(يدخلها الإنسان عن طريق القنطرة الجديدة المقامة على النيل الأبيض، بعد أن ينهب الترام سهول الخرطوم الخضراء الواسعة، فيلقي نظرة على ملتقى النيلين في شبه حلم، ويعجب لهذا الالتقاء الهادئ الطبيعي، وذلك التصافح العجيب من غير إثارة ضجة ولا صوت، فكأنما النيلان افترقا في البدء على علم منهما، وهنا يتلاقيان كما يتلاقى الحبيبان ويندمجان نيلاً واحداً، فما ندري أنهما كانا نيلين من قبل، ولا ترى في موضع الالتقاء ما يشير إلى شيء من المزاحمة أو عدم الاستقرار مما يلاحظ عادة في التقاء ما بين جهتين مختلفتين، وإنما هناك عناق هادئ لين، وانبساط ساكن حزين.
فإذا فرغ المشاهد من هذا المنظر الذي لا بد أنه آخذ بنظرة مرغمة على التأمل، انتقل إلى الضفة الأخرى من النيل الأبيض فرأى البيوت الصغيرة مثبتة في الصحراء، ورأى السراب يلمع ويتماوج بعيداً، ورأى بعض العربان وراء جمالهم المحملة حطباً تمشي في اتئاد وفتور، ومن ورائها سراب ومن أمامها سراب، فكأنما هي تخوض في ماء شفاف. ورأى إلى شماله بعض ثكنات الجنود السودانيين منبثة هي الأخرى في أماكن متقاربة، ثم سمع صوت «البوري» يرن حزيناً شجياً وسط ذلك السكون الصامت، وفي أجواء ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشيء من الحنين والحزن الفاتر المنبسط، ويعجب لذلك المكان ما شأنه وشأن الترام الكهربائي والقنطرة والأتومبيل الذي يخطف كالبرق بين كل آونة وأخرى في ذلك الفضاء السحيق.
وإذا سار به الترام قليلاً في اتجاه النيل؛ رأى أول المدينة المعروف ب(الموردة)، ورأى السفن البخارية الآتية من أعالي النيل واقفة على الشاطئ محملة ببضائع تلك الأماكن الجنوبية، كما رأى بائعي الذرة أمام حبوبهم المرصوصة في أشكال أهرامات صغيرة، وهم يبيعون للمشترين وينطقون العدد في نغمة إيقاعية موسيقية فيها شيء من الملال والترديد الحزين).
هذا السيناريو الممتع مأخوذ من نصٍّ كتبه الأستاذ معاوية محمد نور، كصورة قلمية ل (أم درمان) في الثلاثينيات من القرن المنصرم. ومعاوية محمد نور كاتب متعدد، عقل متسع، يعمل فكره في كل ضروب المعرفة، يكتب عن مختلف المواضيع، يكتب عن مواضيع فلسفية معقدة، يكتب في النقد الأدبي، يمارس كتابة القصة، ويكتب عن أمور اجتماعية تستحق الالتفات إليها. إن قدرات معاوية نور في التأمل والكتابة تستطيع أن تجعل من أبسط التفاصيل موضوعاً له ثقل جوهري، ويصبح الموضوع في حيوية التأمل.
علاقتي بكتابات الأستاذ معاوية محمد نور؛ علاقة قديمة ومتجددة، هذه العلاقة أثمرث أربع حلقات إذاعية من برنامجي (فضاءات) لإذاعة البرنامج الثاني الذي استمر حتى بداية التسعينيات، وأذكر مذاق المتعة الذي كنت أحس به، وأنا أعد هذه الحلقات الأربع، كل ذلك لأن عوالم كتابات معاوية نور متعددة، وتضرب في اتجاهات مختلفة من ضروب الكتابة، والمفاهيم حول الكتابة تجدها مفاهيم معاصرة، وتلوح بأسئلتها واجتراحاتها دون أن تصدأ تلك الرؤى والمفاهيم. وأذكر مفهوماً عن الشعر والشاعر، ناوشني وحطم البداهات الأولى لديَّ عن الشعر، أيام المعهد العالي للموسيقى والمسرح، في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، كتب معاوية نور: (الشاعر الذي يبدي ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب، مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع، لا يعدو أن يكون إنساناً لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجاته البسيطة المتعارفة).
