عصري فياض - بين قطرتين.. قصة قصيرة

في هذا المحيط الذي يعيش فيه عبد الرحيم ألف سؤال وسؤال، تبدأ من الوسادة الرقيقة، إلى صحوة والده في جوف الليل يحمل زاده ليبدأ ترحاله اليومي إلى العمل، إلى الذهاب مبكرا إلى مدرسة الوكالة بعد تناول كوب الشاي وكسرات الخبز، إلى زملاء الصف والحي، والأحاديث الصبيانية في الطريق إلى المدرسة، إلى الحيّ المتزاحم وصراخ الأولاد وهم يلعبون بالكرة المهترئة، يفرغون فيها طاقتهم وصخبهم، إلى العودة من جديد إلى الوسادة وبحر الأسئلة، ترى من المسئول عن إختطاف أبي من نهارنا؟ من الذي بدل حلاوة شرابنا بالعلقم؟ من الذي دفع بالأقدام الطرية التي تغطيها أحذية بالية أن تضرب كرة ً عتيقة؟ من الذي أورثنا كل هذا الفقر والضياع؟؟... غفا عبد الرحيم على طنين الأسئلة ، فجاءت والدته تتفقده، وأخفت معظم جسده الحائر تحت الغطاء .
* * * *
كَبُرَعبد الرحيم، وأصبح شابا ً يانعا ً، وأخذ الهمُّ طريقه إلى حياته مبكرا ً بعد أن وجد الإجابة عن أسئلة طفولته، لا بد من العمل، إنتسب لقوات الأمن الوطني بقصد التدريب والحصول على الراتب ليسهم في مساعدة أسرته، انتفض الشارع لحادثة النفق، فهيأ سلاحه وأنطلق، إلى أحراش السعادة، حيث الأسئلة والكابوس، شدّد عليهم القائد : لا تطلقوا النار...... فقال :- كيف لا أفعلها وفي نفسي قرح الأسئلة ؟؟ سدد... ضغط على الزناد، أصاب أحدهم، واستمر حتى هدأت العاصفة، إعتقله زملائه بأمر من القائد، والتهمة لماذا حاولت قتل المسيرة!!
* * * *
في القرآن وجد شفاء نفسه، ونور غده وأمسه، وراح يقرأ حتى التصقت به راحتيّ قلبه، وكشفت فيها رقة ً أرخت للمقل العنان في انسياب العبرات، خوفا ً ومهابة ً ... وكان ملتقاه المسجد، وقرة عينه صلاة الفجر، وهناك في بيت الله تعرف على محمود... فكانوا يتسابقون معا على منهل الإيمان والصلاح، يسارعون إلى إغاثة المحتاج في جوف الليل، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر... حتى فاض سيل الثورة على وقع أنين الأقصى، وشد إياد الرحال إلى المخيم... عرفوه، وبايعوه، أقسموا أن لا يخذلوه ... فعاهدهم أن يمدهم بما يشفي صدورهم وصدور غيرهم ......
* * * *
قالوا له: مستعدون لأن نكون أول القرابين، إبتسم وقال: أعلم ولكن تريثوا، فالمشوار طويل، ولا بد من الإعداد والتحضير... رحل القائد، حزنوا عليه وغبطوه، أخذوا يبحثون عن سبيل يملؤون فيه فضاء يُتْمِهٍمْ، كانت أول المحاولات ذلك الكتيب الصغير القادم من الشرق، فيه بعض المعلومات، تجارب ومحاولات تحت أعين بعض الأطفال، لا بأس... فليتعلموا،وليستبدلوا كراتهم الحقيرة ببعض رماد ينثر الموت في وجه من سلبوا منهم الحياة والأمان... وبعدها تدفقت العرائس تزين الصدور والأكتاف، وتقدمت صناعة قوارير الغضب، وتقاطرت قوافل المبحرين إلى قلب السفاحين، ترد كيدهم ويسجل بالدم غضب ضحاياهم... وأصبح المخيم الذي قَبِلَ التحدي ملزم ٌ باستنهاض رجاله، فلبى الكثير، وكان أولهم عبد الرحيم وأصحابه،فكانت معركة أيلول، واجتياح آذار، واقتراب الجنة وشذاها، وحث السير على خطاها، وتساءلوا ذات مره، من يسبق من؟؟ قال محمود: لا تقلقوا، فهي وعدٌ ومنحة ٌ ونعمهٌ، لا أحد يستطيع تحديد ميقاتها... عبد الرحيم الذي فاتته للمرة الثانية شعر بالضيق، وأخذ يستجوب نفسه ويسألها عن تقصيرها وخطاياها... فيسيل دمعه المستغيث بعد أن جلس لأخذ قسط من الراحة بعد يوم طويل من المواجهات والاشتباكات ...
****
تلبدت الأجواء، وشرع الجميع بتحصين المخيم، وتوزيع المقاتلين، معهم القرار الحاسم والقسم المشهود "القتال حتى النهاية"، طاف المجاهدون يصدحون بتكبيرات العيد في حارات وأزقة المخيم، النسوة ينثرن الزهر والأُرز، والأطفال الذين غاب عنهم الخوف يملؤون الطرقات رغم الليل وسقوط المطر،يتراكضون وراء محمود، الذي يتفقد المواقع والأماكن برفقة ثلة من المجاهدين وعلى رأسهم عبد الرحيم ... إنقضى اليوم الأول، ودخل اليوم الثاني، فاشتد القتال ،وإستشرس المقاومون رغم سقوط الشهداء والجرحى والدمار، ذهب محمود إلى ذلك المنزل برفقة عبد الرحيم، دخل ذلك الكهف المخفيّ، وأخرج حقيبة سوداء ثقيلة الوزن، سأله عبد الرحيم :- ما هذا؟ ؟

