بهذا الاسم أن يقرنه بالأنبياء، لأن الحسن هو يوسف ، فاستدعى هذا الجزء من الآية حيث الصلاة والسلام على النبي، ولكن كيف يكون ذلك؟ وهذه الآية شَرُفَ بها النبي خاصة، وقد أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد دون أنبيائه تشريفا له، فكيف يُشَرِّف ابن مطروح غلامه بما شَرّف الله به نبيه؟ أي كيف يطلب ابن مطروح من الناظرين لهذا الغلام عند حضوره أن يصلوا عليه ويسلموا؟ وهل تكون الصلاة عليه كالصلاة التي عَلَّمها النبي للمؤمنين حينما سألوه عن كيفية الصلاة عليه بعد نزول الآية أمستختلف هذه الصلاة عنالصلاة على غلام ابن مطروح؟ بالطبع ستختلف إن كانت هناك صلاة على غلام ابن مطروح، وربما أراد بهذا التناص تشبيه غلامه بالنبي فقط لبلوغه أعلى المراتب وتشريفه، وطالما ذُكر النبي ذُكرت معه الصلاة والسلام عليه.
وبعد، فهذا التناص يجعل ابن مطروح غير موفق حيث قرن غلامه بالنبي في الصلاة والسلام عليه تشريفًا له، وشبهه بنبي الحسن يوسف في جماله وحسنه، وهذا إغراق وغلو يجعل غلامه يسمو إلى ما يسمو إليه الأنبياء.
يقول ابن مطروح في تائيته عن المشيب رقم (14) من الديوان( ):
أوقعتني يا ناظري
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَك التي
فالشاعر استدعى في الشطر الثاني قوله تعالى:وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ( ).
ويذكر الإمام الطبري في تفسيره أن (فعلت فعلتك التي فعلت) أي قتله النفس التي قتل من القبط، أي قَتَلْتَ الذي قتلت مِنَّا( ).
"والفَعْلَة بفتح الفاء المرة من الفعل، وقرأ الشعبي (فِعلتك) بكسر الفاء، والفتح أولى؛ لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعى مع علمنا بأحوالكبأن الله أرسلك"( ).
وقد تناص ابن مطروح مع هذا الجزء من الآية (وفعلت فعلتك التي فعلت) وحذف (فعلت) من البيت، لأنه قد عُلِم من السياق، حيثجاء الحديث عن المشيب وما فعله به حتى جعله يبكي ويتوجع على أيام الشبابالتيرحلت عنه وفقدها، فجاء بـ(وَفَعَلْتَ فعلتك) بفتح الفاء، أي المرة الواحدة؛ لأنه ما قصد الهيئة أو الحال حتى يأتي بكسر الفاء، ولكنه أراد أن يقص على القارئ ما فعله المشيب به فكما قتل موسى - عليه السلام – هذا الرجل بعد طول عيشه معهم وتربيتهم له، قتل المشيب روح ابن مطروح، وقضى على حياته بانتهاء أيام الشباب ورحيلها.
وهذا النوع من التناص يقع تحت ما يسمى بـ(التناص بالحذف)،والحذف هو"آلية تكثيفية يلجأ إليها الشاعر لغرض بلاغي شعري ويكون ثمة إشارة إلى هذا الحذف كالبياض والنقاط، وعلى القارئ ملء هذا البياض حتى يتم اكتمال المعنى المطلوب أو المعقول لدى القارئ "( ).
وحذف الشاعر للفعل هنا ليعظم ما يأتي بعد ذلك من عمل المشيب به. وقوله وقد كتب بها إلى مظفر الدين بن عبدالله المصري( ):
فأفيضوا علينا من الما
ء ومطلوب ما سواه تعدَّى
يتماس ابن مطروح مع القرآن الكريم في صدر مصراعه الأول مع قوله تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِين( ).
ويذكر الإمام القرطبي أن ابن آدم لا يستغنى عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب، ويعني بالإفاضة: التوسعة، وهي في هذه الآية دليل على أن سقى الماء من أفضل الأعمال( ).
فبعد أن سقط أهل النار في النار نادوا على أهل الجنة بأن يطعمونهم ويسقونهم، فأجابهم أهل الجنة بأن الله حَرّم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده، وكذّبوا في الدنيا رسله( ).
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل وُفق ابن مطروح في استدعائه لهذا الجزء من الآية للحديث عن مراده؟
الجواب: نعم وفق، والذي يوضح ذلك ما سبق هذا البيت من قوله:
نَحْنُ في مَنْزلٍ هُوَ النَّارُ حَرًّا
وَلَكُمْ مَنْزِلٌ كَجَنَّةِ خُلْدِ
ثم أتبعه بقوله:
فأفيضوا عَلَيْنَا من المَا
ءِ وَمطْلُوبٌ ما سِوَاه تَعَدَّى
فإذا كانت الآية تتحدث عمَّا دار بين أهل النار وأهل الجنة، وما طلبه أهل النار منهم بأن يعطوهم شيئًا مما أعطاهم الله وَرَفْضأهل الجنة ذلك،فإنابن مطروح يُشَبِّه مكانه هذا بالنار في حرارته، ومنزل الممدوح بالجنة المليئة بالنعيم والكرم الذي أعطاه الله له، فكما تحدث أهل النار إلى أهل الجنة بطلبهم، طلب هو من مظفر الدين أن يسقيه من الماء كما سقاه الله سبحانه وتعالى، ولأن سقى الماء من أفضل الأعمال فقد اكتفى ابن مطروح بطلب التوسعة في الحصول على الماء، وما قصده الشاعر هنا من الماء كرم الممدوح وفضله.
يقول في مدح فخر الدين بن الشيخ( ):
فهناك يُقْدِمُ ضاحكًا مستبشرًا
وهناك يُحْجِمُ كُلُّ لَيْثٍ عادي
تناص ابن مطروح في الشطر الأول من هذا البيت مع مفردات المعجم القرآني (ضاحكة – مستبشرة).
وقد وردت (ضاحكًا) اسم فاعل مذكر مرة واحدة في القرآن الكريم( ) من قوله تعالىفَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا( )
أما (ضاحكة) اسم فاعل مؤنث ألحقت به (التاء) فقد وردت مرة واحدة في سورة عبس تتبعها (مستبشرة) من قوله تعالى ضَاحِكَةٌمُسْتَبْشِرَةٌ( ).
ونجد أن المعنى الذي قصده الشاعر يقترب من السياق القرآني، "فالقرآن الكريم يصور حال البشر يوم القيامة، حيث صور وجوه المؤمنين عند لقاء ربها مليئة بالإشراق والضياء، وجوه مستنيرة قد علمت ما لها من الفوز والنعيم، مسرورة فرحة مستبشرة بما آتاها الله من الكرامة"( ).
وابن مطروح يشبه – فخرالدين بن شيخ الشيوخ – عند إقدامه على المعارك الحربية بوجه المؤمن المضيء المبتسم الفرح المستبشر بالنصر، فهو متيقن منه، مستعد لانتظاره لقوته وشجاعته، وضعف عدوه أمامه مع جبروت هذا العدو.
