د. ثريا لهي - كتاب الحضارة الإسلامية في الأندلس ومظاهر التسامح/2

وزيادة على هذا كانت بعض النساء المسلمات يصاحبن النساء المسيحيات في الذهاب إلى الكنائس، والدخول إليها "للتفرج على الاحتفالات الدينية، والمواكب التي تجري فيها، بمناسبة أعياد (1) حتى صدرت الفتاوى بمنعهن "(2)1 .

خلفت لنا المصادر مجموعة وافرة من النصوص الأدبية، شعرا ونثرا، تبين بوضوح العلاقات الإنسانية بين المسلمين الأندلسيين وغيرهم من أهل الذمة، وسنقتصر في هذه الدراسة على توضيح الحديث، عن علاقة الشاعر بالصديق، وعلاقته بالممدوح، وعلاقته بالمحبوب .
من المراسلات الإخوانية ماكتب به أيوب بن سليمان المرواني ( ق هـ 6 ) ( 3 ) إلى بسام بن شمعون اليهودي الوشقي، الذي كانت تربط بينهما روابط صداقة متينة، بلغت درجة الإخاء، حتى أصبح مطمح نفسه الذي اختاره من بين كل أبناء جنسه، ويعلل أسباب هذا الاختيار بأن الرجل على خلق كريم، وعلى جانب كبير من الكرم،( 4) . وكل ما يطلبه أيوب بن سليمان في رسالته هذه، أن يقضي وقت ممتعا في ضيافة هذا اليهودي في منزله، بين جواريه وقيانه. يقول :"لما كنت - وصل الله تعالى إخاءك وحفظك- مطمح نفسي، ومنزع اختياري من أبناء جنسي، على جوانبك أميل، وأرتع في رياض خلقك الجميل، هزتني خواطر الطرب والارتياح، في هذا اليوم المطير الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح، واستنطاق البم والزي، فلم أر معينا على ذلك، ومبلغا إلى ما هنالك، إلا حسن نظرك وتجشمك من المكارم، ما جرت به عادتك، وهذا يوم حرم الطرف فيه الحركة، وجعل في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) نهاية المرابطين .د. عصمت دندش ص 255.لم يكن الأمر مقتصرا على النساء ،
2) أنظر ما أورده المقري في النفح نقلا عن المطمح في خبر لأبي عامر بن شهيد وقضائه ليلة في الكنيسة مع الرهبان والقسيس،
3) ترجمته في المغرب لابن سعيد ج1 ص60 .
4) هذه الصفة سنجدها تتكرر عند الشاعر والممدوح إذ ركز عليها في المدح جل الشعراء


--------

تركها الخير والبركة، فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلي معك في زاوية، متكئا على دن مستندا إلى خابية، ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث الذي لم يبق من اللذات، ونجيل الألحاظ فيما تعودت عندك من المحاسن والأسماع في أصناف الملاهي، وأنت على ذلك قدير وكرمك بتكلفه جدير :
ولايعـين المرء يوما على
راحـتـه إلا كريــم الـطـبـــــــاع
الباب وذو الشوق حليف استماع
وها أنا واسمع مني إلى
فإن أتــى داع بنيل المنـــى
ودع أشجاني ونــعم الــــــوداع (1

ولفهم هذه الرسالة لابد من معرفة الظروف الزمانية والمكانية التي عاش فيها أيوب المرواني ( 2 )، في زمن ضاعت فيه الدولة المروانية، وسقطت هيبتها، وأصبح لقب المرواني شؤما على صاحبه، وهو القائل في هذا " الحمد لله الذي أسعدنا به أولا وأشقانا به آخرا". وقد أورد ابن سعيد حكاية إن دلت على شيء فإنما تدل على ما كان يتمتع به اليهود من الطمأنينة والاستقرار، الشيء الذي لم يحظ به بعض العرب المسلمين كالمروانيين . يقول ابن سعيد في ترجمة أيوب هذا" واتفق له في طريقه، أن أكرمه بدوي نزل عنده، وقد تخيل أنه رسول من بعض ملوك الملثمين، أو ممن يلوذ بهم، فلما أعلمه غلامه أنه من بني أمية هاج وأخذ رمحه وحلف ألا يبقى له في منزل، فقال لغلامه : إذا سئلت عني فقل إنه من اليهود، فإنه أمشى لحالنا"(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النفح 3 ص 529
2) المغرب لابن سعيد ج1 ص61 .
3)الذخيرة لابن بسام ق3 م1 ص251 .

