إهــــــداء:
أهدي هذه الدراسة المتواضعة إلى شعراء التجربة الكاليغرافية المغربية المعاصرة في فترة السبعينيات من القرن العشرين، وأقصد بالذكر بنسالم حميش، ومحمد بنيس، والمرحوم عبد الله راجع، وأحمد بلبداوي، والناقد المرحوم محمد الما?ري صاحب الكتاب الرائع والقيم" الشكل والخطاب"، وأتباعهم من العشاق والمريدين وخاصة الشاعر المرحوم محمد الطوبي...
(1-2)
المقدمــــــــة
عرف المغرب في مساره التطوري الثقافي والإبداعي مابين القرن العشرين وسنوات الألفية الثالثة تنوعا في التجارب الشعرية التي انطلقت بالتجربة الإحيائية الكلاسيكية بمحاكاة التراث الشعري القديم وتقليد النموذج الشرقي مع تمثل التجربة الوجدانية تأثرا بالرومانسية الغربية والمشرقية في مدارسها الثلاث وخاصة مدرسة الديوان ومدرسة أبولو ومدرسة المهجر الشمالي (الرابطة القلمية) والجنوبي (العصبة الأندلسية) .
لكن مع الستينيات من القرن العشرين، ستدخل التجربة الشعرية المغربية غمار قصيدة التفعيلة متأثرة في ذلك بالتجربة الشعرية المعاصرة في المشرق مع احتذاء تعاليم نازك الملائكة وعز الدين إسماعيل ومحمد النويهي وأدونيس وكمال أبوديب وكمال خير بك وشربل داغر .
بيد أنه في السبعينيات، ستبرز قصيدتان لافتتان للانتباه ألا وهما: القصيدة الإسلامية في الشرق والقصيدة الكونكريتية في الغرب. بيد أنه في الثمانينيات من ذلك القرن، ستنتقل التجربة الشعرية المغربية مع محمد بنيس وأتباعه وأحفاده الشباب إلى القصيدة النثرية التي تفرعت في اتجاهات متنوعة: القصيدة الصوفية، والقصيدة التشكيلية، والقصيدة التجريدية، والقصيدة التجريبية، والقصيدة الصامتة، والقصيدة الواقعية، والقصيدة الفلسفية، والقصيدة السردية، والقصيدة الدرامية، والقصيدة الذاتية، والقصيدة المقطعية، والقصيدة الومضة، والقصيدة الرقمية ....
وما يهمنا في هذه الدراسة هو التركيز على القصيدة الكونكريتية المغربية واستخلاص مكوناتها الدلالية والفنية والبصرية والمرجعية والنقدية ليس إلا.
1- تعريف القصيدة الكونكريتية:
القصيدة الكونكريتية هي قصيدة المكان وتبئير الفضاء الطباعي وتجسيم جسد القصيدة الشعرية وإشباعها بالحبر الناطق فوق رقعة السواد، كما أنها قصيدة تخاطب العين والبصر، وتحاور الحواس الإدراكية المجسدة، ومن أهم وظائفها الجمالية الوظيفة الأيقونية ذات الأبعاد السيميائية لكونها تركز على العلامات غير اللفظية والمؤشرات الأيقونية الدالة.
ومن هنا، فالقصيدة الكونكريتية هي قصيدة المكان والكتابة التي تتناقض مع قصيدة الكلام والدال الشفوي. وبالتالي، فهي قصيدة حسية ملموسة تتعامل مع الخط والكرافيك والوحدات الخطية والتبئير الطباعي، كما ترتكز على التشكيل والتلوين وتوظيف الأشكال البصرية والتلاعب الساخر والمفارق بالعلامات الترقيمية التي ترد في أشكال طباعية سيميائية دالة.
وعليه، فالقصيدة الكونكريتية تتجاوز القصيدة الشفوية وتنزاح عنها تشكيلا وتبئيرا وتفضية وتدلالا. ومن هنا، يتقابل في هذه القصيدة عالمان: العالم اللغوي ذو الطابع الإنشادي والإيقاعي، والعالم الكاليغرافي المشكل بالحروف المخطوطة والأشكال البصرية المتنوعة ضمن ألوان مختلفة تتجاوز ثنائية البياض والسواد.
وليست القصيدة الكونكريتية فضاء جامدا مميتا بالرتابة السيميترية المعهودة في القصيدة العمودية أو فضاء متقطعا مقننا بتفاعيله المدورة وغير المدورة في قصيدة التفعيلة أو فضاء سائبا بكتابته النثرية الانسيابية المسترسلة في القصيدة النثرية، بل هو فضاء محبر ومزين وملون ومشكل بتموجات خطية فوق تضاريس كتابية معقدة ومبسطة تحمل في طياتها دلالات مفتوحة، وتتطلب متلقيا ذكيا يستطيع تفكيك الشفرات الأيقونية وقراءتها على ضوء السيميائيات والبلاغة البصرية.
وعليه، فالقصيدة الكونكريتية غنية بعلاماتها اللغوية والتشكيلية والعلامات غير اللفظية المتعددة الأبعاد والدلالات.
2- مصطلحات القصيدة الكونكريتية:
يلاحظ الدارس أثناء دراسته للقصيدة الكونكريتية أن لها عدة مصطلحات ومفاهيم تختلف من باحث إلى آخر، وهذه المصطلحات يمكن حصرها في هذه اللائحة المفاهيمية التالية: القصيدة الكونكريتية – القصيدة المرآوية- القصيدة المحسوسة- القصيدة الملموسة- القصيدة البصرية - القصيدة التشكيلية- القصيدة المكانية - القصيدة الأيقونية – القصيدة السيميائية- القصيدة الفضائية - القصيدة الكاليغرافية - القصيدة الهندسية – القصيدة الصورة- القصيدة الطبوغرافية – القصيدة البلاستيكية- القصيدة الطباعية - القصيدة العينية- القصيدة المجسمة- القصيدة المشهدية- القصيدة اللوحة- القصيدة الحروفية- القصيدة الميكانيكية- القصيدة المتعددة الأبعاد- القصيدة المستقبلية- القصيدة الكرافيكية... وهلم جرا
دونكم – إذا- بعض الأشكال الكاليغرافية التي تبين لنا بعض الأنواع المندرجة ضمن القصيدة البصرية:
نموذج للقصيدة المشهدية
نموذج القصيدة المتعددة الأبعاد
القصيدة الميكانيكية
3- مكونات القصيدة الكونكريتية:
تتسم القصيدة الكونكريتية بمجموعة من المقومات والمكونات والخاصيات والسمات الضرورية التي تميزها عن باقي القصائد الشعرية المعروفة في الساحة الثقافية العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة. ومن هنا، فإن القصيدة الكاليغرافية تعرف بهذه العناصر التمييزية التالية:
* ترتكز على متعة العين ومتعة الأذن على حد سواء؛
* تجمع بين البعد الزمني والبعد المكاني؛
* تتأرجح بين الإنشاد والكتابة المجسمة؛
* يتم فيها التشديد على ثنائية البياض والسواد؛
* قصيدة سماعية وبصرية في آن معا؛
* قصيدة مكانية وفضائية وهندسية وتشكيلية؛
* تنبني على ثلاث وظائف أساسية : الوظيفة اللسانية والوظيفة التشكيلية والوظيفة الأيقونية؛
* تنبني على التنوع السيميائي للخط، وتبئير علامات الترقيم، وتهجين العلامات الإعرابية، وتنويع الأشكال البصرية، وتشغيل الألوان؛
* تتطلب قارئا مؤهلا يملك إمكانيات القراءة اللسانية والبصرية؛
* تجمع في بوتقة فنية واحدة بين الشاعر والخطاط و التشكيلي؛
* تتحول القصيدة الكاليغرافية إلى لوحة لسانية مشهدية مجسمة؛
* تتكئ على التبئير والتشديد والتشظي الكرافيكي والنبر البصري؛
* توظف الخطوط المغربية والعربية المعروفة في عالم النسخ والكتابة والطباعة؛
* تجمع بين الخط اليدوي والخط المطبعي والخط الكاليغرافي.
