هذه وريقات قصدت أن أبحر فيها قدر المستطاع بعيدا عن بحور السياسة ، رغم غرابة هذا فى سيرة رجل كرس حياته فى هذا الميدان . الا أن عذرى أن المهمة أضخم من قدراتى ، ولهذا آثرت أن تجىء كلماتى عفو الخاطر وأكثر تلقائية علها تضىء بعض جوانب شخصية عبد الخالق محجوب .
فى مدارج طفولته ، عاش عبد الخالق عالمه الصغير كواحد من أقرانه سواء بسواء فى لعبهم ولهوهم وحيويتهم الدافقة . وصادف أن قامت عبر هذا روابط مع بعضهم امتدت حقب من الزمن. فى حى العرب ، فى تلك الفترة ، حيث استقر المقام بجدته آمنة بت على ، كان عبد الخالق يتوجه مع شقيقه الأكبر عثمان لقضاء نهاية الاسبوع معها .
وكان بين جيران جدته فى حى العرب ، العم صافى الدين ، والعم عبدالعزيز ، والد الشاعر سيد عبدالعزيز . لعب عبدالخالق كرة "الشراب" مع الجنيد صافى الدين ، الذى أصبح فيما بعد لاعبا مشهورا فى فريق المريخ فى الخمسينات (القرن الماضى) . وظلت علاقتهما متينة لأمد من الزمن . وربما يكون ذلك سببا فى أن عبدالخالق كان مريخى الميول ، رغم أنه لم يكن يرتاد دور الرياضة . ومن الطريف أن والده ، محجوب عثمان ، كان من الأعضاء المؤسسين لنادى الهلال . ولم يبتعد عن النادى الا فى منتصف الخمسينات .
فى منتصف الستينات ، أيام الحكم العسكرى للفريق عبود ، تم اعتقال زعماء المعارضة السودانية وابعادهم الى الى جوبا ، حيث وضعوا رهن الاعتقال فى احدى ثكنات الجيش. وقد قرأت فى جريدة الزمان فى سنى مابعد انتفاضة مارس/أبريل مع العم عبدالرحمن شاخور ، قطب المريخ المعروف . ذكر فيه أن الراديو الوحيد داخل المعتقل كان بحوزة السيد اسماعيل الأزهرى . وقد أسر عبدالخالق للعم شاخور ذات مرة بأن هنالك مبارة ستقام مساء نفس اليوم بين فريقى الهلال والمريخ . وقد تمكن شاخور بطريقة ما من الاستحواز على جهاز الراديو من الزعيم الأزهرى لمتابعة المباراة بصحبة عبدالخالق . واكتملت سعادتهم بفوز المريخ . وعلق شاخور بأن عبد الخالق لو لم تشغله السياسة لكان مريخيا "على السكين" .
فى حلى السيد المكى، حيث تسكن الأسرة ، كانت طبول الطائفة الاسماعيلية تملىء الآفاق أمسية كل خميس , ةتزدحم حلقات الذكر ، وتقام فى حلقتهم كل عام ، حولية العارف بالله ، الشيخ اسماعيل الولى . وقد استأثرت تلك المناسبات بقلوب المريدين . وكان أطفال الحى ومن بينهم عبدالخالق أسعد الناس بهذه الأمسيات الروحية العامرة . كذلك كانت احتفالات المولدالنبوى ، التى تمتد لاحد عشر يوما ، بجامع الخليفة عبدالله . ولنا أن نتساءل عن مدى التأثير التى خلفته النشأة الباكرة فى مثل تلك الأجواء الروحية والاجتماعية على شخصية عبدالخالق فى مستقبل أيامه حيث انبرى لفهم مشكلات الوطن المستعصية وتقديم بعض الحلول لها .
فى احدى المناسبات سألنى صديق لنا ، ان كانت تسمية عبد الخالق قد تمت تيمنا بعبدالخالق ثروت ، رئيس وزراء مصر عام 1922 ، بعد نفى سعد زغلول وبعض أعضاء حزب الوفد فى عام 1919 . وكان عبدالخالق ثروت من كبار الباشوات فى مصر وضمن أكثر اقطاعييها ثراءا وعسفا بفلاحيها . ولكن فى حقيقة الأمر ، أن والدنا قد سماه تمجيدا لأحد المآمير المصريين العاملين فى السودان فى تلك الفترة . وكان شجاعا، شهما ، ووطنيا غيورا . وفى عهده خرجت أول مظاهرة سودانية ضد الاستعمار الانجليزى فى مدينة أمدرمان . وقد أبدى المأمور عبدالخالق حسن حسين تعاطفا وتأييدا للحركة الوطنية السودانية الناهضة . وكان لموقفه دلالة على عمق مشاعر الصلة والتضامن بين نضال شعبى مصر والسودان . وبنفس القدر الذى قصد به والدنا تمجيد المأمور المصرى ، كان عبد الخالق محجوب شديد الوفاء للمناضل عرفات محمد عبد الله حيث أسس بعد ثورة اكتوبر مجلة اسبوعية أطلق عليها اسم "الفجر الجديد" تخليدا للمبادرة الوطنية الكبرى التى استهلها عرفات بتأسيس مجلة "الفجر" ، التى تحولت الى منبر للحركة الفكرية والسياسية فى منتصف الثلاثينات . وكان الموات الثقافى ةالسياسى قد خيم على البلاد منذ هزيمة حركة 1924 .
وعلى ذكر عرفات محمد عبدالله ، فقد كان كثير التردد على بيتنا طلبا للاختفاء من ملاحقة قلم الاستخبارات ، أى جهاز الأمن فى عهد الاستعمار . غير أنى غير متأكد من ان شيئا من ذلك قد علق بذهن عبدالخالق وهو لم يزل فى ميعة الصبى .