ومن هذا المفهوم أكاد أجزم بأني قد تعقدت واتسعت علاقتي بالشعر وتفجرت تأملات كثيرة حول هذه الجملة (لم تتسع أنانيته) حد أن أصبحت أميز بسهولة أولئك الشعراء الذين لم تتسع أنانيتهم بعد، وللأسف ظل هذا النموذج من الشعراء يتناسل شاعراً بعد شاعر، وبعلائقي مع فن القصة أجدني أتحسس وبطرب خاص المقدمة التي كتبها معاوية محمد نور لقصته (المكان) التي نشرت في جريدة (مصر) في الحادي عشر من نوفمبر 1931م من القرن المنصرم، وقد وسم هذه القصة بـ (القصة التحليلية). كتب معاوية: (هذا النوع من الفن القصصي ليس من مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الإحساس والعطف القوي على الخلائق، وليس من مهمته أن يحكي حكاية، وإنما هو يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص، ويربط كل ذلك بموسيقى الروح واتجاه الوعي. كما يعرض لمسائل الحياة العادية المبتذلة، ويشير عن طريق الإيحاء إلى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى. وهو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الإحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان عند شخص واحد من الأشخاص. كما أنه يصور ما يثيره شيء تافه من ملابسات الحياة في عملية الوعي وتداعي الخواطر، وقفز الخيال، وتموجات الصور الفكرية. هذا اللون القصصي – والحالة كما وصفنا- يعرض لأدق المسائل العلمية السيكولوجية المظلمة، حتى للعلماء أنفسهم، ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي، ويخرج من كل ذلك تحفة فنية حقاً. ويغلب في كتّاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم، فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان وتغيير الأمكنة والأزمان والأسماء. هذا النوع انتشر في أوروبا وعرف منذ عشر سنوات تقريباً حينما أخرج (مارسيل بروست) الفرنسي روائعه القصصية، كما أنه عرف في أتمه وأحسنه عند (كاترين مانسفيلد) و(فرجينيا ولف) من كتاب الإنجليز، ونود ولا شك أن يكتب وأن يعرف في وادي النيل).
ويدخل معاوية نور في تحليل شخصية قصته (مجدي) وعلاقاته وعلائقه بالمكان: (وابتدأ يلم أطراف موضوعه تهَيُّؤاً للكتابة النهائية. فخط في وسط السطر ((إحساسي بالمكان)) وكتب:
1 - كيف أنني أذكر الأشخاص الذين عرفتهم دائماً في مكان بعينه ويتكرر ذلك المكان كلما ذكرتهم!
2 - كيف أنني في ساعات الدرس والتحصيل تلح في ذاكرتي صور وخرائب وأمكنة رأيتها منذ عشرات الأعوام فتزورني من غير أن أناديها. وقد يقفز بي مكان في بلد إلى مكان في بلد آخر لا أعرف ما العلاقة بينهما قط ولا أستطيع أن أعرف.
3 -كيف أتخيل بعض الأمكنة ومواقعها قبل أن أراها، فلما تسعدني الظروف برؤيتها تكون وفق ما تخيلت في أغلب الأحيان!
-4 كيف أحس أن المكان الذي رأيته لأول مرة في حياتي قد رأيته من قبل في حياة سابقة أخرى!
5 - كيف أن خاطري في بعض الأحيان يلح بي لكي أذرع حوائط الدكاكين الداخلية – التي لا أعرفها - وأتمعن في ترابها وزواياها كأنني قد تركت روحاً هناك!).