والضَّحِك " هو الابتسام وظهور الثنايا من الفرح، والضَّواحِكُ: الأسنان التي تظهر عند التبسم، أما الضَّحْكُ: فهو النور"( ).
وقد جمع ابن مطروح في المعنى بين الابتسامة والنور فوجه الرجل منير، مبتسم، مضيء بالإشراق.
وقد جاء اسم الفاعل هنا مذكرًا (ضاحكا – مستبشرًا)؛ لأنه قصد الممدوح ذاته، فهو يتحدث عن رجل واحد.
أما القرآن الكريم فإنه يتحدث عن وجوه المؤمنين عامة.
والسؤال الذي يرد هنا على الذهن:
لماذا آثر ابن مطروح استخدام لفظة (ضاحكا) في البيت وكان بإمكانه أن يستخدم لفظة أخرى بالمعنى نفسه مثل باسمًا، أو مضيئًا؟
الجواب: أن الرجل أراد أن يقترب من المعنى القرآني وإذا كان الضحك يعني الابتسام والنور والإشراق فإنه جاء بهذه اللفظة ليتبعها بلفظة (مستبشرًا) التي وردت في التعبير القرآني؛ حيث رأىفي إقدام الممدوح على المعارك الحربية ذلك اللقاء الحاسم أي لقاء وجوه المؤمنين بربهالتلقى جزاءها، ومن أجل ذلك فَضَّل استخدام تلك المفردات القرآنية وقد ساعده على ذلك ثقافته الدينية وحفظه لعلوم القرآن.
يقول في مدح الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى( ):
وَدَخَلْتُ مِنْ أَبْواَبِهِ في جَنَّةٍ
يا ليت قومي يعلمون بأنني
فقد تناص ابن مطروح في الشطر الثاني من هذا البيت مع قوله تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِييَعْلَمُونَ( ).
ورد هذا التعبير القرآني مرة واحدة في سورة يس، ولكن هذا التركيب القرآني (يَا لَيْتَ قَوْمِييَعْلَمُونَ) مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم الذي هو(بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين) وفي معنى تمنيه قولان: "أحدهما أنهتمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. والثاني: أنه تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله – قال ابن عباس: نصح قومه حيا وميتا. رفعه القشيري فقال: وفي الخبر أنه عليه السلام قال هذه الآية "إنه نصح لهم في حياته وبعد موته" وفي هذه الآية تنبيه عظيم على بعض الأشياء التي أمرنا الله بها والتي منها: وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه،والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه"( ) وفي كل ذلك نلاحظ أنه قد تمنى الخير لقتلته.
فالرجل المؤمن قد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة، فأراد أن يذكر قومه؛ لأنه كان طيب القلب، رضي النفس، يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضا والكرامة ليعرفوا الحق معرفة اليقين فهذا كان جزاء الإيمان في الحياة وبعد الممات.
فكان عطاء ربه له حيا وميتا كبيرًا، ولكنه لم يرد أن يكون هذا العطاء له وحده، فَذَكّرَ قومه بذلك.
وإن كان الرجل المؤمن قد اطلع على ما آتاه الله من النعيم والكرامة والمغفرة في الجنة، فإن ابن مطروح قد دخل جنة الأشرف "مظفرالدين أبي الفتح موسى" من أبوابها، ورأى ما أغدقه عليه هذا الرجل من الكرم والنعيم والحماية فأراد أن يُعلم بذلك من يتكلمون في حق هذا الرجل وَيُشَنِّعون عليه؛ ليعلم هؤلاء القوم ما في هذا الرجل من صلاح وهداية وكرم ونعيم.
ولكن ابن مطروح تصرف في هذا التعبير المقتبس من القرآن فالتعبير القرآني يقول (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي).أما ابن مطروح فيقول (ياليت قومي يعلمون بأنني) وتوقف عن إكمال الحديث، ولكن المعنى لم يتم عندئذ؛ لأن هناك كلاما محذوفا قد عرف من السياق وتأويله (ياليت قومي يعلمون بأنني كنت على حق من هذا الرجل وبأنني على صلاح وتقوى فكان السبب في إدخالي جنة هذا الرجل صلاحي وتقواي؛ لأنه رجل صالح تقي، لا يدخل جنته إلا من كان صالحًا، وتقيا، مؤمنا بالله )، وهذا يؤكد ما يبتغيه ابن مطروح من وراء هذا المدح، فهويريد منالممدوح أن يزيده من العطاء والإغداق حيث دخل جنته وما في الجنة سوى الخير والنعيم.
وهذا النوع من التناص يسمى التناص (بالحذف)
وقوله في طلب العفو من مجد الدين اللمطي والي قوص( ):
لك الله إن العَفْو أَقْرَبُ للتقوى
وَمِثْلُكَ أَوْلى مِثْلِيَ الصَّفْحَ والعَفْوَا
تناص ابن مطروح هنا في الشطر الأول من البيت مع قوله تعالى:وَأَنْتَعْفُواأَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( ).
فالقرآن الكريم يضع الأسس التي تحكم حالات الطلاق ففي هذه الآية يبين حال المطلقة التي لم يُدخل بها، فالعفو عن الفريضة التي فُرضت لهذه المطلقة قبل الدخول بها أفضل عند الله وأقرب للتقوى التي تقرب الإنسان من ربه، وهذا الأمر وضعه الله في أيدي الذي بيده عقدة النكاح.
وإن كان العفو أقرب للتقوى في حالة الطلاق هذه التي تحدث عنها القرآن الكريم، فإن ابن مطروح يتوسل إلى الأمير "مجد الدين إسماعيل بن اللَّمَطِيّ" والي قوص بأن يعفو عنه؛ حيث إن العفووالصفح من شروط التقوى التي يتحدث عنها القرآن الكريم فيطلب منه أن يصفح ويعفو عنه، لأن هذا الوالي أكبر من أن يعاقب هذا الرجل الذي يتهم نفسه بالجهالة تجاه الوالي وأراد أن يتوب عن هذا الذنب. وإن كان رب البشر يعفو ويصفح، فالأولى للبشر تنفيذ أمر الله من العفو والصفح لينالوا منزلة التقوى التي وعد الله بها المتقين.
ولكن ابن مطروح لم يتماس مع التعبير القرآني بنصه وإنما تصرف فيه، فالتعبير القرآني مكون من مبتدأ + خبر.
(وأن تعفو – أقرب للتقوى)، أما تعبير ابن مطروح فقد تكون من (إنّ واسمها وخبرها) (إن العفو أقرب للتقوى) وإن كان الرجل لم يبتعد عن التعبير القرآني كثيرًا؛ لأن التعبيرين كليهما جملة اسمية وجاء (العفو) في البيت الشعري مصدرًا؛ ليعظم الشاعر من هذا الأمر ويهوله على والى قوص الذي طُلب منه هذا الأمر، كما أَكّد هذا المصدر بـ(إنَّ) لتعظيم الأمر المطلوب وتضخيمه.