ولد عبد الخالق فى يوم 23 سبتمبر 1927 . وبدأ مسيرته التعليمية بخلوة الشيخ اسماعيل بجوار منزلنا فى حى المكى . حفظ القرآن وتعلم مبادىء اللغة والنحو الواضح . ومن ثم انتقل الى مدرسة الهداية الأولية وقد أسسها المربى الجليل الشيخ الطاهر الشبلى (والد نقيب المحامين الأسبق أمين الشبلى) . ومنها انتقل الى مدرسة أمدرمان الوسطى، المعروفة بالمدرسة الأميرية .
حدثنى شقيقى ، على محجوب الذى سار فى خطى عبدالخالق فى المراحل التعليمية وهو أصغر منه سنا ببضعة أعوام أن عبدالخالق منذ نعومة أظفاره ، حباه الله بذكاء ملحوظ ، وهكذا ظل متفوقا فى كل مراحل دراسته . وفى المرحلة الثانوية شهد له أساتذته بنبوغ مبكر . وفى تلك المرحلة أيضا كان له أستاذ أسمه مستر كرايتون ، متخصص فى اللغة والأدب الانجليزي . وقد كرر مرارا أمام طلابه أن عبد الخالق من الكفاءة وامتلاك ناصية اللغة والأدب الأنجليزى التى تمكنه من تدريسها . فقد انهمك عبدالخالق فى دراسة روائع الأدب والشعر الانجليزى التى تضمنت روايات شكسبير وأشعار شيلى وأليوت وكيتس وغيرهم من العمالقة . ومثل هذه الشهادة والتقدير جاءت على لسان آخرين منهم أستاذ التاريخ هولت المعروف لمعظم السودانيين . وعلى ذكرتفوقه الأكاديمى وسعة اطلاعه ، لا بأس من الاشارة الى أن عبد الخالق قد بعد اكمال المرحلة الثانوية ، جلس لامتحان شهادة كمبردج فى سنة 1945 وأحرز درجة الامتياز فى كل المواد التى أداها وهى اللغة العربية والرياضيات واللغة الانجليزية والكيمياء والفيزياء والأحياء والجغرافيا والتاريخ .
كذلك حدثنى شقيقى على محجوب أن موضوع الانشاء الانجليزية كان
وقد تناول عبدالخالق الموضوع متنقلا من طفولته وصباه The Changing Sky
ومطلع شبابه والتغيرات التى طرأت على حياته وأفكاره ومايترجاه فى مستقبل أيامه . هذه الواقعة على بساطتها قصدت ايرادها لالقاء الضوء على شخصية عبدالخالق وملكاتها العالية في تلك المرحلة المبكرة واطلاقه العنان لخواطره التى لاتحدها آفاق .
وفى هذا السياق أستصحب ماكتبه الدكتور محمد سعيد القدال فى كتيبه "ذكريات معتقل فى سجون السودان" حيث يقول : سألت عبد الخالق محجوب عن الطريقة التى اتبعها فى تحمل وطأة الحبس الانفرادى التى تعرض لها ، حيث يتم عزل المعتقل عزلا تاما عن كل مظاهر الحياة ، فلا مذياع ولا كتاب ولا أدوات للكتابة . فقال بأنه كان يستلقى على ظهره ويأخذ فى كتابة مقال أو قصة فى ذهنه ويعود المرة تلو المرة لمراجعة فقراتها وتجويدها. ومن ثم ينتقل الى مهمة مماثلة كرياضة لصون الذهن والبدن من أهوال الحبس الانفرادى . ولشدة انغماسه فى ينابيع الأدب الأنجليزى أكاد أجزم بأن عبدالخالق لو لم يكرس حياته لخدمة الاشتراكية وبناء الحزب الشيوعى فى السودان لأصبح أديبا يتعدى أسهامه حدود السودان . فقد تلازمت ملكته فى اللغة والأدب الانجليزى مع عناية فائقة باللغة العربية ودراسة الشعر العربى .
كان والدنا ، كما هو حال كل الأباء ، يتطلع الى أن يلتحق عبد الخالق بالخدمة العامة فى جهاز الدولة ، وهو آنذاك أقصى مايطمح اليه المرء حيث الأمتيازات والسطوة التى تأتى فى طيات مناصب الخدمة المدنية . غير أن صديق والدنا الشاعر المعروف أحمد محمد صالح ، الذى عمل آنذاك كمدير بوزارة المعارف ، كأول سودانى يحتل ذلك المنصب الرفيع فى ظل الادارة اليريطانية. وقد أختير فيما يعد عضوا بأول مجلس للسيادة . كان للعم أحمد محمد صالح الفضل فى اقناع والدى بايفاد عبدالخالق لمواصلة دراسته فى المملكة المتحدة نظرا لما أظهره عبدالخالق من تفوق علمى . وقبل ذلك كان عبدالخالق قد التحق بكلية الخرطوم الجامعية وغادرها لضعف الامكانات المتاحة لها آنذاك . ومن ثم سافر للقاهرة والتحق بجامعة فؤاد الأول ، التى تحول اسمها لاحقا الى جامعة القاهرة . مكث عبدالخالق لمدة ثلاثة أعوام قبل أن يضطره المرض من العودة مبكرا الى السودان . وخلال سنى دراسته فى القاهرة قام بترجمة كتاب "الأدب فى عصر العلم" للكاتب الانجليزى هيمان ليفى . وسنعود فى سياق لاحق لتناول فترة دراسته واقامته فى الخرطوم نسبة لتأثيرها العظيم فى مسار حياته السياسية . عاد عبدالخالق الى السودان وقد توثقت صلته السياسية والفكرية مع أبر قادة الحركة الشيوعية المصرية . وأهم من ذلك تعززت صلته مع نفر من الطلاب السودانيين الذين وفدوا القاهرة للدراسة . ومن بين هذه الكوكبة تكونت النواة الأساسية للحركة السودانية للتحرر ، المعروفة اختصارا باسم "حستو" . وقد تحول اسمها فيما بعد الى "الحزب الشيوعى السودانى" . ويجدر هنا أن نذكر بأن عبدالخالق بعد أن قفل راجعا من القاهرة ، حل ضيفا على عمال السكك الحديدية فى عطبرة . وكان لتواجده بينهم أثر عظيم على مستقبل الحركة الوطنية فى السودان ، حيث تمكن من جذب طلائع العمال ومن بينهم قاسم أمين والشفيع والحاج عبدالرحمن والجزولى سعيد وابراهيم زكريا وغيرهم ممن تولووا قيادة الحركة العمالية والسياسية لحقب قادمة .
