عندما أتعب من الفلسفة والعلوم الإنسانية، عندما أتعب من كل ما هو منطق أو عقل يكسر الرأس أرمي بنفسي في أحضان الشعر. عندما أريد أن أنسى هموم الحياة ومتاعبها، عندما أريد أن اهرب منها، أن انفضها عن كاهلي، عن كتفي، عن وجودي، أغطس في بحر من الشعر.. في تلك اللحظة لا شيء يعزيني أكثر من قصيدة لابن زيدون، أو رامبو، أو هولدرلين، أو بودلير، أو بدر شاكر السياب، أو مالك بن الريب التميمي…
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى = وأصبحت في جيش بن عفان غازيا
تذكرت من يبكي علي فلم أجد = سوى السيف والرمــح الرديني باكيا
وأشقر محبوك يجر عنانــــــه = إلى الماء لم يترك له الدهر ساقـــــيا
ولما تراءت عند مرو منيتي = وحل بها جسمي وحانت وفاتيــــــــا
أقول لأصحابي ارفعوني فانه = يقر بعيني أن سهيــــــــــــــل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت = فانزلا برابية إني مقيم لياليــــــــــــــــــــا
أقيما علي اليوم أو بعض ليلة = ولا تعجلاني قد تبيـــــــــــــن ما بيا
وقوما إذا ما استل روحي فهيئا = لي السدر والأكفان ثم ابكيـــــــــا ليا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي = وردا على عينـــــــــي فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما = من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجراني ببردي إليكما = فقد كنت قبل اليوم صعــــــــــبا قياديا
الخ…
قصيدة عصماء تكفي وحدها لتخليد شاعر..
في أفياء الشعر، تحت ظلاله الوارفة الرطيبة يحلو للمتعب المسافر أن يستريح، ولو قليلاً.. هل أصبح الشعر واحة خضراء في صحراء الحياة؟ هل أصبحت الحياة لا تطاق دون شعر؟ ولكن متى كانت تطاق الحياة؟
أتى الزمان بنوه في شبيبته = فسرهم وأتيناه على الهرم
إذا كان الزمان قد هرم منذ عصر المتنبي فما بالك بنا نحن؟ وفي أي عصر نعيش يا ترى؟ كل ما أستطيع قوله هنا هو أننا نعيش في عصر لا كالعصور..وإنها لمعجزة أن تبقى واقفا على قدميك بعد كل هذه الهزات والزعزعات المتلاحقة..هذا عصر الوحوش الكاسرة يا صديقي..ثم يتراقصون حولك كالشياطين من كل الجهات.. فهل أزفت لحظة رثاء الذات على طريقة مالك بن الريب يا ترى؟ هل سيتركونك ترتاح لحظة واحدة؟ أم إن كل مشاكل السوريين والعرب سوف تتمركز في شخصك غصبا عنك؟ وستكون كبش الفداء لأكبر محرقة في التاريخ؟
أعود إلى السؤال: هل تحولت الحياة كلها صحراء قاحلة ما عدا بقع قليلة من الشعر، من الحب؟ ربما. هنا أشطب على السياسة العربية، على العصر العربي كله وأتقوقع خارجه. وربما سيجت نفسي بالأسلاك الشائكة وانقطعت عن العالم..لم يبق لي حل آخر أصلا. وهاأنذا سارحا، هائما على وجهي، حول شواطئ الأنهار والبحيرات فقط مع ظلي (المسافر وظله، نيتشه). وربما لو استطاعوا لفصلوا ظلي عني.. ولكن لا أقصد بالشعر هنا فقط القصائد بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. وإنما أقصد أيضا الرواية ،الأدب، السينما، الدلال، الغنج، الفاتنات الحاسرات هنا في الربيع الباريسي. عزائي الوحيد هذا العري الأنيق، هذه الحداثة التي وصلت أعلى ذراها. كل الأصوليات تحتضر أمام الجمال، أمام القنابل الموقوتة.. أقصد الظلال والأفياء التي تحنو عليك بكل كرم في وسط الشارع أو على جانبيه .هناك عدة أنواع من الظلال وعدة ألوان..وأنا أضيع في الظلال والألوان..
أقصد بالشعر تلك المرأة الريفية التي رأيتها مرة في مطار الرباط وهي ذاهبة "لبيع" ابنتها الجميلة إلى الأغنياء كخادمة كي تعيش. أو هكذا تخيلت من نظرات الهلع والاستغاثة التي ارتسمت على وجهها فجأة. نظرات سحقت قلبي.. نظرات لم أنسها حتى الآن. في مثل هذه الحالات النسيان جريمة. قاوم، اصمد على الذكرى، يأمرك رينيه ماريا ريلكه.. إنها لخيانة أن تنسى مثل هذا المشهد. هنا تكمن حقيقتي. هذا هو العالم الوحيد الذي أنتمي إليه، عالم "المذلولين المهانين" كما يقول دوستيوفسكي: أي ثلاثة أرباع العرب. أترك لكم الربع الباقي.. هؤلاء وحدهم هم أهلي، وطني، طائفتي، عشيرتي..وفي عصر الطوائف المتناحرة الهائجة على بعضها البعض أو التي تكاد تفترس بعضها البعض أنتمي إلى فئة الصعاليك: أي الذين لا طائفة لهم ولا قبيلة كالباهي محمد..
وربما قصدت بالشعر أيضا ذلك النداء المتصاعد من أعماق العالم.. كل شيء يخرجك عن طورك، ينسيك نفسك ولو قليلا، كل شيء يخرجك من نثرية الأشياء، من بلادة الحياة اليومية هو شعر. طرفة عين غير متوقعة، ابتسامة صغيرة أو حتى شبح ابتسامة على ثغر إحداهن يمكن أن تدخلك في الحالة الشعرية: مقادير من جفنيك غيرن حاليا..هكذا تلاحظون أني لم أتجاوز بعد مرحلة المراهقة..