أجاب محمود وهو يسرعُ في الخروج: ستعرف بعد قليل ...

وانطلقا يشاركان في المعارك ويتفقدان المحاور ، في الحي الغربي، وحارة السمران، وحارة الدمج ، والحواشين،والصباغ ، وتوالت الأيام الحواسم، فكان القرار بالتمركز في منزل أبو جواد، كان في هذا المنزل مجموعة من مقاتلي (فتح)، بلغهم أن استشهاديين من الجهاد وحماس يريدون اتخاذ المنزل المذكور كميناً وفخاً لجيش العدو الذي يحاول التسلل من جهة حارة السمران... فدخل أربعتهم إليه في اليوم السابع من المعركة، عبد ومحمود وشادي وإياد ... قال محمود:- لنتعاهد على الشهادة... فإننا هنا في مكمن لن نسمح لهم بالمرور وفينا نبض باق ٍ، فإما أن نأسر منهم ما نستطيع، ونفك بالاسرى الحصار عن المخيم،وإما فهذه الحقيبة، ففيها هلاكهم،وفيها فوزنا بالجنة ...
عانقوه مبايعين ، ولمعت دموع عبد الرحيم وهي تستشعر قدوم الأمنية الغالية ...
حاولت فرقة من الأعداء التقدم باتجاه المنزل، تصدى لها أربعتهم ، قاتلوا وهم وقوف لعدة ساعات رغم أنهم صيام ،جاء الليل، انسحب الجنود من الحي بعد الفشل بقصد الخديعة، تناول المجاهدون الأربعة إفطارهم كسرات خبز يابسات، وقطع من الحلوى الصغيرة وشربة ماء، أمسك عبد الرحيم كسرات الخبز وتذكر الطفولة المقهورة والحرمان، أخرج من جيبه القرآن وتلا بعض الآيات بصوته الجميل، ورفع يديه إلى السماء متضرعا ً، فإنهمرت الصواريخ فجأة، وتطايرت الأجساد على راحات الحواري، وابتسم عبد الرحيم حتى بان سّنه المذهب،وهو يرى إحدى الحواري تحمل جسده الطاهر من بين قطرتين، قطرة من دمعه،وقطرة من دمه .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...