وأعود ثانية لصلتى بشقيقى عبدالخالق ، فالحق يقال بأننى لم أتلق توجيها عقائديا لحملى على تتبع خطاه . وقد حددت مسارى وانتمائى للحزب الشيوعى لاحقا طواعية واختيارا . وكان حفيا ، ودودا ، شديد العناية باحترام حقى فى التطور كانسان مستقل . وامتدادا للحديث عن بعض جوانب صلتى بعبد الخالق ، أذكر بأنه عند عودته من مصر فى عام 1947 قام عبدالخالق بالحاقى بمدرسة حى العرب الابتدائية التى ضمت آنذاك أساتذة أفذاذ أذكر من بينهم آدم أبوسنينة ، الذى عمل فى أول جمعية للسلام فى السودان . وخرج مطاردا الى باريس نتيجة لنشاطه الواسع الذى أقض مضجع المخابرات البريطانية . ومن بين أولئك الأساتذة أيضا أحمد محمد خير الذى عمل لفترة من الزمن كمندوب للحزب فى مقر مجلس السلم العالمى فى فيينا .
فى تلك الأيام ، أذكر تماما بأننى كنت كثيرا عند بزوغ الشمس أحمل أوراقا من عبدالخالق الى المناضل الراحل جعفر أبوجبل فى منزلهم بحى بيت المال . وكنت شديد الاعتزاز والزهو بأداء تلك المهمة المحفوفة بالمخاطر ، وأنا أعلم بأن تلك الأوراق على قدر كبير من الأهمية . وبعد انجاز كل مهمة كنت أشعر بأننى قد أحرزت نصرا على جهاز المخابرات الانجليزية .
غير أن الأثر الباقى على مر الأيام ، هى الرابطة الثقافية التى نشأت بينى وأخى عبد الخالق . وقد كانت أخصب مراحل تلك الصلة عندما كنا سجينين ، (كنت أقضى فترة السجن مدى الحياة لاشتراكى فى انقلاب الشهيد البكباشى على حامد فى عام 1959 وكان عبدالخالق آنذاك معتقلا بالسجن المركزى وهو واحد من عدة اعتقالات قضاها متنقلا بين سجون السودان من كوبر الى زالنجى وجوبا ) . كانت رسائل عبد الخالق لى ، والكتب التى يوصى أهلى بارسالها لى من مكتبته الخاصة ، حبل وثيق للتواصل لم ينقطع . وطوال فترة سجنى التى امتدت الى خمس سنوات قبل اندلاع ثورة اكتوبر واطلاق سراحنا ، بعث الى ببعض من أمهات الكتب أذكر منها البيان والتبيين ، والحيوان ، والبخلاء للجاحظ ، شرح ابن عقيل (النحو وقواعد اللغة العربية) ، مقدمة ابن خلدون ، مجموعة قصص تشيكوف ومكسيم جوركى ، ايليا اهدنبرج ودوريث لسينج ، سومرت موم ومجموعة كتاب أمريكيين منهم وولت ويتمان (شاعر أمريكى) وكذلك كتاب فرانس فانون "المعذبون فى الأرض".
ومن الناحية الاجتماعية كانت لعبد الخالق وشائج اجتماعية وثيقة مع اناس من مختلف الطوائف والأحزاب والطبقات . وأذكر من بين أعز أصدقائه المرحوم أحمد داؤود ، وكانت له صيدلية قرب نادى الخريجيين . وقد تأثر أيما تأثر لاغتيال عبدالخالق . وكذلك من بين أصدقائه عبدالله محمد فرح ، الذى مازال يحتفظ بأطيب المشاعر نحو عبدالخالق . وكذلك أصدقاؤه عبد الله عبدالوهاب ، من أبناء دفعته فى المرحلة الثانوية ، والمهندس أحمد عمر خلف الله الذى يعمل فى الأمارات والدكتور أحمد حسن آدم (شقيق النقابى المناضل السر حسن آدم من عطبرة) وفى هذا الصدد نشير الى الصداقة الحميمة بين عبدالخالق والأستاذ عبدالكريم ميرغنى ومحمود بابكر بدرى والأستاذ محمد داؤود الذى لازم عبدالخالق خلال سنى الدراسة والنضال فى مصر وتولى فيما بعد مناصب رفيعة فى مصلحة التعاون . كذلك أذكر الدكتور عبدالغفار عبدالرحيم وهو صديق عبد الخالق فى الحى والدراسة . ومن بين أصدقائه الأقربين وجيرانه أيضا مولانا ميرغنى مبروك الذى أصبح رئيسا للقضاء أبان فترة الانتفاضة . ومن أبناء دفعته وأصدقائه العديدين أذكر فاروق ميرغنى شكاك وأحمد اسماعيل النضيف والمرحوم د. ابراهيم الشبلى والقائمة طويلة لايتسع الحيز لحصرها.
