تهدف هذه المقالة إلى رصد جانب من التأثير والتأثر بين الأدب العربي والآداب الأوربية، وحيث يجد القارئ في كتب الأدب المقارن أن الأدب العربي بشعره ونثره قد أثر في الأدب الأوربي خصوصا الإسباني، بناء على العلاقات بين العرب والأوربيين، الأمر الذي يدعو إلى طرح الأسئلة التالية:
ما أثر الفن الشعري خصوصا الموشحات الأندلسية في الشعر الإسباني؟
ما نقاط الالتقاء والاختلاف بين قصة حي بن يقظان لابن فضلان وقصة روبسن كروز للكاتب الانجيلزي روبن كروز؟
في الواقع إن الأدب المقارن من الدراسات الحديثة التي نشأت عند الأوربيين في وقت متأخر, وبدأت تنال مكانتها من الدراسات الشرقية عند غيرهم من الأمم, وهكذا تطورت ونمت مثل هذه العلوم حيث أقبل عليه الباحثون والدارسون, حقيقة يعتبر الأدب المقارن دراسة أوربية النشأة , يهتم بالأحداث التاريخية والعلاقات الاجتماعية و أصدائها في آدابهم , ودراسة علاقة الأدب الأوربي بغيره من الآداب , المجاورة له والقريبة منه , وتأثره بها.
ومن غير شك أن الأدب الإسلامي يمثل مرحلة مهمة من مراحل التطور الأدبي في فترة من الفترات حيث كان هو الأدب الذي تطورت فنونه ونمى فكره, فقد كانت الحضارة الإسلامية في تلك الفترة مصدر إشعاع في عدد من العواصم الإسلامية كالقاهرة وبغداد وقرطبة وغيرها , وكانت الأندلس وحدها عاصمة الدنيا في تلك الفترة يقصدها العلماء وطلبة العلم والمفكرين والباحثين والفلاسفة والشعراء, فقد كانت قبلة يؤمها من تتوق نفسه للعلم والمعرفة والفلسفة والحكمة , واشتهر بها عدد كبير من العلماء والفلاسفة والشعراء الذين طبقت الدنيا شهرتهم وشغلوا الناس بعلومهم وفنونهم . هذا في حين كانت أوربا غارقة في ظلام الجهل والتخلف . وهذا الأمر يشهد له المؤرخون العرب والمنصفون من الكتاب الغربيين .
ومن غير شك أيضا أن تكون الأندلس نقطة الانطلاقة لعملية التأثر والتأثير بين الأدب العربي والآداب الأوربية, وهو ما عرف الأوربيين على فنون جديدة لم تكن معروفة لديهم وأطلعهم على نماذج أدبية زرعت فيهم الثقة والرغبة إلى محاكاتها ومجارتها والتأثر بها .
وأول ما يمكن من رصد لأثر الأدب الإسلامي في الآداب الأوربية , هو أثر الشعر الأندلسي في الشعر الأوربي الحديث, حيث إن هذه المسألة من المسائل التي تشغل بال كثير من الباحثين لاسيما وإنه كل يوم تضاف مادة جديدة لتؤكد هذا التأثير .
ويتمثل التأثير في الموشحات الأندلسية؛ ولاسيما في الخرجة التي هي جزء من الموشح, حيث أن الخرجة تكتب عادة بلغة أجنبية، وإذا ما جعل من الخرجة أبياتا أسبانية كانت بمثابة النموذج الأول للشعر الاسباني, وحين ننظر إلى أصل الموشح الأندلسي وبداية ابتداعه يرجح الباحثون أن أول من ابتكر الموشح هو مقدم بن معافي القبري الضرير الذي عاش سنة 255ه وسنة 299ه، ولم يبق من موشحاته شيء، ثم تلاه شعراء كثيرون ساروا على نهجه, والموشح نظم وصفه ابن خلدون بالسهولة وقرب الطريقة، وعلل أخذ كثير من شعراء الأندلس لهذا السبب ( لسهولة تناوله وقرب طريقته ), ومن الشعراء الذين أجادوا نظمه ابن عبد ربه الأندلسي صاحب العقد الفريد, وابن عبادة القزاز وأبوبكر بن اللبانة الداني, وابن زهر الطبيب, وابن سهل الإسرائيلي, ولسان الدين الخطيب.
ولعل من أشهر الموشحات موشحه لسان الدين الخطيب التي منها :
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
وإلى جانب الموشح نشأ الزجل باللغة المستعملة في الأندلس مع مزجها باللغة الاسبانية الدراجة, ومن أوائل من نظموا الأزجال سعيد بن عبد ربه الأندلسي المتوفى سنة 341 ه, وهو ابن عم صاحب العقد الفريد، وكان من المنشغلين بعلوم الأوائل كالفلسفة ونحوها, وبعده أبو يوسف هارون الرمادي شاعر المنصور, وأما ابرز الزجالين فهو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن قزمان ولد في قرطبة 460 ه , وتوفي سنة 554 ه .