4- القصيدة الكونكريتية العربية القديمة:
لم يعرف الشعر العربي ونقده القصيدة الكونكريتية إلا في العصور المتأخرة مع الشعراء الأندلسيين والمغاربة، وإن كانت هناك محاولات سابقة في مجال تحبير الكتابة وتجويدها ولاسيما فيما يتعلق بكتابة النصوص الدينية والصوفية والفقهية. ومن العلماء الذين اهتموا بالكتابة نذكر على سبيل التمثيل: ابن مقلة في رسائله، وإخوان الصفا الذين فلسفوا الحروف وصوفوا الأشكال البصرية في كثير من رسائلهم الكلامية والعقائدية، وابن عربي في كتابه:"الفتوحات المكية"، والصولي في كتابه: " أدب الكاتب"، والقلقشندي في كتابه:" صبح الأعشى"، وابن وهب في كتابه:"البرهان في وجه البيان"، وابن السيد البطليوسي في كتابه: " الاقتضاب في شرح أدب الكتاب"، وابن خلدون في كتابه:"المقدمة" ماعدا الكتب والرسائل والمنظومات والمخطوطات التي اهتمت بعالم الكتابة تنميقا وتزويقا وضبطا.
وفي الحقيقة، لا تركز هذه الكتب التي سبق ذكرها وسرد عناوينها إلا على أهمية الخط والإملاء وتجويد الكتابة وضبطها وتزيينها.
ويتبين لنا من هذا كله أن :" مجموع الكتابات التي اهتمت بالموضوع في التراث، لم تتجاوز في أغلبها، جانب التقعيد للإملاء والكتابة أو الحديث عن الصناعة، وحتى في الحالات التي تتجاوز هذا المستوى، نقف على تأويلات وشروح محكومة بخلفيات ثقافية ومعتقدية، تحول دون اعتمادها نظريات علمية في الموضوع."
بيد أن المتأخرين من الشعراء والنقاد اهتموا بالبعد البصري أوالمكاني كما فعل ابن رشيق القيرواني في كتابه:" العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده " حينما تحدث عن مجموعة من الأشكال الشعرية البصرية التي انزاحت عن الفضاء العمودي السيمتري المتناظر كالشكل القواديسي والمسمط والموشح ، وقد أدرج البلاغيون المتأخرون بعض الأشكال البصرية الأخرى ضمن علم البديع، فتحدثوا عن عدة أشكال أيقونية كالقلب (تقديم الأبيات في صورة مربع)، والتفصيل (وضع الأبيات وفق نظام يسمح بفصل أجزاء منها)، والتختيم (تتشابك الأبيات والأشطر في شكل خاتم)، والتثمين كما عند أبي الطيب صالح بن شرف الرندي في كتابه:"الوافي في علم القوافي"،وابن رشيق القيرواني في كتابه:"العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده".
فابن رشيق القيرواني مثلا في كتابه:" العمدة" يذكر القواديسي قائلا:" ومن الشعر نوع غريب يسمونه القواديسي، تشبيها بقواديس الساقية لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضها في الجهة الأخرى..." كما عند الرجاز طلحة بن عبيد الله العوني:
كم للدمـــى أبكــــار = بالخبيثين من مــنازل
بمهجتي للوجد من = تذكـــــــارها منازلُ
معاهد رعيـلهـــــا = مثعنجر الهواطـــــــل
لما نأى ساكنهـــــا = فأدمــــى هواطـــــــل
في حين يتميز المسمط بتعدد الأشطر والأبيات مع اختلاف القوافي والروي تشابها وتطابقا، يقول ابن رشيق في هذا الصدد:" ... فمن ذلك الشعر المسمط، وهو أن يبتدئ الشاعر ببيت مصرع ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته، ثم يعيد قسيما واحدا من جنس ما ابتدأ به، وهكذا إلى آخر القصيدة(....) وربما جاؤوا بأوله أبيات خمسة على شرطهم في الأقسمة، وهو المتعارف، أو أربعة ثم يأتون بعد ذلك بأربعة أقسمة"، ومن أمثلة المسمط ماقاله الشاعر:
خيال هــــاج لي شجنا فبــــت مكابدا حـزنا
عميد القلـــــب مرتهنا = بذكر اللهو والطـرب
سبتني ظبيـــــــة عطل = كـأن رضابها عســل
ينـــــوء بخصرها كفل = ثقيل روادف الحقـب
وإذا انتقلنا إلى هيكل الموشح الأندلسي فهو يعتمد في بنائه الجمالي والفني والمعماري على المطلع والقفل والدور والأبيات والغصن والسموط والخرجة كما في هذا الموشح لابن زهر الحفيد الأندلسي :
أيـّها الساقي إليك المُشتكى = قد دعوناك وإن لم تسـْمع ِ
ونديم ٍ همــتُ في غُـرَّتـِه
وشربتُ الرّاح من راحتِه
كلـّما استيقظ َ من غَفـْوتـِه
جذبَ الزّق إليه واتـّـكا = وسقاني أربعا ً في أربع ِ
غُصْن بان ٍ مال من حيثُ استوى
بات من يهواه من فــَرْط الجوى
خافقَ الأحشاءِِ موهـــونَ القوى
كلـّما فكـّر في البـَيـْن ِ بكى = ويحَه يبكي لـِمَا لم يـَقـَع ِ
ما لعيـــني عَشِـيَتْ بالنـّظرِ
أنـْكرَتْ بعــدَك ضَـــوْءَ القمر
وإذا ما شِئـْتَ فاسمَعْ خَبـَري
عشيـَتْ عيناي من طول ِ البـُكاء = وبكى بعضي على بعضي معي
ليسَ لي صبْرٌ ولا لي جَلـَد ٌ
يا لـَقــومي عَذَلوا واجتهدوا
أنكروا شكـــــــوايَ ممّا أجدُ
مثلُ حالي حقـُّه أن يـُشْـتـَكـَي = كـَمَدَ اليأس ِ وذُلَّ الطمـــع ِ
كبـِدي حرّى ودمعي يكـِفُ
يعرفُ الذنبَ ولا يعتـــرفُ
أيـّها المعرضُ عمَّــــا أصفُ
قد نما حبـُّـك عندي وزكـــا = لا تـَقـُلْ في الحبِّ إنـّي مدَّعي
أما عن أجزاء هذا الموشح فنوضحه بالشكل التالي:
* المطلع: وهو بداية الموشح وبنيته الاستهلالية، ويكون غالبا مصرعا كمطلع موشح الأعمى التطيلي :
حلو المجاني ماضره لو أجناني = كما عناني شغلي به وعــناني
وهو بدون تصريع في موشح ابن زهر الحفيد:
أيـّها الساقي إليك المُشتكى = قد دعوناك وإن لم تسـْمع
وكل موشح يتوفر على المطلع وستة أجزاء فهو موشح تام، وكل موشح يفتقر إلى المطلع ويتكون من خمسة أجزاء فهو موشح أقرع. ومن المعلوم أن كل مطلع يتكون من شطرين، وكل شطر يسمى بالغصن، ويعني هذا أن المطلع يتألف من غصنين متماثلين وزنا وقافية.