بالأمس مر الشعر من حولي، تحرش بي قليلا، ثم تبخر في الهواء.. كدت ألمسه، أقبض عليه قبض اليد..شعرت بالحنين والضياع وبقيت ساعات وأنا أتجول على ضفاف نهر "المارن" ملامسا الأشجار والأحجار.. الشعر مبثوث في كل مكان ومع ذلك فهو من أكثر الأشياء ندرة. أكاد أقول بأنه موجود في كل مكان ما عدا في دواوين الشعراء العرب! كلما كثرت الدواوين الشعرية المتشابهة في العالم العربي قل الشعر، وربما آذن بالانقراض. لحسن الحظ أني لم أنشر أي ديوان شعر حتى الآن ولم أثقل عليكم. ولا أحد يستطيع أن يتهمني بارتكاب هذه الجريمة.. الشعر موجود خارج الشعر في معظم الأحيان. في كل عصر لا يوجد إلا شاعران أو ثلاثة أو واحد أو لاشيء والباقي تفاصيل. قال لي أحدهم بالأمس القريب مفتخرا ومتوهما انه فيلسوف كبير: يا أخي الشعر فاكهة، "تسلاية" من وقت لآخر، لا يقدم ولا يؤخر..الشعر سخافة في نهاية المطاف ولا يليق بأن يضيع المفكرون الكبار وقتهم فيه.
فكاد يغمى علي من شدة الاضمحلال والإهمال والزوال..(أرجو ألا يعرف من هو هذا الشخص لكيلا يرسل أحدهم لاغتيالي على كثرة من يفكرون في ذلك الآن بعد أن تحولت إلى مشكلة عظمى أو عقبة كأداء بالنسبة لستين جهة على الأقل..)
ولكن ليست هذه هي حالة هيدغر الذي "ضيع" قسما كبيرا من وقته في قراءة الشعر و"مقاربات هولدرلين". ولهذا السبب فان المفكرين الذين يعجبونني أكثر من غيرهم هم الفلاسفة الأدباء أو الأدباء الفلاسفة من أمثال جان جاك روسو أو نيتشه أو هيدغر أو ميشيل فوكو أو حتى هيغل عندما ينسى نفسه وعقلانيته الساحقة ويحلق عاليا..لا ريب أن كانط مفكر عظيم وربما كان اكبر فيلسوف في تاريخ الغرب الحديث ولكنه ليس شاعرا على عكس نيتشه. ولذلك فإن عواطفي كلها تذهب في اتجاه نيتشه. أنا نيتشوي في نهاية المطاف: أي تراجيدي، عدمي، جنوني..ولكن لا أجرؤ على التصريح بذلك. ثم إن فيّ شخصا آخر يحاول أن يكون العكس. فأنا كائن منقسم على نفسه، وتوحيده أصعب من توحيد العرب..
ولا ريب أن هابرماس حاليا هو من اكبر فلاسفة الغرب ولكن أسلوبه وعر لا ماء فيه ولا حياة. ولذلك فاني أفضل عليه ألف مرة ميشيل فوكو وبخاصة عندما يجن جنونه ويصبح يلعب باللغة والفكر كما يشاء(تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، الكلمات والأشياء، وحتى اركيولوجيا المعرفة الذي يكاد يتعذر على الفهم..). هابرماس ،مثل كانط، يكاد يقتلك قتلا بكتابته النثرية، المعقدة، الأخطبوطية، العنكبوتية، ولا تستطيع أن تصل معه إلى نتيجة إلا بشق النفس وبعد أن تصاب بقرحة في المعدة أو مغص في الأحشاء…هل قرأ هابرماس قصيدة واحدة في حياته؟ لا أعرف..على الأقل كانط يتنازل أحيانا لكي يكتب بعض الصفحات الجميلة كتلك التي يتحدث فيها عن معبوديه الكبيرين: جان جاك روسو وإسحاق نيوتن، أو تلك التي يتحدث فيها عن أمه وتربيته وطفولته..أما هابرماس…
أيا يكن من أمر فان كل شيء يذهب مع الريح، كل شيء يتبخر في الهواء، ويبقى الشعر: أي اللاشيء، الفراغ، العدم، التلاشي.. يبقى هذا الهيجان الذي يسكننا من الداخل والذي يحتاج إلى شحنات شعرية من وقت إلى آخر لامتصاصه وتهدئته. بهذا المعنى فان قصيدة مالك بن الريب التميمي تبقى أهم من كل العلاجات التي قد أشتريها من الصيدلية.. وأنا شخصيا لا أتداوى إلا بالشعر أو الأدب بشكل عام، ولكن دون أن أشفى نهائيا لحسن الحظ: الشعر كعلاج للروح التي لا علاج لها. نعم تبقى بعض القصائد التي نترنم بها في خلواتنا عندما يرحل كل شيء وندخل في مرحلة الفراغ والتيه، فراغ القلب والروح.. من يعلم أن شارل ديغول كان يترنم في أوقات يأسه وإحباطه من الفرنسيين بأبيات من فريدريك نيتشه؟ من يستطيع أن يتخيل وجود أي علاقة بين ديغول ونيتشه؟ ومع ذلك فكثيرا ما سمعه ابنه الأميرال فيليب ديغول وهو يردد هذه الكلمات بصوت عال أو خافت، لست أدري:
لاشيء يساوي شيئا
لاشيء يحصل أصلا تحت الشمس
ومع ذلك فكل شيء يحصل
ولكن بلا جدوى.
لاشيء له معنى في نهاية المطاف..
الترجمة: كل شيء باطل في باطل وقبض الريح..(سفر الجامعة،التوراة)
هذا لا يعني بالطبع أن ديغول كان عدميا مثل نيتشه وإلا لما تحرك من أرضه وقاد الرجال وغير وجه فرنسا. ولكن في لحظات اليأس كان يستسلم لمثل هذه المواقف قبل أن ينتفض مرة أخرى كالعملاق من أعماق الخواء العدمي لكي يتدخل في مجرى الأحداث ويصنع التاريخ.
هناك شيء واحد يستطيع أن يقاوم الموت، أو الفناء، أو العدم أو الحياة الهاربة من بين أصابعنا كل لحظة هو: الفن. الشعر، الموسيقى، الرقص، السينما، الرسم، الجنون، اللوحات الخالدة: الجمال.. ماذا تستطيع السنون أو القرون أن تفعل بقصائد هولدرلين أو لوحات فان غوخ؟ كلما مرت عليها زادتها قيمة كالخمر المعتقة. هل يمكن لتراكمات الزمن أو تكلُّساته أن تصيبها بالتجاعيد أو الأخاديد؟ فلسفة صديقه هيغل شاخت على الرغم من عظمتها ولكن أبيات هولدرلين لا تشيخ.. هل يمكن للشعر أن يشحب كما تشحب النظريات الفكرية المتعاقبة وراء بعضها البعض؟أبدا لا. الشعر لا يموت، الشعر لا يشيخ، الشعر يبقى كما هو، حياً، على الدهر. لنستمع إذن إلى بعض الشعر:
آه، أيها الوطن!
