يمكننا أن نتكلم عن الرواية العربية بعد نجيب محفوظ في حين أننا نجد صعوبة أكبر في الكلام على الرواية العربية قبل نجيب محفوظ. لقد كان محفوظ بحق بلزاك العرب. راقب الصعود الأولي للبرجوازية وما أحدثته في المجتمع المصري من تهافت طبقي وأخلاقي. كانت لحظة قلقلة واهتزاز وتدهور. ونجيب محفوظ الذي كتب دائماً على خلفية تاريخية وجوّ في هذه الفترة سأحاول إعادته ومقابلته لمعمار قصصي. ثلاثية نجيب محفوظ كتبت لهذه القدرة على المناظرة الروائية للواقع التاريخي، كان محفوظ الأول الذي صفى العمل الروائي من الاعتبارات الأدبية والعاطفية والأخلاقية مقدماً على ذلك كله تطلبات واحتياجات العمل الروائي، لقد أسس الرواية الحديثة وخلق الواقعية المصرية في آن معاً. ولا نستطيع اليوم أن نطالع الرواية المصرية من دون أن نقيسها على رواية محفوظ أو نقابلها بها، الثلاثية هي من دون شك أمّ الرواية العربية. وإذا كان المجال واسعاً لمقارنتها بالرواية البلزاكية والرواية الروسية إجمالاً، إلا أنني أبحث فيها عن العنصر المحلي المصري. إن في أزواج الشخصيات في الثلاثية وهي سمة تكاد تنطبق عليها جميعاً. الأب سيد عبد الجواد والابن حسن والابن الثاني كمال، بما في ذلك الشخصيات النسائية، ما يحيلنا فوراً إلى نهوض اجتماعي قلق ومموّه. إن في سلبية الابن كمال المثقف ما سينجرّ فيها بعد ذلك على رواية المثقفين المحفوظية التي في مرحلة ثانية من كتابته اعتمدها. وهذه المرة أيضاً كانت المقابل الروائي لصعود النخب إلى السلطة ومراكز التأثير بعد الانقلاب الناصري، خيانة المثقفين وخيانة النخب كانت نصب عين نجيب محفوظ في «ثرثرة فوق النيل» وفي «اللص والكلاب» وروايات أخرى.
رغم ذلك تكاد الثلاثية أن تكون، لا رواية نجيب محفوظ وركيزته. بل هي أيضاً النموذج الروائي الأولي للقصة العربية، فنحن بعد نجيب محفوظ نجد أنه فتح الطريق لأفق روائي ليس في المستطاع المرور الجانبي به. لقد دخل الروائيون حتى أولئك الذين لم يحملوا بصمة نجيب محفوظ من الفجوة التي أحدثها في الرواية. يمكننا من هذه الناحية أن نجد سابقة نجيب محفوظ في الروايات التي صدرت بعده: يوسف إدريس ويوسف الشاروني. والأخير أعاد كتابة مقاطع من روايات محفوظ وما بعد الشاروني ويوسف إدريس. أي الجيل الستيني: أدوار الخراط، عبد الحليم قاسم، خيري شلبي، إبراهيم اصلان، جمال الغيطاني، محمد البساطي، إبراهيم عبد المجيد، وحتى علاء الأسواني الذي رغم تأخره عن نجيب محفوظ بنى أيضاً على النموذج المحفوظي، بل أعاد إنتاج الرواية المحفوظية بتشكيل وتوزيع جديدين.
النموذج المحفوظي هو إذن النموذج البدئي للرواية الحديثة. ما فعله الروائيون الذين جاؤوا بعد محفوظ هو أنهم في غمرة الاختلاف والتفاوت والاحتجاج على نجيب محفوظ بنوا على نموذجه ودخلوا إلى الرواية من بوابته. إذا كانت الرواية الروسية خرجت من معطف غوغول، فنحن لا نخطئ إذا قلنا إن الرواية المصرية خرجت من ثلاثية نجيب محفوظ. أقول الرواية المصرية لأنها الرواية الوحيدة بين الروايات العربية التي تعثر فيها على نموذج. هذا النموذج ليس فقط في محيط الرواية، بل في شخصياتها الشعبية غالباً وحواراتها وسردها. النموذج المحفوظي هو الماثل من قريب أو بعيد في «مالك الحزين» وفي «قالت ضحى» وفي «لا أحد ينام في الإسكندرية» وفي «الزيني بركات» وفي «وكالة عطية» وفي «صخب البحيرة» وحتى وبخاصة في «بناية يعقوبيان»، لا نستطيع أن نفرز هذه الروايات ومثيلاتها من دون أن نشعر أنها تستند إلى أساس متين هو رواية نجيب محفوظ.