* الدور : يتكون الدور من مجموعة من الأسماط أو السموط، ولاتقل الأسماط عن ثلاثة ولا تزيد عن أربعة:
ونديم ٍ همتُ في غُـرَّتــِه
وشربتُ الرّاح من راحتِـه
كلـّما استيقظ َ من غَفـْوتـِه
* السمط : يتكون الدور من مجموعة من السموط أو الأسماط، ويلتزم الوشاح بعدد أسماط الدور الأول في كل الأدوار.
* القفل : يأتي القفل مباشرة بعد البيت، ويفصل بين أبيات الموشح، ويتكون غالبا من غصنين متماثلين من حيث الوزن والقافية كما في موشح الأعمى التطيلي:
أو في التداني شيء يفي بأشجاني = وفي ضماني أن ينتهي من يلحاني
بينما القفل في موشح ابن زهر غير موحد القافية والروي:
جذبَ الزّق إليه واتـّـكا = وسقاني أربعا ً في أربع ِ
* البيت: يتكون البيت من الدور والقفل معا، ويختلف تمام الاختلاف عن البيت في القصيدة العمودية التي تتكون من الصدر والعجز، وهو في موشح ابن زهر:
ونديم ٍ همـــتُ في غُـرَّتـِه
وشربـتُ الرّاح من راحتِه
كلـّما استيقظ َ من غَفـْوتـِه
جذبَ الزّق إليه واتـّـكا = وسقاني أربعا ً في أربع ِ
*الخرجة : تقع الخرجة في نهاية الموشح، وتصاغ بلغات متعددة، وتشبه القفل في الوزن والقافية. وهي في موشح الأعمى التطيلي موحدة القافية والروي:
واش كان دهاني ياقوم واش كان بلاني
واش كان دعاني نبدل حبيبي بثان
وترد الخرجة في موشح ابن زهر غير مقفاة:
قد نما حبـُّـك عندي وزكا = لا تـَقـُلْ في الحبِّ إنـّي مدَّعي
وإذا انتقلنا إلى التختيم فيعرفه ابن الرندي بقوله:" وذلك أن تصنع أبياتا تكتب في شكل مختم تتقاطع أشطره، ويشترك مايتلاقى منها في مواضع التقاطع في لفظة أو حرف واحد أو أكثر، إما مصحفا أومختلف الضبط وإما باقيا بحاله"
أما التفصيل فيعرفه كذلك أبو البقاء الرندي بقوله:" وهو أن يقسم الشعر بقسمين أو أكثر في مواضع متوازية من أبياته، وإذا فصل منه قسم من كل بيت عما قبله كان الباقي تام الوزن والمعنى. ويتبعك بذلك من القطع بحسب ما تقتضيه صنعة ذلك".
إضافة إلى كل هذا، فالقلب حسب أبو البقاء الرندي على ثلاثة أضرب:" أحدها قلب ترتيب ألفاظ البيت، فيستقيم وزنه ومعناه.....، والثاني قلب ترتيب حروف الكلام فيقرأ منعكسا كما يقرأ مستقيما....والثالث ماكان نحو هذا الشكل المربع الذي صنعته، وهو يقرأ عرضا كما يقرا طولا:
كما عرف الشعراء الأندلسيون بالتربيع والتفريع والتشجير النباتي حيث كتبوا قصائد شعرية في شكل نخلة على سبيل الخصوص.
وإليكم نموذجا شعريا مجسما بطريقة التختيم وهو للشاعر الأندلسي ابن قلاقس من شعراء القرن السادس الهجري:
نموذج أيقوني يمثل التختيم
5- القصيدة الكونكريتية الغربية :
اهتم الشعراء الغربيون بالقصيدة الكونكريتية أيما اهتمام لأبعادها الرمزية والسيميائية والشعرية، وهذا الاهتمام إن دل على شيء فإنما يدل على مدى انفتاحهم الكوني والإنساني على ثقافات عالمية وخاصة الثقافة الإسلامية والشرقية . ونجد القصيدة الكونكريتية جلية ومشخصة لدى الكثير من الشعراء الغربيين ولاسيما الفرنسيين منهم كمالارمي Mallarmé في قصيدته :"Un coup de dès n'abolira pas le hasard"، ورامبو Rimbaud، وبول إيلوار Paul Eluard، وكيوم أبولينير Guillaume Apollinaire في قصائده المجسمة كقصيدة :" برج إيفيل"، وقصيدة: " الحمامة" وقصيدة :" النسر" بالإضافة إلى قصائد المستقبليين في إيطاليا، وتجارب القصيدة العينية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان.
وإليكم بعض النماذج الكونكريتية في الشعر الغربي:
قصيدة كونكريتية في شكل شجرة
قصيدة كونكريتية في شكل حذاء
قصيدة الحمام لأبولينير
قصيدة النسر لأبولينير
قصيدة برج إيفيل لأبولينير
6- القصيدة الكونكريتية المغربية الحديثة:
إذا كان الشعر المغربي الحديث بصريا متناظر الأشطر صدرا وعجزا، ومتناسق الأبيات فضائيا بطريقة عمودية سيميترية يتوازى فيه السواد على رقعة البياض، إلا أننا نجد بين ثنايا هذا الشعر نصا كونكريتيا للشاعر المغربي علال بن الهاشمي الفيلالي المكناسي الذي كتب مسرحية شعرية حوارية في صورة إنسان مجسم له رأس وجسم ورجلان وهي باسم:" الشاعر". وبين أطراف هذا النص الدرامي أسماء الشخصيات المتحاورة وبنية استهلالية مناصية تحدد سياق القصيدة العام والخاص.
ومن المعلوم أن هذه المسرحية الشعرية قد نشرت في مجلة:" هنا كل شيء"، في عدد18، من شهر فبراير من سنة 1954م.
ودونكم، إذا، هذه القصيدة الكونكريتية التي وردت في شكل هيئة إنسان :
قصيدة الشاعر لعلال بن الهاشمي الفيلالي المكناسي
7- القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة:
لم تظهر القصيدة الكونكريتية بالمغرب إلا بعد منتصف السبعينيات من القرن العشرين مع مجموعة من الشعراء منهم: بنسالم حميش في ديوانه:" كناش إيش تقول" ، وديوان" ثورة الشتاء والصيف"، وأحمد بلبداوي في دواوينه الشعرية كديوان:" سبحانك يابلدي" ، وديوان :" حدثنا مسلوخ الفقر وردي"،وديوان:" هبوب الشمعدان" ، ومحمد بنيس في ديوانه الشعري:" في اتجاه صوتك العمودي "، وديوان:" مواسم الشرق"، و" كتاب الحب" ، وعبد الله راجع في ديوانه" سلاما وليشربوا البحار" .
