عادَ حمزة إلى وحدته العَسكرية بعد حَفل خِطبتهِ هو وفيروز وخِطبة زَينب وبكر، بلغ المعسكر مُنتصَف لَيل يوم الخميس من الأسبوع الثاني لإجازته، وفي صباح يوم الجمعة استَيقَظَ من نَومه شاردًا على غَير عادته، وابتسامة حُلوة تعلو شَفتَيه من دون مناسبة، وفي التاسعة صباحًا قصَد مسجد الكتيبة، طوَى الحصير البلاستيك ثم أخرجه خارج المسجد وقام بتنظيفه، ثم عاد فراح يَكنُس الأرض ويَفتح النوافذ ويَنفُضُ ما عَلق بها من رمال، ثم أعاد الحصير إلى موضعه، وضبطَ المذياع على مَحطة القرآن الكريم حتى إذا ما حان وقت انتقالها إلى إذاعة خارجية فَتحهُ مع بدء تلاوة القرآن الكريم، وفي اللحظة المناسبة فتح المذياع فإذا بالقارئ يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
امتلأ المسجد الصغير عن آخره بالجنود، وتَصادَف حُضور أحد القادة للتفتيش على الوحدة يُرافقه ضابطان آخران كبيران، حان موعد الأذان فأقامه حمزة كالعادة، ثم فُوجئ بقائد الكتيبة يجلس على يساره، مالَ نحوه وهمَسَ في أذنه:
- عندنا ضُيوفٌ كِبار كما ترى يا حمزة، وقد اعتذر خطيب المسجد عن الحضور اليوم، فاخطُب أنتَ الجمعة، اتَّسَعت ابتسامة حمزة المرسومة سلفًا على وجهه منذ استيقَظ من نومه حتى وطِئت قدماه المسجد لتنظيفه، وأومَأ للقائد مُوافقًا، وقبل أن يقوم لصعود المنبر، مالَ على القائد وهمَسَ في أذنه:
- إذا مِتُّ هُنا يا افندم؛ أُوصِيكَ بدفني مع أبي في بلدتي بأسيوط.
تبسَّم القائد وداعبَهُ:
- يا حمزة أقولُ لكَ قُم اخطُب فينا؛ ولم أقُلْ لكَ أُدخل الحرب.
صعَد حمزة المنبر، حَمَدَ الله، وشهد أن لا إله إلا هو وأن مُحمدًا رسول الله، وصلَّى وسلَّم على النبي ﷺ، وارتجل خُطبة قال فيها:
- يا أيها الجُّندُ الغربيِّ، يا خَيرَ أجناد الأرض، يا مَن سَتمكثُونَ في رباطٍ إلى يوم القيامة، قد مَنَّ الله عليكم واستخلَفكم فيما أنتم فيه؛ فانظروا ماذا أنتم فاعلون، يا رسولَ الله لن نقولَ كما قال بنو إسرائيل: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، بل نقول: اذهب أنتَ وربك فقاتلا إنا مَعكما مُقاتلون، ووالله لن نترككَ يا رسول الله حتى نَظفر بإحدى الحُسنَيين، رَبِّ إنَّ القوم فرَّقوا الدين وبَغَوا في الأرض، أهلَكوا الحَرثَ والنَسل، سفكوا الدماء، قتَّلوا الأبرياء، وأرهبوا الضعفاء، لن نتركهم، لن نَسمَحَ لهجماتهم الشَّرسة أن تنالَ منَّا، فنحن أُولُو قُوةٍ وأُولُو بأس شديد، وسَنظل لهم ولكل خائن بالمرصاد.