ومما يذكره شقيقى على محجوب أن الأستاذ أبراهيم نور وكان من أصدقاء عبدالخالق الأثيرين حكى فى جلسة بمنزل الأستاذ عبدالكريم ميرغنى – طيب الله ثراه – ذكر الأستاذ نور أنه فى احدى زياراته لانجلترا ، التقى بمستر كرايتون وهو من أساتذة عبدالخالق الذين أوردنا ذكرهم آنفا ، سأل عن عبدالخالق – بعد يوليو 1971 – وقد هزه هول ماذكر بأن السفاح نميرى قد دفع بعبدالخالق الى حبل المشنقة – وعلق على ذلك "ألم يكن من الأجدر الأبقاء على حياة رجل فى قامة عبدالخالق وعلمه و فكره الثاقب لدفع عجلة التطور فى بلدكم " .ومثل هذه كثير ما سمعناها من أساتذته السابقين وكل الذين تعرفوا عليه من كثب . ويجمعون جل هؤلاء بأن عبدالخاق لم يكن فقدا لأسرته وعائلته بل كان فقدا عظيما للوطن . ونذكر من بين هؤلاء صديق والدنا الأستاذ الراحل أحمد محمد صالح ، والأستاذ بشير عبادى ، والأستاذ خالد موسى ، والأستاذ أمين زيدان أستاذ الرياضيات المعروف ، وكذلك الأستاذ الطيب شبيكة الذى درس عبدالخالق فى المرحلة الوسطى وكذلك معلم الأجيال الأستاذ الصائم محمد ابراهيم .
ويواصل شقيقنا على أنه فى أبريل 1970 قام بزيارة عبدالخالق حيث كان مبعدا فى القاهرة ، وقضى معه نحو عشرين يوما ويذكر بأن من بين الذين قاموا بزيارة عبدالخالق فى منفاه ، الأستاذ أمين الشبلى المحامى . وكان يتردد عليه الكاتب المصرى المعروف عبدالرحمن الشرقاوى كما لازمه طوال فترة منفاه الأستاذ الصحفى والكاتب المعروف أحمد حمروش . كذلك لم ينقطع عن زيارت العديد من رفقاء نضاله فى مصر أمثال زكى مراد والأستاذ محمود أمين العالم . ويجدر هنا الى أن صلة سياسية وشخصية متينة قد ألفت بين عبدالخالق والرئيس الراحل جمال عبدالناصر . وقد توثقت هذه الصلة بواسطة المناضل المصرى ، أحمد فؤاد وكان عضوا فى منظمة "حدتو" الشيوعية وكان قاضيا ، وهو الذى أسس لعبد الناصر صلة بحدتو قبل قيام ثورة يوليو وتولى تنسيق المساعدة لحركة الضباط الأحرار بطبع بياناتهم السرية وتوزيعها ، وكان اسم عبدالناصر الحركى هو "موريس" ، وقد درج على على الحضور بسياره ليتسلم المطبوعات السرية وتوصيلها الى خلايا تنظيم الضباط الأحرار .
كان الرئيس عبدالناصر يسارع الى دعوة عبدالخالق فى كل مرة يحل فيها على القاهرة ، ويتبادل الرجلان الآراء فى شئون السياسة وخاصة العلاقات المصرية - السوفيتية التى توطدت آنذاك ، خاصة الجوانب المتعلقة بالعمران الاقتصادى والعسكرى لمصر.
لقد كانت تجربة العمل الحزبى الشيوعى شديدة الوطأة على طلائع الشباب الذين انخرطوا فيه بتضحيات عالية . فالفكرة فى حد ذاتها كانت جديدة وعصية بمعنى ما فى مجتمع تقليدى تتحكمه النزعات الدينية وقوة العادات التليدة ، وكل ماينجم عن التخلف والجهل المتفشى فى المجتمع طولا وعرضا ، مما سهل من مهمة الادارة البريطانية فى رسم صورة شيطانية وكالحة عن الفكر الشيوعى ، لاستثارة المشاعر الدينية المتأصلة ووصم الشيوعية بأنها تسعى الى الغاء الدين ونشر التحلل الخلقى ونسف القيم الفاضلة .
سئل الفريق ابراهيم عبود مرة عن سر معاداته للشيوعية . فكان رده لأن هؤلاء يعملون فى الظلام ، وهذه عينة من الانطباعات التى تصم الشيوعين أنهم أشباح تتحرك فى الظلام . وبالرغم من أن مثل هذه الأفكار تبدو على قدر من السذاجة والابتزال الا أنها كانت من بين الصعوبات التى دفع الشيوعيون ولازالوا جهدا وتضحية عالية لدحضها وكشف خوائها وسوء قصدها . وعبدالخالق ، على سبيل المثال كان متيقظا ومفرطا فى احترام مشاعر عامة الناس ومثابرا فى الكتابة والحديث عن تجربته وكثيرين ممن تبنوا الأفكار الشيوعية . (أرجو أن يجد القارىء سبيلا الى قراءة مقالته الرصينة بعنوان "كيف أصبحت شيوعيا" ومقالته عن الشيوعية والدين) وخلاصة ماذكره بأنهم اهتدوا للفكر الشيوعى بعد عناء وكد فى البحث عن أكثر الأفكار مضاءا فى فهم طبيعة الاستعمار وسبل مكافحته وفيما بعد أجدى النظريات العلمية لحل معضلات التنمية والحكم .