البحّار يعود فرحاً إلى النهر الهادئ
بعد أن يكون قد جنى حصاده من الجزر البعيدة
أود مثله أن أعود إلى بلادي
ولكن ماذا حصدت غير الألم؟
***
أيتها الضفاف التي أحاطت بطفولتي
هل تعرفين تهدئة عذابات الحب؟
وأنت يا غابات بلادي، هل تعرفين
عندما أعود، أن تعيدي لي سلام الأيام القديمة؟
الربيع
آه، يا لسطوع الشمس وأزهار الأرياف!
الأيام تجيء، غنية بالأزهار، الأيام وديعة
المساء أيضاً له أزهاره. ونهارات مشرقة تنزل
من السماء، هناك حيث تولد الأيام..
***
هاهي السنة، مع فصولها،
كالمجد أو كالأعياد تنتشر…
الإنسان يستعيد أعماله ويفكر بأشياء أخرى
وكالإشارات في هذا العالم، وفرةُ المعجزات..
منتصف العمر
مثقلةً بالأجاص الأصفر
والورود البرية
هكذا تنحني الأرض فوق البحيرة
وأنتنَّ، أيتها الوزّات الجميلات
الدائخات من كثرة القُبَلْ
أنتنَّ تغطسن رؤوسكن
في اليمّ المتقشف والمقدس
***
واأسفاه! من أين آخذ، أنا، في الشتاء الأزهار؟ أين آخذ
بريق النور
وظلال الأرض؟
الجدران تنهض
خرساء باردة، وفي الريح
تصطفق دوّارات الهواء
***
ذكرى
ريح الشمال تهبّ
من بين الرياح، هي الأعز على قلبي
لأنها تعد البحارة
بروح النار والعبور الجيد
لكن اذهب وبلّغ تحيتي
إلى نهر الغارون الجميل
وحدائق بوردو
هناك، حيث الدرب
يسير على طول النهر الوعر…
وحيث النهر يسقط في قلب النهر
في حين أنه في الأعالي
تحلم، بنظرات ضائعة،
شجرتا السنديان المتحدتان
وأشجار الحور الرمادية، الخ..
ثم هذا البيت الذي يختتم القصيدة والذي ذهب مثلا:
لكن ما يبقى هو أعمال الشعراء..
***
يقول الباحث الفرنسي بيير بيرتو ما معناه: كان هودرلين شاعراً وكفى. هذه هي الصفة الوحيدة التي كان يقبلها. وهي الصفة الوحيدة التي تناسبه. كان يريد أن يصبح شاعراً فقط. وقد كان شاعراً من أوله إلى آخره. هل هو كلاسيكي؟ هل هو رومانطيقي؟ هذه الأوصاف لا تنطبق على شاعر في حجم هولدرلين. إنه يتجاوز كل التحديدات والتصنيفات المعهودة. لا يمكن حشره في خانة ضيقة. هولدرلين يستعصي على التصنيف.. لقد تأخر الغرب عن الاعتراف بهولدرلين لأنه جاء في غير وقته،او قبل وقته، لأنه كان معقداً نفسياً ومريضاً.. ولكن عندما وعى قيمته وأهميته راح يعترف به، وبلا حدود. وأدرك عندئذ إنه أكبر شاعر ظهر في الغرب منذ اليونان. أو قل أنه يجسّد براءة الشعر وصفاءه أكثر من أي شاعر آخر. إنه الصدق المطلق! وربما لا يضاهيه في هذه النقطة إلا رامبو عند الفرنسيين. ثم يردف الناقد الفرنسي قائلا:
كان هولدرلين شخصاً بسيطاً وتناقضياً، كان شخصاً ممزَّقاً ومجبولا من كتلة واحدة. هولدرلين لم يكن يعرف المساومة. هولدرلين لم يكن ديبلوماسياً لكي يستطيع أن ينجح في الحياة ويستمر… ما علاقة الدبلوماسية بالشعر؟ وفي ذات الوقت لم يكن يهدف إلى الابتكارية المصطنعة والتمايز عن الآخرين بأي شكل. ولكن نغمة صوته لا تُضاهى، لا تُقلَّد. ويمكن أن نتعرَّف عليها في كل عبارة يكتبها. كان نسيج وحده كبقية الشعراء الكبار. لم يشكل مدرسة، ولكن الشعر الغنائي الألماني (وغير الألماني) يحمل طابعه وتأثيره العميق. لقد تجاهلوا قيمة هولدرلين طيلة عقود طويلة من السنين ولم يكتشفوه إلا بعد مائة سنة من موته. ولكنه الآن أصبح يشكل قمة الشعر الألماني. عندما كان عمره عشرين سنة كتب هولدرلين هذه الأبيات:
كما تنزلق الأنهار نحو البحر الواسع
هكذا تتسارع الأزمنة نحوكْ
في قلب الأبديّات القديمة
في أعماق الفوضى يكون مسكنكْ
***
هذا هو الشاعر: انه الفوضى الخلاقة، لا منزل له ولا بيت، بيته ضائع في الريح، وعشه في "اللا مكان"…
ثم يختتم بيير بيترو حديثه عن هولدرلين قائلاً بما معناه: لنكرر الكلام مرة أخرى: هولدرلين ليس شاعراً "صعباً". فكلماته هي نفس الكلمات المستخدمة في الحياة اليومية للغة الألمانية. يعرف ذلك كل من يتقن هذه اللغة. إنها الكلمات الأكثر بساطة، والأكثر محسوسية، والأكثر واقعية. ولكنه ينوّع فيها وفي معانيها إلى ما لانهاية. ثم إنه يستخدم اللغة بطريقة صافية، نقيّة، لأنه كان صافياً نقياً. هولدرلين لم يعرف في حياته التلوث أبداً! هل يمكن أن تتخيل مثقفا من هذا النوع؟ وهل غريب انه جن؟ وتنطبق عليه هنا كلمة مالارميه في تعريفه للشاعر: إنه ذلك الشخص الذي يخلع معنى أكثر صفاء على كلمات القبيلة. (أي على كلمات الأمة التي ينتمي إليها، او اللغة الأم التي ولد وترعرع في أحضانها). إن أعمال هولدرلين تؤكد صحة ما قاله ديكارت: "قد نصاب بالدهشة والاستغراب عندما نكتشف أن الأفكار الأكثر عمقاً موجودة في كتابات الشعراء أكثر مما هي موجودة في كتابات الفلاسفة. وسبب ذلك هو أن الشعراء يستخدمون لغة الانفعال والحماسة، ويستغلون قوة الصورة الإيحائية. وكما في معدن الصوّان، فإنه تكمن في أعماقنا بذور المعرفة. أما الفلاسفة فيستخرجونها ويوضحونها عن طريق وسائل العقل. هذا في حين أنه عن طريق وسائل الخيال والمجازات الخارقة، فإن الشعراء يجعلونها تتفجّر وتنبثق من الأعماق. وهكذا تشرق بأنوار أكثر سطوعاً". انتهى كلام ديكارت.