وإذا كان محمد بنيس من أوائل الدارسين الذين تنبهوا إلى أهمية البعد البصري والمكاني في العمل الشعري في كتابه: " ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" في الفصل الأول أثناء حديثه عن بنية المكان ، فإن الشاعر بنسالم حميش أول من كتب القصيدة البصرية بالمغرب حسب تصريحاته واعترافاته الشخصية في ديوانه:" كناش إيش تقول" سنة 1977م.
هذا،وقد كانت مجلة " الثقافة الجديدة " التي يترأسها محمد بنيس ومجلة:" البديل" التي كان يسهر عليها بنسالم حميش وراء انتشار القصيدة الكونكريتية وانتشارها بين الشعراء واتساع مداها مغاربيا وعربيا إلى جانب بعض الصحف التقدمية آنذاك كجريدة المحرر وجريدة الاتحاد الاشتراكي وجريدة أنوال. وقد أرفقت هذه التجربة بصدور مجموعة من البيانات تسمى ببيانات الكتابة كبيان الكتابة الذي كتبه محمد بنيس ونشره في مجلة :" الثقافة الجديدة".
وسيتمثل بعض الشعراء التجربة الكونكريتية الأولى كمحمد الطوبي في ديوانه:" غواية الأكاسيا" ، ووفاء العمراني في ديوانها: "حين لابيت..."
وقد بلغت العلاقة بين الشعر والتشكيل أوجها في الكتاب المشترك الذي أنجزه الشاعر المغربي حسن نجمي والفنان التشكيلي محمد القاسمي بعنوان:" الرياح البنية".
7- القصيدة الكونكريتية العربية المعاصرة:
من المعلوم لدى الباحثين والدارسين والنقاد أن التجربة الكونكريتية لم تقتصر على شعراء المغرب فقط، بل هناك محاولات قام بها شعراء معاصرون حداثيون من تونس حيث الشاعر منصف المزغني يكتب ديوانا شعريا سنة 1988م بعنوان:" قوس الرياح" يضمنه قصائد كاليغرافية وبصرية مثل قصيدة:" جرول بن طمعون الخشنشري" :
كما كتب شعراء الشام من سوريا ولبنان قصائد شعرية كونكريتية، واحتضنتها مجلات حداثية كمجلة :" الآداب" البيروتية، ومجلة:"شعر"، ومجلة :" مواقف".
ومن أهم الشعراء الكونكريتيين العرب المعاصرين نذكر على سبيل المثال: أدونيس، وعبد القادر أرناؤوط ونذير نبعه في قصيدتيهما: " الموت طفل أعمى"، و"بكت المرآة"، وصادق الصائغ في قصيدته: " هذا قبر المرحوم":
8- الكتابات النقدية و البيانية حول القصيدة الكونكريتية:
يعد محمد بنيس أول من اهتم بالقصيدة الكونكريتية في المغرب في الفصل الذي خصصه للبعد البصري في التجربة الشعرية التفعيلية المعاصرة ضمن كتابه القيم" ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب" ، بيد أن محمد الما?ري سيخصص كتابا كله لدراسة القصيدة الكونكريتية في المغرب في كتابه الهام:" الشكل والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي"، وسيتبعه في ذلك كل من شربل داغر في كتابه" الشعرية العربية الحديثة، تحليل نصي؛ وحاتم الصكر في مقاله:" بعض مشكلات توصيل الشعر من خلال شبكة الاتصال المعاصرة"، ومحمد مفتاح في كتابه:" التشابه والاختلاف" ...
ولكن يعتبر المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي السباق إلى إبراز أهمية الخط والحرف والوشم في تشكيل الإبداع والفن على حد سواء في كتابيه: " الاسم العربي الجريح"، و:" ديوان الخط العربي"...
ومن المعلوم أن محمد بنيس هو أول من كتب بيانا للكتابة بعنوان:"بيان الكتابة"، ونشره في مجلة الثقافة الجديدة في العدد19 من سنة 1981م. وقد استتبع ها البيان ردودا نقدية مدعمة (حواش حول البيان لعبد الله راجع، وأحمد بلبداوي...)، وردودا ناسفة مثل رد نجيب العوفي الذي يقول": إن مستوى الكتابة في البيان، يبدو متفوقا على مستوى الكتابة في كثير من النصوص الإبداعية التي ينظر لها ويراهن عليها. فكأن البيان يشكل نموذجا لذاته ومصداقا لنظريته، وكان الإبداع، وهذه هي المفارقة، يصاب بضيق التنفس داخل مجاله الحيوي الطبيعي، من حيث يسترد حيويته وانتعاشه خارج هذا المجال، فهو غريب في موطنه، مستأنس في منفاه. وتبدو هذه المفارقة واضحة حين نقارن، من نحو عام، بين النصوص النظرية للحداثة والنصوص التطبيقية – الإبداعية لها. حيث تسرق الأولى سر الثانية وتفلح في استخدام السر. بناء على هذا اعتبر (بيان الكتابة) لمحمد بنيس، أرقى كتابة من كثير من نصوصه الشعرية، تلك النصوص التي خانها الشعر وهو يمارسها وحالفه وهو ينظر لها. هل هو نزق الإبداع هذا الذي ينسف جغرافية الكتابة ويخرق دستور النوايا؟! أم هي إشكالية النظرية والممارسة وقلق العلاقة بينهما؟!"
وعلى الرغم من هذا، تبقى الكتابات التي تناولت التجربة الكاليغرافية المغربية المعاصرة قليلة جدا تعد على الأصابع، ومازال البحث بكرا في حاجة ماسة للبحث والتنقيب والتحليل النصي
8- صراع البدايـــات:
وقع خلاف كبير وسجال جدلي عويص حول المؤسس الأول للقصيدة الكاليغرافية ومبلور مشروع الكتابة في الشعر المغربي المعاصر، فتعددت الأجوبة وكثرت البيانات والحواشي والردود الموضوعية وغير الموضوعية في الصحف المغربية وخاصة في المحرر الثقافي والعلم الثقافي، إذ هناك من يثبت الريادة لمحمد بنيس، وهناك من يرجعها لبنسالم حميش.
فمحمد بنيس يقول في كتابه:" ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب":"لم يتطرق النقاد لبنية المكان في المتن الشعري المعاصر بالمغرب، وعدم احتفالهم بهذا المجال البصري يعبر بوضوح عن تحكم التصور التقليدي في قراءات النص الشعري، خاصة وأن أهمية المكان ذات دلالة لايمكن اعتبارها جانبا هامشيا، أو ترفا فكريا، أو لعبة مجانية"
ويقول عبد الله راجع:" وإنه من الضروري توظيف العين التي ظلت مهملة منذ بداية الشعر العربي إلى بداية تجربة بنسالم حميش"، ويقول المرحوم محمد الما?ري معترفا:" إذا كان من حق أحد أن يغضب أو يثور لغبن لحقه من كتابي فهو الأستاذ بنسالم حميش، الذي فاتني الالتفات إلى تجربته الأولى في التوزيع الفضائي للنص.... وبالتالي إلى سبق إنجازي تم في صمت، دون صخب أو ضجيج" .