******

إذا كانت هذه المراسلة صدرت من أيوب بن سليمان إلى بسام بن شمعون، رغبة منه في قضاء أمسيات لذة ومتعة، اتحد في الرغبة فيها هواهما، فإن المخاطبة التالية جرت بين أبي المطرف بن الدباغ (4) وبين أبي الفضل بن حسداي، وأظهرت جوانب الإختلاف بين الصديقين في رؤيتهما لمتع ‎الحياة، وفي عقيدة كل منهما في الخمر، فإذا كان ابن الدباغ يوضح في رسالته استمتاعه بطيبات ما أحل الله، وابتعاده عما حرم الله ومن ذلك الخمر، يقول : "كتابي هذا من وادي الزيتون، ونحن فيه محتلون، ببقعة اكتست من السندس الأخضر، وتحلت بأنواع الزهر، وتخايلت بأنهار تتخللها، وأشجار تضللها، تحجب أدواحها الشمس لالتفافها، وتأذن للنسيم فيميل من أعطافها، وماشئتم من محاسن تروق وتعجب، أطيار تتجاوب بألحان تلهي وتطرب، في مثله يعود الزمان كله صبا، وتجري الحياة على الأمل والمنى، وأنا -أبقاكم الله- فيها بحال من طاب غذاؤه، وحسن استمراؤه، وصحا من جنون العقار، واستراح من مضض الخمار، وزايلته وساوسه، وخلصت من الخباط هواجسه "(5) .

وتصل رسالته إلى ابن حسداي، فيجيبه عليها برسالة يمجد فيها الخمر، لأنها صافية طاهرة، طيبة عاطرة، طلقة ناضرة . يقول فيها "ولكن هات حدثنا حين لم ترض بالراح إلفا وطلقتها ألفا، ما سببك في سبك لها، وهي صافية طاهرة، وغضك منها وهي طيبة عاطرة، وكلوحك في وجهها وهي طلقة ناضرة؟ ومالك جواب غير قول أبي نواس:

لا تسم المـــدام إن لمت فيها
فتشـــين اسمها المليح بفيكا

وأما إشارتك في أن نشربها على ودك، ونتذكر عليها طيب عهدك، فلا ولاكرامة ولانعمى عين، فهي أجل وأكرم من أن نبذ لها في ود من جفاها وقلاها، ونديرها على حمد من ذمها وهجاها ."(6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 ) الذخيرة لابن بسام ق 3 م 1 ص 251
5) المصدر السابق ص 282
6) المصدر نفسه ص 287


****


ومن مخاطباته في قضاء حاجات الإخوان ما كتب به إلى ابن عمار يوصيه بابن الحداد "المحاسن التي تؤثر عنك بالسرو والسناء، والمحامد التي تتلاقى عليك بها أسنة الثناء، تميل إليك أحناء القلوب، وتقف عليك نخائل الصدور، وقد أصبحت بفضل الله حلية الزمان ، ومفخرة الأوان، ومسمى عيون الأفاضل والأعيان، بما نزعت به من كرم الخلائق، وسمو الهمم السوابق ...."ويستمر في تمجيد مخاطبه ، داعيا له، مشيدا بأفضاله ومساعداته لكل من يلجأ إليه، قبل أن يقدم له شخصية ابن الحداد، ويوصيه به ذاكرا صداقته وحسن معاشرته" وحسبك به جملة تغني عن التفصيل، مع عالي نظرك الجليل، أني ما عاشرت أكبر منه في البر والصلة ،ولا أقوم بحقيقة الود والخلة ،ولاناسمت أطيب منه نفسا ،ولا أمتع أنسا ،نفاسة خيم ،صادرة عن شرف أرومة، وأنت خليق بالاستكثار من جانبه، والاجمال في معونة طلبه"(1) .

وأما مراسلاته الشعرية فنقف على واحدة منها، يغلب عليها طابع الفكاهة والدعابة أكثر مما يغلب عليها طابع الجد . فهذا الشاعر يحيى بن الجزار السرقسطي، برع في قول الشعر، وصدرت عنه أمداح كثيرة في بني هود، ووزرائهم، ثم تخلى عن قول الشعر، واتجه إلى الجزارة، فأوعز ابن هود إلى وزيره ابن حسداي، أن يوبخه على ذلك، فبعث إليه بأشعار منها :

تركت الشعر من ضعف الإصابة
وعدت إلى الدناءة والقصابة

فلما وصلت هذه الرسالة الشعرية إلى الجزار السرقسطي أجابه بأبيات دافع فيها عن مهنته دفاعا مفحما، مبينا أسباب تركه للشعر . يقول الشاعر: (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)المصدر السابق ص 467
2) النفح ج 4 ص 152