وهذان اللونان من النظم اللذان أبتكرهما أهل الأندلس؛ هما اللذان أثرّا في نشأةِ الشَّعر الأُوربي , و أوّلُ مِن قالَ بِهذه النظرية هو خليان ريبيرا المستشرق الإسباني الذي عكف على دراسة موسيقى الاسبانية في العصور الوسطى، كما ترد في دواوين الشعر (التروبادور ) و( الثروفير ) وهم الشعراء الجوالة في العصر الوسيط في أوربا , والمنيسنجر وهم شعراء الغرام, وأنهى من هذه الدراسات المستفيضة هذه أن الموشح والزجل هما المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سرِّ تكوين القوالب التي صُبّت فيها الطُرزُ الشّعريةُ التي ظهرت في العالم المتحضر إبان العصر الوسيط .
كما أثبت انتقال الشعر الأندلسي فضلا عن الموسيقى العربية إلى أوربا عن نفس الطريق الذي انتقلت به الكثير من علوم القدماء والأندلس ومن ثم إلى بقية أوربا .
وذلك أن الشعراء التروبادور البروفنساليين الأوائل استخدموا أقدم قوالب الزجل الأندلسي, كما يظهر في شعر أو شاعر تروبادور برفنسالي وهو جيوم التاسع دوق اكيتانيا وهو يعد أول شاعر في اللغات الأوربية الحديثة . أما في أسبانيا فقد ظلت نماذج وأنماط النظم على طريقة الأزجال العربية التي يستخدمها الشعراء المتعلمون مثل الفونس الحكيم في القرن الثالث عشر، ورئيس القساوسة هيتا في القرن الرابع عشر , وخوان دل أنثينا في القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر .
ولم يقتصر الأمر على طريقة النظم بل تعدى ذلك إلى طريقة معالجة الموضوعات, ففكرة الحب النبيل التي تسود في الشعر البرفنسالي وجد أن أصلها في الشهر الأندلسي, بل في أشعار ابن قزمان كما أكده مندث بيدال وهو يعد من أشد الباحثين حماسة في توكيد تأثير الشعر العربي الموشح والزجل في نشأة الشعر الأوربي في نهاية العصر الوسيط.
وحين ننتقل إلى النثر نرى هناك عدد من الأعمال الأوربية الخالدة , التي تتميز بالجودة والقيمة الفنية في عصر النهضة الأوربية وحين نظر الباحثون في أصول هذه الأعمال وجد الباحثون الأثر الإسلامي واضح فيها . ومن هذه النماذج نختار نموذج حي بن يقظان.
أثر قصة حي بن يقظان :
وهي قصة فلسفية , ألفها الفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل الذي ولد عام 500 هجرية , في غرناطة بالأندلس, وقرأ أقسام الحكمة على يد علماء غرناطة, كما كان واسع الاطلاع واسع العلم في الفلك والرياضيات والطب والشعر, وعمل في مستهل حياته بالطب, ثم تولى الوزارة في غرناطة, ثم اتصل ببلاط الموحدين في المغرب, ولم يلبث أن عين سنة (549 -1154م ) كاتما لسر الأمير أبي سعيد بن عبد المؤمن حاكم سبتة وطنجة, ثم عاد إلى ممارسة الطب, حيث أصبح الطبيب الخاص لأبي يعقوب يوسف سلطان الموحدين في عام ( 558 - 1163م ) ويبدو أنه ظل يحتفظ بمنصبه بالبلاط مدة عشرين عاما قضاها في التأمل والدراسة إلى جانب ممارسة الطب, وحين توفى يعقوب في حرب الفرنجة, بقي في خدمة ابنه أبي يوسف يعقوب, ثم اعتزل العمل لـمّا كبر سنة (578 ) في البلاط فخلفه تلميذه ابن رشد الفيلسوف . وقد توفى ابن الطفيل عام 578 – 1185م في مدينة مراكش , ودفن فيها، وترك عدد من المؤلفات التي فقد معظمها , ولم يبق منها سوى رواية " حي بن يقظان " وبعض الأشعار .
أما قصة حي بن يقظان فهي قصة فلسفية مفادها أن الإنسان قد يصل إلى المعرفة بالفطرة, حيث نشأ حي بن يقظان في جزيرة غير مأهولة, ولم يتعرف على البشر الذين يمكن أن يتلقى العلم من خلالهم, بل عاش وحيد في الطبيعة , وفي سبب نشأة حي بن بقظان, يروي ابن الطفيل روايتين في ذلك :
الأولى:- أنه نشأ نشأة طبيعية, حين رمته أُمه في البحر بعد ما ولدته ,خوفا من أخيها الملك الذي حرم عليها الزواج ولكنها تزوجت سرا من رجل بدوي, وحين أرادت أن تولد خافت على ولدها من الموت المحقق الذي ينتظره من خاله, فقررت المجازفة وأن تقذفه إلى البحر . وهذه الرواية فيها ملامح واقعية كما نرى من خشية الأم على ابنها .
الثانية:- غير طبيعية وهي فلسفية خالصة, ونرى فيها المصطلحات الفلسفية كالفيض وامتزاج الحار بالبارد والرطب باليابس والتهيؤ والروح إلى غير ما هنالك من رؤى فلسفية, فالولد على حسب هذه الرواية ابن الأرض في جزيرة جنوب خط الأستواء، تسمى الواق واق، وهي جزيرة خيالية كما هو واضح، وهي نظرة نرى فيها مدى ما وصل إليه الكاتب بعقله إلى مفاهيم الفلسفة في الحياة والكون الإنسان, ونظرة العقل الذي يتغلب على الطباع, بسلطانه الموجود فيه .