ويقول محمد مفتاح:" وقد أثر بنسالم حميش في جماعة من هؤلاء الشعراء بممارسة الكتابة الكاليغرافية بالخط المغربي. وقد تلقفوا هذه الممارسة فبدأوا يكتبون قصائد كاليغرافية بالخط المغربي"
ونقول بكل صدق بأن بنسالم حميش هو أول من كتب قصيدة كاليغرافية بالمغرب في سنة 1977م من خلال ديوانه الشعري:"كناش إيش تقول؟"، لكن محمد بنيس هو أول من أصدر بيانا تنظيريا حول الكتابة سنة 1984م، وهو أيضا أول من تنبه أكاديميا ونقديا إلى أهمية المكان في الشعر المغربي المعاصر في رسالته الجامعية:" ظاهرة الشعر المغربي المعاصر" سنة 1979م.
9- أسباب ظهور القصيدة الكونكريتية:
يمكن القول من خلال تصفحنا لمجموعة من البيانات التنظيرية : إن ثمة مجموعة من الأهداف والدواعي التي كانت وراء ظهور القصيدة الكاليغرافية المعاصرة بالمغرب يمكن حصرها في النقط التالية:
* الانزياح عن نمطية الخط العربي الآرامي ورتابته البصرية والكاليغرافية واستبداله بخطوط مغربية وأندلسية من أجل الدفاع عن الخصوصية والهوية، وإن كان بنسالم حميش ينفي هذه الخصوصية بقوله:"أما حيث يهربون من الحفرة ليسقطوا في البئر فعند استعمالهم الأحادي لخط رتيب، تفوح منه روائح الأحراز والطلاسم، يعتقدون خطأ أنه مغربي خصوصي، في حين أنه نشأ بالقرب من المشرق العربي، في القيروان، نقلا محرفا عن الخط الكوفي... ويقول العارفون: إن أقدم نماذج هذا الخط المولد ترجع إلى القرن الرابع الهجري...نرى – إذا- أن القول بالخصوصية والتميز في هذا الباب هو من قبيل التنطع والمطالبة بخصوصية وهمية لاتغني ولاتسمن من جوع" .
* إعادة الاعتبار للخط المغربي وتحريره من سلطة الخط المشرقي؛
* الكتابة فعل تحرري، " وهي أبعد ماترى إلى النص كذرة مغلقة، يوجد من باطن أدلة لم ينحتها تاريخ اللغة والذات والمجتمع. ومن ثم، فإن الكتابة نزوع لعالم مغاير في النص وبالنص.هذا ليس كافيا أيضا"
* تغيير طريقة القارئ في تعامله مع المكتوب، وفي هذا يقول بنسالم حميش:" لماذا القلب والتشطيب؟ لماذا الحواشي ؟ ثم لماذا الخط؟ كنت ملزما وقد رفضت بعض الأساليب في الكتابة الشعرية أو أوحى ببديل، فاهتديت بالتدريج إلى الوقوف على أساليب وشكول أخرى أدهشني توالدها وتنوعها. وهكذا أخذت عند الضرورة واللزوم بالقلب والتشطيب في شأن بعض البيان، راغبا في تغيير علاقة القارئ التقليدية بالكتاب والمكتوب، وفي نزع صفة القدسية عنهما ثم بالتالي، في تقوية علاقة القارئ بهما في مجال البصر والاستيعاب"
* الكتابة رؤية للعالم وميسم للمواجهة والتأسيس؛ لأن الكتابة تهدف حسب محمد بنيس:" إلى بلورة رؤية مغايرة للعالم، تستمد من التأسيس والمواجهة بنيتها الرئيسية. والمجتمع فاعل في وجود العالم وسيرورته، على أن المجتمع العربي، ومنه المغربي، لم ولايختار حياته بمحض إرادته، بعكس ماتحاول أن توهمنا بذلك إيديولوجية الهيمنة والاستبداد، من خلل مقيداتها ومروياتها.إن المجتمع العربي مغلول في ماضيه وحاضره بالأمر والردع والاستعباد، مبعد عن الابتكار والتحرر، وبرغم تحكم الصوت والسيف في مسافة خطواته واتجاهها، فقد استيقظ على تدمير الإخضاع هنا وهناك، بصيغ وأنماط متعددة"
* المزاوجة بين بلاغة العين وبلاغة الأذن، يقول أحمد بلبداوي:"حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإني لا أنقل إلى القارئ معاناتي فحسب، بل أنقل إليه نبضي مباشرة وأدعو عينيه للاحتفال بحركة جسدي على الورق. يصبح للمداد الذي يرتعش على البياض، كما لو كان ينبع من أصابعي مباشرة لا من القلم، ويغدو للنص إيقاع آخر يدرك بالعين مضافا إلى إيقاع الكلمات المدرك بالأذن..."
* الدفاع عن ذاكرة الخط المغربي التاريخية والحضارية والإبداعية، يقول أحمد بلبداوي:" من هنا لايكون الخط مجرد زخرف وديكور خارجي بقدر ماهو منغرس في بنية اللغة...وهذه الذاكرة ليست ثابتة كما لو كانت قانونا مرتبطة به ارتباط الظل، تنتقل عدواها إلى مضمون النص ذاته، وتحتاج من الكاتب إلى وعي خاص وجهد في تفجير هذه الذاكرة....إن الخط في تصوري يحمل ذاكرة النص الذي يكتب به، ويشرب من مائه وعلى طريقة الصوفي ابن عربي أقول: إن الخط أنثى عاشقة تستقبل بكل لذة العاشقين ما ينضح به النص في روحها..."
* الرغبة في التفرد والتميز على مستوى خريطة الشعر العربي عن طريق تمثل الأشكال الخطية المحلية واستلهام التجارب الخطية الغربية والأندلسية وأشكالها الفضائية والمكانية كقصيدة الموشح وقصيدة الزجل والقصائد الكونكريتية الأندلسية ذات التشجير النباتي؛
* السعي وراء التجريب والحداثة بحثا عن أشكال أسلوبية وفنية وتقنية جديدة لتثوير الشعر المغربي المعاصر؛
* التأثر بالقصائد الكونكريتية الغربية والآسيوية؛
* الاستفادة من الفنون التشكيلية واستعانة الشاعر بالرسام والخطاط؛
* التأثر بأفكار جاك دريدا الذي أعطى الأولوية للكتابة قبل الصوت الكلامي، وفي هذا يقول محمد بنيس:" أما بنية المكان فهي التي تجاهلها أو جهلها نقاد الشعر المعاصر، في عموم العالم العربي، وقد أسرهم الإيقاع، وما ذلك إلا نتيجة انحيازهم للكلام، وإلغائهم الكتابة، وهم في موقفهم هذا على عكس بعض الشعراء والنقاد الأندلسيين والمغاربة القدماء، وبعض الشعراء الأوربيين والأمريكيين اللاتينيين المعاصرين، وكذلك بعض الشعراء الآسيويين، يابانيين وصينيين، الذين جعلوا من التركيب الخطي بعدا بلاغيا يفتح النص على البصر بعد أن اكتفى بالسمع زمنا طويلا."
