عند السابعة من كل صباح تحديدًا تمرّ سيارتنا من شارع مؤسسات الامام الصدر في صور متجهة نحو البازورية القرية التي تضم الى جانب البيوتات المعتقة بدماء المقاومين وزهر الليمون وطيف الهليون والحمضيات والمقاهي التي تحفظ أسرار المسنين ومغامراتهم ومنافساتهم في برتيّة الورقة على عزيمة شاي أو قهوة ... مدرستي التي خرجتُ اليها من عالم المدارس الارسالية اليها حيث الغابة التي لا بقاء فيها الا للأقوى والأدهى والأجدر بالتنمر وسواها...لم تكن تلك الجروح المضمرة على جبهتي... جبهة الصبي الطويل القامة البالغ من العمر 11 عامًا السبب الوحيد لصمتي في السيارة وعدم فتح المواضيع ، ولم تكن دموعي حاضرة ومتجليّة كوني أجدتُ المكابرة أمام أبي الذي لا اراه سوى صباحًا ...كلها لم تكن سببًا وجيهًا وكافيًا لصمتي، بل الدفء المتفشي في أثاث السيارة والانس الناجم عن الراديو التي تصدح بألحان موازرت وبيتهوفن وأحيانًا باخ... هو طقس صباحاتنا اليومية الذي فرضه أبي تمامًا كما فرضت علينا شركة كلينكس ان نشير الى مناديل العالم كلها باسمها...حتى اخي كان هو الاخر الذي اعتقدته نظرًا لاهتماماته في الافلام الخيالية والرسوم المتحركة محرضًا على بقائي صامتًا... لكن ثمة اسبوع مغاير، ثمة يوم اصطفاه "المكتوب " لأرى ما لم أره على رصيف قريب من شارع مؤسسات الصدر، الرصيف الطويل المؤدي الى حي المساكن الشعبية ، الحي الذي يضج بالفقر والصمت وعمال الميكانيك والدكاكين ... الحي الذي يعد من مرايا فساد الدولة تحدبدًا حين يبدع الشتاء على طرقاته غدير المياه المبتذلة الموحلة بخنوعنا وخشوعنا.... على هذا الرصيف امرأة متوسطة القامة، بيضاء البشرة الى حد تحاول منافسه ثلج اللقلوق وججها حيّ يخلو من تجاعيد الدهر ، وشعرها الذي خالط لون الشمس وخجل الكستناء مربوط بحكمة ، تمشي تلك المرأة التي لم أستطع وقتها تحديد عمرها لكن الاكيد حسب ذاكرتي انها تجاوز العقد الرابع ... راقبها ابي باهتمام وعطف انساني وهي تتجاوز هذه المسافة ببطء وجهد غير مبرر لامرأة ما زالت تتمتع ظاهرًا بعافيتها، امرأة تحمل حقيبتها واضعة حزامها على الكتف الايمن، تمامًا كأنها معلمة ...في اليوم التالي رأيناها وسط اشتداد الرياح تصارع من اجل الوصل ببرد اقل الى غايتها ... الامطار كانت كالسيوف تجرّح خدّ الارض، اقترب ابي بسيارته منها، مطلقًا العنان ل"زمور " السيارة لكنها لم تلتف رغم دقة الموقف، وتواجدنا في السيارة ... اعتقدت ان "الغبش " الطاغي على زجاج السيارة هو ما ابعد هذه المرأة عن اي سبب للرد على النداءات... اضافة الى جبروت الامطار الغريزة ...
بعد ثلاثة ايام ، رأيناها تمشي بذات الهمة المريضة الهشة المنكسرة رغم صفاء الطقس الذي لم يخلُ من برودة قاسية ، لكنها ايضًا لم تستجب لعبارة ابي :" منوصلك مدام على مطرح؟ انت ع طريقنا؟ حتى انها لم تنفِ أو تثبت كلمة مدام ... لتصبح هذي السيدة وسيرتها وليمة يومية نتناولها قبل الغذاء بفعل ضبابية الموقف والتباسه...
