مأمون أحمد مصطفى - ضجيج الصمت

وحيدا تجلس كعادتك، ترنو للسماء المتناثرة بها النجوم لآلئا في ظلام الوجود والعدم. وتارة ترنو للأفق البعيد بعينيك الذابلتين المرهقتين. فأحس وأنا أنظر إليك من شرفتي المقابلة أنك تلقي حبالك على المدى الذي تحيطه عيناك لتدنيه إليك أكثر، لترى ما هو بوضوح أكثر، لكن حبالك كانت تنزلق في كل مرة جارحة بكلاباتها نسيم الصيف الناعم الطري. فيداهمك إحساس بالفشل والإحباط، ودون شعور يتقدم رأسك للأمام، مع اتساع ملحوظ بالعينين، ليستشرف أبعد من المدى المحاط بإشعاعات عينيك، ولكن حين يرتد رأسك، وتستوي عيناك، كنت أعلم أن الفشل واليأس كانا جزءا مما علق بأهدابك وشعرك في رحلة العودة.

وفي الوقت الذي كنت أثبت بصري عليك، صباح، مساء، لا اعلم لماذا كنت أحس أنك من جنس غريب؟ فجلدك المتجعد المترهل الساقط على بعضه طبقات فوق طبقات، ورأسك المغزو ليله بشهب بيضاء دونما تناسق، وكذلك حاجباك الكثيفان الملتقطان ببعضهما ألبعض. والأهم من هذا كله، هو نظرتك الغريبة التي تسبح كثيرا في بحر من الدموع الهائج بعينيك الغائرتين، الذابلتين، لتخرج على شاطئ الجفون مبللة باللون الأزرق وطعم الملح. المنبعث منها رائحة السمك والصدف، وكذلك رائحة الطحالب المميزة. كل هذه الأمور كانت تشدني نحوك بعنف غريب. وكثيرا ما خطر ببالي أن أقفز من شرفتي إليك، حتى لا أضيع الحماس، أو أترك له مجالا للفتور أثناء النزول من بيتي والدوران إلى بيتك. ولكني حين كنت أسدد نظرتي للأسفل، كنت أشعر وأحس بالهوة السحيقة التي ستلفني في رداء العدم لو قفزت إليك.

كنت أرثي لك ولحالك، حين أحدق بجلستك على كرسي الخيزران الذي اهترأ وجهه من ملازمتك له، وأنت محني الظهر انحناءة ليست كاملة، وملق ذقنك على ساعديك المعقودين فوق جسر الشرفة الحديدي، لتوجه عينيك للشارع الزاخر بالأضواء الصفراء المنبعثة من أعمدة النور.

ترى ما الذي كان يوحي لك به هذا اللون الشاحب؟ وما هو شعورك أمام امتزاج الأضواء مع بعضها لتكون بحرا من الأمواج الخيالية الساحرة والخلابة؟ أم أنك لم تحس بمثل هذه الأمور؟ أعذرني يا سيدي لتطفلي عليك، فأنا لا أعلم تماما كيف دخلت حياتي، هكذا، دون استئذان أو سابق إنذار. دخلتها بنفس الغرابة التي تتمحور في عينيك العميقتين، وكثيرا ما كنت أسرح بفكري داخل ذاتي، منقبا عنك فيها. وحين أكاد أمسك بك، كنت تفلت مني وكأنك مدهون بالزيت، الأمر الذي دفعني للاعتقاد بأنك جزء مني أو أنني جزء منك.

من أجل هذا فقط، لم أستطع مقاومة نفسي، كان لا بد أن أصل إليك. ولكن، المهم، هل تصدق أنه خطر ببالي كثيرا أن أقفز إليك من شرفتي المقابلة؟ لا، لا تنظر باستغراب، هذا ما حدث. ولكن دعني أسألك شيئا ما: لماذا تبدو هكذا؟ محدقا بالفراغ؟ باللاشيء؟ بالمطلق؟ وما هذا الترهل والتمطط البادي على جسدك؟ يا سيدي أنا لا أفهم لغة العيون، وكل ما يمكن أن يسعفني فيه عقلي المتواضع أن تحدث بشفتيك وتشير بعينيك، عندها فقط يمكن أن أفهم شيئا مما تود أن تقول. أما أن تحدثني بعينيك وتشير بشفتيك، فهذا ما لا أستطيع فهمه.

