للروزنامة على الناس سلطان لا يُعانَد . وكذلك للعادات والتقاليد . ففي هذا اليوم من كلّ سنة تفرض الروزنامة على جانب كبير من سكان هذه المعمورة أن يطووا عاماً وينشروا عاماً . وتفرض العادات والتقاليد أن يستقبلوا العام الجديد بالكثير من الهرج والمرج ، وبالتهاني المعسولة ، والتمنيات الطيبة ، مشفوعة بالهدايا ، يتبادلها الأهل والأصدقاء ، لا فرق بين كبير وصغير ، أو غني وفقير . فالكلّ يعطي على قدر طاقته . حتى ليخيّل إليك أن الناس في هِلّة العام الجديد هم غير الناس في محاق العام الذي قبله . فكأنّهم على موعد مع الخير والرأفة والحريّة والمحبّة ، وفي سباق إلى ذلك الموعد . أو كأنّهم بقلوبهم وأفكارهم وأجسادهم خارجون من حمّام وقد تركوا فيه جميع أقذارهم وأدرانهم . فانطلقوا في عالم الله الفسيح ، لا يحملون وزراً ولا يشكون عسراً .
إلّا أن العام الجديد لا يكاد يغفو ليلته الأولى ثمّ يستيقظ في صباحه الأول على الأرض حتى يرى الناسَ قد انصرفوا عنه إلى شؤونهم وهمومهم . فكأنّه عندهم أقدم من الأزل ، وكأنّهم ما تبدّل فيهم شيء ، وكأنّ سائر الأوزار التي ظنّوا أنّهم قد تطهّروا منها أمس عادت فلبستهم في الصباح . فهموم تزحم هموماً ، ومشكلات تتراكم فوق مشكلات ، وأوجاع تتفجّر من أوجاع ، والسعي في سبيل البقاء بأيّ ثمن ، سعي حثيث ومحموم .
أما وعامنا الجديد لم يغفُ غفوته الأولى بعد ، والتقاليد تقضي بأن نتبادل التهانىء ، فإني لأسأل نفسي : لمن عساني أقدّم تهانئي ؟ أأقول للذّين تتأكّلهم الأمراض وترهقهم العاهات في طول الأرض وعرضها ، وللّذين في السجون وفي بيوت المجانين ، وللّذين قذفتهم بشاعة البشر من دورهم وديارهم فباتوا مشرَّدين منبوذين منسيين ، وللذّين بين أعناقهم وبين جبال المشانق ، أو بين صدورهم وبين الرصاص مواعيد في الغد أو بعد الغد ــ أأقول لهؤلاء : (( كلّ عام وأنتم بخير )) ؟
أم أقول للّذين يكافحون البرد بالأسمال ، والجوع بالصوم ، والجَور بالاستكانة ، وهم يُعَدّون بالملايين، وللّذين يعملون كالمناجذ في ظلمات الأرض ، أو يحملون أرواحهم على أكفّهم في أعالي الجوّ وأعماق البحار ، وهم يُعَدّون بالملايين كذلك ــ أأقول لهم : (( عاماً سعيداً )) ؟
أم أقول للذين غار النور في أحداقهم ، أو طار السمع من آذانهم ، أو اختنق الصوت في حناجرهم ، وللّذين ينادون : (( يا أبي )) ويا (( أمي )) وليس من مجيب ، وللذّين لهم أرجل ولا يستطيعون المشي ، وأيدٍ ولا يتمكنون من أي عمل ــ أأقول لهم : (( ليهنئكم عامكم الجديد )) ؟
أم أتمنّى التوفيق والفلاح للّذين لا ينامون الليالي وهم يحوكون الدسائس للناس ، والذين عقدوا تحالفاً مع إبليس فراحوا يفتّشون عن كلّ ما يضرّ بالناس وكلّ ما شاده الناس ، والذين لا يطيب لهم شيء مثلما يطيب لهم أن يوغروا صدور الناس على الناس ؟
أم أهنئ الذين باسم الله يضلّلون عباد الله ، فيزرعون الكره حيث كان عليهم أن يزرعوا المحبّة ، والذين باسم المعرفة يبيعون جهلهم بالمثقال . وهكذا يقتلون المعرفة باستغلالهم شوق الناس إليها ، والذين باسم العدل والحريّة ، يمسخون العدل ، ويذبحون الحريّة ، في كلّ يوم ، بل في كلّ ساعة ؟
لمن عساني أسوق التهاني في عالم ضاع إنسانه في معترك السعايات والنكايات ، وتحطّم ميزانه في خضمّ المكر والنميمة ، وتهشّم جسمه بأظافر الجشع والطمع ، وانهدّ إيمانه بنفسه ، وانطمست معالم طريقه فلا هو يدري أنّى يسير ، ولا لماذا يسير ؟
كيف نركن للعالم يقذفنا ليل نهار ، وبغير انقطاع ، بقذائف جهنمية من الدعاوات التي صِدقها كذب ، وحقّها باطل ، وجمالها بشاعة ، وحريّتها عبودية ، وسلمها حرب ، وجودها شحّ ، وإخاؤها رياء ، وحُبّها بغض ؟ وحَسْبها دماراً ، إذا هي لم تلتهم الأرض بنارها ، أن تلتهم بقايا الجمال والحقّ والإيمان بالإنسان في قلوب سكان الأرض . وأن تفسد خميرة الخير في نفوس الأجيال الناشئة منهم .