ما كنت أعرف أن ديكارت ناقد أدبي من أعلى طراز حتى قرأت صدفة هذه الكلمات.
هل يمكن أن نجد تعريفاً أفضل من ذلك للشعر والفكر أيضا؟ ولكن لماذا نقيم المعارضة بينهما، في حين أنهما من طبيعتين مختلفتين؟ ورغم أن ديكارت لم يكن ناقداً أدبياً محترفا، إلا أنه كفيلسوف كبير استطاع أن يضع يده على النقطة الفاصلة بين الشعر/و النثر، أو بين الشعر/ والفكر.
أما هيدغر الذي خصص أكثر من محاضرة وأكثر من كتاب لهولدرلين والذي كان مختصا بالشعر فعلا على عكس ديكارت فيلخصه بكلمتين اثنتين: شاعر الشعر. المقصود شاعر الجوهر الشعري للغة العالم. ثم يردف قائلا: بأنه شاعر الألمان المقبلين. بمعنى انه، وبعد أكثر من قرنين على ولادته، لم يفهم حتى الآن من قبل قومه وشعبه فما بالك بالآخرين؟ انه شاعر الأزمنة القادمة، الأزمنة التي ستجيء. لا يمكن لأي محب لهولدرلين أن يمدحه بأكثر من هذا. نقول ذلك خاصة أن المديح آت من جهة اكبر فيلسوف في القرن العشرين. حقا لقد أنصف هيدغر هولدرلين الذي جن ومات دون أن يعرف انه اكبر شاعر في تاريخ ألمانيا. لقد انتقم له هيدغر خير انتقام. ثم يقول أيضا: لا يمكن أن نفهم هولدرلين إذا لم نأخذ بعين الاعتبار النبرة الأساسية للشعر. نقصد بذلك: النبرة التي تفتح العالم الذي يتلقى من خلال الكلام الشعري بصمة الكينونة، أي بصمة جوهر الوجود.
يعلق فيليب سوليرز على هذا الكلام الغامض شيئا ما قائلا: نحن نقرأ الشعر مكتوبا عادة. ولكن لكي نفهمه في إشراقه الأساسي، لكي ندركه على حقيقته، ينبغي أن نعيده إلى نفثه، إلى إلهامه، إلى إيقاعه، إلى رؤياه وما كان هيدغر قد دعاه بالنبرة الأساسية للشعر. بمعنى آخر ينبغي أن نقرأه بصوت عال. الشعر كتب كي ينشد، لكي يستمتع به غنائيا لا لكي يقرأ كما تقرأ الجريدة. من لا يهتز لإيقاع الشعر، من لا يعرف كيف يتذوق الشعر، من لا يفقد صوابه عندما يقع على قصيدة معينة، فاته الشيء الكثير في هذا العالم. شخصيا يعلو صوتي أحيانا بقصيدة مالك بن الريب أو سواها حتى ليكاد يسمعني الجيران…
لكن لنعد الآن إلى هولدرلين ولنتأمل بهذه الأبيات المليئة بالتفجُّع والحسرة والتي لا تستطيع الترجمة بالطبع أن ترتفع إلى مستوى النص الأصلي، أي النص الألماني.
هكذا كان مينون يبكي ديويتما
كل يوم أذهب تحت السماء وأبحث عبثاً عن حصول تغيُّر ما
منذ زمن طويل طلبتْ منها كل شيء، دروب الأرياف؛
الهضاب، هناك في الأعالي، حيث تهبّ الرياح الطرية، وأنا شارد
من إحداها إلى الأخرى، ثم إلى الظل
حيث النبع. وروحي من الأعالي إلى الوديان،
تتوسل وتطلب الراحة. هكذا تلجأ البهيمة المجروحة إلى الغابات
حيث كانت في سالف الأزمان تستريح، وقت الظهيرة، بلا مبالاة في الظل،
ولكن مأواها المخضوضر لن يعيد السكينة إلى قلبها!
إنها تتأوه، ولم تعد تغفو الآن، السهم يجرجرها ضائعة هنا
أو هناك!
حرارة الشمس، طراوة الليل، لا شيء يداويها،
عبثاً في أمواج النهر تغسل جراحاتها،
عبثاً تمنحها الأرض الفضيلة المرحة لُبلهائها!
ولكن لا يستطيع أي نسيم عليل أن يهدئ من روعها، أن
يخفّف من حمّى دمها.
هكذا، أنا، آه يا أصدقائي، هذه هي حالتي. فهل قيل بأن أحداً
على وجه الأرض لن ينزع عن جبيني الحلم الذي ابتلاني؟
فقط أبناء الأرياف والوديان والوحوش يعرفون معنى هذا الكلام لأنهم رأوا فعلا ثورا مجروحا أو بقرة أو حصانا يوما ما..
