أمل الكردفاني - السيناريست الفاشل.. قصة

نعم إنني سيناريست فاشل
لقد نعتني بذلك وهو يلقي بالأوراق في وجهي ويصرخ دون أن يحترم سني "إنه السيناريو الرابع الذي لا يلبي المعايير الفنية..أنت تضيع زمني.. ثلاثة أشهر وأنا أنتظرك ثم ترسل لي كل هذا الهراء"
ولأن صراخه غير المحترم امتزج بغضب حقيقي، فقد جعلني ذلك أتلجلج قليلاً في الرد عليه رداً حاسماً، صحيح أنني فكرت بعد ذلك في عشر ردود قوية، لكن الأشياء التي تمضي لا تعود "هذا ليس سيناريو ولا حوار..انظر للحوار إنه ثرثرة..مجرد ثرثرة..لقد فقدت تركيزك تماماً وتحولت لثرثار"..
رددت عليه " ولكنه ليس ثرثرة..إنه واقعي جداً..حوار واقعي جداً"
فقال محاولاً تهدأة أنفاسه المتصاعدة "ومن قال أن الحوار يجب ان يكون واقعياً..ما معنى أن يتحدث رجل وامرأة لسبع دقائق عن العمل والشوارع ونظافة الحمامات العامة قبل أن يتحدثا عن جوهر الموضوع بينهما وهو الزواج؟" أجبته "لأن الحوارات غالباً ما لا تكون في لب الموضوع هكذا مباشرة..هل تفعل أنت ذلك في حياتك اليومية..متى كانت حواراتنا مباشرة وجوهرية؟..إننا نثرثر بنسبة تسع وتسعين في المائة من حواراتنا اليومية طوال حياتنا" فيصرخ غاضباً "لأن الناس لا يشاهدوننا من خلف الشاشات يا أحمق..المسلسل له زمن معين..كل مشهد له زمن معين لا يجب أن يتجاوزه، إن الشخصيات تكبر في ثانية واحدة..نحن نختصر الحياة الطويلة..ولذلك يستطيع البشر مشاهدة مسلسلاتنا لأنهم يبحثون عن المتعة في جوهر الحوار لا في الثرثرة..هل فهمت؟" ..قال "هل فهمت" هذي بأستاذية جرحت كبريائي فغادرت..وها أنا أجلس على مقهى قرب النهر أكتب قصتي هذي..قصتي التي بدأتها بالجوهر مباشرة ولم أثرثر..لقد تجاهلت سنوات زمالتي لهذا المخرج لأربع سنوات وخطفه حبيبتي التي لم تكن تحبني..كان حباً من طرف واحد..وتجاهلتُ زواجه الذي أنفق فيه خمسين ألف دولار في حين كنت أبيع أنا فيه جوارب جدي القديمة التي ورثتها عنه لكي أتمكن من شراء علبة سجائر، وتجاهلتُ نجاحه في وصوله للعالمية عندما انفق عشرات الآلاف من تَرِكَةِ أبيه في شراء الجوائز العالمية، ثم أكرمني أخيرا بطلب كتابة سيناريو لمسلسل تلفزيوني..لم يكن كرماً بل محاولة لأذلالي..إن كل من يقدم لك خدمة سيذلك يوماً ما.. كل من تمد يدك لأخذ المال من يده سيصفعك بذات يده هذي يوماً ما.. كل من تتواضع له سيتعامل معك كمتسول..وبدون مال لن تصبح إنساناً ابداً... يا إلهي لقد أصبحت ثرثاراً بالفعل..في الواقع هذه ليست ثرثرة.. بل حوار واقعي مع النفس..حوار يعمق شعوري بالإذلال الذي واجهته اليوم من غريمي في الحب القديم..لقد تزوجَت.. تخيلتها ليلة الدخلة وهي تفتح فخذيها لهذا الكلب..يا لها من تافهة منحطة.. ولكن..ماذا لو فتحت فخذيها لي.. لا أبداً ..ما كانت لتكون تافهة ولا منحطة.. لقد اشتراها بماله... غير أن هذا الوقح يعاملها معاملة حسنة جداً بل ينفق عليها ببذخ.. بالتأكيد..فهو يعلم أنها لم تتزوجه إلا من أجل ذلك.. لو تزوجتني أنا ما كانت لتهتم كثيراً..وما كانت لتحوجني إلى شراء قصر لها كما فعل ولا سيارة فارهة كما فعل ولا اشتراك في نادي الخيول والقولف كما فعل..