أنت لا تجيد لغة الشفاه، ليس لعجز في لسانك، بل لأن ما ستقوله يفوق حدود الكلمة البسيطة. ولنفرض جدلا أنك تحدثت بشفتيك، معنى ذلك أن القيمة الإحساسيه لما تعاني نفسيا وفكريا ستهبط إلى أسفل. وكل معاناتك ستتحول إلى كلمات، إطارات، محارات لؤلؤ مفتوحة. هل تعلم أنني أدرك مثلك تماما قيمة اللؤلؤ وهو لا يزال في جوف محاره. إن قيمته فقط، هي تلك اللحظة التي تكون معبأة بالانتظار والترقب. فحياة الغواص الآتية تكون مرهونة كلها في تلك اللحظة ألحرجه، لحظة الأمل أو الخيبة، فقبل أن يفتح المحارة، يظل مشدودا بأحاسيس تتنازعه وتتحداه، لتكون عنده شعورا لا يرسم أبدا، ولكن، هل رأيت مشهدا مثل هذا؟ إذن دعني أريك إياه وصفا.

أنظر إلى يديه، هل ترى كيف ترتجف السكين بها؟ وهل ترى عينيه؟ حدق بهما، حدق جيدا، وإلا فإن نظرة الاستجداء سوف تقفز من مكانها بعيدا، وسيفوتك عندئذ أن ترى معنى اللغة التي تجيدها تماما. لغة العيون. أنظر إلى عينيه باهتمام بالغ، إن فيها بريقا يكاد يقفز ليستقر داخل المحارة، لكنه يعود مرتعدا ليستقر مكانه. انها اللحظة الحرجة، أنظر معي من جديد، ولكن دع عينيك تخرقان الجلد الملوح بالشمس، والمطلي بزرقة البحر وأعماقه المجهولة. هل ترى؟ إنني الآن، أستطيع، ودون أدنى جهد، ان أقرأ كل خلجه من خلجات نفسه، وأن أسمع كل خفقه من خفقات روحه، وكل نبضه من نبضات قلبه. إن مشاعره تلتف فوق بعضها إلتفافا متموجا، وتتشابك أحاسيسه بصورة معقده، وتتمازج جميعها فتحدث في النفس فوضى عارمة، هائلة، تدق بمطارق من فولاذ على العقد المتكونة من الالتفاف والتشابك، وإذا بأطراف المشاعر تحبس في صدى المطرقة الهائل. وفجأة تنتفض مشاعره وأحاسيسه إنتفاضة عنيفه، فيصعد صدره ويهبط، ويأخذ الغواص نفسا عميقا، كالنفس الذي يأخذه حين يمزق رأسه سطح الماء بعد عودته من رحلة الغوص في عالم السر والمجهول.

ثم يعود ليحدق بالمحارة من جديد، وتتحرك يده اليسرى حركة خاصة لتمسك المحارة بشكل يجعل فاصلها خارجا من قبضة اليد، والبقية غائبة تحت الضغط الفولاذي المركز حولها. أنظر، ها هو يبدأ بتحريك يده اليمنى الممسكة بالمدية باتجاه المحارة. وأخيرا، استقر طرف النصل على فاصل المحارة، ضغط المدية قليلا باتجاه العمق، ثم حرك المدية حركه دائرية محاولا فصل شقي المحاره.

وغاص نصل السكين بعمق، فتأرجحت القبضة وسال الدم غزيرا، تعالى صوت شهقة. وطارت المحارة بعيدا نحو الشاطىء، احتضنتها موجه قادمة، وعادت لتسكن من جديد بأعماق المجهول، تنتظر غواصا جديدا، من يعلم؟ قد تبقى هناك للأبد، مغلفة بالتساؤل والاستغراب؟

هل ترى يا سيدي ذلك الكف كيف ترنحت قوته؟ ولكن، قل لي ما هو شعور الغواص لو دار النصل دورة صحيحة في فاصل المحارة؟ ماذا كان سيحدث؟ ما الذي كان ينتظره؟ هو سؤال بسيط، مضحك، أعلم هذا جيدا من عينيك، ولكن، مع بساطته وعبثيته، هل تستطيع أن تعطيني إجابه واحده صادقه عليه؟ لا، لن تستطيع. ولن يستطيع أهل الأرض كلهم أن يعطوا إجابة على هذا السؤال، البسيط، العبثيً، هل تعرف لماذا؟ لأنه الان أصبح نوعا من المستحيل، هل ترى يا سيدي بأن ما بيدك اليوم كحقيقة، قد يتحول بلحظة عين إلى مستحيل، فيكون غريبا عنك، وتكون غريبا عنه. وكأن ما كان بينك وبينه ليس سوى وهم، وهم يغيب ويتلاشى، كما يغيب الحلم ويتلاشى.