هذه هي حالة هولدرلين. إنه كالطريدة التي أصابها سهمٌ قاتلٌ فراحت تركض كالمجنونة سارحة في البرية من مكان إلى آخر عساها تخفف من وجعها، ولكن عبثا..وهكذا لا تهدأ في أي مكان. ولم تعد كل مياه الأنهار ولا ظلال الغابات بقادرة على تبريد ألمها، على إشباع عطشها. إنها سائرة إلى حتفها بشكل محتوم. وكذلك هو هولدرلين: لن يستطيع أي صديق في العالم أن يعزّيه بعد اليوم أو يواسيه بعد أن ماتت ديوتيما،المرأة التي أحبها( في الحقيقة سوزان غونتار التي ماتت من حبه فجننته). لن يستطيع أي شيء بعد الآن أن يهدئ من هيجان روحه الداخلية. هل كان هولدرلين يعرف أنه سائر نحو الجنون عندما كتب هذه الأبيات؟ هولدرلين ينتمي إلى ذلك النوع من الأشخاص الذين دعاهم جبران خليل جبران بـ: الأرواح الحائرة. إنها أرواح قلقة لا يهدّئ من حزنها أو ألمها أي شيء في العالم: أرواح منقسمة على نفسها أزلياً، أرواح تبحث عن صفاء ممنوع في هذا العالم، أرواح فقدت نصفها الآخر فهامت على وجهها ،حتى الجنون، بحثا عنه، دون جدوى…
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى = وأصبحت في جيش بن عفان غازيا
تذكرت من يبكي علي فلم أجد = سوى السيف والرمــح الرديني باكيا
وأشقر محبوك يجر عنانــــــه = إلى الماء لم يترك له الدهر ساقـــــيا
ولما تراءت عند مرو منيتي = وحل بها جسمي وحانت وفاتيــــــــا
أقول لأصحابي ارفعوني فانه = يقر بعيني أن سهيــــــــــــــل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت = فانزلا برابية إني مقيم لياليــــــــــــــــــــا
أقيما علي اليوم أو بعض ليلة = ولا تعجلاني قد تبيـــــــــــــن ما بيا
وقوما إذا ما استل روحي فهيئا = لي السدر والأكفان ثم ابكيـــــــــا ليا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي = وردا على عينـــــــــي فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما = من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجراني ببردي إليكما = فقد كنت قبل اليوم صعــــــــــبا قياديا
الخ…
قصيدة عصماء تكفي وحدها لتخليد شاعر..
في أفياء الشعر، تحت ظلاله الوارفة الرطيبة يحلو للمتعب المسافر أن يستريح، ولو قليلاً.. هل أصبح الشعر واحة خضراء في صحراء الحياة؟ هل أصبحت الحياة لا تطاق دون شعر؟ ولكن متى كانت تطاق الحياة؟
أتى الزمان بنوه في شبيبته = فسرهم وأتيناه على الهرم
إذا كان الزمان قد هرم منذ عصر المتنبي فما بالك بنا نحن؟ وفي أي عصر نعيش يا ترى؟ كل ما أستطيع قوله هنا هو أننا نعيش في عصر لا كالعصور..وإنها لمعجزة أن تبقى واقفا على قدميك بعد كل هذه الهزات والزعزعات المتلاحقة..هذا عصر الوحوش الكاسرة يا صديقي..ثم يتراقصون حولك كالشياطين من كل الجهات.. فهل أزفت لحظة رثاء الذات على طريقة مالك بن الريب يا ترى؟ هل سيتركونك ترتاح لحظة واحدة؟ أم إن كل مشاكل السوريين والعرب سوف تتمركز في شخصك غصبا عنك؟ وستكون كبش الفداء لأكبر محرقة في التاريخ؟
أعود إلى السؤال: هل تحولت الحياة كلها صحراء قاحلة ما عدا بقع قليلة من الشعر، من الحب؟ ربما. هنا أشطب على السياسة العربية، على العصر العربي كله وأتقوقع خارجه. وربما سيجت نفسي بالأسلاك الشائكة وانقطعت عن العالم..لم يبق لي حل آخر أصلا. وهاأنذا سارحا، هائما على وجهي، حول شواطئ الأنهار والبحيرات فقط مع ظلي (المسافر وظله، نيتشه). وربما لو استطاعوا لفصلوا ظلي عني.. ولكن لا أقصد بالشعر هنا فقط القصائد بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. وإنما أقصد أيضا الرواية ،الأدب، السينما، الدلال، الغنج، الفاتنات الحاسرات هنا في الربيع الباريسي. عزائي الوحيد هذا العري الأنيق، هذه الحداثة التي وصلت أعلى ذراها. كل الأصوليات تحتضر أمام الجمال، أمام القنابل الموقوتة.. أقصد الظلال والأفياء التي تحنو عليك بكل كرم في وسط الشارع أو على جانبيه .هناك عدة أنواع من الظلال وعدة ألوان..وأنا أضيع في الظلال والألوان..
أقصد بالشعر تلك المرأة الريفية التي رأيتها مرة في مطار الرباط وهي ذاهبة "لبيع" ابنتها الجميلة إلى الأغنياء كخادمة كي تعيش. أو هكذا تخيلت من نظرات الهلع والاستغاثة التي ارتسمت على وجهها فجأة. نظرات سحقت قلبي.. نظرات لم أنسها حتى الآن. في مثل هذه الحالات النسيان جريمة. قاوم، اصمد على الذكرى، يأمرك رينيه ماريا ريلكه.. إنها لخيانة أن تنسى مثل هذا المشهد. هنا تكمن حقيقتي. هذا هو العالم الوحيد الذي أنتمي إليه، عالم "المذلولين المهانين" كما يقول دوستيوفسكي: أي ثلاثة أرباع العرب. أترك لكم الربع الباقي.. هؤلاء وحدهم هم أهلي، وطني، طائفتي، عشيرتي..وفي عصر الطوائف المتناحرة الهائجة على بعضها البعض أو التي تكاد تفترس بعضها البعض أنتمي إلى فئة الصعاليك: أي الذين لا طائفة لهم ولا قبيلة كالباهي محمد..
وربما قصدت بالشعر أيضا ذلك النداء المتصاعد من أعماق العالم.. كل شيء يخرجك عن طورك، ينسيك نفسك ولو قليلا، كل شيء يخرجك من نثرية الأشياء، من بلادة الحياة اليومية هو شعر. طرفة عين غير متوقعة، ابتسامة صغيرة أو حتى شبح ابتسامة على ثغر إحداهن يمكن أن تدخلك في الحالة الشعرية: مقادير من جفنيك غيرن حاليا..هكذا تلاحظون أني لم أتجاوز بعد مرحلة المراهقة..
بالأمس مر الشعر من حولي، تحرش بي قليلا، ثم تبخر في الهواء.. كدت ألمسه، أقبض عليه قبض اليد..شعرت بالحنين والضياع وبقيت ساعات وأنا أتجول على ضفاف نهر "المارن" ملامسا الأشجار والأحجار.. الشعر مبثوث في كل مكان ومع ذلك فهو من أكثر الأشياء ندرة. أكاد أقول بأنه موجود في كل مكان ما عدا في دواوين الشعراء العرب! كلما كثرت الدواوين الشعرية المتشابهة في العالم العربي قل الشعر، وربما آذن بالانقراض. لحسن الحظ أني لم أنشر أي ديوان شعر حتى الآن ولم أثقل عليكم. ولا أحد يستطيع أن يتهمني بارتكاب هذه الجريمة.. الشعر موجود خارج الشعر في معظم الأحيان. في كل عصر لا يوجد إلا شاعران أو ثلاثة أو واحد أو لاشيء والباقي تفاصيل. قال لي أحدهم بالأمس القريب مفتخرا ومتوهما انه فيلسوف كبير: يا أخي الشعر فاكهة، "تسلاية" من وقت لآخر، لا يقدم ولا يؤخر..الشعر سخافة في نهاية المطاف ولا يليق بأن يضيع المفكرون الكبار وقتهم فيه.