وقوله في غزليته من مدح صاحب حماة( ):
أَتَرْضَى بِأَنْ أُمْسِي أَسِيرَ أَسِيرةٍ
مُحَصَّنَةٍ أو من وراء جدار؟
تناص ابن مطروح مع مفردات المعجم القرآني (محصنة – من وراء جدار)
وقد وردت لفظة (جدار) مرتين في القرآن الكريم( ).
الأولى: قوله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا( )
وقوله تعالى:وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا( ).
أما (جُدُر) جمع جدار فقد وردت مرة واحدة في سورة الحشر قال :
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ( )
وقد تناص ابن مطروح مع هذا التعبير القرآني الذي ورد في سورة الحشر (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)، وكانت قراءة العامة (جُدُر) على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم؛ لأنها نظير قوله تعالى: (فِي قُرىً مُحَصَّنَة) وذلك جمع، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن مُحيْصِن وأبو عمرو (جدَار) على التوحيد( )، "وقراءة أبي رجاء وأبي دحية (جُدْر) بضم الجيم وتسكينالدال، قال أبو الفتح: هذه مخففة من جُدُر، جمع جِدَار. وأما من قرأ "من وراء جِدَار" فيحتمل أمرين:
الأول: أن يكون واحدًا وقع موقع الجماعة، كقوله تعالى:ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، أي: أطفالاً.
والثاني: وفيه الصنعة، وهو أن يكون (جدَار) تكسير جدار أيضًا، فتكون ألف جدار في الواحد، كألف كتاب وحساب، وفي الجماعة كألف ظِرَاف وكِرام، فكما أن ألف جِدَار في الواحد ليست ألف جدار في الجمع – فكذلك كسرة الجيم فيه غير كسرته فيه، وفتحة الدال فيه غير فتحته فيه"( ).
أي لا يقاتلكم يهود بني النضير مجتمعين إلا في قرى محصنة بالحصون أو من خلف حيطان ( ).
فإنهم يظنون أن هذه الحصون وتلك الحيطان تمنعهم من هؤلاء المسلمين.
وإن كانت هذه الآية تنطبق على اليهود وخوفهم واختبائهم وراء الحصون والحيطان، فإن ابن مطروح يخاطب من يلومه على هجر محبوباته بقوله:
وَيَا عاذلي في هَجْرِ هِنْدٍ وَزَيْنَبٍ
وَقَدْ لاَحَ عُذْرِي كالصَّباحِ لساري
أَتَرْضَى بِأَنْ أُمْسِي أَسِيرَ أَسِيرةٍ
مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَار؟
أترضى بأن أكون أسيرًا لمحبوبة أسيرة لا حول لها ولا قوة محصنة مختبئة خلف الحيطان وراء الحصون، فتمنعني تلك الحصون وهذه الحيطان من وصلها.
والسؤال الذي يرد هنا على الذهن:
لماذا استخدم ابن مطروح في هذا البيت لفظة (جدار) وكان بإمكانه أن يأتي بلفظة أخرى ولتكن (حجاب)؟
الجواب: إذا كان الجواب هو المحافظة على السياق القرآني المقتبس فإن لفظة (حجاب) أيضا وردت في القرآن الكريم مرتين( ).
الأولى: قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب( ).
والثانية: قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم( ).
ولكن ابن مطروح أراد أن يتبع لفظة (محصنة) بمثيلتها التي وردت إثرها في التعبير القرآني وهي (جدار).
"والجدار: الحائط، والجمع جُدُرٌ، وَجُدْرانٌ جمع الجمع( ).
أما الحجابُ: فهو السِّتْرُ. حَجَبَ الشئَ يَحْجُبُه حَجْبًا وَحِجَِابًا وَحَجَّبَه: ستره"( ).
وبعد، فلما كانت لفظة (الحجاب) بمعنى (محصنة) أي مستترة وراء الحصون، كان لابد لابن مطروح أن يأتي بلفظة مكملة لمعنى (محصنة) ولم يجد غير التمثيل لما جاء في القرآن الكريم وهي ( من وراء جدار) ليُتم المعنى الذي أراد أن يوصله لمن يلومه على هجر محبوباته.
وقوله من غزليته رقم (154) من الديوان( ):
يا أيها القمر الذي
نجم السلو به هوى
ما ضل صاحب مُهْجَةٍ
ذابت عليك وما غوى
حاكى ابن مطروح التعبير القرآني الذي ورد في سورة النجم من قوله تعالى:وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى( ).
فقد عرض القرطبي في تفسيره أقوالاً كثيرة عن المراد بالنجم "حيث قال ابن عباس ومجاهد: معنى (والنجم إذا هَوَى) والثُّرَيَّا إذا سقطت مع الفجر؛ والعرب تسمى الثُّريَّا نجما وإن كانت في العدد نجوما، وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدّي: إن النجم ههنا الزُّهْرة لأن قومًا من العرب كانوا يعبدونها" ( ).
ويرى الطبري أن الصواب ما قاله (مجاهد) من أنه عنى بالنجم في هذا الموضع: الثريا، وذلك أن العرب تدعوها النجم فهذا أصوب الآراء( ).
فقد أقسم الله بالنجم إذا سقط وقامت القيامة بأن محمدًا ما حاد عن الحق ولا زاغ عنه، بل كان على استقامة وسداد وما صار غويّا،فعندما أرسله إليهمجعله شاهدًا عليهم، فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاويًا، وصار الآن منقذًا من الضلالة ومرشدًا وهاديًا( ).
وإذا كان المراد بالنجم هنا الثريا فقد أقسم الله به؛ لأنه أظهر النجوم عند الرائي حيث يتميز بعلامة تجعله لا يلتبس بغيره في السماء ويظهر واضحًا جليًّا، والنبي تميز عن الكل بآيات بينات فعند ظهوره قل الشك والأمراض القلبية( ).
وإذا كان سقوط النجم هنا سقوطًا ماديًّا، فإن سقوطه في بيت ابن مطروح كان سقوطًا معنويًّا؛ فهو لم يزغ عن حب الحبيب، ولم يحد عنه، بل كان هاديًا على استقامة، راشدًا، سديدًا، لازالت مهجته تذوب في حب هذا المحبوب.
ونجد أن ابن مطروح قد حَلّ التركيب القرآني، وغير أماكن المفردات القرآنية.
فقد ورد التعبير القرآني (والنجم إذا هوى) في سياق القسم فهو مكون من (حرف القسم أداته، المقسم به، ثم إذا، ثم الفعل (هوى)).
أما تعبير ابن مطروح (نجم السلو به هوى) جاء في سياق الخبر مكون من (خبر + المكملات التي تتكون من مضاف إليه + الجار والمجرور+ الفعل) والآية (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)جاءت جوابا للقسم، أقسم (الله) بأن محمدًا ما حاد عن الحق وما صار غويا ولكنه على استقامة ورشد سديد.
