ألف رحمة على أرواح ضحايا المعمل (السري) بطنجة
خرجت رحمة من البيت باكرا . اليوم قررت أن تأخذ معها وجبتي الفطور والغذاء إلى المعمل . المطر قوي في الخارج . لم تنم جيدا في الليل . في كل مرة تغفو ، يوقظها صوت الرعد ، والخوف من تداعي سقف البيت . تحب المطر مثل أغلب المغاربة ، لكنها تخاف أن يهبط سقف البيت على أسرتها . سَوّت الغطاء فوق طفلتها الصغيرة ، وطبعت قبلة على خدها الأيسر . الوقت يُداهمها ، وحافلة النقل لن تنتظر طويلا . إذا وصلت متأخرة ، فإن ربّ العمل ، سيعقد حاجبيه ويشتمها ، وعليها أن تختار بين خصم أجرة اليوم ، أو الطرد من الشغل . ولأن الجوع لا يرحم ، ستقبل بالحل الأول ، ويضيع جهد اليوم بكامله .
الباطرون متكرش وغليظ الرقبة ، لا تنظر ناحيته كثيرا ، وإذا نظر إليها خفضت بصرها إلى الأرض ، خوفا من أن تنفجر بالضحك . كلما تخيلت شكله ، وهي قادمة إلى المعمل ، تضحك مع نفسها وتقول : كان الله في عون زوجته ، اللهم إذا كانت بدينة وقاسية مثله ، وإلا كيف تقبل به زوجا ؟! كل أرباب العمل تتخيلهم قساة ، ببطون منتفخة ، تخرج من أزرار الكسوات التي يلبسونها ، وتعتقد بأنهم يتناولون الكثير من الطعام الذي يزيد عن حاجتهم .
ارتدت جلبابها ، ووضعت فوقه معطفا من البلاستيك المشمع ، قدّمه إليها الزوج منذ سنة هدية في عيد ميلادها الأربعين ، قال بأنه انتقاه من البال . المطر في الأحياء الشعبية ، لا ينفع معه ارتداء الحذاء ، إما أن يمشي الإنسان حافيا ، أو يرتدي (بوطا)* عاليا من البلاستيك . لم تجد بُدّا من نزع الحذاء ، وإلا ستضطر لشراء بديل عنه بعد العودة إلى البيت . لم تصل المحطة حتى كاد باطن رجليها يتمزق من وخز الحصى ، ثم الاسمنت ، وشدة برودة الماء والأرض . في كل مرة تطلب الله ، وتدعوه أن يلطُف بالفقراء من عباده ، فليس لهم سواه ، يتوجهون إليه في أوقات الشدة .
صعدت الحافلة . اكتوت رجلاها مرّة ثانية ، سطح الحديد أشد برودة من أديم الأرض . قدّمت البطاقة للمراقب ، ثم اتجهت نحو مقعد فارغ . أخرجت منشفة من قفة الطعام ، ومسحت رجليها ، ثم وضعتهما في الحذاء خجلا من الركاب . لم تشعر بأي دفئ ، كأنها لم ترتد حذاء . الجو بارد جدا ، والدفء يحتاج إلى أحذية قادمة من وراء البحار ، وإلى أرصفة مبلطة وعالية ، وبالوعات تمتص مياه الأمطار ، ولا تتركها تجري في الدروب والأزقة مثل الوديان . في المحطة التالية امتلأت الحافلة عن آخرها ، وتلاصقت الأجسام بعضها بالبعض ، وبدأت تشعر بالدفء من حولها ، حتى خشيت أن تصاب بالزكام عندما تهبط . توقفت الحافلة في المحطة الرابعة ، لم تصل الباب حتى كادت روحها تزهق . لعنت مرة أخرى شركات النقل ، وأرباب العمل على جشعهم ، ولعنت أيضا السلطات التي تدعو المواطنين إلى احترام مسافة التباعد بينهم في زمن الوباء ، ولا تضغط على أرباب العمل لخلق الظروف المناسبة لذلك .