فكاد يغمى علي من شدة الاضمحلال والإهمال والزوال..(أرجو ألا يعرف من هو هذا الشخص لكيلا يرسل أحدهم لاغتيالي على كثرة من يفكرون في ذلك الآن بعد أن تحولت إلى مشكلة عظمى أو عقبة كأداء بالنسبة لستين جهة على الأقل..)
ولكن ليست هذه هي حالة هيدغر الذي "ضيع" قسما كبيرا من وقته في قراءة الشعر و"مقاربات هولدرلين". ولهذا السبب فان المفكرين الذين يعجبونني أكثر من غيرهم هم الفلاسفة الأدباء أو الأدباء الفلاسفة من أمثال جان جاك روسو أو نيتشه أو هيدغر أو ميشيل فوكو أو حتى هيغل عندما ينسى نفسه وعقلانيته الساحقة ويحلق عاليا..لا ريب أن كانط مفكر عظيم وربما كان اكبر فيلسوف في تاريخ الغرب الحديث ولكنه ليس شاعرا على عكس نيتشه. ولذلك فإن عواطفي كلها تذهب في اتجاه نيتشه. أنا نيتشوي في نهاية المطاف: أي تراجيدي، عدمي، جنوني..ولكن لا أجرؤ على التصريح بذلك. ثم إن فيّ شخصا آخر يحاول أن يكون العكس. فأنا كائن منقسم على نفسه، وتوحيده أصعب من توحيد العرب..
ولا ريب أن هابرماس حاليا هو من اكبر فلاسفة الغرب ولكن أسلوبه وعر لا ماء فيه ولا حياة. ولذلك فاني أفضل عليه ألف مرة ميشيل فوكو وبخاصة عندما يجن جنونه ويصبح يلعب باللغة والفكر كما يشاء(تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، الكلمات والأشياء، وحتى اركيولوجيا المعرفة الذي يكاد يتعذر على الفهم..). هابرماس ،مثل كانط، يكاد يقتلك قتلا بكتابته النثرية، المعقدة، الأخطبوطية، العنكبوتية، ولا تستطيع أن تصل معه إلى نتيجة إلا بشق النفس وبعد أن تصاب بقرحة في المعدة أو مغص في الأحشاء…هل قرأ هابرماس قصيدة واحدة في حياته؟ لا أعرف..على الأقل كانط يتنازل أحيانا لكي يكتب بعض الصفحات الجميلة كتلك التي يتحدث فيها عن معبوديه الكبيرين: جان جاك روسو وإسحاق نيوتن، أو تلك التي يتحدث فيها عن أمه وتربيته وطفولته..أما هابرماس…
أيا يكن من أمر فان كل شيء يذهب مع الريح، كل شيء يتبخر في الهواء، ويبقى الشعر: أي اللاشيء، الفراغ، العدم، التلاشي.. يبقى هذا الهيجان الذي يسكننا من الداخل والذي يحتاج إلى شحنات شعرية من وقت إلى آخر لامتصاصه وتهدئته. بهذا المعنى فان قصيدة مالك بن الريب التميمي تبقى أهم من كل العلاجات التي قد أشتريها من الصيدلية.. وأنا شخصيا لا أتداوى إلا بالشعر أو الأدب بشكل عام، ولكن دون أن أشفى نهائيا لحسن الحظ: الشعر كعلاج للروح التي لا علاج لها. نعم تبقى بعض القصائد التي نترنم بها في خلواتنا عندما يرحل كل شيء وندخل في مرحلة الفراغ والتيه، فراغ القلب والروح.. من يعلم أن شارل ديغول كان يترنم في أوقات يأسه وإحباطه من الفرنسيين بأبيات من فريدريك نيتشه؟ من يستطيع أن يتخيل وجود أي علاقة بين ديغول ونيتشه؟ ومع ذلك فكثيرا ما سمعه ابنه الأميرال فيليب ديغول وهو يردد هذه الكلمات بصوت عال أو خافت، لست أدري:
لاشيء يساوي شيئا
لاشيء يحصل أصلا تحت الشمس
ومع ذلك فكل شيء يحصل
ولكن بلا جدوى.
لاشيء له معنى في نهاية المطاف..
الترجمة: كل شيء باطل في باطل وقبض الريح..(سفر الجامعة،التوراة)
هذا لا يعني بالطبع أن ديغول كان عدميا مثل نيتشه وإلا لما تحرك من أرضه وقاد الرجال وغير وجه فرنسا. ولكن في لحظات اليأس كان يستسلم لمثل هذه المواقف قبل أن ينتفض مرة أخرى كالعملاق من أعماق الخواء العدمي لكي يتدخل في مجرى الأحداث ويصنع التاريخ.
هناك شيء واحد يستطيع أن يقاوم الموت، أو الفناء، أو العدم أو الحياة الهاربة من بين أصابعنا كل لحظة هو: الفن. الشعر، الموسيقى، الرقص، السينما، الرسم، الجنون، اللوحات الخالدة: الجمال.. ماذا تستطيع السنون أو القرون أن تفعل بقصائد هولدرلين أو لوحات فان غوخ؟ كلما مرت عليها زادتها قيمة كالخمر المعتقة. هل يمكن لتراكمات الزمن أو تكلُّساته أن تصيبها بالتجاعيد أو الأخاديد؟ فلسفة صديقه هيغل شاخت على الرغم من عظمتها ولكن أبيات هولدرلين لا تشيخ.. هل يمكن للشعر أن يشحب كما تشحب النظريات الفكرية المتعاقبة وراء بعضها البعض؟أبدا لا. الشعر لا يموت، الشعر لا يشيخ، الشعر يبقى كما هو، حياً، على الدهر. لنستمع إذن إلى بعض الشعر:
آه، أيها الوطن!