كانت لتكتفي بحبي الحقيقي فقط..الحب الذي يزداد كلما تضورَت جوعاً من فقري وعانت معي حتى أبلغ المجد.. ولكن رباه..ماذا لو لم أبلغ المجد أبداً؟ هذا في الواقع ليس مهماً، فالمسألة لا تتعلق بالوصول بل بالارتحال..نعم..الارتحال باستمرار وراء الحلم..هذه هي المتعة.. أليس كذلك..إنني لا أخدع نفسي..أليس كذلك..هة؟! .. أليس كذلك؟ آه..حتى لو كنت أخدع نفسي..فما الضير في ذلك..إنه على الأقل يخفف شعوري باليأس والإحباط.. أيتها الفتاة.. أيتها الفتاة.. فنجان قهوة تركي رجاء... فتاة جميلة لكنها بليدة المشاعر..إنها لا تكلف نفسها عناء الابتسام للزبون..ولكن..دعنا من الأحكام القاسية هذه يا رجل.. فمن يدري ماذا تعانيه هذه الفتاة..ربما كان صاحب المقهى أسوأ من ذلك المخرج وأكثر وقاحة منه..ربما خانها حبيبها مع امرأة غنية تكبره سناً فقط من أجل المال.. في الواقع ما كنت لأشعر بكل تلك الغيرة والحسد لولا أنها تزوجت من شخص قبيح المنظر مثله..وجهه مدور كالرغيف وعيناه كعيني فأر وشعره يبدأ من فوق نافوخه وكرشه متدلية ولديه ثديان كبيران كالنساء.. صحيح أنني لست وسيماً..ولكن على الأقل لو تزوجت وسيماً لكان المبرر أقل انحطاطا من المال.. المال فقط.. المال الذي لم يجتهد للحصول عليه.. مجرد ملايين.. الأغرب من ذلك أن المال لم ينفد بل ازداد..ليس لشطارته ولا لذكائه بل لأن المال يفتح الآفاق، يخلق الفرص.. يشتري صمت الحاقدين مثل ما فعل معي ويشتري ألسنة المتملقين من المسوِّقين التجاريين والنقاد المتسلقين كما فعلوا مع مسلسلاته التافهة فعظموها ورفعوها مقاماً علياً.. ضعيها هنا..شكراً لك... ولكن أين الملعقة..كيف سأحرك القهوة بلا ملعقة..أين؟ هة.. نعم هاهي مختبئة وراء الكوب..أنا آسف يا لي من أحمق.. أشكرك مرة أخرى.. يا لها من نادلة باردة المشاعر.. متعجرفة..لا .. إنها لا تعاني من اي شيء.. إنها مريضة بالنرجسية فقط.. تظن أنني عجوز خرف.. أجلس متحدثاً إلى نفسي.. يبدو أنها من النوع الذي لا يقدر احترام الآخرين له.. إنها تتمتع بأخلاق العبيد..فالعبيد يحبون من يذلهم لا من يحترم آدميتهم..يا إلهي أكاد أجن.. إنني أصبحت عنصرياً .. لا لا... ليست عنصرية.. إنها الواقعية.. الواقعية التي حرمتني من الفوز بالمسلسل.. أما كان يتعين علي أن أكون محدداً قليلاً.. أن ألج إلى لب الموضوع مباشرة..لكن..ليس الذنب ذنبي على ما أعتقد فالقصة نفسها كانت سمجة..كانت سطحية جداً.. زواج وطلاق وحب ومحاولة انتحار بسبب الفشل في الحب..أي تفاهة هذي..وكيف كان بإمكاني أن أمنح لها قيمة عبر السيناريو والحوار.. يبدو ذلك مستحيلاً.. فلو كانت القصة ذكية وعميقة لسمحت بحوار وسيناريو ذكيين وعميقين كذلك.. لكنها قصة تافهة تصلح للأطفال أو المراهقين..أو المصابين بضعف القدرات العقلية..لم يكن الذنب ذنبي..بل ذنبه هو.. لقد اختار هذه القصة التافهة لأنه اشتراها من ابنة صاحب شركة كبيرة..بالتأكيد ليتملقها ويحصل على اعلانات الومضة التجارية..نعم..تلك الإعلانات التي طلب مني ان أصنع لها بعض المشاهد العابرة..