تلكم – إذا- هي الأسباب والدواعي التي دفعت شعراء القصيدة المغاربة السبعينيين إلى تمثل القصيدة الكاليغرافية كتابة وتخطيطا ورؤية.
10- مميزات القصيدة الكونكريتية المعاصرة:
تتسم القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة بمجموعة من المميزات الدلالية والمرجعية والمناصية والكرافيكية التي تفردها وتميزها عن باقي التجارب الشعرية المغربية المعاصرة الأخرى. وسنحاول الآن تبيان هذه المميزات على المستوى الكرافيكي والدلالي والمرجعي والجمالي :
أ- المستوى الكرافيكي:
* البنية المناصية:
نعني بالمناص العتبات والملحقات التي تحيط بالنص الشعري من الداخل والخارج كالعناوين والهوامش والمقتبسات والبيانات والحواشي وحيثيات النشر والتعيين الجنسي والفهرسة والإهداء والصور والأيقونات والغلاف الخارجي الأمامي والخلفي .
أما المناص الخارجي فنقصد به الشهادات والحوارات والكتابات الذاتية والغيرية والاشتقاق النصي.
وعليه، لقد اهتم شعراء القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة (بنسالم حميش، وعبد الله راجع، وأحمد بلبداوي، ومحمد بنيس، ومحمد الميموني، ووفاء العمراني، ومحمد الطوبي وغيرهم...) بالبعد البصري في قصائدهم تخطيطا وتشكيلا وتحبيرا. فاهتموا في البداية بالعتبات المناصية وركزوا على إشباع عناوينهم بالسواد إبرازا وإظهارا وتسميكا. ومن ثم، أصبحنا أمام عناوين مكثفة بصرياـ ومطرزة بتلوينات طباعية وخطية ذات وظائف سيميولوجية ودلالية، تساعد المتلقي على فهم النص وتفسيره أو تفكيكه وتركيبه.
ومن المعروف، أن العناوين البصرية قد تطورت في العقود الأخيرة مع تطور الطباعة واللون ودخول العالم إلى فضاء كوني رقمي تفاعلي أرحب زاخر بالتقنيات الحاسوبية المتطورة.
وهكذا، نجد شعراء السبعينيات والأجيال التي تبعتهم يهتمون بالعناوين الخارجية والداخلية مركزين على تبئير النص اللغوي وأيقنة عتباته وتفضية عناوينه، واستخدام مجموعة من الخطوط البصرية ولاسيما الخط المغربي والأندلسي منها قصد التحرر من المركزية الشرقية كما يقول محمد بنيس في :" بيان الكتابة" :" كثيرا ماكتبنا عشقنا للخط المغربي، هذا الأثر الأخير الذي يمنح هويتنا ابتهاجا. إنها عودة المكبوت. حاولنا محق هذا العشق، تنويمه، بحجة تكريس وحدة الخط العربي، وحدة الذوق، وحدة الحساسية. كنا سذجا، لأن الكبت المتزايد لم يحمل معه غير التصدع المتصاعد لحجاجنا. كان المشرق بالنسبة لنا مصدر الحقيقة، الصواب والخطأ، ومع صدور"الاسم العربي الجريح" و" ديوان الخط العربي" لعبد الكبير الخطيبي انفجرت العين وتاهت اليد، كان الجسد يستيقظ على ذهوله، آثارنا التي نومناها باسم الوحدة تبغتنا وتأخذنا مواربة، ولم ندرك أن الوحدة الحقيقية هي التي تنبثق عن فروقنا المتعددة، حيث ينتفي استبداد المركز، واستعباد مختلف الإمكانات. وحدة المجموع لاوحدة المفرد هي التي نسير إليها، يكفي ما آلت إليه وحدة المفرد من انغلاق وانهيار وإرهاب.
لم نكن وحدنا مكبوتين، بل الخط المغربي هو الآخر انزاح عن فضاء العين، دخل مدرجات الأقبية وانزوى، ألغاه الخط المشرقي لأول مرة في العصر الحديث مع الدعوة إلى الخروج من التخلف. وتلك قصة أخرى. لم تكن خرافة الحداثة غير استسلام لنمطية تقمع أحادية المفرد بها تعددية المجموع.
حان الوقت لنمنح النص ابتهاجه، ونسترد ملكيتنا للخط المغربي. بعضهم يقول إن الخط المغربي متمنع الاستعمال في كتابة تحررية، مادامت تاريخيته محكمة الوصل بالسلطة والمتعاليات.لاتنسوا أن الوعي النقدي منهج أساس في الكتابة. تأملوا قليلا،هاهو الخط المغربي يمتد من الأندلس غربا وشمالا إلى حدود مصر شرقا، وبعض البلاد الأفريقية جنوبا، مغربي بهذا المعنى لايقتصر على المغرب السياسي، ولكنه المغرب الجغرافي الذي أنتج وأبدع خصوصية هذا الخط. متنوع في تقنياته حتى لكأنه مسافات من الموسيقى والغناء. عطاء شعبي قبل أن يكون إمضاء سلطويا. نرج فيه الثوابت ونخلخل الاطمئنان، ملكيتنا نحن أيضا، نعلن خروجنا عليه فيما نحن داخله، بين الخارج والداخل نقيم. نسترد هذا الخط ونسائله، نفكك أسطوريته ومتعالياته، لاتغوينا جماليته بقدر ما ننصت فيه لأثر من آثار جسدنا. لامجال للحجاج إذا، لقد عرف الخط العربي، ومنه المغربي، كيف يدمر المعنى، ويبني لنفسه نسقا متمنعا على الخضوع لسلطة المتعاليات. وهاهي الكتابة تكرس لعبة النرد بعيدا عن كل صدفة.
عودة الخط المغربي تتنصل من كل قطعة مع النوازع الأخرى من الخطوط العربية، ولا مع الممارسات الخطية خارج العالم العربي، لأن الكتابة تنبذ الانغلاق مهما كانت صيغته، فيما لاتستسلم لمحو الفرق.إنها مغربية، عربية، إنسانية."
إذا، لقد تمثل الشعراء المغاربة المعاصرون الخط المغربي من أجل التحرر من شرنقة الشرق والتميز عن شعرائه مكانيا وخطيا بالخط المغربي الأندلسي الأفريقي الذي يحمل في طياته أبعادا حضارية وتاريخية وقيما إيجابية تسعف الشاعر المغربي المعاصر على التحرر والتفرد بالذات المبدعة.
وعلى أي حال، فالعنوان البصري في التجربة المغربية المعاصرة هو أول ما يلفت نظرنا في هيئة طباعية بارزة فوق غلاف الديوان أو صفحته الأولى. ويظهر أمام المتلقي بهيئة حروف طباعية متباينة شكلا وخطا وكتابة ولونا. ولقد استفاد من تلوينات الخط المغربي كما استفاد من الخطوط الأخرى كالخط الكوفي والخط النسخي والخط الرقعي والخط الفارسي والخط الشخصي.
فإذا كان محمد بنيس يعتمد على الخط المغربي تحبيرا وكتابة وتخطيطا، فإن أحمد بلبداوي في ديوانيه: " حدثنا مسلوخ الفقروردي" و" هبوب الشمعدان" يعتمد على خطه الشخصي مع الاستفادة من الخط المغربي والخط الكوفي والخط المطبعي.