لقد عاش عبدالخالق حياة حافلة بالعمل والتجرد وكان أخا كريما لنا ، رقيق الحواشى ، حفيا بنا وأسرته وأصدقائه العديدين . وكان مهموما بهموم الوطن ينام ويستيقظ عليه . أرجو أن يوفيه الوطن حقه بحسبانه واحدا من أبر أبنائه به . وفى استشهاده العظيم كتب الشاعر محمد الفيتورى :
لا تحفروا لى قبرا
سأرقد فى كل شبر من الأرض
أرقد كالماء فى جسد النيل
أرقد كالشمس فى حقول بلادى
فمثلى لا سكن قبرا
فى مدارج طفولته ، عاش عبد الخالق عالمه الصغير كواحد من أقرانه سواء بسواء فى لعبهم ولهوهم وحيويتهم الدافقة . وصادف أن قامت عبر هذا روابط مع بعضهم امتدت حقب من الزمن. فى حى العرب ، فى تلك الفترة ، حيث استقر المقام بجدته آمنة بت على ، كان عبد الخالق يتوجه مع شقيقه الأكبر عثمان لقضاء نهاية الاسبوع معها .
وكان بين جيران جدته فى حى العرب ، العم صافى الدين ، والعم عبدالعزيز ، والد الشاعر سيد عبدالعزيز . لعب عبدالخالق كرة "الشراب" مع الجنيد صافى الدين ، الذى أصبح فيما بعد لاعبا مشهورا فى فريق المريخ فى الخمسينات (القرن الماضى) . وظلت علاقتهما متينة لأمد من الزمن . وربما يكون ذلك سببا فى أن عبدالخالق كان مريخى الميول ، رغم أنه لم يكن يرتاد دور الرياضة . ومن الطريف أن والده ، محجوب عثمان ، كان من الأعضاء المؤسسين لنادى الهلال . ولم يبتعد عن النادى الا فى منتصف الخمسينات .
فى منتصف الستينات ، أيام الحكم العسكرى للفريق عبود ، تم اعتقال زعماء المعارضة السودانية وابعادهم الى الى جوبا ، حيث وضعوا رهن الاعتقال فى احدى ثكنات الجيش. وقد قرأت فى جريدة الزمان فى سنى مابعد انتفاضة مارس/أبريل مع العم عبدالرحمن شاخور ، قطب المريخ المعروف . ذكر فيه أن الراديو الوحيد داخل المعتقل كان بحوزة السيد اسماعيل الأزهرى . وقد أسر عبدالخالق للعم شاخور ذات مرة بأن هنالك مبارة ستقام مساء نفس اليوم بين فريقى الهلال والمريخ . وقد تمكن شاخور بطريقة ما من الاستحواز على جهاز الراديو من الزعيم الأزهرى لمتابعة المباراة بصحبة عبدالخالق . واكتملت سعادتهم بفوز المريخ . وعلق شاخور بأن عبد الخالق لو لم تشغله السياسة لكان مريخيا "على السكين" .
فى حلى السيد المكى، حيث تسكن الأسرة ، كانت طبول الطائفة الاسماعيلية تملىء الآفاق أمسية كل خميس , ةتزدحم حلقات الذكر ، وتقام فى حلقتهم كل عام ، حولية العارف بالله ، الشيخ اسماعيل الولى . وقد استأثرت تلك المناسبات بقلوب المريدين . وكان أطفال الحى ومن بينهم عبدالخالق أسعد الناس بهذه الأمسيات الروحية العامرة . كذلك كانت احتفالات المولدالنبوى ، التى تمتد لاحد عشر يوما ، بجامع الخليفة عبدالله . ولنا أن نتساءل عن مدى التأثير التى خلفته النشأة الباكرة فى مثل تلك الأجواء الروحية والاجتماعية على شخصية عبدالخالق فى مستقبل أيامه حيث انبرى لفهم مشكلات الوطن المستعصية وتقديم بعض الحلول لها .
فى احدى المناسبات سألنى صديق لنا ، ان كانت تسمية عبد الخالق قد تمت تيمنا بعبدالخالق ثروت ، رئيس وزراء مصر عام 1922 ، بعد نفى سعد زغلول وبعض أعضاء حزب الوفد فى عام 1919 . وكان عبدالخالق ثروت من كبار الباشوات فى مصر وضمن أكثر اقطاعييها ثراءا وعسفا بفلاحيها . ولكن فى حقيقة الأمر ، أن والدنا قد سماه تمجيدا لأحد المآمير المصريين العاملين فى السودان فى تلك الفترة . وكان شجاعا، شهما ، ووطنيا غيورا . وفى عهده خرجت أول مظاهرة سودانية ضد الاستعمار الانجليزى فى مدينة أمدرمان . وقد أبدى المأمور عبدالخالق حسن حسين تعاطفا وتأييدا للحركة الوطنية السودانية الناهضة . وكان لموقفه دلالة على عمق مشاعر الصلة والتضامن بين نضال شعبى مصر والسودان . وبنفس القدر الذى قصد به والدنا تمجيد المأمور المصرى ، كان عبد الخالق محجوب شديد الوفاء للمناضل عرفات محمد عبد الله حيث أسس بعد ثورة اكتوبر مجلة اسبوعية أطلق عليها اسم "الفجر الجديد" تخليدا للمبادرة الوطنية الكبرى التى استهلها عرفات بتأسيس مجلة "الفجر" ، التى تحولت الى منبر للحركة الفكرية والسياسية فى منتصف الثلاثينات . وكان الموات الثقافى ةالسياسى قد خيم على البلاد منذ هزيمة حركة 1924 .
وعلى ذكر عرفات محمد عبدالله ، فقد كان كثير التردد على بيتنا طلبا للاختفاء من ملاحقة قلم الاستخبارات ، أى جهاز الأمن فى عهد الاستعمار . غير أنى غير متأكد من ان شيئا من ذلك قد علق بذهن عبدالخالق وهو لم يزل فى ميعة الصبى .