أما ابن مطروح فيقول:
ما ضل صاحب مُهْجَةٍ
ذابت عليك وما غوى
فالتركيب مكون من ثلاث جمل فعلية: الفعل (ضل) + الفاعل (صاحب) + المضاف إليه (مهجة)، والفعل (ذابت) + الجار والمجرور) والفاعل مستتر تقديره (هي) أي المهجة، ثم الفعل (غوى) والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو).
وأيضًا في التعبير القرآني كان (صاحبكم) مضافًا إلى معرفة (الضمير).
أما في السياق الشعري كان صاحب مضافًا إلى نكرة وهي (مهجة).
وهذا دليل على أن خطاب (الله) تعالى كان لفئة معروفة معينة أعلمها (الله) لنا وهي قريش.
أما خطاب ابن مطروح لهذا المحبوب كان يشير من ورائه إلى كل صاحب مهجة تذوب في حب الحبيب.
ويقترب من المعنى نفسه: قوله( ):
فخذوا أحاديث الهوى عن صادقٍ
ما ضَلّ في شرع الغرام وما غوى
والمعنى المقتبس من القرآن هو (ما ضل صاحبكم وما غوى) فابن مطروح هنا يشبه نفسه بالنبي؛ لأن الذي يقول الأحاديث وتؤخذ عنه هو النبي وهو الصادق الأمين، فجعل نفسه نبيًّا للحب تروى عنه أحاديثه، ويأخذها عنه العشاق فيصف نفسه بالصادق الذي يجب أن تؤخذ عنه هذه الأحاديث؛ لأنه ما حاد عن شرع الغرام، بل لا زال عليه سديدًا راشدًا ليس غويا.
وقوله في جيميته رقم (18) من الديوان( ):
أهوى الغصون إذا مَرّ النسيمُ بها
ترنحت غير ما أَمْتٍ من الْعِوَج
إن الشاعر في الشطر الثاني يشير إلى قوله تعالى: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا( ) وقد وردت (عِوَج) بغير تنوين مرتين في القرآن الكريم( ).
الأولى: قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا( ).
الثانية: قوله عز شأنه:قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون)( )
أما (عِوَجًا) بالتنوين فقد وردت ست مرات في القرآن الكريم( ) قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( )
وقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُون( ).
وقوله تعالى أيضاً وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون( ).
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ( ).
وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا( ).
وقوله تعالى: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا( ).
أما (أَمْتٍ) فقد وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في الآية السابقة من سورة طه، وهي من قوله تعالى: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا.
والعِوَج في اللغة: " فالِعَوجُ في الأرض: أن لا تستوي"( ).
أما (الأمْتُ): "فهو المكان المرتفع، وقال الفراء: الأمْتُ النَّبَك من الأرض ما ارتفع"( ).
والعِوَجِ هو التعوج في الفجاج، والأمْت النَّبَك، وقال أبو عمرو: الأمْت النِّبَاك: وهي التلال الصغار واحدها نَبَك؛ أي هي أرض مستوية لا انخفاض فيها ولا ارتفاع( ).
لأنهم حينماسألوا محمدًا عن الجبال يوم القيامة أجابهم بأن (الله) يطيرها ويقلعها من أصولها ثم يصيرها رملاً يسيل سيلا، ثم يصيرهاكالصوفالمنقوش تطيرها الرياح فتكون في النهاية أرضا ملساء مستوية ليس بها انخفاض ولا ارتفاع( ). أي لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا
فإذا كان هذا شكل الجبال يوم القيامة أنها ستكون أرضا ملساء مستوية لا انخفاض فيها ولا ارتفاع، فإن "ابن مطروح" يهوى الغصون وخاصة عندما يمر بها النسيم فيحركها فتتحرك حينئذ وتميل جميعا في استواء واتجاه واحد في غير انخفاض أو ارتفاع.
فالشاعر قد غيَّر في التعبير الذي اقتبسه من القرآن الكريم؛ لأن (عوجًا وأمتا) جاءتا في محل نصب الآية القرآنية.
أما ابن مطروح قد أتى بها في محل جر.
وأيضًا قد قدّم الأمت على العوج، أما القرآن الكريم فجاء بالعوج أولاً ثم الأمت.
وقوله في مدح الملك الصالح نجم الدين أيوب( ):
أَغْنَى وَأَقْنَى فالذي عِنْدَنَا
مِن نِعَم الله ومِنْ عِنْدِهِ
فقد تناص ابن مطروح في الشطر الأول من البيت مع التعبير القرآني الذي ورد في سورة النجم من قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى( ).
ذكر الرازي في تفسيره أن "أغنى" دفع حاجته ولم يتركه محتاجًا، والغنى في مقابلة الفقر وزاد عليه بالإقناء، ولمّا كان مخرج القاف فوق مخرج الغين جعل الإقناء لحالة فوق الإغناء، وعلى هذا فالإغناء هو ما آتاه الله من العين واللسان، وهداه إلى الارتضاع في صباه أو هو ما أعطاه الله تعالى من القوت واللباس الذي يحتاج إليهما فكل ما دفع الله بهالحاجة هو إغناء، وكل ما زاد عليه فهو إقناء( ).
وأقنى"أعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك"( ).
وقد عرض ابن منظور لبعض الأقوال في (أقنى): "قال أبو إسحاق: أقنى قيل فيها قولان: أحدهما أقنى: أرضى، والآخر جعل قِنْية أي جعل الغنى أصلاً لصاحبه ثابتًا، ومنه قولك: قد أقتنيت كذا وكذا أي عملت على أن يكون عندي لا أُخرجه من يدي. قال الفراء: أغنى: أرضى الفقير بما أغناه به، وابن الأعرابي: أقنى: أعطاه ما يدّخره بعد الكفاية"( ).
ولمّا دفع الله حاجة نبيه وأغناه من عنده بل زاد على ذلك بالإقناء حيث جعله ثابتًا عنده، فإن الصالح نجم الدين أيوب قد وهبه الله من عنده من المال والجاه فلم يبخل به على غيره بل أعطى ابن مطروح من نعم الله التي وُهبت له فأغناه وزاد عليه.
وقد يحاكي ابن مطروح قصة وردت في القرآن الكريم ليستوحي ما بها من معان، ولإبراز وجه الشبه بين هذه القصة، وقصته التي يتحدث عنها.
يقول في تغزله لغلامه( ):
لما بدا للغانيات وقد بدا
من حسنه مالا يُحد وَيُوصَفُ
قطعن أيديهن حين رأينه
مما افتتن وَقُلْنَ هذا يُوسُفُ
فحاكى ابن مطروح بقصة هذه القصيدة قصة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز زليخا حين وجه لها نسوة المدينة اللوم في حبها ليوسف: ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَأَيْدِيَهُنَّوَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ( )
فعندما لُمن نسوة المدينة امرأة العزيز في حبها لهذا الغلام النبي الذي يتصف بالجمال البديع والحسن الرفيع أرسلت إلى النسوة اللاتي تحدثن بشأنها وشأن يوسف وأعدت لهن مجلسًا للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد وآتت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن بها ما أمامهن من أشياء تؤكل؛ لأنه قد اخُتلف في نوع هذه الأشياء التي قُدِّمَتْ لهن ثم قالت ليوسف أخرج عليهن فخرج عليهن يوسف، فلمّا رأينه أعظمنه وأجللنه وقلن: معاذا الله ما هذا إلا ملك من الملائكة( ).