المهم أن (حي) في كلا الروايتين نشأ في تلك الجزيرة المنعزلة، وقد رعته ظبية فقدت ابنها، أرضعته من لبنها، وحمته من الوحوش، كما حمته من عوامل الطبيعة من برد وحر، فيكبر وهو لا يعرف أما له سوى الظبية ، لكن الله منحه العقل الذي أتاح له التفكر والمقارنة بين حاله وحال سائر الحيوان، فقد نظر إليها فوجدها مكسوة الجلد بالصوف أو بالريش، فحاول أن يغطي جسده بأوراق الشجر، لكنه سرعان ما جفّ وتساقط، لهذا نجده يلجأ إلى ريش نسر ميت يستر به جسده، وبذلك يعيش عيشة الوحوش في الغابة في طعامه ولباسه وعلاقاته.
يبدأ نضجه الفكري حين تموت أمه الظبية، يصدمه هذا الحدث فيقرر فهمه، لذلك نجده يبحث عن سر الموت في جسدها أولا، لذلك يشرّحه باحثا عما حصل له بفعل الموت، هل نقص عضو من أعضائه؟
يفاجأ أن جسدها مازال على حاله، لم ينقص منه عضو، لكن ينقصه شيء مهم هو الذي يحرك الجسد ويملؤه بالعواطف، لم يستطع أن يهتدي إلى السر في ذلك، فدفن أمه بعد أن لاحظ أن رائحة نتنة بدأت تنبعث من جسدها مما زاد في نفرته منه، وود أن لا يراه، ثم إنه "سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه، وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق إلى هذا الفعل بأمي فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب"
وبذلك انتهى من مشكلة الجسد ليصل إلى مشكلة الروح، فبدا لنا إنسانا أشبه بالفيلسوف، باحثا عن سر الحياة ليس في جسد أمه فقط، وإنما في هذا الكون المتنوع والشاسع، وبدأ يراقبه فلاحظ أن موجوداته (الأجسام والأشياء) إما تعلو (كالهواء والدخان) وإما تهبط (كالحجر) وبذلك تعرف على بعض خصائص العالم المادي عن طريق النظر والتجربة، لكن المعرفة المادية لم تكفه، فقد أراد أن يعرف ما يؤرقه من عالم ما وراء المادة.
لاحظ أن الأشياء لا تتغير طبيعتها إلا بفعل مسبب، كتحول الماء إلى بخار لا يكون إلا بالتسخين، والتالي فإن تحول الأشياء لا بد لها من محول، لهذا فإن حدوث العالم وخروجه من العدم لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود.
كذلك نظر إلى الكون وإلى نظامه الدقيق، أدهشه هذا النظام، فرأى أنه لا بد من أن يكون وراءه منظم قادر تجتمع فيه صفات الكمال وتنأى عنه النقائض، وهكذا قاده مبدأ السببية إلى الإيمان بالله تعالى، والتعمق في العالم الروحي.
لهذا أراد أن يقيم صلته بهذا الموجود، المنظم لكل شيء، وصار يتأمل في عالم الحيوان عله يتعلم منه، فرأى أنه لا يهتم إلا بالأكل والشرب وكل ملذات الجسد، فانطوى على ذاته يبحث في أعماقها عن سبل الاتصال بالله، فلم يجد سوى الاتصال الروحي والاستغراق في التوحد بالذات الإلهية، لهذا سكن في كوخه الذي بناه وانقطع عن العالم الخارجي ولم يعد يخرج إليه إلا مرة في الأسبوع تلمسا للغذاء الذي بات يعتمد على أبسط الأشياء، مما يتيح له القدرة على الاتصال بالله بشكل أفضل.
يأتي الجزيرة (آسال) وهو رجل دين متصوف، هاربا من شيوع الفساد في مدينته، بعد أن يئس من إصلاح أهلها، يلتقي بـ(حي) فينفر منه للوهلة الأولى خائفا من منظره (إنسان بدائي، شعر رأسه يغطي جسده إلى جانب ريش النسر الذي يكسوه، لكن تصرفات (حي) تهدئ من روعه، فيبدأ تعليمه اللغة ، وحين يتقنها، يشرع في تلقينه تعاليم الدين، فيكتشف أن ابن يقظان قد توصل إلى الإيمان بإله واحد، وتعرّف صفاته، والتواصل معه عن طريق القلب، وعبادته بل بات يتفرغ لهذه العبادة.
وحين حدّثه آسال عن معاناته مع أبناء مدينته يطلب منه (حي) اصطحابه إليهم كي يحدثهم بتجربته الإيمانية، لعلهم يعودون إلى جادة الصواب، وحين يلتقي بهم، يوضح لهم تجربته العقلية في الإيمان، كما يحدثهم عن تجربته الصوفية في التواصل مع الله تعالى، لكنهم كانوا مشغولين بحب الدنيا وملذاتها، لذلك تركهم حي بعد أن نصحهم بالتزام أوامر دينهم وفق الشريعة، وعاد إلى الجزيرة بصحبة صديقه آسال، ليتفرغا للعبادة.
