لا يستطيع المثقف كبير أمر. ينبغي أن لا نغلوَ في دوره، وأن نعتقد أنه صاحب الحل لِما قد يُعضل. توهمت في فترة من حياتي أن المثقف هو المنارة التي تنير وتَهدي السبيل، بطرحه للأسئلة، بتفكيكه لواقع معقد، كي يفهمه، في أفق تغييره. كانت تلك هي الصورة التي انطبعت في أذهان جيلي من جامعة متأثرة بالمدرسة الفرنسية، ودور المثقف في التغيير، من فولتير فسان سيمون مَن صاغ مصطلح intellectuel إلى أوغست كانط، وزولا إلى جوليان بيندا، صاحب «خيانة المثقفين». كان النموذج الذي نتمثله هو سارتر. كنا نردد، كما لو أنا نعيش على ضفاف نهر السين، ذلك الشعار الذي كان يرفعه الطلبة في فرنسا: من الأفضل أن يكون الشخص على خطأ مع سارتر، على أن يكون على صواب مع أرون. وكان حينها «الإنجيل» الذي نأتّم به كتابَ فرانز فانون «معذبو الأرض» نردد خاتمة كتابه كما لو هي ترانيم «اللعبة الأوروبية انتهت، وينبغي أن نبحث عن شيء آخر».
حمل سياق ما بعد الحرب العالمية آمالا عريضة، وبرز حينها دور المثقف خاصة مع التحول الذي قاده المثقفون في أوروبا الشرقية… كانت بُنى السلطة في العالم العربي قد تعرضت للتصدع، وقد رُفع الغطاء عن القِدْر بعد الحرب الباردة، سعى بعضها في إصلاحات مرحلية وإجراءات تجميلية، وجرت أنهار من تحت الجسور، في أرض جرداء.. تغير عالمنا منذ 11 سبتمبر.
القوة الوحيدة التي تزعج مرحليا بنيات السلطة القائمة هي الشارع، لكن الشارع بمثابة نار الهشيم كتلة غير متجانسة، لها قوة احتجاجية هلامية
وتغير الغرب في تعامله مع عالمنا، ولم يعد يستهويه أن يتحدث للمثقفين والناشطين، ويفضل عليهم أصحاب النياشين من الجيش والأمن في الحرب ضد الإرهاب، لم يكن الغرب في دائرة التمييز، إما أن تكون معه أو أنت ضده. أضحى التفكير شأنه، ودور «مثقفينا» أن يعكسوا ما فكرت فيه مراكز الغرب البحثية، عرفت كتب رواجا غير مسبوق، كما كتاب «مرض الإسلام» لعبد الوهاب المؤدب، أو «لماذا لست مسلما» لابن الوراق، وهو اسم مستعار لكاتب يخفي اسمه، أو لمحمد أركون يشرح سورة الأنفال، وما انتهى إليه من أن العنف مقترن بالإسلام، أو لكاتب فرنسي من أصل مغربي يشرح لابنته الإسلام، وهو لا يقرأ جملة واحدة بالعربية، ولا يعرف الثقافة العربية إلا ظنا، ولا يفقه في طقوس الدين فكيف بالأحرى الدين. وكانت من الكتب المرجعية التي تُشرّح حالة الاحتقان في العالم الإسلامي، كتاب برنارد لويس what went wrong الذي يجعل المشكل في دائرة المسلمين والعرب، مَن يجعلون الآخر مسؤولا عن مآسيهم. كان من العبث أن تحيل لكتابات ماكس فيبير حول سوسيولوجية الأديان، والدفع بأن الدين لا يُختزل في النصوص المؤسسة له، وأن المجتمعات، حسب السياقات والتاريخ، تصوغ فهمها للدين، وأن الدين شأنه شأن اللغة، لا يُختزل في المعجم أو القواميس، ولكن في ما يبدع به ذووه. وكان من غير المجدي الوقوف على تناقضات الغرب، في الخطاب وفي الفعل، أمام الصمم