فأراد ابن مطروح أن يحاكي بحديثه عن غلامه ووصفه إياه تلك القصة التي حدثت لنبي الله يوسف ، فما أشبه غلام ابن مطروح بسيدنا يوسف في حسنه وجماله، فهذا الغلام حينما أقبل وظهر علىهؤلاء النسوة عجزتأَلْسنتهن عن وصف جماله وحسنه، فقطعن أيديهن دون وعي أمام هذا الجمال الذي فُتِنَّ به.
فأخذ ابن مطروح هذا المجلس وهذه العُدة التي وُجدت فيه، ووضعه في قصته وهو يبرز جمال غلامه وحسنه، فمن فرط جماله وحسنه لم يجد شخصًا يُشَبِّه به غلامه أفضل ولا أبدع من (نبي الحسن) وهو سيدنا يوسف .
وإذا كان ابن مطروح قد حاكى هذه القصة، فإنه قد صَرَّح بذلك عندما صرح باسم سيدنا يوسف أثناء دخول الغلام على الفتيات فما أشبه غلامه بسيدنا يوسف في الجمال والحسن.
وأيضا عندما اقتبس جزءًا من الآية التي تحكي هذا الموقف وهي"وقطعن أيديهن".
وبعد، فقد كثر تناص ابن مطروح مع القرآن الكريم، وليس بمستغرب في ذلك، فقد ملك ثقافة دينية وعربية ساعدته على ذلك،وعلى أن يربط قصصه الشعرية وأغراضه بما ورد في القرآن الكريم.
ب- التناص مع الحديث الشريف:
وإذا كان ابن مطروح قد تناص بكثرة لافتة للنظر مع القرآن الكريم، فإن تناصه في إطار الحديث الشريف كان بقلة شديدة إذا ما قورن بالقرآن الكريم والتراث الشعري.
ونجد ابن مطروح يمدح الرسول بقوله( ):
فالمصطفى وإليه كل معجزةٍ
تروي وعنه الهدى والصدق قد وُرِثا
قد قال صلى عليه الله في الملأ
ما طاب مني وللشيطان ما خَبُثا
ومن المواضع التي حدث فيها تناص ابن مطروح مع الحديث الشريف قوله في غزليته رقم (154) من الديوان( ):
مولاي حُبُّك نيتي
وَلِكُلِّ عَبْدٍ ما نَوَى
فابن مطروح يتناص مع قول الرسول :
{حدثنا الحميدي عبدالله بن الزبير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيي بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي: أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعت رسول الله يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"}( ).
فهذا الحديث أورده البخاري في (باب بدء الوحي)، فهو أول الأحاديث التي أوردها - وإن لم يكن له تعلق بالوحي – من أجل أن يبين أن العمل يجب أن يكون مخصصا لله ، وأن يريد الإنسان بعمله وجه الله والدار الآخرة؛ ولذا فقد كان هذا الحديث العظيم لابد من ذكره في أبواب العلم كلها وقوله " إنما الأعمال بالنيات" أي أنه لا عمل إلا بنية، فكل إنسان عاقل يعمل عملاً فلابد أن ينويه ولا يمكن لعاقل أن يعمل عملاً بلا نية أبدًا، ولهذا قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملاًَ بلا نية لكان من تكليف مالا يُطاق، ثم إن ما نواه الإنسان فهو له، فإن نوى شيئًا نافعًا فهو له، وإن نوى شيئاً ضارًا فهو له، وضرب النبي لذلك مثلا بالهجرة، بأنه من كانت هِجَرتُهُ إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله؛ يعني فقد نال ما أراد، وهذا يدل على أن الله سَيُيَسِّرُ له الأمر حتى يصل إلى مراده فإن لم يصل فقد قالالله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( ).
وأما الآخر فقد هاجر أيضًا، لكن كانت هجرته لدنيا يصيبها؛ للتجارة أو امرأة يتزوجها، فهو قد هاجر من أجل شهوة البطن، وشهوة الفَرْج وقوله "فهجرته إلى ما هاجر إليه" ولم يقل إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها؛ تحقيرًا لشأنهما، وأنهما أحقر من أن يعادا بلفظهِمَا( ).
وقد قال بعض العلماء إن الجملتين: "إنما الأعمال بالنيات" ، و"إنما لكل امرئ ما نوى" معناهما واحد، وهو أن عملك بنيتك، فإن نويت شيئا حصل حسب ما تنوي( ).
فإذا كان كل عمل بنية صاحبه، فإننية ابن مطروحقد ملئت بحب المحبوب وعشقه وله حسب ما نوى، وينطبق على ابن مطروح المثال الثاني الذي ذكره الرسول أي الهجرة إلى الدنيا أو الزواج من امرأة فهذه كانت نية من هاجر. ويُشبهه في ذلك ابن مطروح فنيته حب الحبيب -الحب الدنيوي – الذي يبغى من ورائه تحقيق شهواته وله ما نوى.
وقول ابن مطروح في نونيته رقم (138) من الديوان( ):
قاربت معترك المنايا فاتئد
ودع التصابي عنك يا مسكين
يتناص ابن مطروح مع حديث الرسول : {معترك المنايا ما بين ستين وسبعين} أخرجه أبو يعلي من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد عن أبي هريرة. وهو حديث ضعيف( ).
وهذا الحديث جاء في إطار الحديث عن التعمير حيث جاء عن {عبدالسلام بن مُطهر حدثنا عمُر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المُقبرى عن أبي هريرة عن النبي : قال "أعذر الله إلى امرئ أخر أجَله حتى بَلَّغَهُ ستين سنة} وأما طريق محمد بن عجلان فأخرجه أحمد منرواية سعيد بنأبي أيوب عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبرى عن أبي هريرة بلفظ "من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر"( ).
وكانت الستون حدًا لهذا لأنها قريبة من المعترك وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية فهذا إعذار بعد إعذار لطفًا من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل، لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة ويزجروا عما نهوا عنه من المعصية. وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل( ).
لذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله في كل شيء ولا سيما عندما يقترب عمره من الستين؛ لأن الله يعذره على كل ما يفعله قبل هذه السن، وعند بلوغه الستين وهو (المعترك) فإن الله ينقله من حالة الجهل إلى حالة العلم، ولا يعذره بعد ذلك بل يحاسبه حسابًا شديدًا على كل ما يفعله.