نزعت الحذاء مرة أخرى ، ورفعت جلبابها عن الأرض قليلا ، وسارت بضع خطوات وعرّجت على اليمين عشرات الأمتار . صبّحت على الحارس ، ثم نزعت المعطف البلاستيكي ، ونثرته من الماء . مسحت رجليها ، وارتدت حذاءها ، ونزلت السلم . مشت حوالي عشرة أمتار ، ثم اتجهت إلى آلة الخياطة . نزعت الجلباب وعلقته مع المعطف وراءها . بعد لحظات بدأ يتوافد العمال والعاملات . لا حديث بينهم إلا عن المطر ، وما سيفعله بأزقة المدينة ، والبيوت الآيلة للسقوط .
لم تتناول فطورها . ما رأته في الخارج ، وانشغالها بسقف البيت ، أفقدها شهية تناول الطعام . أكتفت بسكب كأس شاي دافئ تُسخّن به أمعاءها .
لم تكد تمر ساعة حتى داهمت المياه القبو . أمر (الكابران) بنقل القماش من الأدراج ، وإخراجه إلى الدور الأول من الفيلا حتى لا يصله الماء الممزوج بالطين ويفسده ، فيتوقف العمل .
لا أحد يعرف ما وقع بعد ذلك . البعض قال بأن الماء غطى أكثر من نصف أجسام العمال والعاملات ، وهم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه . فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان . وصل مستوى ارتفاع الماء إلى خيوط وأزرار الكهرباء . خطوط رقيقة وزرقاء تتلألأ ، وتتموج مثل الثعابين وتسرح مع الماء كالبرق ، تخُضّ بقوة أجساد العمال والعاملات ، وترمي بها جثتا هامدة تحت الماء ، ثم بعد وقت تطفو فوقه . العمال الذين نزلوا من الدور الأول ، بعضهم وقف عند الباب في أعلى ، يصرخ ويطلب النجدة ، والبعض الآخر أغمي عليه من هول الفاجعة .
والبعض قال بأن الماء غمر بقوة القبو وأغرق الجميع ، ولم ينج بنفسه إلا عدد محدود من العمال والعاملات . وفي ثوان معدودة انتهى كل شيء .
حلت السلطات المحلية ، ووضعت حزاما حول مكان الحادث . وقف الجميع ينتظر رجال المطافئ . منبه سيارات الإسعاف يسمع من بعيد .
تجمهر ناس كُثر تحت المطر والماء يداعب سيقانهم . قال أحدهم :
ـ الباطرون الملعون أغلق القبو بالمفتاح وخرج ، وترك العمال يغمرهم الماء حتى غرقوا في الأسفل .
استهجن شخص آخر ذلك وصحح :
ـ سمعت بأن الماء غمر البهو ، ثم وقع تماس كهربائي أودى بحياة العديد من العمال والعاملات .
قال ثالث :
ـ وكيف سمحت السلطات بفتح معمل سري ، يستغل صاحبه الناس ، ويتلاعب بأرواحهم ؟
أجابه آخر :
ـ يقولون بأن التحقيق الذي ستفتحه النيابة هو الذي سيحدد المسؤوليات وسبب الوفاة .
رد عليه رابع :
ـ هل السلطات المحلية بداية من المقدم إلى الباشا ، لا يمكن أن يكونوا على علم بالمعمل السري ؟
أجاب شخص على يساره :
ـ السلطات عندنا تعرف كل شيء . تعرف حتى كيف ومتى تسقط الذبابة في كأس الشاي !؟
بكت امرأة وتساءلت بمرارة :
ـ يا رب كيف أصبحت أرواحنا رخيصة إلى هذا الحد ؟!
الأمطار لا زالت تسقط بقوة . أخيرا وصلت سيارات الإسعاف . حملت عددا من العاملات والعمال الفاقدين للوعي إلى قسم المستعجلات . البعض قال عشرة ، والبعض قال أكثر .
طفت سلة رحمة فوق الماء . لم تكن لديها شهية لتناول وجبة الفطور . ظل عقلها مخطوفا مع سقف البيت . كلما سمعت وقع المطر ، شعرت بأن قلبها سيتحطم ، وسيقع مثل سقف البيت . رحمة ، اغتالتها مرارة لقمة العيش ، بدون رحمة .
حاميد اليوسفي
المعجم :
ـ (البوط) : حذاء من بلاستيك يصل إلى الركبة ، يُلبس في المناطق التي تخلق بها الأمطار وحلا .