وبينما حمزة مُسترسلًا في خُطبته، كان الجندي مينا صديقه المُحبَّب إلى قلبه يجلس قريبًا من المَسجد وقد تناهَى إليه صُوتُ حمزة الشَّجيْ، فحدَّثتهُ نفسه: لمَ لا أدخلُ وأجلسُ في آخر المسجد لأستمعَ إلى حمزة، ثم ترَدَّد، فعادَت نفسه تُحدثه: ولمَ لا؟ فالمسلمونَ يَحضُرونَ زواجنا في الكنيسة، ونحن نحضر أفراحهم في المساجد، فلأَستمع إلى ما يقول ثم أنصرف عندما تُقام الصلاة، دَخَلَ مينا المسجد وجلس من فَوره مُلاصقًا لعَتبة الباب، وقعَت عليه عينا حمزة فارتجل قائلًا:
- الله أكبر، هذا الدينُ دينُ الله، دينُ المَحبَّة التي لولاها ما صَبرَ رسولٌ في دعوة، ولا بَذَلَ الأنصارُ والمُجاهدونَ أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، ولا صَبَرَ عَبدٌ على صلاةٍ ولا صِيام، ولا حَج ولا بِرٍّ ولا صَدَقة، فبالحبِّ وصلتُ إلى نَفسي، وبالحُبِّ قد عَرفتُ الله، عَرفته جَوَّادًا كريمًا، تَوَّابًا حَليمًا، غَفورًا رَحيمًا، فيا إخواني، أُبذُروا بُذُورَ المَحبِّةِ في كل أرض تَطأونها، فأنتم تَبذرًونَ وربكم لها زَارع ﴿أأنتمُ تَزرَعونُهُ أم نحن الزَّارعُون﴾.
ثم نَحَى حمزة بالخُطبة إلى مَنحىً آخر وكأنه يُخاطب جُموع أهل مصر ليَشُدَّ من أزرهم قائلًا: يا أهل مصر، إنَّ الله تَعالى قدَّرَ الشدائد ليَنفَعَ بها الإنسان بما تدعوه إلى استعمال العَقل والجوارح للتَّخَلُّصِ منها، فكم أضَرَّ الرَّخاء أمَّة؛ فلا تَلبث إلا وقد دَاهَمتها الشَّدائد فأيقَظتها من نَومَة الغَفلة، ورَقدَة الجَّهالة فَهبَّت هُبوبُ الرِّيح لاسترجاع مَجدها: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
وفي مُنتصف الخُطبة جَلسَ حمزة جلسة الاستراحة، ثم استأنف خُطبته بنَقلة أخرى كأنه يُخاطِبُ فيها أولئك المُتنطِّعُونَ قائلًا: يا أهل مِصرَ: لا تَركنوا لأُناسٍ بصريح القرآن سَنُّوا الحِرابَ وحارَبوا الله بالعَداوةِ جَهرًا، فلا بُدَّ من صَحوة تَصْحَبُنا فيها أنوار الحّيِّ القَيُّوم، فعَلاماتُ اقتراب الفَجر وجُود الظُلمة، وليس بعد الفَجر إلا إشراقاتُ الضُحَى وشمس النصر والعِزَّة، ثم تَوجَّهَ ببصره إلى مِينا وقال: يا رسول الله، إنا نُشهدكَ أنَّا لن نَنسَى نَسَبنا وصِهرنا، سَنذُودُ عنهم، فهم شُركاؤنا في هذا الوَطن، ولن يُصيبنا الوَهَن، ولن نَركن إلى الدنيا، ولن نَخاف المَوت.
وعلى حين غِرَّة ظَهَرَت أمامَ حمزة صورة زَينب، وجمال فيروز، وخُضرة حُقول الصعيد، وعَلَم مصر، والقُبة الخَضراء الشريفة؛ ومعالم الجنة؛ فَحَدَث منه التفاتٌ في الخُطبة لم يَفهمه المُصَلُّون، نَظَرَ إلى أعلى دَامعًا وبَدَت السماء لعَينَيه يَغمُرها الضِّياء فراح يقول: ها هي، ها هي التي يُبذَلُ لأجلها كل غالٍ ونَفيس، ها هي التي إذا ذُكِرَتْ يُستَنهَضُ كلُّ شُجاع، ويَجْبُنُ كل خَسِيسْ، رَبِّ؛ كأنِّي أكادُ أرَى جمالَ طيفها، أسمَعُ رقَّة هَمسِها، أشُمُّ عبَقَ عِطرها، أشعرُ بنسيم هَوائها وسَنَا بَرْقِها، وبهاءِ ظِلِّها؛ فيدُقُّ قلبي وأنتَظرُ لقاءَها، إني أراها في أفُقي، أراها تُناديني فيَطمئنّ قلبي وأشتاقُ أشتاقُ لقاءَها، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وأقم الصلاة ...