المستشري. تحدث مثقف مغاربي عن «الجهل المقدس» أخذا بمقولة لأولفيه روا، ينتقد فيها جهل الغرب، وطبقه «مثقفنا» على مجتمعاتنا، وأضحى المصطلح ساريا. لم يُرِد المثقف «الجهبذ» أن يتحدث عن التجاهل «المقدس». كانت حربا غير معلنة، وكان حواريو الغرب يفتحون النار الأولى، كي تبدأ الحرب الحقيقية، من أجل صياغة مخيال جديد. كانت أمريكا تريد أن تصنع عالما جديدا، من خلال توجيهات معهد أمريكان أونتربرايز، وما لف لفه من مراكز بحثية، هي صدى للمحافظين الجدد، في وصفات جاهزة من قبيل من «بنغلادش إلى مراكش» يحملها عنها حواريون من التكنوقراط والأمنيين ومثقفي التلفزيون. ألْفت السلطة في العالم العربي نفسها في حَلّ من كل جهد، من تمارين الانتخابات وخطاب حقوق الإنسان، وقد التقت مصالحها مع مصالح الغرب. أسفرت عما كانت تتستر عنه، وأصبح الاستبداد منظومة عمل Modus operandi، وخصوصية ثقافية، بل هوية راسخة، وامتدح رئيس فرنسي حق الإنسان الأول، ألا وهو الخبز، وهو يمتدح ديكتاتورية زين العابدين بن علي. وفي الجزائر التي تستمد شرعيتها من حرب تحريرية شعبية، وقيم الجمهورية، انزاحت ممارسة السلطة إلى أولغارشية، تأخذ بما تنتقد جهارا، تكاد أن تصبح صورة للمخزن المغربي، بطقوسه وأسلوبه. وفي المغرب أضحى فتى مستواه الدراسي البكلوريا ناقص سبعة، كما كانت تنعته الصحافة، مُنظّرا لتوجه سياسي، وأصبح الحَكم لاعبا، أو في هذا التعبير المتداول في الجزائر والمغرب «اللاعب حميدة، والرشم (الحَكم) حميدة» وأضحى العلمانيون مفتين للإسلام الوسطي، والمفرنسون دعاة للأصالة، وقدامى الماركسيين منتصرين لليبرالية. أما مصر فقد شرعنت للجملكية، وعودة الباشوات والبكوات، ودخلت الانتخابات التشريعية لخريف 2010 غينيس السيريالية، بصفر صوت لمرشحي المعارضة. أما العراق، النموذج الذي كان يهيأ كي يكون «ألمانيا» العالم العربي، فقد دخل في سديم الفوضى والعنف والطائفية. هل يمكن أن نفهم ما جرى من دون تواطؤ الغرب؟ هل يمكن أن نفهم الانتكاسات المتتالية والعنف المتلبس بلبوس الميتافيزيقا لولا الغرب؟ لولا صممه وعجرفته، وسياسة الكيل بمكيالين، وهزؤه بحقوق الإنسان، وضربه القضية الفلسطينية بعرض الحائط، مع تواطؤ «الإخوة». أخفقت أمريكا، بشهادتها، وهل يمكنها أن تنجح اليوم في ما أخفقت فيه أمس؟ المثقف لا يستطيع شيئا، لأن بنيات السلطة راسخة وتستند إلى شبكة دولية، إعلامية ومخابراتية مع وسائل مادية ضخمة، ومزيج من الترغيب والترهيب، وإلى نوع من أممية تأنف من التغيير، وتجهض الديناميات الداخلية. طورت تلك «الأممية» من أساليبها وأبانت عن قدرة مذهلة على الالتئام. القوة الوحيدة التي تزعج مرحليا البنيات القائمة هي الشارع، لكن الشارع بمثابة نار الهشيم.. كتلة غير متجانسة، لها قوة احتجاجية هلامية تركب عليها قوة مهيكلة هي الجيش. ليس للشارع قوة ذاتية، ولا يمكن أن يثبت، ولا تجمعه فكرة جامعة، ولا تنظير، ولا زعامة.