مالي أرهقك بمثل هذا الكلام، هذا المحار المفتوح، ولكن أنظر، هل هذا الشخص الذي يحاول أن يقطع الشارع؟ هل تعرفه؟ لا. حسنا، أنا أيضا لا أعرفه، وأعرفه، اسمه ماجد، وليس هذا الاسم أسمه الوحيد. أنا أعرفه أسماء وأشخاص، ولا أعرفه إسما أو شخصا، ومن أسمائه التي أعرفها، كذاب، محابي، متملق، مداهن، مرائي. لا يا سيدي، لا تستغرب، أنا لا أعرف فعلا معنى النظرة الصاعدة من عينيك إلى جبهتي، ولكني أعلم يقينا، بأنك مشدوه من هذا الشخص الذي حدثتك عنه. المهم أن هناك فرقا واضحا بينك وبينه، هو لا يكف عن الكلام أبدا، حتى سمعته يشكو إرهاق لسانه يوما، وأنت لا تكف عن الصمت مطلقا، حتى خيل لي أحيانا أن لسانك سوف يشكوك إلى نفسك.

لا يا سيدي، لا تنظر إلى بتقزز واشمئزاز، فليس ماجد وحده التافه، لا، ليس وحده، كلنا تافهون، نعم، أنني أعترف أمامك الآن بأننا جميعا تافهون. مع يقيني بأن هذا الاعتراف لن يغير من الأمر شيئا. أنت لا تصدق؟ إذن دعني أسألك شيئا ما. ماذا تسمي الحروب؟ ماذا تسمي الأشباح القابعة في الدول الكبرى -العظيمة -والتي تنتظر لحظة إطلاقها لتنتشل أرواح ملايين الملايين؟ ماذا تسمي الدمية التي سقطت على اليابان؟ ماذا تسمي الذي يشفق على ضحيته من صوت الرصاص فيذبحها بسكين غير حاد، ثم يبدأ بالرقص على أنغام حشرجتها؟ ماذا تسمي الذي يذبح الأطفال أمام عيني أمهم، ثم يترك الأم حية دونما ذبح؟ ماذا تسمي الذي بكى حزنا حين استقر رصاصه في جسد الجواد وأخطأ العائلة المتمترسه خلفه، ثم ذبح تلك العائلة بالسكين انتقاما للظلم الذي حاق بالجواد؟ قل لي ماذا تسمي هذا؟

أما أنا فلا أسميه شيئا، لأني لا أبحث عن أسماء لأشياء لا مسميات لها. لا، لا تسألني. فأنا لا أجيد الأجابه مطلقا. ولكني أجيد وضع الأسئلة بشغف كبير لا يضاهيه إلا شغفي بالسباحه. دعني أسألك شيئا أخر: تقول إنك إنسان، حسنا، ولكن كي أصدق هذا الكلام، أخبرني ما هي قيمتك؟ صعودك إلى القمر لا يمنحك أي قيمة على الإطلاق، لأنك ما زلت أجبن من أن تقف أمام شعاع من أشعة الشمس، وستبقى جبانا أمام هذا الشعاع ما حييت. ولأنك، وهذا الأهم – حين تموت لن تدفن في نسيج من ضوء القمر الذي صعدت إليه. بل في حفرة صغيره، وسيهال عليك التراب الذي طالما داسته الأقدام. ثم تترك وحيدا، وحيدا، أتدري ما معنى وحيدا؟ لا أظن ذلك، لأنه معنى لا يدرك. إن معناه أن تدرك عالما قائما بذاته، فهل تستطيع أن تدرك عالما قائما بذاته؟ لا، لن تستطيع، صدقني لن تستطيع. ثم، هل صعودك إلى القمر، يساوي رغيف خبز لطفل يتضور جوعا؟ الجوع يقتات روحه، أعصابه، روحه؟ كل ما صنعت، ما ستصنع، لا قيمة له على الإطلاق، لأنه خال من الحياة، من الروح. رغيف الخبز يا سيدي، أغلي وأثمن ملايين ملايين المرات من غرورك العفن، الضاج بالعفانه والزيف والكذب. رغيف الخبز هذا، حياه، حياة كامله. فهل تدرك حقا ما معنى – حياه-.