ولد عبد الخالق فى يوم 23 سبتمبر 1927 . وبدأ مسيرته التعليمية بخلوة الشيخ اسماعيل بجوار منزلنا فى حى المكى . حفظ القرآن وتعلم مبادىء اللغة والنحو الواضح . ومن ثم انتقل الى مدرسة الهداية الأولية وقد أسسها المربى الجليل الشيخ الطاهر الشبلى (والد نقيب المحامين الأسبق أمين الشبلى) . ومنها انتقل الى مدرسة أمدرمان الوسطى، المعروفة بالمدرسة الأميرية .
حدثنى شقيقى ، على محجوب الذى سار فى خطى عبدالخالق فى المراحل التعليمية وهو أصغر منه سنا ببضعة أعوام أن عبدالخالق منذ نعومة أظفاره ، حباه الله بذكاء ملحوظ ، وهكذا ظل متفوقا فى كل مراحل دراسته . وفى المرحلة الثانوية شهد له أساتذته بنبوغ مبكر . وفى تلك المرحلة أيضا كان له أستاذ أسمه مستر كرايتون ، متخصص فى اللغة والأدب الانجليزي . وقد كرر مرارا أمام طلابه أن عبد الخالق من الكفاءة وامتلاك ناصية اللغة والأدب الأنجليزى التى تمكنه من تدريسها . فقد انهمك عبدالخالق فى دراسة روائع الأدب والشعر الانجليزى التى تضمنت روايات شكسبير وأشعار شيلى وأليوت وكيتس وغيرهم من العمالقة . ومثل هذه الشهادة والتقدير جاءت على لسان آخرين منهم أستاذ التاريخ هولت المعروف لمعظم السودانيين . وعلى ذكرتفوقه الأكاديمى وسعة اطلاعه ، لا بأس من الاشارة الى أن عبد الخالق قد بعد اكمال المرحلة الثانوية ، جلس لامتحان شهادة كمبردج فى سنة 1945 وأحرز درجة الامتياز فى كل المواد التى أداها وهى اللغة العربية والرياضيات واللغة الانجليزية والكيمياء والفيزياء والأحياء والجغرافيا والتاريخ .
كذلك حدثنى شقيقى على محجوب أن موضوع الانشاء الانجليزية كان
وقد تناول عبدالخالق الموضوع متنقلا من طفولته وصباه The Changing Sky
ومطلع شبابه والتغيرات التى طرأت على حياته وأفكاره ومايترجاه فى مستقبل أيامه . هذه الواقعة على بساطتها قصدت ايرادها لالقاء الضوء على شخصية عبدالخالق وملكاتها العالية في تلك المرحلة المبكرة واطلاقه العنان لخواطره التى لاتحدها آفاق .
وفى هذا السياق أستصحب ماكتبه الدكتور محمد سعيد القدال فى كتيبه "ذكريات معتقل فى سجون السودان" حيث يقول : سألت عبد الخالق محجوب عن الطريقة التى اتبعها فى تحمل وطأة الحبس الانفرادى التى تعرض لها ، حيث يتم عزل المعتقل عزلا تاما عن كل مظاهر الحياة ، فلا مذياع ولا كتاب ولا أدوات للكتابة . فقال بأنه كان يستلقى على ظهره ويأخذ فى كتابة مقال أو قصة فى ذهنه ويعود المرة تلو المرة لمراجعة فقراتها وتجويدها. ومن ثم ينتقل الى مهمة مماثلة كرياضة لصون الذهن والبدن من أهوال الحبس الانفرادى . ولشدة انغماسه فى ينابيع الأدب الأنجليزى أكاد أجزم بأن عبدالخالق لو لم يكرس حياته لخدمة الاشتراكية وبناء الحزب الشيوعى فى السودان لأصبح أديبا يتعدى أسهامه حدود السودان . فقد تلازمت ملكته فى اللغة والأدب الانجليزى مع عناية فائقة باللغة العربية ودراسة الشعر العربى .
كان والدنا ، كما هو حال كل الأباء ، يتطلع الى أن يلتحق عبد الخالق بالخدمة العامة فى جهاز الدولة ، وهو آنذاك أقصى مايطمح اليه المرء حيث الأمتيازات والسطوة التى تأتى فى طيات مناصب الخدمة المدنية . غير أن صديق والدنا الشاعر المعروف أحمد محمد صالح ، الذى عمل آنذاك كمدير بوزارة المعارف ، كأول سودانى يحتل ذلك المنصب الرفيع فى ظل الادارة اليريطانية. وقد أختير فيما يعد عضوا بأول مجلس للسيادة . كان للعم أحمد محمد صالح الفضل فى اقناع والدى بايفاد عبدالخالق لمواصلة دراسته فى المملكة المتحدة نظرا لما أظهره عبدالخالق من تفوق علمى . وقبل ذلك كان عبدالخالق قد التحق بكلية الخرطوم الجامعية وغادرها لضعف الامكانات المتاحة لها آنذاك . ومن ثم سافر للقاهرة والتحق بجامعة فؤاد الأول ، التى تحول اسمها لاحقا الى جامعة القاهرة . مكث عبدالخالق لمدة ثلاثة أعوام قبل أن يضطره المرض من العودة مبكرا الى السودان . وخلال سنى دراسته فى القاهرة قام بترجمة كتاب "الأدب فى عصر العلم" للكاتب الانجليزى هيمان ليفى . وسنعود فى سياق لاحق لتناول فترة دراسته واقامته فى الخرطوم نسبة لتأثيرها العظيم فى مسار حياته السياسية . عاد عبدالخالق الى السودان وقد توثقت صلته السياسية والفكرية مع أبر قادة الحركة الشيوعية المصرية . وأهم من ذلك تعززت صلته مع نفر من الطلاب السودانيين الذين وفدوا القاهرة للدراسة . ومن بين هذه الكوكبة تكونت النواة الأساسية للحركة السودانية للتحرر ، المعروفة اختصارا باسم "حستو" . وقد تحول اسمها فيما بعد الى "الحزب الشيوعى السودانى" . ويجدر هنا أن نذكر بأن عبدالخالق بعد أن قفل راجعا من القاهرة ، حل ضيفا على عمال السكك الحديدية فى عطبرة . وكان لتواجده بينهم أثر عظيم على مستقبل الحركة الوطنية فى السودان ، حيث تمكن من جذب طلائع العمال ومن بينهم قاسم أمين والشفيع والحاج عبدالرحمن والجزولى سعيد وابراهيم زكريا وغيرهم ممن تولووا قيادة الحركة العمالية والسياسية لحقب قادمة .