معارك خاسرة لا يبقى فيها للمثقف إلا أن يكون شاهدا فقط.. لا شيء غير ذلك، أو ينسحب في رفق، بلا صخب. اللعبة محسومة، والنتيجة معلومة. لعبة عبثية، كما سيزيف يرفع الصخرة، في تواتر، وتتدحرج ثانية. ولعل الصواب ما يحيل إليه هذا التعبير المغاربي العميق الدلالة: دخل المنجل القُلّة (الجرّة). وهذا الذي نحن فيه.
كاتب مغربي
www.alquds.co.uk
حمل سياق ما بعد الحرب العالمية آمالا عريضة، وبرز حينها دور المثقف خاصة مع التحول الذي قاده المثقفون في أوروبا الشرقية… كانت بُنى السلطة في العالم العربي قد تعرضت للتصدع، وقد رُفع الغطاء عن القِدْر بعد الحرب الباردة، سعى بعضها في إصلاحات مرحلية وإجراءات تجميلية، وجرت أنهار من تحت الجسور، في أرض جرداء.. تغير عالمنا منذ 11 سبتمبر.
القوة الوحيدة التي تزعج مرحليا بنيات السلطة القائمة هي الشارع، لكن الشارع بمثابة نار الهشيم كتلة غير متجانسة، لها قوة احتجاجية هلامية
وتغير الغرب في تعامله مع عالمنا، ولم يعد يستهويه أن يتحدث للمثقفين والناشطين، ويفضل عليهم أصحاب النياشين من الجيش والأمن في الحرب ضد الإرهاب، لم يكن الغرب في دائرة التمييز، إما أن تكون معه أو أنت ضده. أضحى التفكير شأنه، ودور «مثقفينا» أن يعكسوا ما فكرت فيه مراكز الغرب البحثية، عرفت كتب رواجا غير مسبوق، كما كتاب «مرض الإسلام» لعبد الوهاب المؤدب، أو «لماذا لست مسلما» لابن الوراق، وهو اسم مستعار لكاتب يخفي اسمه، أو لمحمد أركون يشرح سورة الأنفال، وما انتهى إليه من أن العنف مقترن بالإسلام، أو لكاتب فرنسي من أصل مغربي يشرح لابنته الإسلام، وهو لا يقرأ جملة واحدة بالعربية، ولا يعرف الثقافة العربية إلا ظنا، ولا يفقه في طقوس الدين فكيف بالأحرى الدين. وكانت من الكتب المرجعية التي تُشرّح حالة الاحتقان في العالم الإسلامي، كتاب برنارد لويس what went wrong الذي يجعل المشكل في دائرة المسلمين والعرب، مَن يجعلون الآخر مسؤولا عن مآسيهم. كان من العبث أن تحيل لكتابات ماكس فيبير حول سوسيولوجية الأديان، والدفع بأن الدين لا يُختزل في النصوص المؤسسة له، وأن المجتمعات، حسب السياقات والتاريخ، تصوغ فهمها للدين، وأن الدين شأنه شأن اللغة، لا يُختزل في المعجم أو القواميس، ولكن في ما يبدع به ذووه. وكان من غير المجدي الوقوف على تناقضات الغرب، في الخطاب وفي الفعل، أمام الصمم المستشري. تحدث مثقف مغاربي عن «الجهل المقدس» أخذا بمقولة لأولفيه روا، ينتقد فيها جهل الغرب، وطبقه «مثقفنا» على مجتمعاتنا، وأضحى المصطلح ساريا. لم يُرِد المثقف «الجهبذ» أن يتحدث عن التجاهل «المقدس». كانت حربا غير معلنة، وكان حواريو الغرب يفتحون النار الأولى، كي تبدأ الحرب الحقيقية، من أجل صياغة مخيال جديد. كانت أمريكا تريد أن تصنع عالما جديدا، من خلال توجيهات معهد أمريكان أونتربرايز، وما لف لفه من مراكز بحثية، هي صدى للمحافظين الجدد، في وصفات جاهزة من قبيل من «بنغلادش إلى مراكش» يحملها عنها حواريون من