كتب معاوية محمد نور في جريدة الجهاد في 25 مارس 1933م بعنوان (الأهالي بين المرض والصحة) نتجول في هذا المقال ونرى كيف أن اهتمامات هذا الكاتب المفكر بأمور وطنه كانت جادة في تلمس تفاصيل الحياة، لا سيما إن علمنا أن جريدة (الجهاد) جريدة مصرية، كتب في هذا المقال: (ما أعرف أمة تشقى بالمرض والألم الجسماني مثل ما يشقى السودان، وما أعرف شعباً سرقت منه حيويته ومقدرته على العمل والإنتاج مثل الشعب السوداني، فالملاريا والدوسنتاريا والبلهارسيا وخلافها من الأمراض المضعفة للجسم، المنهكة للقوى ما زالت تعمل بين حميع أهالي السودان عملها، وخاصة بين الفلاحين عمود الأمة الفقري ورجالها العاملين وقد ازدادت الأمراض في الأعوام الأخيرة ازدياداً وانتشرت أمراض جديدة لم تكن معروفة بهذا القدر في سابق الأيام وعندي أن الفاقة وما ينتج عنها من سوء التغذية ورداءة السكن هي السبب الأول في انتشار الملاريا والدوسنتاريا والجدري بطريقة وعلى منوال مفزع في مديرية دارفور، فقد توفي من الجدري وحده في مديرية دارفور في أعوام ثلاثة نحو1293 نفساً، هذا هو الإحصاء الرسمي، من يدرينا؟ فلعل ما لم يُحص أو ما لم يُستطع إحصاؤه كان أكبر من هذا العدد).
إن معاوية نور يعري الواقع الاجتماعي والاقتصادي للإنسان السوداني في فترة الثلاثينيات من القرن المنصرم، وفي كلماته ثورة واضحة ضد هذا الوضع المتدهور، ويربط ذلك بقدرة هذا الإنسان على الإنتاج: (زرت أثناء الصيف الماضي بعض مدن وقرى النيل الأزرق بمديرية الفونج، ورأيت الفلاح السوداني عن كثب يعمل بصبر عجيب وهو يكاد من الجوع والمرض لا يستطيع الحراك، وقد رأيت أولاده يسكنون معه في كوخ صغير من القش لا نوافذ له وليس به أثاث، رأيت هذا الرجل يعمل والعرق يتصبب من جبينه وسط المستنقعات الموبوءة بالبعوض، فإذا فرغ من عمله أوى إلى كوخه منهوك القوى، يتناول طعامه، وما طعامه سوى الذرة المسلوقة فحسب، ورأيت أولئك الأبناء تعصف بهم الملاريا؛ فإذا ببطونهم منفوخة وارمة، وإذا بلونهم شاحب حزين، التراكوما هي الأخرى تكاد تودي بأبصارهم، وهم عراة الأجسام، ضعيفو البنية، ويغدون ويروحون تحت ذلك الهجير الملتهب، كيف نطلب إذن من هذا الرجل الميِّت أن يعمل فيجيد العمل وينتج الثروة لبلاده ونحن لا نهيئ له مسكناً صالحاً ولا طعاماً مقبولاً ولا صحة في بدن أو أملاً في راحة مقبلة أو سعادة منتظرة).
إن قلم معاوية محمد نور يغوص عميقاً في تفاصيل مأساة الإنسان السوداني، ويقدم إدانته واضحة للاستعمار الإنجليزي: (لقد رأيت بعض الشباب في قرية من قرى مركز سنار، مرضى بالملاريا والتراكوما، فلما تحدثت إليهم: «ألا يمر بكم الدكتور هنا؟»، أجابوا بصوت واحد مليء بالرجاء والاستعطاف: «كلم المفتش يا جناب الأفندي»، ثم سألت وقد رأيت في بعضهم ذكاء ونشاطاً رغم مظاهر الفاقة والمرض: «أليس عندكم كتاب، مدرسة أولية هنا؟»، أجابوا: «كان زمان في مدرسة هنا وبعدين شالوها والعمدة طلبها تاني من المفتش، لكن لسه ما جابوها». هؤلاء هم السودانيون العاملون دافعو الضرائب وزارعو الأرض الذين من أجلهم ذهب الإنجليز إلى السودان لنشر الحضارة والتقدم بينهم، يعيشون في فقر مدقع ومرض متواصل وفقر روحي وجهل لا يوصف).
قبل ما يزيد عن ستين عاماً، وفي ما قبل منتصف القرن العشرين، كتب معاوية محمد نور هذا المقال، ترى هل اختلف الواقع السوداني الآن عما وصفه معاوية محمد نور في الثلاثينيات من القرن المنصرم؟ ويبقى تساؤل معاوية محمد نور (ألا يمر بكم الدكتور هنا؟) تساؤلاً قائماً وعابراً قرناً من الزمان، فاضحاً لاجدوى الممارسة السياسية في السودان، ويتساوى الاستعمار والحكومات الوطنية أمام هذا التساؤل.