بكَى الضُّباطُ والجنودُ من أثَر الخُطبة كما لم يَبكِ أحدٌ منهم من قَبل، إنها المَرَّة الأولى التي يَخطُب فيهم حمزة خُطبة الجُمعة، لم يَحسَبوا امتلاكهِ ناصية الحديث بهذا الاقتدار، مَسَّ بحديثه وحَلاوة إلقائه أوتارَ القلوب.
في تلك الليلة انَتَهَت خِدمة حَمزة في الحِراسة عند مُنتصَف الليل فقصَدَ مَكان راحته واستلقَى على فِراشه؛ فاستعادَ صَورةَ زَينب وصُورة فيروز، وما يَذكرُه مِن طُفولته في الصَّعيد، ثم غَفَا بعدها للحَظاتٍ فرأى في مَنامه أنه في يَوم فرَحِه وتأخَّر في النوم كثيرًا، فإذا بزَينب تَقتَحم عليه حُجرَته وتُوقِظَهُ بصَوتٍ عالٍ مُتهلِّل: تَتأخَّر في النَّوم لَيلَةَ عُرسكَ؟! قُم يا كَسُول، لو علِمَتْ فيروز لانهَالَت عليكَ ضَربًا، ابتسَمَ حمزة لهذا الحُلم، وشَعرَ بعد هذه الإغفاءة كأنَّه نام عشرين ساعة، قام وبه نشاط غير عادي، جاءته فكرة أن يَتمشَّى ليجلس مع الجندي مينا الواقف في الحِراسة الليلية، ولكنه أحَسَّ ببُرودَة الجَّو، وتناهَى إلى سَمْعِهِ صَوت الريح، كانت ليلة من الليالي الباردة لا يُسمَع فيها من الأصوات إلا خَفقَة الرِّيح بين فَينَة وفَينَة، ارتدَى سُترةً إضافية وخرج، ولمَّا اقترَبَ من مينا، وجده واقفًا يرتعش، سأله:
- ماذا بكَ يا مينا؟ قال بصوت مُرتعش:
- لا أعرفُ يا حمزة، كانت أسنان مينا تَصطَكُّ ببعضها، جَسَّ حمزة خَدَّ مينا بظهر يده اليُمنى، وجدَ حَرارته محسوسة، يكاد خدُّه أن يَلسَعَهُ من شِدَّة الحرارة، عاد ليسأله:
- ما الذي حَدثَ يا مينا؟
- وجدتُ رَعشة مَسكَت جسمي يا حمزة. على الفَور طَلَبَ منه حمزة أن يُعطيه سلاحَه الآلي ليَقِفَ مَكانه ويذهب هو ليستريح. رفض مينا قائلاً:
- رُبَّمَا يَحصُل مُرور يا حمزة.
- لا عليكَ يا مينا، حتى لو حَصَلَ مُرور، حالتُكَ صَعبَة، لم يُجَادل مينا كثيرًا لعَدم سَيطرته على جَسده، أمسَك حمزة بسلاح مينا ووقَفَ مَكانَهُ على باب الوحدة العسكرية، قال له مينا وهو يُغادره:
- (خلِّي) بالك من نفسك يا حمزة.
- سِيبها على الله يا مينا، ثم أكمَل مُضاحكًا له بعبارة كان يقولها له مُداعبًا: (اللي معاه جَدُّه مَحدِّش قَدُّه)!