إن عالماً يؤمن بأن البغض أشهى ثماراً من المحبة ، وأن الكذب أسهل وأقوَم طريقاً إلى الراحة من الصّدق ، وأن السلم لا يُحفَظ إلّا بالمدفع ، والحقّ لا يصان بغير الظفر والناب ، وأن العدل ينبع من القانون ، والقانون لا يكون إلّا بمشيئة الأكثرية ، وإن تكن في منتهى الجهل والغباوة ، وأن الأمن والسلام ممكنان في الأرض ما دام فيها متخمون وجياع ، وعبيد أحرار ، ومُترَفون ومُعدَمون ــ إن عالماً ذلك شأنه لعالم أحرى بالتعازي منه بالتهاني .
إلّا أنّني ، وإن يئست من الطرق الملتوية التي يسير فيها عالم اليوم ما يئست يوماً ، ولن أيأس من الإنسان . فهو أعظم من زعمائه . وبصره أنقى من أبصارهم . وكثيراً ما ينتهي به زعماؤه إلى مثل ما انتهى إليه بنو إسرائيل في برية التيه . ولكنّه ، مهما أوغل في تيهه ، ففي داخله نور خفي لا ينطفئ . وذلك النور هو الكفيل بأن يخرج به في النهاية من برية التيه إلى أرض الميعاد .
ولأنّ لي مثل هذا الإيمان بالإنسان فلست أحفل بالأعوام تطلّ عليه عابسة ، أو باسمة . فهذا الكائن العجيب الذي لا يعلم إلّا الله وحده كم استقبل وكم ودّع من أعوام منذ أن استوطن الأرض ، لن تهوله عبسة عام ، ولن تستخفّه بسمة عام . فهو ماضٍ في سبيله الطويل ، الشائك إلى هدفه القصيّ . وهدفه هو أن يجعل من الزمان مطيّة إلى معرفة ذاته التي هي من ذات الله ، وأن ينعم بكلّ ما في تلك الذات من قدرة على الخلق والإبداع بغير حدّ وبغير نهاية . وأن أنا خشيت عليه شيئاً فلست أخشى أن ينقطع به حبل الزمان قبل أن يدرك هدفه . بل أن ينحرف به الذين يدّعون قيادته وزعامته عن سبيله السويّ فيقتلوا الأمل في قلبه . كأن يضعوا حول عينيه غمامتين كاللّتين يشدّهما الحوذي إلى جانب عينيْ فرسه كي لا يبصر إلّا أمامه . ثم أن يوهموه بأنّ إخوانه الناس هم العقبات التي تقوم في طريقه إلى هدفه ، فعليه أن يحاربهم ليزيحهم من طريقه . وهكذا يصرفونه عن أعدائه الحقيقيين إلى أعداء لا وجود لهم إلّا في وهمه .
أما إن هؤلاء (( الأعداء )) هم من لحمه ودمه ، وأنّهم شركاؤه في الأرض ، والعون الأكبر له في صراعه مع كلّ قوّة فيها تعاند قوّته ، فحريّ به أن يصادقهم ليصادقوه ، وأن يؤازرهم ليؤازروه ، وأن يقتسم وإياهم مرارة الخيبة ، وحلاوة الفوز ، لأن طريقهم طريقه وهدفه ــ وهل ألدّ عداوة للإنسان وأفظع فتكاً بقواه العقلية والبدنية والروحية من الكذب والرياء والخساسة والذلّ والظلم والفجور والجشع والبغض ، وغيرها ، من سود الأحاسيس والغرائز ؟ هذه فليحارب المحاربون .