(في القطار)، قصة قصيرة كتبها معاوية محمد نور في الثلاثينيات من القرن المنصرم عن مأساة طفل يبيع الشاي ومعه أمه في محطة (شندي)، نحن الآن نكاد نتجاوز العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ومحطة شندي نادراً ما تمر عليها القطارات.
فإذا فرغ المشاهد من هذا المنظر الذي لا بد أنه آخذ بنظرة مرغمة على التأمل، انتقل إلى الضفة الأخرى من النيل الأبيض فرأى البيوت الصغيرة مثبتة في الصحراء، ورأى السراب يلمع ويتماوج بعيداً، ورأى بعض العربان وراء جمالهم المحملة حطباً تمشي في اتئاد وفتور، ومن ورائها سراب ومن أمامها سراب، فكأنما هي تخوض في ماء شفاف. ورأى إلى شماله بعض ثكنات الجنود السودانيين منبثة هي الأخرى في أماكن متقاربة، ثم سمع صوت «البوري» يرن حزيناً شجياً وسط ذلك السكون الصامت، وفي أجواء ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشيء من الحنين والحزن الفاتر المنبسط، ويعجب لذلك المكان ما شأنه وشأن الترام الكهربائي والقنطرة والأتومبيل الذي يخطف كالبرق بين كل آونة وأخرى في ذلك الفضاء السحيق.
وإذا سار به الترام قليلاً في اتجاه النيل؛ رأى أول المدينة المعروف ب(الموردة)، ورأى السفن البخارية الآتية من أعالي النيل واقفة على الشاطئ محملة ببضائع تلك الأماكن الجنوبية، كما رأى بائعي الذرة أمام حبوبهم المرصوصة في أشكال أهرامات صغيرة، وهم يبيعون للمشترين وينطقون العدد في نغمة إيقاعية موسيقية فيها شيء من الملال والترديد الحزين).
هذا السيناريو الممتع مأخوذ من نصٍّ كتبه الأستاذ معاوية محمد نور، كصورة قلمية ل (أم درمان) في الثلاثينيات من القرن المنصرم. ومعاوية محمد نور كاتب متعدد، عقل متسع، يعمل فكره في كل ضروب المعرفة، يكتب عن مختلف المواضيع، يكتب عن مواضيع فلسفية معقدة، يكتب في النقد الأدبي، يمارس كتابة القصة، ويكتب عن أمور اجتماعية تستحق الالتفات إليها. إن قدرات معاوية نور في التأمل والكتابة تستطيع أن تجعل من أبسط التفاصيل موضوعاً له ثقل جوهري، ويصبح الموضوع في حيوية التأمل.
علاقتي بكتابات الأستاذ معاوية محمد نور؛ علاقة قديمة ومتجددة، هذه العلاقة أثمرث أربع حلقات إذاعية من برنامجي (فضاءات) لإذاعة البرنامج الثاني الذي استمر حتى بداية التسعينيات، وأذكر مذاق المتعة الذي كنت أحس به، وأنا أعد هذه الحلقات الأربع، كل ذلك لأن عوالم كتابات معاوية نور متعددة، وتضرب في اتجاهات مختلفة من ضروب الكتابة، والمفاهيم حول الكتابة تجدها مفاهيم معاصرة، وتلوح بأسئلتها واجتراحاتها دون أن تصدأ تلك الرؤى والمفاهيم. وأذكر مفهوماً عن الشعر والشاعر، ناوشني وحطم البداهات الأولى لديَّ عن الشعر، أيام المعهد العالي للموسيقى والمسرح، في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، كتب معاوية نور: (الشاعر الذي يبدي ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب، مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع، لا يعدو أن يكون إنساناً لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجاته البسيطة المتعارفة).