كان الليلُ جاثمٌ بظُلمَتِهِ على صَدر المَكان، والسُّكونُ أسدَلَ سَتائرهُ على الكَون، والجُّنودُ خُلودٌ إلى راحتهم في أماكنهم داخل المُعسكر، وقُبيْلَ الفَجر ظهَر لحمزة شَبحَ شاحنة تأتى من بَعيد، انتبَهَ، سَحَبَ أجزاءَ سلاحِه وأخذ وضع الاستعداد، السيارة تَقتربُ حَثيثًا، لم تنعطف يَمينًا ولا شمالًا، بَدأ يَرتابُ في الأمر، نادَى بصَوتٍ عالٍ:
- حرَس سلاح... قِفْ مَكانَك؟ لم يَسمَع إجابة، السيارة اقتربَت، ثم تَوقَّفَت، نَزلَ منها شخص (مُلثَّم) يجلس بجوار قائدها، راح يُراجِع إطارًا من إطاراتها، ثم أسرَع الشخص وعاد إلى الكابينة، ثوانٍ ونَزَلَ منها مرةً ثانية، شيءٌ عريض مَلفُوفٌ حَولَ وسَطِه، تَقدَّم في مواجهة حمزة قاصدًا المُعسكر، خَفَّ حمزة ليُقابله بَعيدًا عن مكان الجنود قبل أن يَقترب، أصدر حمزة أمرًا آخر:
- قِف مكانَك...، لم يَقف الشَبَح، استَمرَّ في تَقدُّمه، تَشبَّثَ حمزة بسلاحه واستكمَلَ السَّير بخطوات أسَرَع من ذي قبل في اتجاهه مُطلِقًا عَدَّة عياراتٍ في الهواء - ذلك المُلثَّم هو صديقه مُصعب - فُوجئَ بأنَّ القادم نَحوهُ هو حمزة، ولكنه لم يُبَالِ، حَدَّثَتهُ نَفسه: الله أعلَى وأعَز، حاوَلَ مُصعب الانحراف عن طريق حمزة ليتمكن من اقتحام المُعسكر، ولكن حمزة اعتَرَضَه، قفزَ قفزة عاليةً في الهواء ليَثِبَ عليه وهو يَصَيح: اتَّقِ الله يا كَلبَ النار، وثَبَ عليه مصعب هو الآخر ضَاغطًا على زَر الحِزام الناسِف صَائحًا: الله أكبر، تَوقَّفَ الزمنُ ما بَينَ الضَّغط على زر الحِزام وحُدوث الانفجار للحظات؛ فرأى حمزة صُورة زَينب، وصُورة والده، وفيروز، ومَزارع القَصَب وأوراقها سِجادةً خَضراء، وعَلَم مِصر، والقُبة الخضراء الشريفة، ورأى مُصعب نِساءً، وأنهارًا، وطَعامًا، وشرابًا، وخمرًا، وفاكهةً، ثم تَبدَّلَت الصُورة في ناظرَيه فلم يَعُد يَرَى إلا سَرابًا وصَحراء مُوحِشة تَنعقُ فيها غِربانٌ سُود، وحَدَث الانفجار.
تَطايرَت الأشلاءُ في الهواء، بينما لاذَ قائد الشَّاحنة بالَفرار، هرع الجنودُ والضباطُ إلى مكان الانفجار، جَمعوا أشلاءَ حمزة، عرفوه من جُزءٍ من جِسمه التصقَ بالطاقية العسكرية، وبعض ساقيه من التصاقهما بالبيادة، وأجزاء من ذراعيه التَصَقَت بأجزاء من الأفرُول، صارَت النَهنهاتٌ والدعاءٌ من مُحبِّيهِ هي سيِّد المَوقف، كَّفنوهُ في عَلم مصر، ووضعُوه في نَعشِهِ، وزيَّنوه بالوُرود.