فاقتدى إذن ابن مطروح بهذا الحديث في نصيحته لبلوغ هذا الإنسان المعترك، فيجب عليه أن يترك كل ما كان يفعله في صباه من لهو وعبث ويتقي الله في كل شيء، وَيُكوِّن له رصيدًا حيث اقترب أجله اقتداءً بقول الرسول {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك} أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبدالرحمن بن أبي هريرة( ).
فإذا جاءت الستون فقد اقترب الأجل فاترك اللهو والتصابي والتغزل، واقترب من ربك ليصح عملك.
وقول ابن مطروح عند موته لزوجه( ):
وقد سألُوه (عنه) قال: بل اعْمَلُوا
وفي خَبَرٍ قال: اعْقِلُوا وَتَوكَّلُوا
تناص ابن مطروح في الشطر الثاني من البيت مع قول الرسول:{أخبرنا الحسين بن عبدالله القطَّان، قال: حدثنا هشام ابن عمَّار، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، قال: حدثنا يعقوب بن عبدالله عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: قال رجل للنبي أُرْسِلُ ناقتِي وأتوكل؟ قال: "اعْقِلْها وَتَوكَّلْ"}( ).
وقد رُوى هذا الحديث برواية أخرى {حدثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، ثنا أسد بن موسى، ثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا يعقوب بن عمرو بن عبدالله بن أمية الضمري، عن جعفر ابن عمرو بن أمية، عن أبيه عمرو بن أمية الضمري أنه قال يا رسول الله أرسل راحلتي وأتوكل فقال الرسول "بل قيدها وتوكل"( ).
وقوله : "(أعقلها) بصيغة المتكلم وحرف الاستفهام محذوف: وعقل البعير شد وظيفه إلى ذراعه كعقله واعتقله و(أتوكل) أي: على اللهبعد العقل و(أطلقها)أي أرسلها و(أتوكل) أي على الله بعد الإرسال، لأن عقل الناقة لا ينافي التوكل على الله "( ).
فالرسول يجيب على الرجل حينما سأله عن عقل الناقة وعدم تركها فقال له اربط دابتك، ولا تدعها مطلقة فتذهب وتضيع.
و(اعقلها) هنا ليست من العقل بمعنى التفكير والإدراك، وإنما أراد الرسول أن يعلم الرجل بأن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله بل عدم الأخذ به يقع تحت ما يسمى بـ(التواكل).
فابن مطروح في تناصه مع هذا الحديث كان يريد المعنى الذي يدور حول الأخذ بالأسباب والتوكل على الله فقط، دونما ربط الناقة وعدم إطلاقهافالموقف الذي كان يدور حوله الحديث الشريف يختلف عن موقف ابن مطروح،حيث كان خائفًا قلقًا عندما اقترب منه الموت خائفا من لقاء ربه، يفكر فيما فعله، وهل كان مذنبًا؟ وهل غفر الله له أم لا؟ فقال ردًا على زوجته حينما أرادت أن تؤكد مغفرة الله له.
ويكفيِك قَوْلُ المُصْطَفَى وَهْوَ الذِيِ
بِهِ صَارَ في كُلِّ الأمورِ التوسُّلُ
وَقَدْ سَألُوُه (عنه) قَالَ: بَلْ اعْمَلُوِا
وَفَيِ خَبَرٍ قال: اعْقِلُوا وَتَوكَّلُوا
فافعل ما عليك مبتغيا وجه ربك، ودع الأمر كله لله، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب في كل شيء مع علمه بالمسبب الذي خلق هذه الأسباب.
وقول ابن مطروح في مدح فخر الدين بن الشيخ( ):
أنَا فِي زِمَامِ ابْنِ الأكَارِمِ نَازِلٌ
مِنْ ظِلِّهِ فِي سَجْسَجٍ وَبُرَادِ
فقد تناص ابن مطروح في الشطر الثاني من هذا البيت مع قول الرسول عندما تحدث عن وصف هواءالجنة.
{حدثنا أبو بكر عبدالله بن محمد، ثنا محمد بن شلبي، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، ثنا زكريا، عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن عوسجة، عن علقمة، عن عبدالله: قال الرسول " إنَّ الجنَّة سَجْسَجٌ، لا قرَّ فيها، ولا حرَّ، ولهم فيها ما اشتهت أنفسهم"}( ).
وذكره ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الجنة: حدثنا أبو أسامة، قال حدثنا زكريا عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن عوسجة عن علقمة عن عبدالله: قال"الجنَّة سَجْسَجٌ لا قرَّ فيها ولا حرَّ"( ).
والسجسج: هو"النسيم المعتدل لا حر فيه ولا برد"( ).
فعندما تحدث الرسول عن وصف هواء الجنة ونسيمها وصفهبالسجسج، فهواء الجنة طيب معتدل ليس بالحر ولا بالبرد.
وعندما مدح ابن مطروح فخر الدين بن الشيخ وآل الشيخ جميعهم وصفهم بالكرماء الذين يستظل بظلهم، فظل فخر الدين لابن مطروح طيب معتدل لا بالحر ولا بالبرد، فظله كهواء الجنة الذي وصفهالرسول بالطيب المعتدل، فمن فرطمحبة ابن مطروح لأولاد الشيخ بالغ في مدحهم حتى جعل ظل فخر الدين الذي يحمي ابن مطروح، ويعيش في كنفه كهواء الجنة الطيب المعتدل الذي ينعم فيه المؤمن الموحد، ويسعد بطيب رائحته.
2- التناص مع التراث الشعري:
يحتل التناص مع التراث الشعري في ديوان ابن مطروح المرتبة الثانية بعد التناص مع القرآن الكريم.
ولا يعني تناص الشاعر مع غيره من الشعراء وتأثره بألفاظهم ومعانيهم أن ذلك يمثل بالضرورة تقليدًا ولكن يعني "عمق التفاعل بين الشعراء، ويعكس الثقافة الرفيعة للشاعر الذي يستطيع أن يوظِّف ثقافته الأدبية في تعميق رؤاه الشعرية، وإثراء خياله الفني بالاستعانة بما سبقه والإضافة إليه في آن"( ).
ومن المواضع التي حدث فيها التناص مع الشعر القديم، قول ابن مطروح حين يرثي توران شاه( ):
خلّ ذا واندبْ معي ملكا
ولت الدنيا على أثره
كانت الدنيا تطيب لنا
بين باديه ومحتضره
فهذه الأبيات تناص فيها ابن مطروح مع قول علي بن جبلة (ت 213 هـ) في مدح أبي دُلَف العجلي( ):
إنما الدنيا أبودُلَفٍ
بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولي أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
حيث بلغ (علي بن جبلة) أن الناس يقصدون أبا دلف لجوده وما كان يعطي الشعراء فقصده، - وكان يسمى العكوك - فامتدحه بقصيدته التي أولها:
ذاد ورد الغي عن صدره
وارعوى واللهو من وطره
وجاء هذان البيتان بعد ذلك وهما اللذان أحفظا المأمون على (علي بن جبلة) "حتى سل لسانه من قفاه"( )؛ حيث كان أبو دلف جوادًا يعطي ويمنح فمدحه بأن الدنيا كلها كأنها أبو دلف في البادية والحضر، حتى إذا ذهب أبو دلف ورحل رحلت الدنيا على أثر هذا الرجل الكريم الجواد.