فإلى الذين يحاربون آفات الإنسان حبّاً بالإنسان ، وصوناً لكرامته ، واعترافاً بعظمته وبحقّه في الحياة والمعرفة والحريّة ، أقول : ليكن عامكم عام انتصار تلو انتصار .
#مقالات_متفرقة
ميخائيل نعيمه
إلّا أن العام الجديد لا يكاد يغفو ليلته الأولى ثمّ يستيقظ في صباحه الأول على الأرض حتى يرى الناسَ قد انصرفوا عنه إلى شؤونهم وهمومهم . فكأنّه عندهم أقدم من الأزل ، وكأنّهم ما تبدّل فيهم شيء ، وكأنّ سائر الأوزار التي ظنّوا أنّهم قد تطهّروا منها أمس عادت فلبستهم في الصباح . فهموم تزحم هموماً ، ومشكلات تتراكم فوق مشكلات ، وأوجاع تتفجّر من أوجاع ، والسعي في سبيل البقاء بأيّ ثمن ، سعي حثيث ومحموم .
أما وعامنا الجديد لم يغفُ غفوته الأولى بعد ، والتقاليد تقضي بأن نتبادل التهانىء ، فإني لأسأل نفسي : لمن عساني أقدّم تهانئي ؟ أأقول للذّين تتأكّلهم الأمراض وترهقهم العاهات في طول الأرض وعرضها ، وللّذين في السجون وفي بيوت المجانين ، وللّذين قذفتهم بشاعة البشر من دورهم وديارهم فباتوا مشرَّدين منبوذين منسيين ، وللذّين بين أعناقهم وبين جبال المشانق ، أو بين صدورهم وبين الرصاص مواعيد في الغد أو بعد الغد ــ أأقول لهؤلاء : (( كلّ عام وأنتم بخير )) ؟
أم أقول للّذين يكافحون البرد بالأسمال ، والجوع بالصوم ، والجَور بالاستكانة ، وهم يُعَدّون بالملايين، وللّذين يعملون كالمناجذ في ظلمات الأرض ، أو يحملون أرواحهم على أكفّهم في أعالي الجوّ وأعماق البحار ، وهم يُعَدّون بالملايين كذلك ــ أأقول لهم : (( عاماً سعيداً )) ؟
أم أقول للذين غار النور في أحداقهم ، أو طار السمع من آذانهم ، أو اختنق الصوت في حناجرهم ، وللّذين ينادون : (( يا أبي )) ويا (( أمي )) وليس من مجيب ، وللذّين لهم أرجل ولا يستطيعون المشي ، وأيدٍ ولا يتمكنون من أي عمل ــ أأقول لهم : (( ليهنئكم عامكم الجديد )) ؟
أم أتمنّى التوفيق والفلاح للّذين لا ينامون الليالي وهم يحوكون الدسائس للناس ، والذين عقدوا تحالفاً مع إبليس فراحوا يفتّشون عن كلّ ما يضرّ بالناس وكلّ ما شاده الناس ، والذين لا يطيب لهم شيء مثلما يطيب لهم أن يوغروا صدور الناس على الناس ؟
أم أهنئ الذين باسم الله يضلّلون عباد الله ، فيزرعون الكره حيث كان عليهم أن يزرعوا المحبّة ، والذين باسم المعرفة يبيعون جهلهم بالمثقال . وهكذا يقتلون المعرفة باستغلالهم شوق الناس إليها ، والذين باسم العدل والحريّة ، يمسخون العدل ، ويذبحون الحريّة ، في كلّ يوم ، بل في كلّ ساعة ؟
لمن عساني أسوق التهاني في عالم ضاع إنسانه في معترك السعايات والنكايات ، وتحطّم ميزانه في خضمّ المكر والنميمة ، وتهشّم جسمه بأظافر الجشع والطمع ، وانهدّ إيمانه بنفسه ، وانطمست معالم طريقه فلا هو يدري أنّى يسير ، ولا لماذا يسير ؟
كيف نركن للعالم يقذفنا ليل نهار ، وبغير انقطاع ، بقذائف جهنمية من الدعاوات التي صِدقها كذب ، وحقّها باطل ، وجمالها بشاعة ، وحريّتها عبودية ، وسلمها حرب ، وجودها شحّ ، وإخاؤها رياء ، وحُبّها بغض ؟ وحَسْبها دماراً ، إذا هي لم تلتهم الأرض بنارها ، أن تلتهم بقايا الجمال والحقّ والإيمان بالإنسان في قلوب سكان الأرض . وأن تفسد خميرة الخير في نفوس الأجيال الناشئة منهم .