******

أبا الفضل الوزير أجــب نــدائي
وفضلك ضــامن عنـك الإجــابة
وإصغاء إلى شكــوى شــكـــور
أطلت على صـنـاعته عـتـابــــــه
وحقك مـا تركت الشــعر حتى
رأيت البــخل قد أوصى صحابه
وحتــى زرت مشتــاقـا حبيـبي
فــأبدى لي التــحيل والــكآبــه
وظن زيـــارتي لطـــلاب شيئ
فنــافـرني وغــلظ لى حــجـابــه

وإذا لم نستطع الوقوف على شعر ابن حسداي لأن المصادر لم تورده، فإنا على العكس من ذلك نستطيع قراءة دفاع السرقسطي عن مهنته إذ أوردتها المصادر متنوعة بين الطول والقصر بين مصدر وآخر، وربما عنيت بها المصادر لطرافتها ومهارة السرقسطي وسلاسة شعره :

تعــيـب عـلـي مألوف القصابة
ومن لم يـــدر قــدر الشيء عابه
ولو أحكمت منها بعض فن
لـما اسـتبدلـت منها بالـحـجـامة
ولوتدري بـهـاكـلفي ووجـدي
عـلمت عـلام أحـتمـل الصـبابـة
وإنــك لـو طلـعت علي يــوما
وحولي من بــني كـلبــ عـصـابة
لـها لـك ما رأيــت وقـلت هذا
هــزبرصــيـر الأوضـام غابــــه
وكـم شهـدت لـنا كلـب وهــر
بـأن الــمجد قـد حــزنا لـبابـــه
فـتكـنا في بنـي العـنزي فــتكـــا
أقــر الذعــر فـيـهـم والـمهابــة
وهل جــمل يــرى إلا حــملـنا
عـلـيـه حـمـلة هـتـكـت حـجابه
ولم نقلع عن الثوري حتى
مــزجـنا بالــدم القــانــي لعــابه
أبـدنــا شيــخـهم ومتـى ظفــرنا
بــغر شــب لم نــرحم شــبــابه
ومـن يـغـتـر مـنهم بــامـتنــاع
فـإن إلـى صـوارمـنا إيـابـه
ويــبرز واحـد مـنا لألــــــف
فـيــغلـبهم وذاك مــن الغـــرابة (13)

أما علاقة الشاعر بالممدوح فسنقف على نموذجين من الشعراء هما، ابن ميمون الأخفش، والمنفتل، اختصا بمدح ابن النغريلة اليهودي، وهذا الإسم عرف به اثنان هما الأب والإبن . أما الأب فهو إسماعيل بن يوسف اتفقت المصادر على الإشادة به، قال عنه ابن بسام الشنتريني : "كان رجلا من عامة اليهود، حسن السيرة فيهم، ميمون النقيبة عندهم، تولى لباديس ولأبيه قبله حبوس بغرناطة جباية المال، و‎‎‎‎‎‎‎تدبير أكثر الأعمال "(2) . ووصفه المنفتل في مدحهله فقال : "فتى كرم خالا وعما، وشرح من المجد ما كان معمى، قسا فصاحة ، وكعبا سماحة، ولقمان علما، والأحنف حلما، أكرم همة من همام، وأعظم بسطة من بسطام، إن خاطب أوجز، أو غالب أعجز، أوجاد أجاد ، أووعد أعاد، يأمر ويمير، ويأجر ويجير، مأوى السماح والضيف، ورحلة الشتاء والصيف، حامي الذمار، بعيد المضمار، لايظلم نقيرا، ولايخيب فقيرا، يحافظ على صلاته حفظه لصلاته، ويحن إلى البذل حنين الغريب إلى الأهل ."(3) . وفيه قال ابن السقاء مدبر (4) قرطبة "لابأس به لولا أنه نسي اليهودية ". وهذا الرجل هو ممدوح ابن ميمون والمنفتل .

أما الثاني فهو يوسف بن إسماعيل بن النغريلة، تولى الوزارة بعد أبيه، إلا أنه لم يحسن التصرف، وتطاول على المقدسات، وطعن في الملل والأديان، وادعى قدرته على نظم القرآن شعرا، ثم تورط في مؤامرات ودسائس ضد مخدوميه فانتهى أمره بالقتل .

-------------------------
1) الأبيات ورد بعضها في نفح الطيبج4 ص152 ،وبعضها في زاد المسافر ومحيا الأدب السافر لأبي بحر صفوان التجيبي ص140 .
2 ) الذخيرة ق1 م2 ص766 .
3) نفس المصدر ص762 .
ا4) النفح 3 ص387

ثريا لهي
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...