أسبوعان مرّا بعد عطلة الميلاد ورأس السنة وكانت سيرتها قد نسيت كونها من القصص الثانوية في حياة اسرة تشبه الكثيرين ممن يعانون من مشقّات الحياة في بلد مخلّعة أبواب الأمل فيه... يبدو انها محافظة، يبدو انها طرشاء، يبدو انها لا تجيد الاخذ والرد... يبدو انها تنتظر تاكسي يبدو...يبدو...يبدو... حتى رأيناها ذات يوم لا اذكر اسمه ...لكني تجرأت رغم خجلي وغم الهشاشة الذي يعتلجني مذ قبلت ان اكون ضحية مدرسية مكتومة الجرح... واقنربتُ منها هي المتثقالة في مشيتها قائلا: " تانت، لي ما بتطلعي معنا ...كتير برد والمسافة طويلة... اجريكِ بيتعبو من كتر المشي وبينقطع نفسك"
حدقت لثوانٍ طويلة في ملامح هذا الفتى الذي دخل في عقده الأول للتو ... ابتسمت اخيرًا ودقات قلبي ازدادت كلما اقتربت ... وحفلة من النبضات اقيمت في ثنايا صدغيّ...وابي ينظر اليّ من بعيد يحاول التدخل لكن لا يجد فرصة للاقدام ... اقتربت لتقول بغضب ممزوج بالقهر أنها لا تطلب من العمر الا اقل مما مضى خاصة وان السرطان بدأ بأكل رئتيها وهي تلهث موتًا كل يوم وتنتظر العفو من الله وقبل ان افرّ منزعجا من نبرتها بعد ان كدت اصدق اني مسؤول عن همها طلبت مني ببسمة صفراء الانتظار لاتمام حديثها قائلا
انها قد فقدت قديمها في حرب تموز 2006 وانّها تحاول تمرين ساقيها الاصطناعيتين... طالبة مني ان أتركها على هذا الرصيف كتابة بضع خطوات آمنة....
صور في 19-2-2021
بعد ثلاثة ايام ، رأيناها تمشي بذات الهمة المريضة الهشة المنكسرة رغم صفاء الطقس الذي لم يخلُ من برودة قاسية ، لكنها ايضًا لم تستجب لعبارة ابي :" منوصلك مدام على مطرح؟ انت ع طريقنا؟ حتى انها لم تنفِ أو تثبت كلمة مدام ... لتصبح هذي السيدة وسيرتها وليمة يومية نتناولها قبل الغذاء بفعل ضبابية الموقف والتباسه...
أسبوعان مرّا بعد عطلة الميلاد ورأس السنة وكانت سيرتها قد نسيت كونها من القصص الثانوية في حياة اسرة تشبه الكثيرين ممن يعانون من مشقّات الحياة في بلد مخلّعة أبواب الأمل فيه... يبدو انها محافظة، يبدو انها طرشاء، يبدو انها لا تجيد الاخذ والرد... يبدو انها تنتظر تاكسي يبدو...يبدو...يبدو... حتى رأيناها ذات يوم لا اذكر اسمه ...لكني تجرأت رغم خجلي وغم الهشاشة الذي يعتلجني مذ قبلت ان اكون ضحية مدرسية مكتومة الجرح... واقنربتُ منها هي المتثقالة في مشيتها قائلا: " تانت، لي ما بتطلعي معنا ...كتير برد والمسافة طويلة... اجريكِ بيتعبو من كتر المشي وبينقطع نفسك"
حدقت لثوانٍ طويلة في ملامح هذا الفتى الذي دخل في عقده الأول للتو ... ابتسمت اخيرًا ودقات قلبي ازدادت كلما اقتربت ... وحفلة من النبضات اقيمت في ثنايا صدغيّ...وابي ينظر اليّ من بعيد يحاول التدخل لكن لا يجد فرصة للاقدام ... اقتربت لتقول بغضب ممزوج بالقهر أنها لا تطلب من العمر الا اقل مما مضى خاصة وان السرطان بدأ بأكل رئتيها وهي تلهث موتًا كل يوم وتنتظر العفو من الله وقبل ان افرّ منزعجا من نبرتها بعد ان كدت اصدق اني مسؤول عن همها طلبت مني ببسمة صفراء الانتظار لاتمام حديثها قائلا
انها قد فقدت قديمها في حرب تموز 2006 وانّها تحاول تمرين ساقيها الاصطناعيتين... طالبة مني ان أتركها على هذا الرصيف كتابة بضع خطوات آمنة....
صور في 19-2-2021