: قصة "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو ومدى تأثرها بقصة حي بن يقظان :
روبنسن كروزو شاب في العشرين من عمره، أحلامه أحلام الشباب في السفر والمغامرة، يستأذن والديه في السفر عبر البحار، ليحقق أحلامه، لكن والديه يرفضان الموافقة على هذه الفكرة حرصا على حياته، فيعصي أوامرهما، ليحقق رغبته في المغامرة والسفر، لذلك نجد والده غاضبا عليه يدعو الله أن يضع في طريق ابنه المتاعب.
فعلا حين يسافر روبنسون يصادف أهوالا كثيرة، كان آخرها تحطم السفينة، وغرق جميع ركابها، ماعدا روبنسون، وبعد أن يجتاز أهوالا كثيرة يجد نفسه في جزيرة نائية، لا يوجد فيها سوى الحيوانات المتوحشة فتكبد مشقة البحث عن حياة آمنة مستقرة فيها، لذلك يصنع من أشلاء السفينة المحطمة سكنا بسيطا، أما طعامه فكان مما تيسر له من ثمار الجزيرة، لكن المصادفة تساعده في تأمين غذائه من الحنطة، حين نفض كيسا (يريد استخدامه لبعض شؤونه) كان فيه بقايا حنطة، فهطلت الأمطار ونبتت البذور، فصار يعتني بها، إلى مرحلة الحصاد.
نلاحظ أن كروزو لا يبدأ من الصفر، وإنما يساعده في الاستمرار على قيد الحياة مؤن وأدوات حصل عليها من بقايا السفينة المحطمة، كما ساعدته الطبيعة بأن مدّته بالمواد الأولية (الخشب) ليستمر في العيش.
بعد فترة من الزمن يلتقي روبنسون بإنسان أسير، استطاع أن يهرب من أكلة لحوم البشر، فيسميه (جمعة) ويتخذه مساعدا له في عمله.
عاش روبنسون في الجزيرة مدة ثمان وعشرين سنة، إلى أن أتت مصادفة سفينة، يرحل على متنها إلى بلده، بعد أن يخوض صراعا مع رجال ثائرين على ربانها، وهكذا لاحقته المتاعب حتى آخر مراحل سفره!!
نقاط التلاقي بين حي بن يقظان ورنسون كروز :
أوجه الاختلاف :
ما أثر الفن الشعري خصوصا الموشحات الأندلسية في الشعر الإسباني؟
ما نقاط الالتقاء والاختلاف بين قصة حي بن يقظان لابن فضلان وقصة روبسن كروز للكاتب الانجيلزي روبن كروز؟
في الواقع إن الأدب المقارن من الدراسات الحديثة التي نشأت عند الأوربيين في وقت متأخر, وبدأت تنال مكانتها من الدراسات الشرقية عند غيرهم من الأمم, وهكذا تطورت ونمت مثل هذه العلوم حيث أقبل عليه الباحثون والدارسون, حقيقة يعتبر الأدب المقارن دراسة أوربية النشأة , يهتم بالأحداث التاريخية والعلاقات الاجتماعية و أصدائها في آدابهم , ودراسة علاقة الأدب الأوربي بغيره من الآداب , المجاورة له والقريبة منه , وتأثره بها.
ومن غير شك أن الأدب الإسلامي يمثل مرحلة مهمة من مراحل التطور الأدبي في فترة من الفترات حيث كان هو الأدب الذي تطورت فنونه ونمى فكره, فقد كانت الحضارة الإسلامية في تلك الفترة مصدر إشعاع في عدد من العواصم الإسلامية كالقاهرة وبغداد وقرطبة وغيرها , وكانت الأندلس وحدها عاصمة الدنيا في تلك الفترة يقصدها العلماء وطلبة العلم والمفكرين والباحثين والفلاسفة والشعراء, فقد كانت قبلة يؤمها من تتوق نفسه للعلم والمعرفة والفلسفة والحكمة , واشتهر بها عدد كبير من العلماء والفلاسفة والشعراء الذين طبقت الدنيا شهرتهم وشغلوا الناس بعلومهم وفنونهم . هذا في حين كانت أوربا غارقة في ظلام الجهل والتخلف . وهذا الأمر يشهد له المؤرخون العرب والمنصفون من الكتاب الغربيين .
ومن غير شك أيضا أن تكون الأندلس نقطة الانطلاقة لعملية التأثر والتأثير بين الأدب العربي والآداب الأوربية, وهو ما عرف الأوربيين على فنون جديدة لم تكن معروفة لديهم وأطلعهم على نماذج أدبية زرعت فيهم الثقة والرغبة إلى محاكاتها ومجارتها والتأثر بها .
وأول ما يمكن من رصد لأثر الأدب الإسلامي في الآداب الأوربية , هو أثر الشعر الأندلسي في الشعر الأوربي الحديث, حيث إن هذه المسألة من المسائل التي تشغل بال كثير من الباحثين لاسيما وإنه كل يوم تضاف مادة جديدة لتؤكد هذا التأثير .