التكنوقراط والأمنيين ومثقفي التلفزيون. ألْفت السلطة في العالم العربي نفسها في حَلّ من كل جهد، من تمارين الانتخابات وخطاب حقوق الإنسان، وقد التقت مصالحها مع مصالح الغرب. أسفرت عما كانت تتستر عنه، وأصبح الاستبداد منظومة عمل Modus operandi، وخصوصية ثقافية، بل هوية راسخة، وامتدح رئيس فرنسي حق الإنسان الأول، ألا وهو الخبز، وهو يمتدح ديكتاتورية زين العابدين بن علي. وفي الجزائر التي تستمد شرعيتها من حرب تحريرية شعبية، وقيم الجمهورية، انزاحت ممارسة السلطة إلى أولغارشية، تأخذ بما تنتقد جهارا، تكاد أن تصبح صورة للمخزن المغربي، بطقوسه وأسلوبه. وفي المغرب أضحى فتى مستواه الدراسي البكلوريا ناقص سبعة، كما كانت تنعته الصحافة، مُنظّرا لتوجه سياسي، وأصبح الحَكم لاعبا، أو في هذا التعبير المتداول في الجزائر والمغرب «اللاعب حميدة، والرشم (الحَكم) حميدة» وأضحى العلمانيون مفتين للإسلام الوسطي، والمفرنسون دعاة للأصالة، وقدامى الماركسيين منتصرين لليبرالية. أما مصر فقد شرعنت للجملكية، وعودة الباشوات والبكوات، ودخلت الانتخابات التشريعية لخريف 2010 غينيس السيريالية، بصفر صوت لمرشحي المعارضة. أما العراق، النموذج الذي كان يهيأ كي يكون «ألمانيا» العالم العربي، فقد دخل في سديم الفوضى والعنف والطائفية. هل يمكن أن نفهم ما جرى من دون تواطؤ الغرب؟ هل يمكن أن نفهم الانتكاسات المتتالية والعنف المتلبس بلبوس الميتافيزيقا لولا الغرب؟ لولا صممه وعجرفته، وسياسة الكيل بمكيالين، وهزؤه بحقوق الإنسان، وضربه القضية الفلسطينية بعرض الحائط، مع تواطؤ «الإخوة». أخفقت أمريكا، بشهادتها، وهل يمكنها أن تنجح اليوم في ما أخفقت فيه أمس؟ المثقف لا يستطيع شيئا، لأن بنيات السلطة راسخة وتستند إلى شبكة دولية، إعلامية ومخابراتية مع وسائل مادية ضخمة، ومزيج من الترغيب والترهيب، وإلى نوع من أممية تأنف من التغيير، وتجهض الديناميات الداخلية. طورت تلك «الأممية» من أساليبها وأبانت عن قدرة مذهلة على الالتئام. القوة الوحيدة التي تزعج مرحليا البنيات القائمة هي الشارع، لكن الشارع بمثابة نار الهشيم.. كتلة غير متجانسة، لها قوة احتجاجية هلامية تركب عليها قوة مهيكلة هي الجيش. ليس للشارع قوة ذاتية، ولا يمكن أن يثبت، ولا تجمعه فكرة جامعة، ولا تنظير، ولا زعامة.
معارك خاسرة لا يبقى فيها للمثقف إلا أن يكون شاهدا فقط.. لا شيء غير ذلك، أو ينسحب في رفق، بلا صخب. اللعبة محسومة، والنتيجة معلومة. لعبة عبثية، كما سيزيف يرفع الصخرة، في تواتر، وتتدحرج ثانية. ولعل الصواب ما يحيل إليه هذا التعبير المغاربي العميق الدلالة: دخل المنجل القُلّة (الجرّة). وهذا الذي نحن فيه.
كاتب مغربي
ما الذي يستطيعه المثقف؟ | حسن أوريد
لا يستطيع المثقف كبير أمر. ينبغي أن لا نغلوَ في دوره، وأن نعتقد أنه صاحب الحل لِما قد يُعضل. توهمت في فترة من حياتي أن المثقف هو المنارة التي تنير وتَهدي السبيل، بطرحه للأسئلة، بتفكيكه لواقع معقد، كي