ومن هذا المفهوم أكاد أجزم بأني قد تعقدت واتسعت علاقتي بالشعر وتفجرت تأملات كثيرة حول هذه الجملة (لم تتسع أنانيته) حد أن أصبحت أميز بسهولة أولئك الشعراء الذين لم تتسع أنانيتهم بعد، وللأسف ظل هذا النموذج من الشعراء يتناسل شاعراً بعد شاعر، وبعلائقي مع فن القصة أجدني أتحسس وبطرب خاص المقدمة التي كتبها معاوية محمد نور لقصته (المكان) التي نشرت في جريدة (مصر) في الحادي عشر من نوفمبر 1931م من القرن المنصرم، وقد وسم هذه القصة بـ (القصة التحليلية). كتب معاوية: (هذا النوع من الفن القصصي ليس من مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الإحساس والعطف القوي على الخلائق، وليس من مهمته أن يحكي حكاية، وإنما هو يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص، ويربط كل ذلك بموسيقى الروح واتجاه الوعي. كما يعرض لمسائل الحياة العادية المبتذلة، ويشير عن طريق الإيحاء إلى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى. وهو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الإحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان عند شخص واحد من الأشخاص. كما أنه يصور ما يثيره شيء تافه من ملابسات الحياة في عملية الوعي وتداعي الخواطر، وقفز الخيال، وتموجات الصور الفكرية. هذا اللون القصصي – والحالة كما وصفنا- يعرض لأدق المسائل العلمية السيكولوجية المظلمة، حتى للعلماء أنفسهم، ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي، ويخرج من كل ذلك تحفة فنية حقاً. ويغلب في كتّاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم، فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان وتغيير الأمكنة والأزمان والأسماء. هذا النوع انتشر في أوروبا وعرف منذ عشر سنوات تقريباً حينما أخرج (مارسيل بروست) الفرنسي روائعه القصصية، كما أنه عرف في أتمه وأحسنه عند (كاترين مانسفيلد) و(فرجينيا ولف) من كتاب الإنجليز، ونود ولا شك أن يكتب وأن يعرف في وادي النيل).
ويدخل معاوية نور في تحليل شخصية قصته (مجدي) وعلاقاته وعلائقه بالمكان: (وابتدأ يلم أطراف موضوعه تهَيُّؤاً للكتابة النهائية. فخط في وسط السطر ((إحساسي بالمكان)) وكتب:
1 - كيف أنني أذكر الأشخاص الذين عرفتهم دائماً في مكان بعينه ويتكرر ذلك المكان كلما ذكرتهم!
2 - كيف أنني في ساعات الدرس والتحصيل تلح في ذاكرتي صور وخرائب وأمكنة رأيتها منذ عشرات الأعوام فتزورني من غير أن أناديها. وقد يقفز بي مكان في بلد إلى مكان في بلد آخر لا أعرف ما العلاقة بينهما قط ولا أستطيع أن أعرف.
3 -كيف أتخيل بعض الأمكنة ومواقعها قبل أن أراها، فلما تسعدني الظروف برؤيتها تكون وفق ما تخيلت في أغلب الأحيان!
-4 كيف أحس أن المكان الذي رأيته لأول مرة في حياتي قد رأيته من قبل في حياة سابقة أخرى!
5 - كيف أن خاطري في بعض الأحيان يلح بي لكي أذرع حوائط الدكاكين الداخلية – التي لا أعرفها - وأتمعن في ترابها وزواياها كأنني قد تركت روحاً هناك!).
كتب معاوية محمد نور في جريدة الجهاد في 25 مارس 1933م بعنوان (الأهالي بين المرض والصحة) نتجول في هذا المقال ونرى كيف أن اهتمامات هذا الكاتب المفكر بأمور وطنه كانت جادة في تلمس تفاصيل الحياة، لا سيما إن علمنا أن جريدة (الجهاد) جريدة مصرية، كتب في هذا المقال: (ما أعرف أمة تشقى بالمرض والألم الجسماني مثل ما يشقى السودان، وما أعرف شعباً سرقت منه حيويته ومقدرته على العمل والإنتاج مثل الشعب السوداني، فالملاريا والدوسنتاريا والبلهارسيا وخلافها من الأمراض المضعفة للجسم، المنهكة للقوى ما زالت تعمل بين حميع أهالي السودان عملها، وخاصة بين الفلاحين عمود الأمة الفقري ورجالها العاملين وقد ازدادت الأمراض في الأعوام الأخيرة ازدياداً وانتشرت أمراض جديدة لم تكن معروفة بهذا القدر في سابق الأيام وعندي أن الفاقة وما ينتج عنها من سوء التغذية ورداءة السكن هي السبب الأول في انتشار الملاريا والدوسنتاريا والجدري بطريقة وعلى منوال مفزع في مديرية دارفور، فقد توفي من الجدري وحده في مديرية دارفور في أعوام ثلاثة نحو1293 نفساً، هذا هو الإحصاء الرسمي، من يدرينا؟ فلعل ما لم يُحص أو ما لم يُستطع إحصاؤه كان أكبر من هذا العدد).