مراكش 08 فبراير 2021
خرجت رحمة من البيت باكرا . اليوم قررت أن تأخذ معها وجبتي الفطور والغذاء إلى المعمل . المطر قوي في الخارج . لم تنم جيدا في الليل . في كل مرة تغفو ، يوقظها صوت الرعد ، والخوف من تداعي سقف البيت . تحب المطر مثل أغلب المغاربة ، لكنها تخاف أن يهبط سقف البيت على أسرتها . سَوّت الغطاء فوق طفلتها الصغيرة ، وطبعت قبلة على خدها الأيسر . الوقت يُداهمها ، وحافلة النقل لن تنتظر طويلا . إذا وصلت متأخرة ، فإن ربّ العمل ، سيعقد حاجبيه ويشتمها ، وعليها أن تختار بين خصم أجرة اليوم ، أو الطرد من الشغل . ولأن الجوع لا يرحم ، ستقبل بالحل الأول ، ويضيع جهد اليوم بكامله .
الباطرون متكرش وغليظ الرقبة ، لا تنظر ناحيته كثيرا ، وإذا نظر إليها خفضت بصرها إلى الأرض ، خوفا من أن تنفجر بالضحك . كلما تخيلت شكله ، وهي قادمة إلى المعمل ، تضحك مع نفسها وتقول : كان الله في عون زوجته ، اللهم إذا كانت بدينة وقاسية مثله ، وإلا كيف تقبل به زوجا ؟! كل أرباب العمل تتخيلهم قساة ، ببطون منتفخة ، تخرج من أزرار الكسوات التي يلبسونها ، وتعتقد بأنهم يتناولون الكثير من الطعام الذي يزيد عن حاجتهم .
ارتدت جلبابها ، ووضعت فوقه معطفا من البلاستيك المشمع ، قدّمه إليها الزوج منذ سنة هدية في عيد ميلادها الأربعين ، قال بأنه انتقاه من البال . المطر في الأحياء الشعبية ، لا ينفع معه ارتداء الحذاء ، إما أن يمشي الإنسان حافيا ، أو يرتدي (بوطا)* عاليا من البلاستيك . لم تجد بُدّا من نزع الحذاء ، وإلا ستضطر لشراء بديل عنه بعد العودة إلى البيت . لم تصل المحطة حتى كاد باطن رجليها يتمزق من وخز الحصى ، ثم الاسمنت ، وشدة برودة الماء والأرض . في كل مرة تطلب الله ، وتدعوه أن يلطُف بالفقراء من عباده ، فليس لهم سواه ، يتوجهون إليه في أوقات الشدة .
صعدت الحافلة . اكتوت رجلاها مرّة ثانية ، سطح الحديد أشد برودة من أديم الأرض . قدّمت البطاقة للمراقب ، ثم اتجهت نحو مقعد فارغ . أخرجت منشفة من قفة الطعام ، ومسحت رجليها ، ثم وضعتهما في الحذاء خجلا من الركاب . لم تشعر بأي دفئ ، كأنها لم ترتد حذاء . الجو بارد جدا ، والدفء يحتاج إلى أحذية قادمة من وراء البحار ، وإلى أرصفة مبلطة وعالية ، وبالوعات تمتص مياه الأمطار ، ولا تتركها تجري في الدروب والأزقة مثل الوديان . في المحطة التالية امتلأت الحافلة عن آخرها ، وتلاصقت الأجسام بعضها بالبعض ، وبدأت تشعر بالدفء من حولها ، حتى خشيت أن تصاب بالزكام عندما تهبط . توقفت الحافلة في المحطة الرابعة ، لم تصل الباب حتى كادت روحها تزهق . لعنت مرة أخرى شركات النقل ، وأرباب العمل على جشعهم ، ولعنت أيضا السلطات التي تدعو المواطنين إلى احترام مسافة التباعد بينهم في زمن الوباء ، ولا تضغط على أرباب العمل لخلق الظروف المناسبة لذلك .