البحّار يعود فرحاً إلى النهر الهادئ
بعد أن يكون قد جنى حصاده من الجزر البعيدة
أود مثله أن أعود إلى بلادي
ولكن ماذا حصدت غير الألم؟
***
أيتها الضفاف التي أحاطت بطفولتي
هل تعرفين تهدئة عذابات الحب؟
وأنت يا غابات بلادي، هل تعرفين
عندما أعود، أن تعيدي لي سلام الأيام القديمة؟
الربيع
آه، يا لسطوع الشمس وأزهار الأرياف!
الأيام تجيء، غنية بالأزهار، الأيام وديعة
المساء أيضاً له أزهاره. ونهارات مشرقة تنزل
من السماء، هناك حيث تولد الأيام..
***
هاهي السنة، مع فصولها،
كالمجد أو كالأعياد تنتشر…
الإنسان يستعيد أعماله ويفكر بأشياء أخرى
وكالإشارات في هذا العالم، وفرةُ المعجزات..
منتصف العمر
مثقلةً بالأجاص الأصفر
والورود البرية
هكذا تنحني الأرض فوق البحيرة
وأنتنَّ، أيتها الوزّات الجميلات
الدائخات من كثرة القُبَلْ
أنتنَّ تغطسن رؤوسكن
في اليمّ المتقشف والمقدس
***
واأسفاه! من أين آخذ، أنا، في الشتاء الأزهار؟ أين آخذ
بريق النور
وظلال الأرض؟
الجدران تنهض
خرساء باردة، وفي الريح
تصطفق دوّارات الهواء
***
ذكرى
ريح الشمال تهبّ
من بين الرياح، هي الأعز على قلبي
لأنها تعد البحارة
بروح النار والعبور الجيد
لكن اذهب وبلّغ تحيتي
إلى نهر الغارون الجميل
وحدائق بوردو
هناك، حيث الدرب
يسير على طول النهر الوعر…
وحيث النهر يسقط في قلب النهر
في حين أنه في الأعالي
تحلم، بنظرات ضائعة،
شجرتا السنديان المتحدتان
وأشجار الحور الرمادية، الخ..
ثم هذا البيت الذي يختتم القصيدة والذي ذهب مثلا:
لكن ما يبقى هو أعمال الشعراء..
***
يقول الباحث الفرنسي بيير بيرتو ما معناه: كان هودرلين شاعراً وكفى. هذه هي الصفة الوحيدة التي كان يقبلها. وهي الصفة الوحيدة التي تناسبه. كان يريد أن يصبح شاعراً فقط. وقد كان شاعراً من أوله إلى آخره. هل هو كلاسيكي؟ هل هو رومانطيقي؟ هذه الأوصاف لا تنطبق على شاعر في حجم هولدرلين. إنه يتجاوز كل التحديدات والتصنيفات المعهودة. لا يمكن حشره في خانة ضيقة. هولدرلين يستعصي على التصنيف.. لقد تأخر الغرب عن الاعتراف بهولدرلين لأنه جاء في غير وقته،او قبل وقته، لأنه كان معقداً نفسياً ومريضاً.. ولكن عندما وعى قيمته وأهميته راح يعترف به، وبلا حدود. وأدرك عندئذ إنه أكبر شاعر ظهر في الغرب منذ اليونان. أو قل أنه يجسّد براءة الشعر وصفاءه أكثر من أي شاعر آخر. إنه الصدق المطلق! وربما لا يضاهيه في هذه النقطة إلا رامبو عند الفرنسيين. ثم يردف الناقد الفرنسي قائلا:
كان هولدرلين شخصاً بسيطاً وتناقضياً، كان شخصاً ممزَّقاً ومجبولا من كتلة واحدة. هولدرلين لم يكن يعرف المساومة. هولدرلين لم يكن ديبلوماسياً لكي يستطيع أن ينجح في الحياة ويستمر… ما علاقة الدبلوماسية بالشعر؟ وفي ذات الوقت لم يكن يهدف إلى الابتكارية المصطنعة والتمايز عن الآخرين بأي شكل. ولكن نغمة صوته لا تُضاهى، لا تُقلَّد. ويمكن أن نتعرَّف عليها في كل عبارة يكتبها. كان نسيج وحده كبقية الشعراء الكبار. لم يشكل مدرسة، ولكن الشعر الغنائي الألماني (وغير الألماني) يحمل طابعه وتأثيره العميق. لقد تجاهلوا قيمة هولدرلين طيلة عقود طويلة من السنين ولم يكتشفوه إلا بعد مائة سنة من موته. ولكنه الآن أصبح يشكل قمة الشعر الألماني. عندما كان عمره عشرين سنة كتب هولدرلين هذه الأبيات:
كما تنزلق الأنهار نحو البحر الواسع
هكذا تتسارع الأزمنة نحوكْ
في قلب الأبديّات القديمة
في أعماق الفوضى يكون مسكنكْ
***
هذا هو الشاعر: انه الفوضى الخلاقة، لا منزل له ولا بيت، بيته ضائع في الريح، وعشه في "اللا مكان"…
ثم يختتم بيير بيترو حديثه عن هولدرلين قائلاً بما معناه: لنكرر الكلام مرة أخرى: هولدرلين ليس شاعراً "صعباً". فكلماته هي نفس الكلمات المستخدمة في الحياة اليومية للغة الألمانية. يعرف ذلك كل من يتقن هذه اللغة. إنها الكلمات الأكثر بساطة، والأكثر محسوسية، والأكثر واقعية. ولكنه ينوّع فيها وفي معانيها إلى ما لانهاية. ثم إنه يستخدم اللغة بطريقة صافية، نقيّة، لأنه كان صافياً نقياً. هولدرلين لم يعرف في حياته التلوث أبداً! هل يمكن أن تتخيل مثقفا من هذا النوع؟ وهل غريب انه جن؟ وتنطبق عليه هنا كلمة مالارميه في تعريفه للشاعر: إنه ذلك الشخص الذي يخلع معنى أكثر صفاء على كلمات القبيلة. (أي على كلمات الأمة التي ينتمي إليها، او اللغة الأم التي ولد وترعرع في أحضانها). إن أعمال هولدرلين تؤكد صحة ما قاله ديكارت: "قد نصاب بالدهشة والاستغراب عندما نكتشف أن الأفكار الأكثر عمقاً موجودة في كتابات الشعراء أكثر مما هي موجودة في كتابات الفلاسفة. وسبب ذلك هو أن الشعراء يستخدمون لغة الانفعال والحماسة، ويستغلون قوة الصورة الإيحائية. وكما في معدن الصوّان، فإنه تكمن في أعماقنا بذور المعرفة. أما الفلاسفة فيستخرجونها ويوضحونها عن طريق وسائل العقل. هذا في حين أنه عن طريق وسائل الخيال والمجازات الخارقة، فإن الشعراء يجعلونها تتفجّر وتنبثق من الأعماق. وهكذا تشرق بأنوار أكثر سطوعاً". انتهى كلام ديكارت.