بَكَي مِينا بكاءً هيستيريًا فَقَدَ على أثره الوَعي وسَقَطَ أرضًا، هرع إليه القائد وعدد من الجنود، كانت حَرارته مُرتفعة على نَحو مُخِيف، قدَّموا له إسعافاتٍ حتى أفَاق، ولمَّا أفاق تَقدَّم إلى القائد، قَصَّ عليه الحِكاية بإيجاز، وتَوسَّل إليه أن يُرافِقَ حمزة إلى مَثواه الأخير، فوافَق.
www.facebook.com
امتلأ المسجد الصغير عن آخره بالجنود، وتَصادَف حُضور أحد القادة للتفتيش على الوحدة يُرافقه ضابطان آخران كبيران، حان موعد الأذان فأقامه حمزة كالعادة، ثم فُوجئ بقائد الكتيبة يجلس على يساره، مالَ نحوه وهمَسَ في أذنه:
- عندنا ضُيوفٌ كِبار كما ترى يا حمزة، وقد اعتذر خطيب المسجد عن الحضور اليوم، فاخطُب أنتَ الجمعة، اتَّسَعت ابتسامة حمزة المرسومة سلفًا على وجهه منذ استيقَظ من نومه حتى وطِئت قدماه المسجد لتنظيفه، وأومَأ للقائد مُوافقًا، وقبل أن يقوم لصعود المنبر، مالَ على القائد وهمَسَ في أذنه:
- إذا مِتُّ هُنا يا افندم؛ أُوصِيكَ بدفني مع أبي في بلدتي بأسيوط.
تبسَّم القائد وداعبَهُ:
- يا حمزة أقولُ لكَ قُم اخطُب فينا؛ ولم أقُلْ لكَ أُدخل الحرب.
صعَد حمزة المنبر، حَمَدَ الله، وشهد أن لا إله إلا هو وأن مُحمدًا رسول الله، وصلَّى وسلَّم على النبي ﷺ، وارتجل خُطبة قال فيها:
- يا أيها الجُّندُ الغربيِّ، يا خَيرَ أجناد الأرض، يا مَن سَتمكثُونَ في رباطٍ إلى يوم القيامة، قد مَنَّ الله عليكم واستخلَفكم فيما أنتم فيه؛ فانظروا ماذا أنتم فاعلون، يا رسولَ الله لن نقولَ كما قال بنو إسرائيل: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، بل نقول: اذهب أنتَ وربك فقاتلا إنا مَعكما مُقاتلون، ووالله لن نترككَ يا رسول الله حتى نَظفر بإحدى الحُسنَيين، رَبِّ إنَّ القوم فرَّقوا الدين وبَغَوا في الأرض، أهلَكوا الحَرثَ والنَسل، سفكوا الدماء، قتَّلوا الأبرياء، وأرهبوا الضعفاء، لن نتركهم، لن نَسمَحَ لهجماتهم الشَّرسة أن تنالَ منَّا، فنحن أُولُو قُوةٍ وأُولُو بأس شديد، وسَنظل لهم ولكل خائن بالمرصاد.
وبينما حمزة مُسترسلًا في خُطبته، كان الجندي مينا صديقه المُحبَّب إلى قلبه يجلس قريبًا من المَسجد وقد تناهَى إليه صُوتُ حمزة الشَّجيْ، فحدَّثتهُ نفسه: لمَ لا أدخلُ وأجلسُ في آخر المسجد لأستمعَ إلى حمزة، ثم ترَدَّد، فعادَت نفسه تُحدثه: ولمَ لا؟ فالمسلمونَ يَحضُرونَ زواجنا في الكنيسة، ونحن نحضر أفراحهم في المساجد، فلأَستمع إلى ما يقول ثم أنصرف عندما تُقام الصلاة، دَخَلَ مينا المسجد وجلس من فَوره مُلاصقًا لعَتبة الباب، وقعَت عليه عينا حمزة فارتجل قائلًا:
- الله أكبر، هذا الدينُ دينُ الله، دينُ المَحبَّة التي لولاها ما صَبرَ رسولٌ في دعوة، ولا بَذَلَ الأنصارُ والمُجاهدونَ أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، ولا صَبَرَ عَبدٌ على صلاةٍ ولا صِيام، ولا حَج ولا بِرٍّ ولا صَدَقة، فبالحبِّ وصلتُ إلى نَفسي، وبالحُبِّ قد عَرفتُ الله، عَرفته جَوَّادًا كريمًا، تَوَّابًا حَليمًا، غَفورًا رَحيمًا، فيا إخواني، أُبذُروا بُذُورَ المَحبِّةِ في كل أرض تَطأونها، فأنتم تَبذرًونَ وربكم لها زَارع ﴿أأنتمُ تَزرَعونُهُ أم نحن الزَّارعُون﴾.