ويتمثل التأثير في الموشحات الأندلسية؛ ولاسيما في الخرجة التي هي جزء من الموشح, حيث أن الخرجة تكتب عادة بلغة أجنبية، وإذا ما جعل من الخرجة أبياتا أسبانية كانت بمثابة النموذج الأول للشعر الاسباني, وحين ننظر إلى أصل الموشح الأندلسي وبداية ابتداعه يرجح الباحثون أن أول من ابتكر الموشح هو مقدم بن معافي القبري الضرير الذي عاش سنة 255ه وسنة 299ه، ولم يبق من موشحاته شيء، ثم تلاه شعراء كثيرون ساروا على نهجه, والموشح نظم وصفه ابن خلدون بالسهولة وقرب الطريقة، وعلل أخذ كثير من شعراء الأندلس لهذا السبب ( لسهولة تناوله وقرب طريقته ), ومن الشعراء الذين أجادوا نظمه ابن عبد ربه الأندلسي صاحب العقد الفريد, وابن عبادة القزاز وأبوبكر بن اللبانة الداني, وابن زهر الطبيب, وابن سهل الإسرائيلي, ولسان الدين الخطيب.
ولعل من أشهر الموشحات موشحه لسان الدين الخطيب التي منها :
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
وإلى جانب الموشح نشأ الزجل باللغة المستعملة في الأندلس مع مزجها باللغة الاسبانية الدراجة, ومن أوائل من نظموا الأزجال سعيد بن عبد ربه الأندلسي المتوفى سنة 341 ه, وهو ابن عم صاحب العقد الفريد، وكان من المنشغلين بعلوم الأوائل كالفلسفة ونحوها, وبعده أبو يوسف هارون الرمادي شاعر المنصور, وأما ابرز الزجالين فهو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن قزمان ولد في قرطبة 460 ه , وتوفي سنة 554 ه .
وهذان اللونان من النظم اللذان أبتكرهما أهل الأندلس؛ هما اللذان أثرّا في نشأةِ الشَّعر الأُوربي , و أوّلُ مِن قالَ بِهذه النظرية هو خليان ريبيرا المستشرق الإسباني الذي عكف على دراسة موسيقى الاسبانية في العصور الوسطى، كما ترد في دواوين الشعر (التروبادور ) و( الثروفير ) وهم الشعراء الجوالة في العصر الوسيط في أوربا , والمنيسنجر وهم شعراء الغرام, وأنهى من هذه الدراسات المستفيضة هذه أن الموشح والزجل هما المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سرِّ تكوين القوالب التي صُبّت فيها الطُرزُ الشّعريةُ التي ظهرت في العالم المتحضر إبان العصر الوسيط .
كما أثبت انتقال الشعر الأندلسي فضلا عن الموسيقى العربية إلى أوربا عن نفس الطريق الذي انتقلت به الكثير من علوم القدماء والأندلس ومن ثم إلى بقية أوربا .
وذلك أن الشعراء التروبادور البروفنساليين الأوائل استخدموا أقدم قوالب الزجل الأندلسي, كما يظهر في شعر أو شاعر تروبادور برفنسالي وهو جيوم التاسع دوق اكيتانيا وهو يعد أول شاعر في اللغات الأوربية الحديثة . أما في أسبانيا فقد ظلت نماذج وأنماط النظم على طريقة الأزجال العربية التي يستخدمها الشعراء المتعلمون مثل الفونس الحكيم في القرن الثالث عشر، ورئيس القساوسة هيتا في القرن الرابع عشر , وخوان دل أنثينا في القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر .
ولم يقتصر الأمر على طريقة النظم بل تعدى ذلك إلى طريقة معالجة الموضوعات, ففكرة الحب النبيل التي تسود في الشعر البرفنسالي وجد أن أصلها في الشهر الأندلسي, بل في أشعار ابن قزمان كما أكده مندث بيدال وهو يعد من أشد الباحثين حماسة في توكيد تأثير الشعر العربي الموشح والزجل في نشأة الشعر الأوربي في نهاية العصر الوسيط.
وحين ننتقل إلى النثر نرى هناك عدد من الأعمال الأوربية الخالدة , التي تتميز بالجودة والقيمة الفنية في عصر النهضة الأوربية وحين نظر الباحثون في أصول هذه الأعمال وجد الباحثون الأثر الإسلامي واضح فيها . ومن هذه النماذج نختار نموذج حي بن يقظان.
أثر قصة حي بن يقظان :
وهي قصة فلسفية , ألفها الفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل الذي ولد عام 500 هجرية , في غرناطة بالأندلس, وقرأ أقسام الحكمة على يد علماء غرناطة, كما كان واسع الاطلاع واسع العلم في الفلك والرياضيات والطب والشعر, وعمل في مستهل حياته بالطب, ثم تولى الوزارة في غرناطة, ثم اتصل ببلاط الموحدين في المغرب, ولم يلبث أن عين سنة (549 -1154م ) كاتما لسر الأمير أبي سعيد بن عبد المؤمن حاكم سبتة وطنجة, ثم عاد إلى ممارسة الطب, حيث أصبح الطبيب الخاص لأبي يعقوب يوسف سلطان الموحدين في عام ( 558 - 1163م ) ويبدو أنه ظل يحتفظ بمنصبه بالبلاط مدة عشرين عاما قضاها في التأمل والدراسة إلى جانب ممارسة الطب, وحين توفى يعقوب في حرب الفرنجة, بقي في خدمة ابنه أبي يوسف يعقوب, ثم اعتزل العمل لـمّا كبر سنة (578 ) في البلاط فخلفه تلميذه ابن رشد الفيلسوف . وقد توفى ابن الطفيل عام 578 – 1185م في مدينة مراكش , ودفن فيها، وترك عدد من المؤلفات التي فقد معظمها , ولم يبق منها سوى رواية " حي بن يقظان " وبعض الأشعار .