وأعود ثانية لصلتى بشقيقى عبدالخالق ، فالحق يقال بأننى لم أتلق توجيها عقائديا لحملى على تتبع خطاه . وقد حددت مسارى وانتمائى للحزب الشيوعى لاحقا طواعية واختيارا . وكان حفيا ، ودودا ، شديد العناية باحترام حقى فى التطور كانسان مستقل . وامتدادا للحديث عن بعض جوانب صلتى بعبد الخالق ، أذكر بأنه عند عودته من مصر فى عام 1947 قام عبدالخالق بالحاقى بمدرسة حى العرب الابتدائية التى ضمت آنذاك أساتذة أفذاذ أذكر من بينهم آدم أبوسنينة ، الذى عمل فى أول جمعية للسلام فى السودان . وخرج مطاردا الى باريس نتيجة لنشاطه الواسع الذى أقض مضجع المخابرات البريطانية . ومن بين أولئك الأساتذة أيضا أحمد محمد خير الذى عمل لفترة من الزمن كمندوب للحزب فى مقر مجلس السلم العالمى فى فيينا .
فى تلك الأيام ، أذكر تماما بأننى كنت كثيرا عند بزوغ الشمس أحمل أوراقا من عبدالخالق الى المناضل الراحل جعفر أبوجبل فى منزلهم بحى بيت المال . وكنت شديد الاعتزاز والزهو بأداء تلك المهمة المحفوفة بالمخاطر ، وأنا أعلم بأن تلك الأوراق على قدر كبير من الأهمية . وبعد انجاز كل مهمة كنت أشعر بأننى قد أحرزت نصرا على جهاز المخابرات الانجليزية .
غير أن الأثر الباقى على مر الأيام ، هى الرابطة الثقافية التى نشأت بينى وأخى عبد الخالق . وقد كانت أخصب مراحل تلك الصلة عندما كنا سجينين ، (كنت أقضى فترة السجن مدى الحياة لاشتراكى فى انقلاب الشهيد البكباشى على حامد فى عام 1959 وكان عبدالخالق آنذاك معتقلا بالسجن المركزى وهو واحد من عدة اعتقالات قضاها متنقلا بين سجون السودان من كوبر الى زالنجى وجوبا ) . كانت رسائل عبد الخالق لى ، والكتب التى يوصى أهلى بارسالها لى من مكتبته الخاصة ، حبل وثيق للتواصل لم ينقطع . وطوال فترة سجنى التى امتدت الى خمس سنوات قبل اندلاع ثورة اكتوبر واطلاق سراحنا ، بعث الى ببعض من أمهات الكتب أذكر منها البيان والتبيين ، والحيوان ، والبخلاء للجاحظ ، شرح ابن عقيل (النحو وقواعد اللغة العربية) ، مقدمة ابن خلدون ، مجموعة قصص تشيكوف ومكسيم جوركى ، ايليا اهدنبرج ودوريث لسينج ، سومرت موم ومجموعة كتاب أمريكيين منهم وولت ويتمان (شاعر أمريكى) وكذلك كتاب فرانس فانون "المعذبون فى الأرض".
ومن الناحية الاجتماعية كانت لعبد الخالق وشائج اجتماعية وثيقة مع اناس من مختلف الطوائف والأحزاب والطبقات . وأذكر من بين أعز أصدقائه المرحوم أحمد داؤود ، وكانت له صيدلية قرب نادى الخريجيين . وقد تأثر أيما تأثر لاغتيال عبدالخالق . وكذلك من بين أصدقائه عبدالله محمد فرح ، الذى مازال يحتفظ بأطيب المشاعر نحو عبدالخالق . وكذلك أصدقاؤه عبد الله عبدالوهاب ، من أبناء دفعته فى المرحلة الثانوية ، والمهندس أحمد عمر خلف الله الذى يعمل فى الأمارات والدكتور أحمد حسن آدم (شقيق النقابى المناضل السر حسن آدم من عطبرة) وفى هذا الصدد نشير الى الصداقة الحميمة بين عبدالخالق والأستاذ عبدالكريم ميرغنى ومحمود بابكر بدرى والأستاذ محمد داؤود الذى لازم عبدالخالق خلال سنى الدراسة والنضال فى مصر وتولى فيما بعد مناصب رفيعة فى مصلحة التعاون . كذلك أذكر الدكتور عبدالغفار عبدالرحيم وهو صديق عبد الخالق فى الحى والدراسة . ومن بين أصدقائه الأقربين وجيرانه أيضا مولانا ميرغنى مبروك الذى أصبح رئيسا للقضاء أبان فترة الانتفاضة . ومن أبناء دفعته وأصدقائه العديدين أذكر فاروق ميرغنى شكاك وأحمد اسماعيل النضيف والمرحوم د. ابراهيم الشبلى والقائمة طويلة لايتسع الحيز لحصرها.