ثم نَحَى حمزة بالخُطبة إلى مَنحىً آخر وكأنه يُخاطب جُموع أهل مصر ليَشُدَّ من أزرهم قائلًا: يا أهل مصر، إنَّ الله تَعالى قدَّرَ الشدائد ليَنفَعَ بها الإنسان بما تدعوه إلى استعمال العَقل والجوارح للتَّخَلُّصِ منها، فكم أضَرَّ الرَّخاء أمَّة؛ فلا تَلبث إلا وقد دَاهَمتها الشَّدائد فأيقَظتها من نَومَة الغَفلة، ورَقدَة الجَّهالة فَهبَّت هُبوبُ الرِّيح لاسترجاع مَجدها: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
وفي مُنتصف الخُطبة جَلسَ حمزة جلسة الاستراحة، ثم استأنف خُطبته بنَقلة أخرى كأنه يُخاطِبُ فيها أولئك المُتنطِّعُونَ قائلًا: يا أهل مِصرَ: لا تَركنوا لأُناسٍ بصريح القرآن سَنُّوا الحِرابَ وحارَبوا الله بالعَداوةِ جَهرًا، فلا بُدَّ من صَحوة تَصْحَبُنا فيها أنوار الحّيِّ القَيُّوم، فعَلاماتُ اقتراب الفَجر وجُود الظُلمة، وليس بعد الفَجر إلا إشراقاتُ الضُحَى وشمس النصر والعِزَّة، ثم تَوجَّهَ ببصره إلى مِينا وقال: يا رسول الله، إنا نُشهدكَ أنَّا لن نَنسَى نَسَبنا وصِهرنا، سَنذُودُ عنهم، فهم شُركاؤنا في هذا الوَطن، ولن يُصيبنا الوَهَن، ولن نَركن إلى الدنيا، ولن نَخاف المَوت.
وعلى حين غِرَّة ظَهَرَت أمامَ حمزة صورة زَينب، وجمال فيروز، وخُضرة حُقول الصعيد، وعَلَم مصر، والقُبة الخَضراء الشريفة؛ ومعالم الجنة؛ فَحَدَث منه التفاتٌ في الخُطبة لم يَفهمه المُصَلُّون، نَظَرَ إلى أعلى دَامعًا وبَدَت السماء لعَينَيه يَغمُرها الضِّياء فراح يقول: ها هي، ها هي التي يُبذَلُ لأجلها كل غالٍ ونَفيس، ها هي التي إذا ذُكِرَتْ يُستَنهَضُ كلُّ شُجاع، ويَجْبُنُ كل خَسِيسْ، رَبِّ؛ كأنِّي أكادُ أرَى جمالَ طيفها، أسمَعُ رقَّة هَمسِها، أشُمُّ عبَقَ عِطرها، أشعرُ بنسيم هَوائها وسَنَا بَرْقِها، وبهاءِ ظِلِّها؛ فيدُقُّ قلبي وأنتَظرُ لقاءَها، إني أراها في أفُقي، أراها تُناديني فيَطمئنّ قلبي وأشتاقُ أشتاقُ لقاءَها، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وأقم الصلاة ...