مشهد للزوجة وهي تطبخ مستخدمة زيتا معيناً ومشهدا للحبيب وهو يستخدم حاسوباً شخصياً بماركة معينة.. تلك الإعلانات الخفية للسلع التي تدفع شركاتها المنتجة بسببها الملايين وقد تقوم تلك الشركات بتحمل كل تكاليف تسويق المسلسل أو الفيلم على أوسع نطاق لتسوق لزيتها وحاسوبها وصابونها..تماماً كما تفعل الصحف..تخيل أن يُطلب من سيناريست عظيم مثلي أن يمارس هذا الفن بهذا الانحطاط الرأسمالي...فما الذي بقى من قيمتي الأخلاقية..وما المانع أن أعمل قواداً لزوجتي لو كنت متزوجاً ما دام كل شيء يُشترى بالمال حتى الفن والأدب.. يا للعنة.. يا للعنة.. لقد كان الإنسان سعيداً عندما كان بدائياً يعيش على التقاط الفاكهة وصيد السمك.. واضحاً وصريحاً.. ظاهره كباطنه.. لكنه ما أن تعلم التجارة حتى تفسخت آدميته وأصبح كائناً مشوه الروح... تبيع فيه المرأة حبيبها من أجل الحصول على سيارة.. فلأتخيل لو أننا كنا في عصر جمع الفواكه والصيد..هل كانت لتفضل تلك العاهرة ذلك القبيح التافه بسبب صيده سمكة أكبر من سمكتي..طبعا لا..ولكن ..دعني لا أتسرع..فما المانع؟..إن الإنسان لم يتغير أبداً .. سيظل كما كان عليه قبل إلاف السنين أو بعد آلاف السنين حتى ينقرض..نعم..ستفضله لأنه يصطاد سمكاً كبيراً..أو..حتى لأنه قادر على مصارعة ديناصورات أكثر شراسة من ديناصوراتي.. ربما كانت القوة مبرراً منطقياً للانتخاب الطبيعي لأنه سيكفل نقل جينات قادرة على مواجهة الصعاب في الأجيال التالية..ولكن ما علاقة منحها سيارة فاخرة بالجينات؟ إنه حتى لم يجمع ذلك المال بذكائه بل ورثه عن والده..إنه ليس ذكياً بما يخدم تبريرَ تفضيل الطبيعة له ..حتى قدرته على جذبها بلسانه المعسول كان مدعوماً بقدرته على الانفاق على مظهره.. سيارته الغالية.. عزومتها في مطاعم فاخرة..ملابسه المكوية بالبخار..ساعة يده السويسرية ذات الإطار الذهبي والعقارب المرصعة بالجواهر..إن كل ذلك البذخ يخلب اللب..بل يخلب حتى لب الحلزونات اللزجة الحمقاء.. إذاً فنظرية التطور لا دخل لها بما حدث.. وقد لا يكون لها أيضاً علاقة بما كان ليحدث قبل آلاف السنين لمجرد أن سمكتي أصغر من سمكته..إنها مسألة شائكة.. النساء غريبات.. دعني أجرب حظي مع تلك النادلة المتجهمة.. يا آنسة..نعم.. ها هي قادمة وكأنها ملاكم يرغب في توجيه ضربة قاضية لي.. لو سمحتِ أرغب في كوب قهوة غير هذا.. نعم فيه مشكلة..إنه بلا طعم وفاتر بل فوق هذا ليس فيه أي توابل تخفف من مرارة القهوة.. نعم طلبتها تركية وبما أنني قد اشتريت هذا المطعم وسأتسلمه خلال أيام فسأعمل على تحسين الخدمات فيه والتأكد من جودة ما يقدمه من مشروبات ساخنة.. أرجو تغيير القهوة لو سمحتِ.. ههه.. أنظر لها كيف ارتبكت وغادرت وابتسامة متوترة ترتسم على وجهها.. نعم هذا هو الإنسان..كائن كلبي..لا يحترم سوى القوة..القوة في المال وإذلال الآخرين وقهرهم لذلك يتصارع البشر حول السلطة والثروة.. ها هي تعود مسرعة وارتباكها يكاد يجعلها تسقط بسبب خطواتها المتهافتة وغير المنتظمة.. أنظر لها كيف تبتسم ابتسامة بلهاء.. شكراً آنستي.. نعم..