أما قصة حي بن يقظان فهي قصة فلسفية مفادها أن الإنسان قد يصل إلى المعرفة بالفطرة, حيث نشأ حي بن يقظان في جزيرة غير مأهولة, ولم يتعرف على البشر الذين يمكن أن يتلقى العلم من خلالهم, بل عاش وحيد في الطبيعة , وفي سبب نشأة حي بن بقظان, يروي ابن الطفيل روايتين في ذلك :
الأولى:- أنه نشأ نشأة طبيعية, حين رمته أُمه في البحر بعد ما ولدته ,خوفا من أخيها الملك الذي حرم عليها الزواج ولكنها تزوجت سرا من رجل بدوي, وحين أرادت أن تولد خافت على ولدها من الموت المحقق الذي ينتظره من خاله, فقررت المجازفة وأن تقذفه إلى البحر . وهذه الرواية فيها ملامح واقعية كما نرى من خشية الأم على ابنها .
الثانية:- غير طبيعية وهي فلسفية خالصة, ونرى فيها المصطلحات الفلسفية كالفيض وامتزاج الحار بالبارد والرطب باليابس والتهيؤ والروح إلى غير ما هنالك من رؤى فلسفية, فالولد على حسب هذه الرواية ابن الأرض في جزيرة جنوب خط الأستواء، تسمى الواق واق، وهي جزيرة خيالية كما هو واضح، وهي نظرة نرى فيها مدى ما وصل إليه الكاتب بعقله إلى مفاهيم الفلسفة في الحياة والكون الإنسان, ونظرة العقل الذي يتغلب على الطباع, بسلطانه الموجود فيه .
المهم أن (حي) في كلا الروايتين نشأ في تلك الجزيرة المنعزلة، وقد رعته ظبية فقدت ابنها، أرضعته من لبنها، وحمته من الوحوش، كما حمته من عوامل الطبيعة من برد وحر، فيكبر وهو لا يعرف أما له سوى الظبية ، لكن الله منحه العقل الذي أتاح له التفكر والمقارنة بين حاله وحال سائر الحيوان، فقد نظر إليها فوجدها مكسوة الجلد بالصوف أو بالريش، فحاول أن يغطي جسده بأوراق الشجر، لكنه سرعان ما جفّ وتساقط، لهذا نجده يلجأ إلى ريش نسر ميت يستر به جسده، وبذلك يعيش عيشة الوحوش في الغابة في طعامه ولباسه وعلاقاته.
يبدأ نضجه الفكري حين تموت أمه الظبية، يصدمه هذا الحدث فيقرر فهمه، لذلك نجده يبحث عن سر الموت في جسدها أولا، لذلك يشرّحه باحثا عما حصل له بفعل الموت، هل نقص عضو من أعضائه؟
يفاجأ أن جسدها مازال على حاله، لم ينقص منه عضو، لكن ينقصه شيء مهم هو الذي يحرك الجسد ويملؤه بالعواطف، لم يستطع أن يهتدي إلى السر في ذلك، فدفن أمه بعد أن لاحظ أن رائحة نتنة بدأت تنبعث من جسدها مما زاد في نفرته منه، وود أن لا يراه، ثم إنه "سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه، وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق إلى هذا الفعل بأمي فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب"
وبذلك انتهى من مشكلة الجسد ليصل إلى مشكلة الروح، فبدا لنا إنسانا أشبه بالفيلسوف، باحثا عن سر الحياة ليس في جسد أمه فقط، وإنما في هذا الكون المتنوع والشاسع، وبدأ يراقبه فلاحظ أن موجوداته (الأجسام والأشياء) إما تعلو (كالهواء والدخان) وإما تهبط (كالحجر) وبذلك تعرف على بعض خصائص العالم المادي عن طريق النظر والتجربة، لكن المعرفة المادية لم تكفه، فقد أراد أن يعرف ما يؤرقه من عالم ما وراء المادة.
لاحظ أن الأشياء لا تتغير طبيعتها إلا بفعل مسبب، كتحول الماء إلى بخار لا يكون إلا بالتسخين، والتالي فإن تحول الأشياء لا بد لها من محول، لهذا فإن حدوث العالم وخروجه من العدم لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود.
كذلك نظر إلى الكون وإلى نظامه الدقيق، أدهشه هذا النظام، فرأى أنه لا بد من أن يكون وراءه منظم قادر تجتمع فيه صفات الكمال وتنأى عنه النقائض، وهكذا قاده مبدأ السببية إلى الإيمان بالله تعالى، والتعمق في العالم الروحي.