نزعت الحذاء مرة أخرى ، ورفعت جلبابها عن الأرض قليلا ، وسارت بضع خطوات وعرّجت على اليمين عشرات الأمتار . صبّحت على الحارس ، ثم نزعت المعطف البلاستيكي ، ونثرته من الماء . مسحت رجليها ، وارتدت حذاءها ، ونزلت السلم . مشت حوالي عشرة أمتار ، ثم اتجهت إلى آلة الخياطة . نزعت الجلباب وعلقته مع المعطف وراءها . بعد لحظات بدأ يتوافد العمال والعاملات . لا حديث بينهم إلا عن المطر ، وما سيفعله بأزقة المدينة ، والبيوت الآيلة للسقوط .
لم تتناول فطورها . ما رأته في الخارج ، وانشغالها بسقف البيت ، أفقدها شهية تناول الطعام . أكتفت بسكب كأس شاي دافئ تُسخّن به أمعاءها .
لم تكد تمر ساعة حتى داهمت المياه القبو . أمر (الكابران) بنقل القماش من الأدراج ، وإخراجه إلى الدور الأول من الفيلا حتى لا يصله الماء الممزوج بالطين ويفسده ، فيتوقف العمل .
لا أحد يعرف ما وقع بعد ذلك . البعض قال بأن الماء غطى أكثر من نصف أجسام العمال والعاملات ، وهم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه . فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان . وصل مستوى ارتفاع الماء إلى خيوط وأزرار الكهرباء . خطوط رقيقة وزرقاء تتلألأ ، وتتموج مثل الثعابين وتسرح مع الماء كالبرق ، تخُضّ بقوة أجساد العمال والعاملات ، وترمي بها جثتا هامدة تحت الماء ، ثم بعد وقت تطفو فوقه . العمال الذين نزلوا من الدور الأول ، بعضهم وقف عند الباب في أعلى ، يصرخ ويطلب النجدة ، والبعض الآخر أغمي عليه من هول الفاجعة .
والبعض قال بأن الماء غمر بقوة القبو وأغرق الجميع ، ولم ينج بنفسه إلا عدد محدود من العمال والعاملات . وفي ثوان معدودة انتهى كل شيء .
حلت السلطات المحلية ، ووضعت حزاما حول مكان الحادث . وقف الجميع ينتظر رجال المطافئ . منبه سيارات الإسعاف يسمع من بعيد .
تجمهر ناس كُثر تحت المطر والماء يداعب سيقانهم . قال أحدهم :
ـ الباطرون الملعون أغلق القبو بالمفتاح وخرج ، وترك العمال يغمرهم الماء حتى غرقوا في الأسفل .
استهجن شخص آخر ذلك وصحح :
ـ سمعت بأن الماء غمر البهو ، ثم وقع تماس كهربائي أودى بحياة العديد من العمال والعاملات .
قال ثالث :
ـ وكيف سمحت السلطات بفتح معمل سري ، يستغل صاحبه الناس ، ويتلاعب بأرواحهم ؟
أجابه آخر :
ـ يقولون بأن التحقيق الذي ستفتحه النيابة هو الذي سيحدد المسؤوليات وسبب الوفاة .
رد عليه رابع :
ـ هل السلطات المحلية بداية من المقدم إلى الباشا ، لا يمكن أن يكونوا على علم بالمعمل السري ؟
أجاب شخص على يساره :
ـ السلطات عندنا تعرف كل شيء . تعرف حتى كيف ومتى تسقط الذبابة في كأس الشاي !؟
بكت امرأة وتساءلت بمرارة :
ـ يا رب كيف أصبحت أرواحنا رخيصة إلى هذا الحد ؟!
الأمطار لا زالت تسقط بقوة . أخيرا وصلت سيارات الإسعاف . حملت عددا من العاملات والعمال الفاقدين للوعي إلى قسم المستعجلات . البعض قال عشرة ، والبعض قال أكثر .
طفت سلة رحمة فوق الماء . لم تكن لديها شهية لتناول وجبة الفطور . ظل عقلها مخطوفا مع سقف البيت . كلما سمعت وقع المطر ، شعرت بأن قلبها سيتحطم ، وسيقع مثل سقف البيت . رحمة ، اغتالتها مرارة لقمة العيش ، بدون رحمة .
حاميد اليوسفي
المعجم :
ـ (البوط) : حذاء من بلاستيك يصل إلى الركبة ، يُلبس في المناطق التي تخلق بها الأمطار وحلا .
مراكش 08 فبراير 2021