لا داعي للاعتذار..لا بأس لا بأس.. ها هي تغادر بعد أن ابتسمت لأول مرة منذ دخولي لهذا المقهى..أنظر لها كيف تبدلت وتغيرت وصارت أكثر نشاطاً بل وتعامل الزبائن معاملة حسنة.. ها هي الآن تدغدغ وجنات ذلك الطفل الجالس فوق فخذ والده وهي تلاعبه ضاحكة.. ههه..وانظر لها كيف تنحني مبتسمة وهي تحمل الأكواب من طاولة ذلك العامل العجوز البسيط..نعم..تغير كل شيء.. تغير كل شيء في لحظة .. وأكاد أرى نظراتها العابرة نحوي وهي تكاد تسألني بصوتها الذكوري القبيح: هل أنت راضٍ يا سيدي؟ ولو فعلت لأجبتها: "نعم..ولكنك مطرودة منذ هذه اللحظة".. سيكون انتقاماً بشعا من أمثال هذه المتملقة.. نعم.. كتلك العاهرة التي لم أكن حتى قادراً على التعبير لها عن حبي في حين كانت تتركني وتجري لتركب سيارة ذلك الخرتيت عندما تسمع صوت البوق..لم يكلف نفسه الحديث معها لأنها لم تعطه فرصة الحديث..كانت تسرق عاطفته بسذاجة تنم عن وضاعتها.. اللعنة.. وها هو ينتقم مني لأنني كنت واقعياً..ماذا لو كنت بالفعل واقعياً بحيث يتطابق السيناريو والحوار مع شخصية ابنة صاحب الشركة التي يتملقها بشراء روايتها السطحية التافهة ويحولها لمسلسل تلفزيوني..بالتأكيد ما كان ليقذف بالأوراق في وجهي فقط بل كان ليركلني على مؤخرتي قبل أن يطلق عليها الرصاص.. أيها التافه.. سيناريست فاشل..لست فاشلاً أيها المُدَّعِ الأفاك.. بل أنتم من تستغلون غباء من يشاهدون تفاهاتكم لتزيدوهم فشلاً على فشل.. إنكم تخفون واقعهم عنهم وتبيعون لهم أحلام الحب..أحلام الضعفاء.. تحققونها لهم في الشاشات لتسرقوا أموالهم..يا للبرجوازية البغيضة..هذا العالم لا يستحق أن نقول فيه الحقيقة.. لا.. لا يجب ان نعلنها.. بل.. بل يجب علينا أن نخفيها لأن البشر لا يحبون سماعها.. يجب أن أسير وفق قانونهم لا قانوني أنا.. يجب أن أكون قوياً ولكي أكون قوياً يجب أن أتحلل من كل العواطف والصدق ومن كبريائي قبل كل شيء..يجب أن أكون سادياً ضد هذه البشرية ومازوخياً عندما أكون ضعيفاً.. سأكتب السيناريو كما يتطلبه السوق لا كما أراه أنا.. سأبيع للناس الوهم الذي يحبون شراءه لا الواقع الذي يعكس حقيقة تفاهتهم.. حسناً هذه نتيجة جيدة خرجت بها من هذا المونولوج القصير.. سأتصل بذلك المخنث.. ألو.. نعم..نعم يا زميل الدراسة..لقد كنتَ قاسياً عليَّ هذا اليوم... نعم..صدقت.. لقد فكرت جيداً فيما قلته لي.. لقد كنتَ مصيباً..فقد نبهتني إلى ما كان ينقصني بالفعل وربما كان ذلك الدرس القاسي هو كل ما كنت أحتاجه لتتفتح عيناي على حقيقة الحياة..وإني استسمحك في منحي فرصة أخرى فقط لأثبت لك أنني تلميذ نجيب.. أعرف أعرف.. نعم.. نعم.. هذا صحيح.. أعرف أنك منحتني اربع فرص ذهبية..لكنك طوال ذلك الوقت لم تشأ أن تجرح مشاعري بحكم وضعك في الاعتبار لزمالتنا القديمة.. أدرك ذلك..ولكنني في الواقع سعيد بأنك أضطررت لذلك في آخر الأمر..فلولا ذلك لما تعلمت ولظللت في بلادتي.. وأنا اطمع في منحي فرصة واحدة أخيرة سأثبت لك فيها أنني فهمت الدرس جيداً.. أشكرك".

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...