هل ترى يا سيدي؟ أن قيمتك مرهونة بموتك، فإذا إستطعت أن تبقى حيا، لا بأس، تعال إلي عندئذ. وحتى تصل إلى تلك اللحظة دعني أكمل معك. قلت لك: إنك ستموت، وسيفرح كثير من الناس لموتك، وسيبكي كثير عليك، هل ترى؟ إنك ما زلت مجموعه من المتناقضات حتى بعد موتك؟ ثم سينساك الجميع، ينسوك كأن لم تكن، أما أنا فسأظل ذاكرا لك، أراك طريح الأرض هامدا، والدود يزحف منك إليك، غازيا جسدك، ممزقا أمعاءك، داخلا عينيك دونما خشية أو وجل، ناهبا بؤبؤك، مسيلا ماء عينيك على خديك، مقتحما قلبك، ناهبا كل ما فيك من لحم طري، ثم يتركك ويذهب. وتبدأ مرحلة جديده، سوف تتحلل عظامك وتتحول إلى تراب. إلى الأصل الذي تكونت منه. وعندئذ لن يجدك أحد، ستصبح مستحيلا على البشر، كما أصبحت تلك المحاره مستحيلا عليهم. وسيدوسك الناس، دون أن يسمعوا تأوهاتك، حتى أهلك وأبناؤك قد يدوسوك وأنت تصرخ، ولكن لن يصل صراخك إلا صحن أذنك فقط.

قلت أنى سأظل ذاكرا لك، نعم، وسأذكر وجهك بالذات كلما دخلت سوق الخضار، سأذكرك وأنت تبحث هناك عن شيء تأكله، ولن أنساك مطلقا. هل تدري أنني سأفكر فيك عندئذ؟ ربما زرعت فوقك شجرة، وغاصت جذورها ممزقة أحشائك، ساحبة كل ما فيك غذاء لها، وتمر الأيام، ويأتي الربيع، ويقطف صاحب الأرض ثماره، دون أن يدور بخلده أنه يقطفك أنت. وستباع في الأسواق، ولسوف يتلذذ الناس بالسكر الموجود في التفاح أو الموز، دون أن يعلموا إنما يأكلوك أنت، أو، ربما تكون نبتة حنظل، من يدري؟

كان ينظر إلي بفتور قاتل، أحسست أنه يسحب أعصابي من جسدي، بدأت أرتجف كأنما غزتني صاعقة عاتية، وشعرت بشيء غريب من الخارج يسقط في داخلي، حدقت في عينيه، هناك شيء ما بهما، بريق يغوص بأعماق العينين. بدأت أخرج قليلا قليلا عن طوري، صرخت به كالمحموم، لا، لا تحدق فيً هكذا، شيء ما بعينيك يقتلني، شيء لا أعلمه، ولكني أحسه، أتحاشاه، لكنه سمر نظراته بأعماقي. أمتدت يدي دونما شعور إلى مدية على المنضدة، وبدأت أحز رقبته بها. تصاعدت لأنفي رائحة الدم، وغطى ناظري البخار المتصاعد من سخونتها، أحسست سخونتها تلدغ أعصابي، وأخذت لزوجته تستفز جلدي.

شعرت بلذة عميقة تجتاحني، تهز كياني، تعصف بي، حملت نفسي نحو الحمام وأنا ممزوج بأحاسيس مبهمه. كان شيئا ما يحركني نحو الماء، إنتفض جلدي من جديد، أحسست دماءه تدخل بأوردتي، فتحت صنبور الماء على أعلاه. هزتني عصبية مفاجئه، ولكن الدم ظل يتجدد، إشتد إنتفاض جلدي من اللزوجة. داهمني الخوف من كل ناحية، شعرت البخار يتصاعد من وجنتيً. رفعت رأسي للمرآة، فإذا به يستقر داخلها، يضحك ملء شدقيه، نظرت ليدي فإذا بمعصمي ينزف.
هو يضحك ومعصمي ينزف.
هو يضحك ومعصمي ينزف.


مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
1977

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...