إن عالماً يؤمن بأن البغض أشهى ثماراً من المحبة ، وأن الكذب أسهل وأقوَم طريقاً إلى الراحة من الصّدق ، وأن السلم لا يُحفَظ إلّا بالمدفع ، والحقّ لا يصان بغير الظفر والناب ، وأن العدل ينبع من القانون ، والقانون لا يكون إلّا بمشيئة الأكثرية ، وإن تكن في منتهى الجهل والغباوة ، وأن الأمن والسلام ممكنان في الأرض ما دام فيها متخمون وجياع ، وعبيد أحرار ، ومُترَفون ومُعدَمون ــ إن عالماً ذلك شأنه لعالم أحرى بالتعازي منه بالتهاني .
إلّا أنّني ، وإن يئست من الطرق الملتوية التي يسير فيها عالم اليوم ما يئست يوماً ، ولن أيأس من الإنسان . فهو أعظم من زعمائه . وبصره أنقى من أبصارهم . وكثيراً ما ينتهي به زعماؤه إلى مثل ما انتهى إليه بنو إسرائيل في برية التيه . ولكنّه ، مهما أوغل في تيهه ، ففي داخله نور خفي لا ينطفئ . وذلك النور هو الكفيل بأن يخرج به في النهاية من برية التيه إلى أرض الميعاد .
ولأنّ لي مثل هذا الإيمان بالإنسان فلست أحفل بالأعوام تطلّ عليه عابسة ، أو باسمة . فهذا الكائن العجيب الذي لا يعلم إلّا الله وحده كم استقبل وكم ودّع من أعوام منذ أن استوطن الأرض ، لن تهوله عبسة عام ، ولن تستخفّه بسمة عام . فهو ماضٍ في سبيله الطويل ، الشائك إلى هدفه القصيّ . وهدفه هو أن يجعل من الزمان مطيّة إلى معرفة ذاته التي هي من ذات الله ، وأن ينعم بكلّ ما في تلك الذات من قدرة على الخلق والإبداع بغير حدّ وبغير نهاية . وأن أنا خشيت عليه شيئاً فلست أخشى أن ينقطع به حبل الزمان قبل أن يدرك هدفه . بل أن ينحرف به الذين يدّعون قيادته وزعامته عن سبيله السويّ فيقتلوا الأمل في قلبه . كأن يضعوا حول عينيه غمامتين كاللّتين يشدّهما الحوذي إلى جانب عينيْ فرسه كي لا يبصر إلّا أمامه . ثم أن يوهموه بأنّ إخوانه الناس هم العقبات التي تقوم في طريقه إلى هدفه ، فعليه أن يحاربهم ليزيحهم من طريقه . وهكذا يصرفونه عن أعدائه الحقيقيين إلى أعداء لا وجود لهم إلّا في وهمه .
أما إن هؤلاء (( الأعداء )) هم من لحمه ودمه ، وأنّهم شركاؤه في الأرض ، والعون الأكبر له في صراعه مع كلّ قوّة فيها تعاند قوّته ، فحريّ به أن يصادقهم ليصادقوه ، وأن يؤازرهم ليؤازروه ، وأن يقتسم وإياهم مرارة الخيبة ، وحلاوة الفوز ، لأن طريقهم طريقه وهدفه ــ وهل ألدّ عداوة للإنسان وأفظع فتكاً بقواه العقلية والبدنية والروحية من الكذب والرياء والخساسة والذلّ والظلم والفجور والجشع والبغض ، وغيرها ، من سود الأحاسيس والغرائز ؟ هذه فليحارب المحاربون .
فإلى الذين يحاربون آفات الإنسان حبّاً بالإنسان ، وصوناً لكرامته ، واعترافاً بعظمته وبحقّه في الحياة والمعرفة والحريّة ، أقول : ليكن عامكم عام انتصار تلو انتصار .
#مقالات_متفرقة
ميخائيل نعيمه