إن معاوية نور يعري الواقع الاجتماعي والاقتصادي للإنسان السوداني في فترة الثلاثينيات من القرن المنصرم، وفي كلماته ثورة واضحة ضد هذا الوضع المتدهور، ويربط ذلك بقدرة هذا الإنسان على الإنتاج: (زرت أثناء الصيف الماضي بعض مدن وقرى النيل الأزرق بمديرية الفونج، ورأيت الفلاح السوداني عن كثب يعمل بصبر عجيب وهو يكاد من الجوع والمرض لا يستطيع الحراك، وقد رأيت أولاده يسكنون معه في كوخ صغير من القش لا نوافذ له وليس به أثاث، رأيت هذا الرجل يعمل والعرق يتصبب من جبينه وسط المستنقعات الموبوءة بالبعوض، فإذا فرغ من عمله أوى إلى كوخه منهوك القوى، يتناول طعامه، وما طعامه سوى الذرة المسلوقة فحسب، ورأيت أولئك الأبناء تعصف بهم الملاريا؛ فإذا ببطونهم منفوخة وارمة، وإذا بلونهم شاحب حزين، التراكوما هي الأخرى تكاد تودي بأبصارهم، وهم عراة الأجسام، ضعيفو البنية، ويغدون ويروحون تحت ذلك الهجير الملتهب، كيف نطلب إذن من هذا الرجل الميِّت أن يعمل فيجيد العمل وينتج الثروة لبلاده ونحن لا نهيئ له مسكناً صالحاً ولا طعاماً مقبولاً ولا صحة في بدن أو أملاً في راحة مقبلة أو سعادة منتظرة).
إن قلم معاوية محمد نور يغوص عميقاً في تفاصيل مأساة الإنسان السوداني، ويقدم إدانته واضحة للاستعمار الإنجليزي: (لقد رأيت بعض الشباب في قرية من قرى مركز سنار، مرضى بالملاريا والتراكوما، فلما تحدثت إليهم: «ألا يمر بكم الدكتور هنا؟»، أجابوا بصوت واحد مليء بالرجاء والاستعطاف: «كلم المفتش يا جناب الأفندي»، ثم سألت وقد رأيت في بعضهم ذكاء ونشاطاً رغم مظاهر الفاقة والمرض: «أليس عندكم كتاب، مدرسة أولية هنا؟»، أجابوا: «كان زمان في مدرسة هنا وبعدين شالوها والعمدة طلبها تاني من المفتش، لكن لسه ما جابوها». هؤلاء هم السودانيون العاملون دافعو الضرائب وزارعو الأرض الذين من أجلهم ذهب الإنجليز إلى السودان لنشر الحضارة والتقدم بينهم، يعيشون في فقر مدقع ومرض متواصل وفقر روحي وجهل لا يوصف).
قبل ما يزيد عن ستين عاماً، وفي ما قبل منتصف القرن العشرين، كتب معاوية محمد نور هذا المقال، ترى هل اختلف الواقع السوداني الآن عما وصفه معاوية محمد نور في الثلاثينيات من القرن المنصرم؟ ويبقى تساؤل معاوية محمد نور (ألا يمر بكم الدكتور هنا؟) تساؤلاً قائماً وعابراً قرناً من الزمان، فاضحاً لاجدوى الممارسة السياسية في السودان، ويتساوى الاستعمار والحكومات الوطنية أمام هذا التساؤل.
(في القطار)، قصة قصيرة كتبها معاوية محمد نور في الثلاثينيات من القرن المنصرم عن مأساة طفل يبيع الشاي ومعه أمه في محطة (شندي)، نحن الآن نكاد نتجاوز العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ومحطة شندي نادراً ما تمر عليها القطارات.