فالتناص الشعري في هذا الموضع يقع تحت ما يسمى بـ(الإيداع).
والإيداع كما عرفه ابن أبي الإصبع المصري هو أن يأتي الشاعر "إلى نصف بيت لغيره يودعه شعره سواء أكان صدرًا أم عجزًا"( ).
فابن مطروح في رثائه لتوران شاه لم يكتف بالاستعانة بالمعنى فقط بل استعان أيضًا بالألفاظ في بكائه على توران شاه هذا الرجلالجواد، كريم الأرومة والأصل، فالدنيا من البادية إلى الحضر تطيب لوجود هذا الرجل وتسعد بلقائه فإذا رحل وولى، ولت هي الأخرى ولم يعد لها بقاء من بعده وما فعله ابن مطروح أنه قلب شطري (علي ابن جبلة) فكان يتحدث مباشرة عن رحيل توران شاه، ورحيل الدنيا على أثره، أما (علي بن جبلة) فإنه يقرن وجود الدنيا بوجود أبي دلف ورحيلها برحيله.
وإن كان الإيداع هو إتيان الشاعر في شعره بنصف بيت لغيره سواء أكان صدرًا أم عجزًا، فإنه بهذا المفهوم " صورة من صورالتناص؛ لأنه عبارة عن آلية يُدْخل بها الشاعر في العمل الأدبي ما ليس منه من شعر غيره"( ).
وابن مطروح في تغزله بمحبوبه يعجز عن وصفه بأي شيء؛ حيث إن جماله يفوق كل شيء.
يقول: ( )
إِنْ قِسْتَهُ بِالْبَدْرِ مَا أَنْصَفْتَهُ
أَوْ بِالْغَزَالِ وَجَدْتَهُ مَظْلُومَا
ويقول أيضًا: ( )
شَبَّهْتُهُ بِالبَدْرِ قَالَ: ظَلَمْتَنِيِ
يَا عَاشِقَي وَالله ظُلْمًا بَيِّنَا
ولا شك أن الأبيات المسيطرة على هذه الروح الشعرية هي قول أبي الطيب المتنبي (ت 354 هـ) في الغزل من بائيته في مدح المغيث بن علي بن بشر العجلي( ):
هامَ الفُؤَادُ بأعرابيةٍ سَكَنَتْ
بيتًا مِنَ القَلْب لِم تَمْدُدْ لَهُ طُنُبا
مَظْلُومَةُ القَدّ في تَشْبِيهِه غُصُنا
مَظْلُوَمَةُ الرّيقِ في تَشْبِيهِه ضَرَبا
"حيث ملكت تلك الأعرابية قلب الرجل بلا كلفة أو مشقة فاتخذت منه بيتا فنزلته والقلب بيت بلا أطناب ولا أوتاد، ومن شبهها بالغصن ظلمها، ومن شبه ريقها بالعسل ظلمها أيضًا؛ لأنها ذات قوام أعدل وأحسن من الغصن، وذات رُضاب (ريق) أحلى من العسل الخالص"( ).
واستدعاء ابن مطروح لأبيات المتنبي عن محبوبه وعجزه عن وصف أي شيء فيه، ليؤكد مدى جمال محبوبه، وأنه لا يجد ما يصفه به لا البدر ولا الغصن ولا الغزال ففي هذا التشبيه ظلم بين للمحبوب، ومحبوب ابن مطروح هنا يختلف عن محبوب (المتنبي) حيث كانت محبوبة المتنبي (أعرابية)، أما محبوب ابن مطروح فكان غلامًا يتغزل فيه، ومن فرط جمال هذا الغلام عجز ابن مطروح عن وصفه بأي شيء لذلك نجده في معظم أبياته يعوض هذا العجز بوصف الغلام بنبي الحسن وهو سيدنا يوسف.
يقول: ( )
إِنْ قِسْتَهُ بِالْبَدْرِ مَا أَنْصَفْتَهُ
أَوْ بِالْغَزَالِ وَجَدْتَهُ مَظْلُومَا
هَذَا نَبِيُّ الحُسْنِ جاءَ فكُلُّكُمْ
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
وحين يقول ابن مطروح في مدح عماد الدين بن الشيخ( )
عفافٌ وإقدامٌ وحزم ونائلٌ
ألا في سبيل المجد ما أنت فاعله
فإنه يأخذ ما قاله أبو العلاء المعري (ت 449 هـ)، ولكنه يحل التركيب ويقلبه يقول أبو العلاء:
ألا في سَبِيلِ المْجَدِ ما أنا فَاعلُ
عَفَافٌ وَإِقْدَامٌ وَحَزْمٌ وَنَائِلُ
فأبو العلاء هنا يتحدث عن الأشياء التي تجتمع لمن يريد المجد أو لمن له المجد يقول التبريزي: أبو العلاء جمع العِفّة والشجاعة والحزم والجُود، وسلوك هذه الطريقة هو المجد.
أما البطليوسي يقول: كُلّ ما أسعى فيه وأتصرف، فإنما هو فيما يكسبني النباهة والشرف؛ فمن أين يتطرّق الذمّ إلىّ وَيُقْبِل من يختلق الكذب عليّ! ثم فسر الأمور التي كَسَبَتْه المجد والفضائل، فذكر أنهاالعفاف والإقدام والحزم والنائل. والمجد هو الشرف، والإقدام: الجُرأة، أما الحزم فهو صحة التدبير، والعزم فإنه النفاذ في الأمور. وكذلك تقول العرب: "قد أُحْزمُ لو أُعْزمُ" وقد كان الوجه هاهنا أن يذكر العَزْمَ مع الحزم ليكونَ أبلغ في غرضه الذي قصده، ولكن ذكره الإقدام أغناه عن ذكر العَزْم. والنائل: العطاء بمعنى النَوال( ).
ونجد ابن مطروح حين يمدح (عماد الدين بن شيخ الشيوخ) يذكر أنه ملك المجد والشرف بجمعه لكل ما ذكره أبو العلاء من الأشياء التي تساعد على وجود المجد والشرف وهي العفاف والإقدام والعزم والحزم والنوال والعطاء، فهذه هي المدعمات التي تجعل صاحبها يمتلك المجد والشرف معًا.
فالتناص هنا يقع تحت ما يسمى (بالاستعانة)، والاستعانة كما عرفها ابن أبي الإصبع المصري "أن يأتي الشاعر أو الناثر في أثناء شعره أو نثره ببيت لغيره"( ).