لهذا أراد أن يقيم صلته بهذا الموجود، المنظم لكل شيء، وصار يتأمل في عالم الحيوان عله يتعلم منه، فرأى أنه لا يهتم إلا بالأكل والشرب وكل ملذات الجسد، فانطوى على ذاته يبحث في أعماقها عن سبل الاتصال بالله، فلم يجد سوى الاتصال الروحي والاستغراق في التوحد بالذات الإلهية، لهذا سكن في كوخه الذي بناه وانقطع عن العالم الخارجي ولم يعد يخرج إليه إلا مرة في الأسبوع تلمسا للغذاء الذي بات يعتمد على أبسط الأشياء، مما يتيح له القدرة على الاتصال بالله بشكل أفضل.
يأتي الجزيرة (آسال) وهو رجل دين متصوف، هاربا من شيوع الفساد في مدينته، بعد أن يئس من إصلاح أهلها، يلتقي بـ(حي) فينفر منه للوهلة الأولى خائفا من منظره (إنسان بدائي، شعر رأسه يغطي جسده إلى جانب ريش النسر الذي يكسوه، لكن تصرفات (حي) تهدئ من روعه، فيبدأ تعليمه اللغة ، وحين يتقنها، يشرع في تلقينه تعاليم الدين، فيكتشف أن ابن يقظان قد توصل إلى الإيمان بإله واحد، وتعرّف صفاته، والتواصل معه عن طريق القلب، وعبادته بل بات يتفرغ لهذه العبادة.
وحين حدّثه آسال عن معاناته مع أبناء مدينته يطلب منه (حي) اصطحابه إليهم كي يحدثهم بتجربته الإيمانية، لعلهم يعودون إلى جادة الصواب، وحين يلتقي بهم، يوضح لهم تجربته العقلية في الإيمان، كما يحدثهم عن تجربته الصوفية في التواصل مع الله تعالى، لكنهم كانوا مشغولين بحب الدنيا وملذاتها، لذلك تركهم حي بعد أن نصحهم بالتزام أوامر دينهم وفق الشريعة، وعاد إلى الجزيرة بصحبة صديقه آسال، ليتفرغا للعبادة.
: قصة "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو ومدى تأثرها بقصة حي بن يقظان :
روبنسن كروزو شاب في العشرين من عمره، أحلامه أحلام الشباب في السفر والمغامرة، يستأذن والديه في السفر عبر البحار، ليحقق أحلامه، لكن والديه يرفضان الموافقة على هذه الفكرة حرصا على حياته، فيعصي أوامرهما، ليحقق رغبته في المغامرة والسفر، لذلك نجد والده غاضبا عليه يدعو الله أن يضع في طريق ابنه المتاعب.
فعلا حين يسافر روبنسون يصادف أهوالا كثيرة، كان آخرها تحطم السفينة، وغرق جميع ركابها، ماعدا روبنسون، وبعد أن يجتاز أهوالا كثيرة يجد نفسه في جزيرة نائية، لا يوجد فيها سوى الحيوانات المتوحشة فتكبد مشقة البحث عن حياة آمنة مستقرة فيها، لذلك يصنع من أشلاء السفينة المحطمة سكنا بسيطا، أما طعامه فكان مما تيسر له من ثمار الجزيرة، لكن المصادفة تساعده في تأمين غذائه من الحنطة، حين نفض كيسا (يريد استخدامه لبعض شؤونه) كان فيه بقايا حنطة، فهطلت الأمطار ونبتت البذور، فصار يعتني بها، إلى مرحلة الحصاد.
نلاحظ أن كروزو لا يبدأ من الصفر، وإنما يساعده في الاستمرار على قيد الحياة مؤن وأدوات حصل عليها من بقايا السفينة المحطمة، كما ساعدته الطبيعة بأن مدّته بالمواد الأولية (الخشب) ليستمر في العيش.
بعد فترة من الزمن يلتقي روبنسون بإنسان أسير، استطاع أن يهرب من أكلة لحوم البشر، فيسميه (جمعة) ويتخذه مساعدا له في عمله.
عاش روبنسون في الجزيرة مدة ثمان وعشرين سنة، إلى أن أتت مصادفة سفينة، يرحل على متنها إلى بلده، بعد أن يخوض صراعا مع رجال ثائرين على ربانها، وهكذا لاحقته المتاعب حتى آخر مراحل سفره!!
نقاط التلاقي بين حي بن يقظان ورنسون كروز :
- عند الوقوف على السنة التي توفى فيها مؤلف روبنسون كروز " دانييل ديفو " (1731م ) يلاحظ أن مؤلف حي بن يقظان قد عاش قبل ديفو بحوالي 500 عام , وأن كلا الكاتبين عاش في اسبانيا فترة من حياته , ومن هنا فإن تأثر ديفو بابن طفيل أمر طبيعيا .
- عند التأمل في الفضاء المكاني لكلا الروايتين , نلاحظ تشابها كبيرا , فنحن أمام فضاء واحد تقريبا ( جزيرة نائية ) وكذلك نجد فيها إنسانا وحيدا يحاول أن يفهم ويستكشف كل ما يحيط به , وبذلك نجد تلاقي في تركيز القصتين على شخصية رئيسية واحدة تعيش ظروفا متشابهة ( العزلة والبدائية ).
- الشخصية الثانوية في كلا القصتين ( آسال – جمعة ) تأتي إلى الجزيرة بعد استقرار الشخصية الحيوية على فضاء القصتين .
