وتعبر فردوس بفردوسها، فيتبعها الغرميط، ويدعوا الله أن يحفظ قلبه حين يرى ما ينكشف من قدمها الأحمر كلما مشت مشيها البطيء..
"وعدي ويا حيرتي"، يهمس لها وهو يسير خلفها مجتراً قلباً دامياً، فتتعمد هي ألا تلتفت وراءها.
وتزيد من بطء سيرها ليرى حركة عجيزتها فيموت كمداً..
وهي ترسم ابتسامة تخفيها، تهمس بقلبها:
- الغرميط يا جبان..لن تنالني ما دمتَ جباناً..
وهي تعلم أن المحب يزداد جبنا كلما كبر عشقه في قلبه..
- ألا تأبهين يا فاتنتي الأندلسية لقلب جواه الشوق؟..
فتبطء في السير، ويخفق قلبه.."تقدم".. لكنه يخاف أن يتقدم...بل يتوقف وقد تحجر الكون من حوله حين يظهر بيت أبيها في الأفق..وإذ يراقبها حتى تدخل وتغلق الباب، يظل العجز يشكم فمه، فيضرب رأسه بقبضته اليمنى غضباً..
ويرى تلك القدم الحمراء وهو يتأمل سقف غرفته المظلمة..
لم يحدثها أبداً ولم تحدثه أبداً، لكنه يسير خلفها وهي تعرف أنه يسير خلفها..
غير أن هواه يصور له أحاديثاً وأحاديث، حكايات وحكايات، قبلات وقبلات، حباً وحب، عشقاً ووصلاً، ثم يجتاحه القنوط عندما يعبر خاطر بأنها لا تعبأ بحبه، وأن فؤادها لا يتحرك قيد أنملة، وأن قلبه يرجفه وهم حب لا رجاء له..
وجلس مع اقرانه من باعة الفخار، فبلغه خبر زواجها من أحد التجار، فصعق، حتى ظن أن السماوات والأرض قد صعقتا معه..
...
ويرحل الغرميط إلى المغرب فلا ينسى فردوس، ومن هناك إلى تونس فلا ينسى فردوس، ثم مصر فلا ينسى فردوس،..فيصعد إلى الشمال حيث الشام ومن هناك إلى بغداد شرقاً..
"من أحب اندلسية لن ينسى أبداً"..
يختزن عشقه فينمو نمو الأعشاب الخبيثة، ويربوا ولا ينقص، فيترك بغداد عائداً إلى الشام، ثم مصر، ثم تونس فالمغرب، فالأندلس. ولا يجد فردوس، لقد ارتحلت مع زوجها إلى بغداد..
....
ويقطع الفيافي عائداً إلى أفريقيا، فيعبر من تمبكتو حتى يبلغ أرض السودان، وينشئ طريقة جنوب شلالات النهر. يتصوف، فيتبعه العشرات، ثم المئات فالآلاف، يرقص ويدور حول نفسه مذهولاً بأنوار العرش، فتدور الحشود ويدقون الطبول والدفوف والصنوج النحاسية، وتسخن أجسادهم بارتفاع وتيرة الإيقاعات الموحِّدة، وتنبسط السماء فتحمر، وحينما يرفع رأسه للسماء يبصر قدم الاندلسية. فيحزن حزن اللائم، حزناً يحيط بعينيه المكفهرتين حتى يرى فيه المريدون نشوة تزيده قداسة في أعينهم، المنتشون منهم يصيحون.."حي..قيوم..حي..قيوم".. فيصرخ صرخات مذبوحة "حي .. قيوم، حي قيوم".. حتى يغشى عليه...
(تمت)
"وعدي ويا حيرتي"، يهمس لها وهو يسير خلفها مجتراً قلباً دامياً، فتتعمد هي ألا تلتفت وراءها.
وتزيد من بطء سيرها ليرى حركة عجيزتها فيموت كمداً..
وهي ترسم ابتسامة تخفيها، تهمس بقلبها:
- الغرميط يا جبان..لن تنالني ما دمتَ جباناً..
وهي تعلم أن المحب يزداد جبنا كلما كبر عشقه في قلبه..
- ألا تأبهين يا فاتنتي الأندلسية لقلب جواه الشوق؟..
فتبطء في السير، ويخفق قلبه.."تقدم".. لكنه يخاف أن يتقدم...بل يتوقف وقد تحجر الكون من حوله حين يظهر بيت أبيها في الأفق..وإذ يراقبها حتى تدخل وتغلق الباب، يظل العجز يشكم فمه، فيضرب رأسه بقبضته اليمنى غضباً..
ويرى تلك القدم الحمراء وهو يتأمل سقف غرفته المظلمة..
لم يحدثها أبداً ولم تحدثه أبداً، لكنه يسير خلفها وهي تعرف أنه يسير خلفها..
غير أن هواه يصور له أحاديثاً وأحاديث، حكايات وحكايات، قبلات وقبلات، حباً وحب، عشقاً ووصلاً، ثم يجتاحه القنوط عندما يعبر خاطر بأنها لا تعبأ بحبه، وأن فؤادها لا يتحرك قيد أنملة، وأن قلبه يرجفه وهم حب لا رجاء له..
وجلس مع اقرانه من باعة الفخار، فبلغه خبر زواجها من أحد التجار، فصعق، حتى ظن أن السماوات والأرض قد صعقتا معه..
...
ويرحل الغرميط إلى المغرب فلا ينسى فردوس، ومن هناك إلى تونس فلا ينسى فردوس، ثم مصر فلا ينسى فردوس،..فيصعد إلى الشمال حيث الشام ومن هناك إلى بغداد شرقاً..
"من أحب اندلسية لن ينسى أبداً"..
يختزن عشقه فينمو نمو الأعشاب الخبيثة، ويربوا ولا ينقص، فيترك بغداد عائداً إلى الشام، ثم مصر، ثم تونس فالمغرب، فالأندلس. ولا يجد فردوس، لقد ارتحلت مع زوجها إلى بغداد..
....
ويقطع الفيافي عائداً إلى أفريقيا، فيعبر من تمبكتو حتى يبلغ أرض السودان، وينشئ طريقة جنوب شلالات النهر. يتصوف، فيتبعه العشرات، ثم المئات فالآلاف، يرقص ويدور حول نفسه مذهولاً بأنوار العرش، فتدور الحشود ويدقون الطبول والدفوف والصنوج النحاسية، وتسخن أجسادهم بارتفاع وتيرة الإيقاعات الموحِّدة، وتنبسط السماء فتحمر، وحينما يرفع رأسه للسماء يبصر قدم الاندلسية. فيحزن حزن اللائم، حزناً يحيط بعينيه المكفهرتين حتى يرى فيه المريدون نشوة تزيده قداسة في أعينهم، المنتشون منهم يصيحون.."حي..قيوم..حي..قيوم".. فيصرخ صرخات مذبوحة "حي .. قيوم، حي قيوم".. حتى يغشى عليه...
(تمت)