حاميد اليوسفي - الهوى غلاب

* بمناسبة عيد الحب الذي يصادف يوم 14 فبراير من كل سنة


تعود حمادي في بداية فصل الصيف على أن يستيقظ باكرا ، ويذهب إلى المخبزة قبل الساعة السابعة صباحا بقليل ، ليقتني لوازم الفطور .
رغم أن موقع المخبزة وسط حي شعبي ، على مفترق الطرق ، فقد اكتسبت شهرة كبيرة جعلت الناس يقطعون ثلاثة كيلومترات ، أو أكثر من أجل اقتناء الخبز والحلويات .
صاحب المخبزة رجل خمسيني ، يرتدي جلبابا رماديا شفافا ، وتغطي لحية خفيفة شديدة السواد وجهه الأسمر .
قيل بأنه سلفي يدير العديد من المخابز التي تحمل نفس الاسم بالمدينة .
وضع حمادي دراجته أمام الباب ، وصعد حوالي أربع درجات ليدلف إلى الداخل . ومن عادته أن يلتفت باستمرار إلى المكان الذي وضع فيه الدراجة ، خوفا من أن تُسرق في غفلة منه .
فجأة اقتحمت المخبزة امرأة في الثلاثينات من عمرها ، يغطي كحل شديد السواد أهداب رموشها . تعض على شفتها السفلى بغنج أنثوي ، يتقطر حياء ، وكأنها تمثل بإتقان دور مراهقة تسقط في شباك الحب لأول مرة . طول قامتها جعل جسمها لا بدينا ولا نحيفا ، تضع خمارا أسود شفافا على رأسها ، وترتدي لحافا أزرق خفيفا يغطي بقية جسدها ، يشبه لباس السلفيات غير أنه يختلف عنه في إظهار مفاتن جسدها . بدت كأنها نجمة هبطت لتوها من السماء . فعلت بصاحب المخبزة ما فعلت مليحة مسكين الدرامي بالناسك المتعبد ، فقام مشدوها من مكانه ، وكأنهما على موعد . طرد أحد العمال إلى الداخل ، وبادلها تحية الصباح ، وهو يضع يديه على صدره . وبدأ يلبي طلباتها بنفسه . وبدلا من أن يأتي لها بالطلبات دفعة واحدة ، عمل على تقديمها بالتقسيط ، حتى يظفر ببقائها في المخبزة أطول مدة ممكنة .
سلبت منه دينه ويقينه ، فبدا الرجل مرتبكا ، وليس على حاله كما يقول المغاربة .
في الجهة الأخرى قدم أحد العمال ، وسأل حمادي عن طلباته ، فلباها بسرعة .
وهو يتابع المشهد عن قرب ، خمّن بأن (الجنّية)* تتعمد إحراج السلفي لهزمه ، وإخراجه من جلبابه ، وأنها ليست المرة الأولى التي تأتي فيها إلى المخبزة في هذا الوقت .
أخذت طلباتها ، وعرجت على الباب . ردت عليه صلاته وصيامه بطريقتها الخاصة ، فأطلقت آخر رصاصة ، وهي تنزل الدرج ، وترفع الثوب عن ساقيها ، مثل ما فعلت الملكة بلقيس عندما دخلت قصر النبي سليمان عليه السلام . ركبت سيارتها واختفت في أحد أزقة الحي المجاور .
جسمها البض ، وشكلها وحركاتها المتناغمة توحي بأنها تشتغل راقصة في أحد الملاهي الليلية ، ولا تعود إلى البيت إلا في فترة الصباح .
وهو في طريق العودة ، تذكر نجيب محفوظ ، والسيد أحمد عبد الجواد* رحمهما الله ، وقال في نفسه :
ـ مهما تطرف الناس ، وبالغوا في مظاهر التدين ، فإن الهوى غلاب .

المعجم :
ـ السيد أحمد عبد الجواد : بطل الجزء الأول من الثلاثية لنجيب محفوظ

مراكش 30 أبريل 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...