بكَى الضُّباطُ والجنودُ من أثَر الخُطبة كما لم يَبكِ أحدٌ منهم من قَبل، إنها المَرَّة الأولى التي يَخطُب فيهم حمزة خُطبة الجُمعة، لم يَحسَبوا امتلاكهِ ناصية الحديث بهذا الاقتدار، مَسَّ بحديثه وحَلاوة إلقائه أوتارَ القلوب.
في تلك الليلة انَتَهَت خِدمة حَمزة في الحِراسة عند مُنتصَف الليل فقصَدَ مَكان راحته واستلقَى على فِراشه؛ فاستعادَ صَورةَ زَينب وصُورة فيروز، وما يَذكرُه مِن طُفولته في الصَّعيد، ثم غَفَا بعدها للحَظاتٍ فرأى في مَنامه أنه في يَوم فرَحِه وتأخَّر في النوم كثيرًا، فإذا بزَينب تَقتَحم عليه حُجرَته وتُوقِظَهُ بصَوتٍ عالٍ مُتهلِّل: تَتأخَّر في النَّوم لَيلَةَ عُرسكَ؟! قُم يا كَسُول، لو علِمَتْ فيروز لانهَالَت عليكَ ضَربًا، ابتسَمَ حمزة لهذا الحُلم، وشَعرَ بعد هذه الإغفاءة كأنَّه نام عشرين ساعة، قام وبه نشاط غير عادي، جاءته فكرة أن يَتمشَّى ليجلس مع الجندي مينا الواقف في الحِراسة الليلية، ولكنه أحَسَّ ببُرودَة الجَّو، وتناهَى إلى سَمْعِهِ صَوت الريح، كانت ليلة من الليالي الباردة لا يُسمَع فيها من الأصوات إلا خَفقَة الرِّيح بين فَينَة وفَينَة، ارتدَى سُترةً إضافية وخرج، ولمَّا اقترَبَ من مينا، وجده واقفًا يرتعش، سأله:
- ماذا بكَ يا مينا؟ قال بصوت مُرتعش:
- لا أعرفُ يا حمزة، كانت أسنان مينا تَصطَكُّ ببعضها، جَسَّ حمزة خَدَّ مينا بظهر يده اليُمنى، وجدَ حَرارته محسوسة، يكاد خدُّه أن يَلسَعَهُ من شِدَّة الحرارة، عاد ليسأله:
- ما الذي حَدثَ يا مينا؟
- وجدتُ رَعشة مَسكَت جسمي يا حمزة. على الفَور طَلَبَ منه حمزة أن يُعطيه سلاحَه الآلي ليَقِفَ مَكانه ويذهب هو ليستريح. رفض مينا قائلاً:
- رُبَّمَا يَحصُل مُرور يا حمزة.
- لا عليكَ يا مينا، حتى لو حَصَلَ مُرور، حالتُكَ صَعبَة، لم يُجَادل مينا كثيرًا لعَدم سَيطرته على جَسده، أمسَك حمزة بسلاح مينا ووقَفَ مَكانَهُ على باب الوحدة العسكرية، قال له مينا وهو يُغادره:
- (خلِّي) بالك من نفسك يا حمزة.
- سِيبها على الله يا مينا، ثم أكمَل مُضاحكًا له بعبارة كان يقولها له مُداعبًا: (اللي معاه جَدُّه مَحدِّش قَدُّه)!