ومما يذكره شقيقى على محجوب أن الأستاذ أبراهيم نور وكان من أصدقاء عبدالخالق الأثيرين حكى فى جلسة بمنزل الأستاذ عبدالكريم ميرغنى – طيب الله ثراه – ذكر الأستاذ نور أنه فى احدى زياراته لانجلترا ، التقى بمستر كرايتون وهو من أساتذة عبدالخالق الذين أوردنا ذكرهم آنفا ، سأل عن عبدالخالق – بعد يوليو 1971 – وقد هزه هول ماذكر بأن السفاح نميرى قد دفع بعبدالخالق الى حبل المشنقة – وعلق على ذلك "ألم يكن من الأجدر الأبقاء على حياة رجل فى قامة عبدالخالق وعلمه و فكره الثاقب لدفع عجلة التطور فى بلدكم " .ومثل هذه كثير ما سمعناها من أساتذته السابقين وكل الذين تعرفوا عليه من كثب . ويجمعون جل هؤلاء بأن عبدالخاق لم يكن فقدا لأسرته وعائلته بل كان فقدا عظيما للوطن . ونذكر من بين هؤلاء صديق والدنا الأستاذ الراحل أحمد محمد صالح ، والأستاذ بشير عبادى ، والأستاذ خالد موسى ، والأستاذ أمين زيدان أستاذ الرياضيات المعروف ، وكذلك الأستاذ الطيب شبيكة الذى درس عبدالخالق فى المرحلة الوسطى وكذلك معلم الأجيال الأستاذ الصائم محمد ابراهيم .
ويواصل شقيقنا على أنه فى أبريل 1970 قام بزيارة عبدالخالق حيث كان مبعدا فى القاهرة ، وقضى معه نحو عشرين يوما ويذكر بأن من بين الذين قاموا بزيارة عبدالخالق فى منفاه ، الأستاذ أمين الشبلى المحامى . وكان يتردد عليه الكاتب المصرى المعروف عبدالرحمن الشرقاوى كما لازمه طوال فترة منفاه الأستاذ الصحفى والكاتب المعروف أحمد حمروش . كذلك لم ينقطع عن زيارت العديد من رفقاء نضاله فى مصر أمثال زكى مراد والأستاذ محمود أمين العالم . ويجدر هنا الى أن صلة سياسية وشخصية متينة قد ألفت بين عبدالخالق والرئيس الراحل جمال عبدالناصر . وقد توثقت هذه الصلة بواسطة المناضل المصرى ، أحمد فؤاد وكان عضوا فى منظمة "حدتو" الشيوعية وكان قاضيا ، وهو الذى أسس لعبد الناصر صلة بحدتو قبل قيام ثورة يوليو وتولى تنسيق المساعدة لحركة الضباط الأحرار بطبع بياناتهم السرية وتوزيعها ، وكان اسم عبدالناصر الحركى هو "موريس" ، وقد درج على على الحضور بسياره ليتسلم المطبوعات السرية وتوصيلها الى خلايا تنظيم الضباط الأحرار .
كان الرئيس عبدالناصر يسارع الى دعوة عبدالخالق فى كل مرة يحل فيها على القاهرة ، ويتبادل الرجلان الآراء فى شئون السياسة وخاصة العلاقات المصرية - السوفيتية التى توطدت آنذاك ، خاصة الجوانب المتعلقة بالعمران الاقتصادى والعسكرى لمصر.
لقد كانت تجربة العمل الحزبى الشيوعى شديدة الوطأة على طلائع الشباب الذين انخرطوا فيه بتضحيات عالية . فالفكرة فى حد ذاتها كانت جديدة وعصية بمعنى ما فى مجتمع تقليدى تتحكمه النزعات الدينية وقوة العادات التليدة ، وكل ماينجم عن التخلف والجهل المتفشى فى المجتمع طولا وعرضا ، مما سهل من مهمة الادارة البريطانية فى رسم صورة شيطانية وكالحة عن الفكر الشيوعى ، لاستثارة المشاعر الدينية المتأصلة ووصم الشيوعية بأنها تسعى الى الغاء الدين ونشر التحلل الخلقى ونسف القيم الفاضلة .
سئل الفريق ابراهيم عبود مرة عن سر معاداته للشيوعية . فكان رده لأن هؤلاء يعملون فى الظلام ، وهذه عينة من الانطباعات التى تصم الشيوعين أنهم أشباح تتحرك فى الظلام . وبالرغم من أن مثل هذه الأفكار تبدو على قدر من السذاجة والابتزال الا أنها كانت من بين الصعوبات التى دفع الشيوعيون ولازالوا جهدا وتضحية عالية لدحضها وكشف خوائها وسوء قصدها . وعبدالخالق ، على سبيل المثال كان متيقظا ومفرطا فى احترام مشاعر عامة الناس ومثابرا فى الكتابة والحديث عن تجربته وكثيرين ممن تبنوا الأفكار الشيوعية . (أرجو أن يجد القارىء سبيلا الى قراءة مقالته الرصينة بعنوان "كيف أصبحت شيوعيا" ومقالته عن الشيوعية والدين) وخلاصة ماذكره بأنهم اهتدوا للفكر الشيوعى بعد عناء وكد فى البحث عن أكثر الأفكار مضاءا فى فهم طبيعة الاستعمار وسبل مكافحته وفيما بعد أجدى النظريات العلمية لحل معضلات التنمية والحكم .
لقد عاش عبدالخالق حياة حافلة بالعمل والتجرد وكان أخا كريما لنا ، رقيق الحواشى ، حفيا بنا وأسرته وأصدقائه العديدين . وكان مهموما بهموم الوطن ينام ويستيقظ عليه . أرجو أن يوفيه الوطن حقه بحسبانه واحدا من أبر أبنائه به . وفى استشهاده العظيم كتب الشاعر محمد الفيتورى :
لا تحفروا لى قبرا
سأرقد فى كل شبر من الأرض
أرقد كالماء فى جسد النيل
أرقد كالشمس فى حقول بلادى
فمثلى لا سكن قبرا