ما كنت أعرف أن ديكارت ناقد أدبي من أعلى طراز حتى قرأت صدفة هذه الكلمات.
هل يمكن أن نجد تعريفاً أفضل من ذلك للشعر والفكر أيضا؟ ولكن لماذا نقيم المعارضة بينهما، في حين أنهما من طبيعتين مختلفتين؟ ورغم أن ديكارت لم يكن ناقداً أدبياً محترفا، إلا أنه كفيلسوف كبير استطاع أن يضع يده على النقطة الفاصلة بين الشعر/و النثر، أو بين الشعر/ والفكر.
أما هيدغر الذي خصص أكثر من محاضرة وأكثر من كتاب لهولدرلين والذي كان مختصا بالشعر فعلا على عكس ديكارت فيلخصه بكلمتين اثنتين: شاعر الشعر. المقصود شاعر الجوهر الشعري للغة العالم. ثم يردف قائلا: بأنه شاعر الألمان المقبلين. بمعنى انه، وبعد أكثر من قرنين على ولادته، لم يفهم حتى الآن من قبل قومه وشعبه فما بالك بالآخرين؟ انه شاعر الأزمنة القادمة، الأزمنة التي ستجيء. لا يمكن لأي محب لهولدرلين أن يمدحه بأكثر من هذا. نقول ذلك خاصة أن المديح آت من جهة اكبر فيلسوف في القرن العشرين. حقا لقد أنصف هيدغر هولدرلين الذي جن ومات دون أن يعرف انه اكبر شاعر في تاريخ ألمانيا. لقد انتقم له هيدغر خير انتقام. ثم يقول أيضا: لا يمكن أن نفهم هولدرلين إذا لم نأخذ بعين الاعتبار النبرة الأساسية للشعر. نقصد بذلك: النبرة التي تفتح العالم الذي يتلقى من خلال الكلام الشعري بصمة الكينونة، أي بصمة جوهر الوجود.
يعلق فيليب سوليرز على هذا الكلام الغامض شيئا ما قائلا: نحن نقرأ الشعر مكتوبا عادة. ولكن لكي نفهمه في إشراقه الأساسي، لكي ندركه على حقيقته، ينبغي أن نعيده إلى نفثه، إلى إلهامه، إلى إيقاعه، إلى رؤياه وما كان هيدغر قد دعاه بالنبرة الأساسية للشعر. بمعنى آخر ينبغي أن نقرأه بصوت عال. الشعر كتب كي ينشد، لكي يستمتع به غنائيا لا لكي يقرأ كما تقرأ الجريدة. من لا يهتز لإيقاع الشعر، من لا يعرف كيف يتذوق الشعر، من لا يفقد صوابه عندما يقع على قصيدة معينة، فاته الشيء الكثير في هذا العالم. شخصيا يعلو صوتي أحيانا بقصيدة مالك بن الريب أو سواها حتى ليكاد يسمعني الجيران…
لكن لنعد الآن إلى هولدرلين ولنتأمل بهذه الأبيات المليئة بالتفجُّع والحسرة والتي لا تستطيع الترجمة بالطبع أن ترتفع إلى مستوى النص الأصلي، أي النص الألماني.
هكذا كان مينون يبكي ديويتما
كل يوم أذهب تحت السماء وأبحث عبثاً عن حصول تغيُّر ما
منذ زمن طويل طلبتْ منها كل شيء، دروب الأرياف؛
الهضاب، هناك في الأعالي، حيث تهبّ الرياح الطرية، وأنا شارد
من إحداها إلى الأخرى، ثم إلى الظل
حيث النبع. وروحي من الأعالي إلى الوديان،
تتوسل وتطلب الراحة. هكذا تلجأ البهيمة المجروحة إلى الغابات
حيث كانت في سالف الأزمان تستريح، وقت الظهيرة، بلا مبالاة في الظل،
ولكن مأواها المخضوضر لن يعيد السكينة إلى قلبها!
إنها تتأوه، ولم تعد تغفو الآن، السهم يجرجرها ضائعة هنا
أو هناك!
حرارة الشمس، طراوة الليل، لا شيء يداويها،
عبثاً في أمواج النهر تغسل جراحاتها،
عبثاً تمنحها الأرض الفضيلة المرحة لُبلهائها!
ولكن لا يستطيع أي نسيم عليل أن يهدئ من روعها، أن
يخفّف من حمّى دمها.
هكذا، أنا، آه يا أصدقائي، هذه هي حالتي. فهل قيل بأن أحداً
على وجه الأرض لن ينزع عن جبيني الحلم الذي ابتلاني؟
فقط أبناء الأرياف والوديان والوحوش يعرفون معنى هذا الكلام لأنهم رأوا فعلا ثورا مجروحا أو بقرة أو حصانا يوما ما..
هذه هي حالة هولدرلين. إنه كالطريدة التي أصابها سهمٌ قاتلٌ فراحت تركض كالمجنونة سارحة في البرية من مكان إلى آخر عساها تخفف من وجعها، ولكن عبثا..وهكذا لا تهدأ في أي مكان. ولم تعد كل مياه الأنهار ولا ظلال الغابات بقادرة على تبريد ألمها، على إشباع عطشها. إنها سائرة إلى حتفها بشكل محتوم. وكذلك هو هولدرلين: لن يستطيع أي صديق في العالم أن يعزّيه بعد اليوم أو يواسيه بعد أن ماتت ديوتيما،المرأة التي أحبها( في الحقيقة سوزان غونتار التي ماتت من حبه فجننته). لن يستطيع أي شيء بعد الآن أن يهدئ من هيجان روحه الداخلية. هل كان هولدرلين يعرف أنه سائر نحو الجنون عندما كتب هذه الأبيات؟ هولدرلين ينتمي إلى ذلك النوع من الأشخاص الذين دعاهم جبران خليل جبران بـ: الأرواح الحائرة. إنها أرواح قلقة لا يهدّئ من حزنها أو ألمها أي شيء في العالم: أرواح منقسمة على نفسها أزلياً، أرواح تبحث عن صفاء ممنوع في هذا العالم، أرواح فقدت نصفها الآخر فهامت على وجهها ،حتى الجنون، بحثا عنه، دون جدوى…