مع ذلك ثمة فوارق، الروائيون بعد نجيب محفوظ تحرروا من تاريخانيته الصارمة. لم يضعوا رواياتهم مقابل صفحات في التاريخ ولم يسجنوا شخصياتهم في أطر طبقية وتاريخية كما فعل نجيب محفوظ. لم يكن العام بالنسبة لهم ضرورياً ومفروضاً. لقد فتشوا عن موضوعاتهم وسط تشابك العلاقات وفي عقدها الضيقة والمزوية. بحثوا عنها ووجدوها لدى أفراد ليسوا بالضرورة مطابقين لظواهر عامة أو ان هذه المطابقة ليست بالضرورة موضوعهم ولا غرضهم. لقد تحرر الأفراد هكذا من النمط التاريخي والنمط الطبقي والاجتماعي وصارت صفاتهم الخاصة هي الأهم، لكنهم مع ذلك ظلوا داخل المجتمع، داخل الحارة والحي والجماعة من دون أن يلغي ذلك حيواتهم الخاصة ومن دون أن ينزع عنها طرافتها وخصوصياتها، لذا نجد روايات ما بعد محفوظ عامرة بهذه الطرافات الفردية والأمزجة الخاصة.
رغم ذلك تكاد الثلاثية أن تكون، لا رواية نجيب محفوظ وركيزته. بل هي أيضاً النموذج الروائي الأولي للقصة العربية، فنحن بعد نجيب محفوظ نجد أنه فتح الطريق لأفق روائي ليس في المستطاع المرور الجانبي به. لقد دخل الروائيون حتى أولئك الذين لم يحملوا بصمة نجيب محفوظ من الفجوة التي أحدثها في الرواية. يمكننا من هذه الناحية أن نجد سابقة نجيب محفوظ في الروايات التي صدرت بعده: يوسف إدريس ويوسف الشاروني. والأخير أعاد كتابة مقاطع من روايات محفوظ وما بعد الشاروني ويوسف إدريس. أي الجيل الستيني: أدوار الخراط، عبد الحليم قاسم، خيري شلبي، إبراهيم اصلان، جمال الغيطاني، محمد البساطي، إبراهيم عبد المجيد، وحتى علاء الأسواني الذي رغم تأخره عن نجيب محفوظ بنى أيضاً على النموذج المحفوظي، بل أعاد إنتاج الرواية المحفوظية بتشكيل وتوزيع جديدين.
النموذج المحفوظي هو إذن النموذج البدئي للرواية الحديثة. ما فعله الروائيون الذين جاؤوا بعد محفوظ هو أنهم في غمرة الاختلاف والتفاوت والاحتجاج على نجيب محفوظ بنوا على نموذجه ودخلوا إلى الرواية من بوابته. إذا كانت الرواية الروسية خرجت من معطف غوغول، فنحن لا نخطئ إذا قلنا إن الرواية المصرية خرجت من ثلاثية نجيب محفوظ. أقول الرواية المصرية لأنها الرواية الوحيدة بين الروايات العربية التي تعثر فيها على نموذج. هذا النموذج ليس فقط في محيط الرواية، بل في شخصياتها الشعبية غالباً وحواراتها وسردها. النموذج المحفوظي هو الماثل من قريب أو بعيد في «مالك الحزين» وفي «قالت ضحى» وفي «لا أحد ينام في الإسكندرية» وفي «الزيني بركات» وفي «وكالة عطية» وفي «صخب البحيرة» وحتى وبخاصة في «بناية يعقوبيان»، لا نستطيع أن نفرز هذه الروايات ومثيلاتها من دون أن نشعر أنها تستند إلى أساس متين هو رواية نجيب محفوظ.
مع ذلك ثمة فوارق، الروائيون بعد نجيب محفوظ تحرروا من تاريخانيته الصارمة. لم يضعوا رواياتهم مقابل صفحات في التاريخ ولم يسجنوا شخصياتهم في أطر طبقية وتاريخية كما فعل نجيب محفوظ. لم يكن العام بالنسبة لهم ضرورياً ومفروضاً. لقد فتشوا عن موضوعاتهم وسط تشابك العلاقات وفي عقدها الضيقة والمزوية. بحثوا عنها ووجدوها لدى أفراد ليسوا بالضرورة مطابقين لظواهر عامة أو ان هذه المطابقة ليست بالضرورة موضوعهم ولا غرضهم. لقد تحرر الأفراد هكذا من النمط التاريخي والنمط الطبقي والاجتماعي وصارت صفاتهم الخاصة هي الأهم، لكنهم مع ذلك ظلوا داخل المجتمع، داخل الحارة والحي والجماعة من دون أن يلغي ذلك حيواتهم الخاصة ومن دون أن ينزع عنها طرافتها وخصوصياتها، لذا نجد روايات ما بعد محفوظ عامرة بهذه الطرافات الفردية والأمزجة الخاصة.