أما بنسالم حميش في ديوانه الأول:" كناش إيش تقول" فقد استعمل الخط الرقعي والخط النسخي والخط المغربي الأندلسي وخطه الشخصي، كما انبهر بخطوط أخرى كالخط الديواني الجلي والريحاني والثلثي الخ...ومزج أيضا بين الخط والحروف المطبعية وذلك حسب المقام والاقتضاء وتجنبا للرتابة والتقعيد.
وعلى العموم، فقد تميز النص الموازي بما فيه العنوان والإهداء والمقتبس واللوحة والأيقونات الخارجية و الداخلية في القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة بالتبئير السيميائي والأيقنة الفضائية والتلوين الطباعي والتشبع بالسواد المختلف سمكا و رقة، والتميز مكانيا وموقعيا، والاستفادة من تنوع الخطوط وأشكالها المختلفة، والاهتداء بالفراغ والامتلاء.
ويهتم محمد الطوبي كذلك في ديوانه: " غواية الأكاسيا" بتزيين عناوين قصائده الشعرية الرأسية و العلوية وتحبيرها بخطه الشخصي الذي يختلف سمكا و رقة من قصيدة إلى أخرى، وتتباين العناوين عنده عن القصائد الشعرية التي تسيجها سمكا وتنحيلا، تضخيما وتنحيفا، إشباعا وتجويعا:
عنوان مرقق وقصيدة مشبعة
عنوان مشبع وقصيدة مرققة
هذا، وقد قدمت الشاعرة وفاء العمراني بتعاون مع محمد البوكيلي في ديوانها الشعري: " حين لابيت..." مجموعة من العتبات المناصية في رقعة معمارية فسيفسائية تذكرنا بالنقش المغربي وزخارفه البديعية، كما استفادت من مجموعة من الخطوط الحرفية التي أضفت على الديوان جمالية فنية وعبقا دلاليا ورمزيا:
عنوان خارجي لديوان وفاء العمراني
مقتبس من ديوان وفاء العمراني
إهداء من ديوان أحمد بلبداوي:"حدثنا مسلوخ الفقروردي"
* البنية الجسدية:
اتخذت القصيدة الكونكريتية في التجربة الشعرية المغربية المعاصرة عدة أشكال كاليغرافية وطيبوغرافية، فاستفادت من خطوط متنوعة مغربية ومشرقية إبرازا وترقيقا، إشباعا وترشيقا. كما تباينت فيها الحروف والحركات الإعرابية وعلامات الترقيم والمورفيمات النحوية والكلمات والعبارات والجمل. فقد وجدنا محمد بنيس في دواوينه الكاليغرافية يتلاعب بالحروف والكلمات والجمل وعلامات الترقيم تبئيرا وتركيزا.
1- الحركات الإعرابية:
اهتم شعراء القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة بضبط الحركات الإعرابية في قصائدهم الشعرية شكلا وإملاء ووضعا، فركزوا كثيرا على الحركات الثلاث كالفتحة والضمة والكسرة التي تساهم في تفعيل النص وتوتيره دراميا ودلاليا ورؤيويا، في حين يبقى السكون علامة الصمت والتوقف والرفض والفصل بين المتواليات الكلامية والتخفيف من إيقاع الحركات المتعاقبة.
ومن المعروف أن الفتحة تدل في القصائد الشعرية المجسمة على القوة والتسلط والسيادة والاستواء والاتساع والانفتاح والهيمنة، بينما تدل الضمة على الرفعة والسمو والاستعلاء، في حين تحيل الكسرة على الانكسار والسقوط والانخفاض والانتظار والانحناء.
ويعد محمد بنيس من أوائل الشعراء الذين تلاعبوا بالعلامات الإعرابية، وحملوها دلالات جمالية وبصرية ورؤيوية كما في هذا النموذج البصري:
2- علامات الترقيم:
نجد أغلب الشعراء الكونكريتيين المغاربة المعاصرين قد تخلصوا من علامات الترقيم، ولم يستعملوها إلا نادرا كما لدى الشاعر محمد الطوبي في ديوانه :"غواية الأكاسيا" الذي مازال يحافظ إلى حد ما على علامة الاستفهام ويستخدم النقط الدائرية وعلامات الحذف. ويعني هذا أن شعراء القصيدة الكاليغرافية قد تمردوا عن القواعد الضابطة والفرامل المقيدة، وجعلوا الشعر ينساب اختيالا وافتخارا، ويسترسل رفعة وسموا، ويتبختر في الرقعة البيضاء مشبعا بالسواد تارة و متخففا منه تارة أخرى كأن هؤلاء يكتبون القصيدة النثرية بفضائها السائب حرية واتساعا وانفتاحا.
زد على ذلك، فقد أعطى الشكل البصري المجسم للقصيدة الكاليغرافية امتدادا فضائيا موسعا من الصعب تسييجه مشهديا أو تأطيره فضائيا، بل هناك قصائد تتمرد عن قوالبها الهندسية ولوحاتها المغلقة:
أحمد بلبداوي
ومن هنا، فعلامات الترقيم المغيبة في النص توسع الدلالة وتكثف المعاني، وتحقق للنص اتساقه وانسجامه الذهني، كما تعبر عن ثورة الشاعر عن سلطة المعيار، و تمرده الكاسح عن المألوف والنظام والشرعي والسلطوي رغبة في تغيير الواقع الكائن، وتدمير السائد، والانزياح عن المقدس، وتكسير الطابوهات الموروثة من أجل بناء عالم جديد.
وإليكم نموذجا شعريا كاليغرافيا لأحمد بلبداوي يسترسل فيه إنشادا وكتابة ساخرا من الواقع المستلب مستشرفا عبر رموزه اللفظية وغير اللفظية واقعا ممكنا أفضل:
ويرى محمد الما?ري في كتابه القيم : " الشكل والخطاب" أن الترقيم:" قوامه مجموعة علاقات لا أثر لها أصلا في سلسلة الكلام أثناء القراءة بصوت مرتفع أي إنها لاتبرز كأدلة صوتية، ولكن أثرها يبرز كأدلة ضاغطة للنبر فقط.
غير أن علامات الترقيم تكون دالة من هذا المنظور بالذات، فغيابها أو تغيير مواقعها، غالبا ما يكون سببا في اتساع الدلالة، أو إنتاج معنى نقيض.
وغياب علامات الترقيم في النص الشعري يمنح تفسيرا واحدا، وهو أن إيقاعية النص تكفي لوحدها لضبط الدلالة وتوجيه المتلقي. ومن هذا المنطلق امتنع الشاعر ملارمي عن ترقيم بعض نصوصه، ولكنه في المقابل جرد علامات الترقيم من وظيفتها الأصلية، بنقلها من موقعها الطبيعي ليساعد في بناء الفضاء الصوري، للنص برسم شكل معين، يقول: خذوا نصا وضعوه جانبا، ولا تتركوا إلا علامات الترقيم، إن هذه الأخيرة،تعتبر مفضلة، لأنها تمنح صورة النص واتساقه في حين يبقى مدلوله جليا بما فيه الكفاية حتى في غيابها."