كان الليلُ جاثمٌ بظُلمَتِهِ على صَدر المَكان، والسُّكونُ أسدَلَ سَتائرهُ على الكَون، والجُّنودُ خُلودٌ إلى راحتهم في أماكنهم داخل المُعسكر، وقُبيْلَ الفَجر ظهَر لحمزة شَبحَ شاحنة تأتى من بَعيد، انتبَهَ، سَحَبَ أجزاءَ سلاحِه وأخذ وضع الاستعداد، السيارة تَقتربُ حَثيثًا، لم تنعطف يَمينًا ولا شمالًا، بَدأ يَرتابُ في الأمر، نادَى بصَوتٍ عالٍ:
- حرَس سلاح... قِفْ مَكانَك؟ لم يَسمَع إجابة، السيارة اقتربَت، ثم تَوقَّفَت، نَزلَ منها شخص (مُلثَّم) يجلس بجوار قائدها، راح يُراجِع إطارًا من إطاراتها، ثم أسرَع الشخص وعاد إلى الكابينة، ثوانٍ ونَزَلَ منها مرةً ثانية، شيءٌ عريض مَلفُوفٌ حَولَ وسَطِه، تَقدَّم في مواجهة حمزة قاصدًا المُعسكر، خَفَّ حمزة ليُقابله بَعيدًا عن مكان الجنود قبل أن يَقترب، أصدر حمزة أمرًا آخر:
- قِف مكانَك...، لم يَقف الشَبَح، استَمرَّ في تَقدُّمه، تَشبَّثَ حمزة بسلاحه واستكمَلَ السَّير بخطوات أسَرَع من ذي قبل في اتجاهه مُطلِقًا عَدَّة عياراتٍ في الهواء - ذلك المُلثَّم هو صديقه مُصعب - فُوجئَ بأنَّ القادم نَحوهُ هو حمزة، ولكنه لم يُبَالِ، حَدَّثَتهُ نَفسه: الله أعلَى وأعَز، حاوَلَ مُصعب الانحراف عن طريق حمزة ليتمكن من اقتحام المُعسكر، ولكن حمزة اعتَرَضَه، قفزَ قفزة عاليةً في الهواء ليَثِبَ عليه وهو يَصَيح: اتَّقِ الله يا كَلبَ النار، وثَبَ عليه مصعب هو الآخر ضَاغطًا على زَر الحِزام الناسِف صَائحًا: الله أكبر، تَوقَّفَ الزمنُ ما بَينَ الضَّغط على زر الحِزام وحُدوث الانفجار للحظات؛ فرأى حمزة صُورة زَينب، وصُورة والده، وفيروز، ومَزارع القَصَب وأوراقها سِجادةً خَضراء، وعَلَم مِصر، والقُبة الخضراء الشريفة، ورأى مُصعب نِساءً، وأنهارًا، وطَعامًا، وشرابًا، وخمرًا، وفاكهةً، ثم تَبدَّلَت الصُورة في ناظرَيه فلم يَعُد يَرَى إلا سَرابًا وصَحراء مُوحِشة تَنعقُ فيها غِربانٌ سُود، وحَدَث الانفجار.
تَطايرَت الأشلاءُ في الهواء، بينما لاذَ قائد الشَّاحنة بالَفرار، هرع الجنودُ والضباطُ إلى مكان الانفجار، جَمعوا أشلاءَ حمزة، عرفوه من جُزءٍ من جِسمه التصقَ بالطاقية العسكرية، وبعض ساقيه من التصاقهما بالبيادة، وأجزاء من ذراعيه التَصَقَت بأجزاء من الأفرُول، صارَت النَهنهاتٌ والدعاءٌ من مُحبِّيهِ هي سيِّد المَوقف، كَّفنوهُ في عَلم مصر، ووضعُوه في نَعشِهِ، وزيَّنوه بالوُرود.
بَكَي مِينا بكاءً هيستيريًا فَقَدَ على أثره الوَعي وسَقَطَ أرضًا، هرع إليه القائد وعدد من الجنود، كانت حَرارته مُرتفعة على نَحو مُخِيف، قدَّموا له إسعافاتٍ حتى أفَاق، ولمَّا أفاق تَقدَّم إلى القائد، قَصَّ عليه الحِكاية بإيجاز، وتَوسَّل إليه أن يُرافِقَ حمزة إلى مَثواه الأخير، فوافَق.
بهاء المري
بهاء المري is on Facebook. Join Facebook to connect with بهاء المري and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.