فحين كان يمدح ابن مطروح (عماد الدين بن شيخ الشيوخ) تحدث عن فضائله وكرمه وثناء الليل والنهار عليه حتى الدهر قد تحلى به، فمثل هذا الرجل قد امتلك المجد؛ ولكن ما علامة امتلاكه لهذا المجد؟
فوجد ابن مطروح أن علامة امتلاكه المجد هي جمعه لهذهالأشياء التي تحدث عنها أبو العلاء ألا وهي المدعمات التي عن طريقها يكتسب الإنسان المجد، فاستعان ببيت أبي العلاء الذي تحدث فيه عن ذلك، ولكنه لم يأت به كما هو عند أبي العلاء.
فقام بقلب البيت الأول حيث قدّم المدعمات التي من خلالها يمتلك الإنسان المجد، وكانت عند أبي العلاء في عجز البيت.
يقول ابن مطروح في مدح الملك الصالح نجم الدين أيوب( ):
دَارُ عَمَرْنَاهَا بِإنْعَامٍ مَنْ
لَمْ تَخْلُ دَارُ قَطُّ مِنْ رِفْدِهِ
المَلكُ الصَّاِلحُ رَبُّ العُلاَ
أَيوبُ زَادَ الله في مَجْدِهِ
أغْنَى وَأَقْنَى فَالذِي عِنْدَنَا
مِن نِعَم الله وَمِنْ عِنْدِهِ
فَقُلْ لِحُسَّادِي ألاَ هَكَذا
فَلْيَصْنَعْ الَماِلكُ مَعْ عَبْدِهِ
فإن ابن مطروح يتناص مع قول ابن أبي حصينة (ت 456 هـ) في مدحه لأسد الدولة عطية بن صالح بن مرداس( ):
دارٌ بنَينَاها وَعِشْنَا بها
في دَعةٍ من آل مرداسِ
قومُ مَحَوا بُؤْسي وَلَم يتركوا
عليَّ في الأيام من باسِ
قل لبني الدنيا ألا هكذا
فليفعل الناسُ مع الناسِ
فابن أبي حصينة يعبر عن رغده المكتسب من هؤلاء القوم حيث جعله "أسد الدولة عطية بن مرداس" أميرًا يجلس مع الأمراء، وقرَّبه منه فصار يحضر مجلسه في زمرة الأمراء، ثم وهبه الأمير نصر بن صالح مكانا بحلب تجاه حمام الواساني فجعله دارًا وزخرفها فلم تم بناؤها نقش عليها هذه الأبيات الثلاثة، التي أراد بها أن يمدح هؤلاء القوم فقد أبدلوا بؤسه بنعيم وفرح، ولما تكامل بناء هذه الدار عمل دعوة كبيرة وأحضر إليها "نصر بن صالح" وعندما رأى تكامل الدار وتعميرها سأل ابن أبي حصينة عما خسره على بنائها، فحوله ابن أبي حصينة إلى المعمار الذي تولى الأمر ليسأله، فأجابه ثم دفع لمن قام بذلك الأجر كاملاً وزاد عنه، وقال لابن أبي حصينة( ):
قل لبني الدنيا ألا هكذا
فليفعل الناسُ مع الناسِ
فهذا البيت الذي ختم به ابن أبي حصينة أبياته يدل على الاستجداء والإسفاف، فهذا حال الدنيا أن يعطى الغني الفقير، ويزيده رغدا منرغده الذيأنعم الله به عليه، مما جعل "نصر بن صالح" يدفع له كل ما أنفقه على هذه الدار.
وعندما أنعم "الملك الصالح نجم الدين أيوب" على ابن مطروح بدار جميلة على النيل، جعل ابن مطروح يستلهم معنى "ابن أبي حصينة" وينسجه على منواله، فاستدعائه لهذا المعنى اعترافا منه بفضل هذا الملك عليه وبنعمه التي أغدقها على ابن مطروح، حتى دعا له بأن يزيده الله في مجده ورغده وختم أبياته أيضا بما ختمه سابقا ابن أبي حصينة، ليدل على الطلب والاستجداء والإسفاف فهذا حال الدنيا فليصمت الحساد على هذه النعم؛ لأنها من نعم المالك التي يهبها لعبده.
والتناص هنا يقع تحت ما يسمى بـ(التلميح) والتلميح هو"الإشارة إلى قصة أو شعر من غير ذكره"( ).
فابن مطروح أشار هنا من خلال هذه الأبيات إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب من خلال تصريحه باسم الملك، كما أشار إلى أبيات ابن أبي حصينة في مدح آل مرداس من غير ذكر.
فالقصة التي تدور حولها الأبيات تكاد تقترب من قصة أبيات ابن أبي حصينة وتشاركها في المناسبة.
ثانيًا: التناص الداخلي:
وهو "الذي تكون فيه العلاقة بين نصوص الكاتب ذاته"( ) أو هو "ذلك النوع من المفردات، والتراكيب، والصور، والأصوات، والموسيقى، يحاكى بعضه بعضًا، عبر نوع من تكرار ملحوظ، سواء أكان هذا في عمل بذاته، أم في أعمال كاتب بعينه"( ).
ومما ورد عنده من تناص داخلي:
تكرار بعض الألفاظ في أكثر من موضع والمعنى واحد مثل قوله( ):
قُلْ لِلعَواذِلِ طَوّلُوا
إِنْ شِئْتُمُ أَوْ قَصِّرُوا
لا أنتهي، لا أَرْعَوى
لا أَنْثَنِي، لا أَصْبِرُ
وقوله( ):
قل للعواذل في هواهُ: ألا اْنتَهُوا
لا أَنْتَهِي، لا أرْعَوى، لا أَنْثَنِي
وأيضاً:
قال العواذِلُ: إنني في حُبِّهَا
لا أَرْعَوِى، لا أَنْتَهِي، لا أَنْثَنِي
وقوله( ):
لا أنتهي، لا أرعوى عن حُبِّه
لا أَنْثَنِي، فَلَيْهذِ فيه مَنْ هَذَى
فالتناص الداخلي عند ابن مطروح كان في تكرار ملحوظ للمعنى كما كان تكرارًا للفظ أيضًا، فالمعنى واحد يدور حول تمسكه بحبه وعدم ابتعاده وانصرافه عنه مهما لامه العواذل في حقه فهو لا يهتم بهم غير مبالٍ لذلك.
ومما ورد عنده أيضًا من هذا النوع: تكرار بعض التراكيب: كقوله( ):
يا شمسُ، قلبي في هَوَا
كِ عُطَارِدٌ وَقَدْ احْتَرقْ
فقد تكرر هذا التركيب في قصيدة أخرى، من قوله( ):
يا شمسُ، قلبي في هَوَاكِ عُطَارِدٌ
لَوْلاَ تَعَرُّضُهُ لها لم يُحْرَقِ
فقد تكرر التركيب حيث إن قلبه محترق في هوى المحبوب، فالقلب كعطارد أقرب الكواكب إلى الشمس، فلولا تعرض هذا الكوكب وقربه من الشمس لما احترق، وكذلك لولا تعرض قلب ابن مطروح لحب هذا الحبيب ولهيب عشقه لما احترق بهذا الحب.