- الهدف التعليمي في كلا القصتين واضح ,فابن طفيل منذ المقدمة يريد أن يدلل على وجود الله تعالى باستخدام العقل والحدس , من دون استخدام الشريعة ,فهو يجعل طريق الإيمان هو استخدام العقل أولا ثم الحدس , ويتمثل ذلك عند حي بن يقظان و هو رجل بدائي ,وكأنه يطلب منا استخدام العقل والنظر والتأمل في الكون للوصول إلى الإيمان العميق , لا أن يكون إيمانهم تقليدا . أما هدف ديفو فهو هدف تربوي , فهو يتوجه إلى الشباب المحب للمغامرة والسفر ,بالنصيحة طالبا منهم النظر إلى ما آلت إلية حال روبنسون حيث أنه لم يسمع رغبة والديه في عدم السفر, ونفذ ما يدور في رأسه من أفكار , فعانى متاعب ومصاعب كثيرة استمرت إلى اللحظة الأخيرة من سفره .
- انعكاس كلا القصتين ملامح السيرة الذاتية للمؤلف , ففي قصة حي بن يقظان نجد أهم القضايا التي أرقت ابن طفيل مثل ( الفلسفة والمنطق و طرائق الإيمان , ومكانة العقل والحدس وغيرها من القضايا ..) فنرى أن التجربة والمعاناة روحية وفكرية بامتياز كما نلمح بعض ملامح الشخصية من خلال شخصية حي بن يقظان , حيث جعله فيلسوفا وطبيبا وعالم فلك مثله . أما روبنسون كروز فإننا نلمح فيها معاناة ديفو ناتجة من عقوق ابنه , ومن هنا نراه يجعل روبنسون ابنا عاقا ويسقط عليه جام غضبه .
أوجه الاختلاف :
- يدخل روبنسون كروز الجزيرة شابا ,قد تكون فكره وتأصلت عاداته أي بدا إنسانا مدنيا أجبر على الحياة البدائية , أما حي بن يقظان فقد بدأ حياته فيها رضيعا أو تخلق من ترابها على حسب الروايتين في ذلك , ولذلك بدا إنسانا بدائيا لصيقا بالطبيعة وقد قويت صلته بها مع الأيام إذ لم يعرف عالما غيرها , فكان عالم الحيوان في الجزيرة دليله إلى الحياة , يتعلم منه طراق العيش البدائية .
- بدا حي بن يقظان من الصفر ,في حين وجدنا روبنسون كروز يستعين بمخلفات السفينة المحطمة ,فاستطاع توفير لنفسه عيشة متحضرة و ان بدت بسيطة .
- تغلب على حي بن يقظان الروحانيات والأفكار همه الأساسي البحث عن قضايا تؤرق الإنسان من مثل الإيمان بالله , والموت , و هادية الآخرين ) في حين يصب روبنسون كروز اهتمامه على الانشغال بالعالم المادي , همه الأساسي توفير وتامين الطعام والشراب , ليس لمعيشته اليومية فقط ’ وإنما لمعيشته المستقبلية ,فيحاول تأمين مؤنه الشتاء والعيش في مسكن على نسق عرفه في حياته السابقة , بحيث يمكن القول إن روبنسون نقل الحياة المدنية بكل ماديتها إلى الجزيرة .
- شخصية حي بن يقظان هي شخصية فيلسوف يتأمل الكون ليفهم أسراه يثير أسئلة جوهرية تتعلق بالوجود الإنساني وكيفية توصله مع الله , فاجتمعت فيه شخصية الفيلسوف والمتصوف . بينما شخصية روبنسون كروز إنسان عادي أقصى طموحه تلبية حاجاته المادية .
- اللقاء بالشخصية الثانوية جمعة معززا الجانب المادي لروبنسون كروز , أذ يقوم بمساعدته في أمور حياته المادية , في حين كان لقاء حي بن يقظان بآسال معززا الجانب الروحي , حيث علمه اللغة التي أهم مفاتيح الأعماق والأفكار , ثم أخذه إلى مدينته العاصية ليساهم في إصلاحها .
- من حيث العلاقة بينهما , نجد علاقة حي بن يقظان بآسال علاقة ندية , حيث يتم تبادل المعرفة بينهما ويحاولان التعاون في سبيل إصلاح البشر وهدايتهم , بنما علاقة روبنسون كروز بجمعة فقد كانت علاقة السيد بالمسود , ويتجسد فيها علاقة الغربي بالآخر فهو السيد ولآخر عبدا له .
- خلاصة الكلام أن الآداب الإسلامية أثرت في الآداب الغربية , نحن اكتفينا بهذا النموذج الذي تجسد في الشعر الأندلسي الذي أثر وبقوة في الشعر الاسباني , كما اثر النثر العربي والإسلامي في الآداب الأوربية واكتفينا بالتمثيل لقصة حي بن يقظان .
- المراجع :
- الدكتورة ماجدة حمود : مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن . منشورات اتحاد كتاب العرب ,2000م
- ( الموسوعة الإسلامية : أثر الأدب العربي في تكوين الشعر الأوربي :عبد الرحمن بدوي )
- الدكتور طه ندى : الأدب المقارن , دار النهضة العربية.
- الدكتور الطاهر مكي : الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه ,دار المعارف .