وعليه، فعلى الرغم من تغييب علامات الترقيم في القصيدة الكاليغرافية المغربية المعاصرة، فإن غيابها يستلزم استحضارها ووضعها على محك التأويل و التشريح والتفكيك مع طرح الأسئلة العميقة الظاهرة والمضمرة مع العلم أن الأسئلة في الحقيقة أهم من الأجوبة كما يقول كارل ياسبرز.
3- التبئير البصري:
إذا تأملنا دواوين الشعراء الكونكريتيين المغاربة المعاصرين، فسنلاحظ ظاهرة لافتة للانتباه وهي ظاهرة التبئير البصري طاغية على كثير من قصائد بنسالم حميش ومحمد بنيس وأحمد بلبداوي،باعتبار أن هذه الوحدات الخطية سواء أكانت حروفا أم مورفيمات أم كلمات أم جملا أم مقاطع نصية لها أهمية كبرى في التدلال والإيحاء والتعيين والتضمين والتأشير على الأطروحة القضوية للقصيدة الشعرية.
ومن أهم الشعراء الذين ركزوا على تبئير الحرف بصريا نستحضر الشاعر أحمد الطوبي الذي اهتم كثيرا بتسويد حرف الواو في ديوانه: " غواية الأكاسيا" :
تبئير الحروف
ويعد بنسالم حميش إلى جانب أحمد بلبداوي في ديوانه :" هبوب الشمعدان" من الشعراء البارزين الذين اعتنوا أيما عناية بتبئير الكلمة بتحبيرها وتشبيعها بالسواد سمكا وسوادا وتفخيما كما في هذا النموذج البصري:
تبئير الكلمة بصريا - بنسالم حميش-
تبئير الكلمة بصريا – أحمد بلبداوي
وقد قام أحمد بلبداوي في دواوينه الشعرية الكونكريتية بتبئير الوحدات الخطية الكرافية والمونيمات الدالة والمقاطع النصية مع تجسيم الجمل والأسطر الشعرية ولاسيما في ديوانه الشعري:"حدثنا مسلوخ الفقر وردي":
تبئير الجملة البصرية (وأبصرنا)
تبئير المقطع الشعري
وقد يلتجئ الشاعر إلى تبئير قصيدته الشعرية اعتمادا على التقابل البصري أو التماثل الفضائي من خلال تشغيل جدلية البياض والسواد والتلاعب بالأسطر والأشطر الشعرية تدويرا واسترسالا وانسيابا وتوزيعا وتقطيعا وترتيبا كما في ديوان محمد بنيس"مواسم الشرق":
أهدي هذه الدراسة المتواضعة إلى شعراء التجربة الكاليغرافية المغربية المعاصرة في فترة السبعينيات من القرن العشرين، وأقصد بالذكر بنسالم حميش، ومحمد بنيس، والمرحوم عبد الله راجع، وأحمد بلبداوي، والناقد المرحوم محمد الما?ري صاحب الكتاب الرائع والقيم" الشكل والخطاب"، وأتباعهم من العشاق والمريدين وخاصة الشاعر المرحوم محمد الطوبي...
(1-2)
المقدمــــــــة
عرف المغرب في مساره التطوري الثقافي والإبداعي مابين القرن العشرين وسنوات الألفية الثالثة تنوعا في التجارب الشعرية التي انطلقت بالتجربة الإحيائية الكلاسيكية بمحاكاة التراث الشعري القديم وتقليد النموذج الشرقي مع تمثل التجربة الوجدانية تأثرا بالرومانسية الغربية والمشرقية في مدارسها الثلاث وخاصة مدرسة الديوان ومدرسة أبولو ومدرسة المهجر الشمالي (الرابطة القلمية) والجنوبي (العصبة الأندلسية) .
لكن مع الستينيات من القرن العشرين، ستدخل التجربة الشعرية المغربية غمار قصيدة التفعيلة متأثرة في ذلك بالتجربة الشعرية المعاصرة في المشرق مع احتذاء تعاليم نازك الملائكة وعز الدين إسماعيل ومحمد النويهي وأدونيس وكمال أبوديب وكمال خير بك وشربل داغر .
بيد أنه في السبعينيات، ستبرز قصيدتان لافتتان للانتباه ألا وهما: القصيدة الإسلامية في الشرق والقصيدة الكونكريتية في الغرب. بيد أنه في الثمانينيات من ذلك القرن، ستنتقل التجربة الشعرية المغربية مع محمد بنيس وأتباعه وأحفاده الشباب إلى القصيدة النثرية التي تفرعت في اتجاهات متنوعة: القصيدة الصوفية، والقصيدة التشكيلية، والقصيدة التجريدية، والقصيدة التجريبية، والقصيدة الصامتة، والقصيدة الواقعية، والقصيدة الفلسفية، والقصيدة السردية، والقصيدة الدرامية، والقصيدة الذاتية، والقصيدة المقطعية، والقصيدة الومضة، والقصيدة الرقمية ....
وما يهمنا في هذه الدراسة هو التركيز على القصيدة الكونكريتية المغربية واستخلاص مكوناتها الدلالية والفنية والبصرية والمرجعية والنقدية ليس إلا.
1- تعريف القصيدة الكونكريتية:
القصيدة الكونكريتية هي قصيدة المكان وتبئير الفضاء الطباعي وتجسيم جسد القصيدة الشعرية وإشباعها بالحبر الناطق فوق رقعة السواد، كما أنها قصيدة تخاطب العين والبصر، وتحاور الحواس الإدراكية المجسدة، ومن أهم وظائفها الجمالية الوظيفة الأيقونية ذات الأبعاد السيميائية لكونها تركز على العلامات غير اللفظية والمؤشرات الأيقونية الدالة.
ومن هنا، فالقصيدة الكونكريتية هي قصيدة المكان والكتابة التي تتناقض مع قصيدة الكلام والدال الشفوي. وبالتالي، فهي قصيدة حسية ملموسة تتعامل مع الخط والكرافيك والوحدات الخطية والتبئير الطباعي، كما ترتكز على التشكيل والتلوين وتوظيف الأشكال البصرية والتلاعب الساخر والمفارق بالعلامات الترقيمية التي ترد في أشكال طباعية سيميائية دالة.
وعليه، فالقصيدة الكونكريتية تتجاوز القصيدة الشفوية وتنزاح عنها تشكيلا وتبئيرا وتفضية وتدلالا. ومن هنا، يتقابل في هذه القصيدة عالمان: العالم اللغوي ذو الطابع الإنشادي والإيقاعي، والعالم الكاليغرافي المشكل بالحروف المخطوطة والأشكال البصرية المتنوعة ضمن ألوان مختلفة تتجاوز ثنائية البياض والسواد.
وليست القصيدة الكونكريتية فضاء جامدا مميتا بالرتابة السيميترية المعهودة في القصيدة العمودية أو فضاء متقطعا مقننا بتفاعيله المدورة وغير المدورة في قصيدة التفعيلة أو فضاء سائبا بكتابته النثرية الانسيابية المسترسلة في القصيدة النثرية، بل هو فضاء محبر ومزين وملون ومشكل بتموجات خطية فوق تضاريس كتابية معقدة ومبسطة تحمل في طياتها دلالات مفتوحة، وتتطلب متلقيا ذكيا يستطيع تفكيك الشفرات الأيقونية وقراءتها على ضوء السيميائيات والبلاغة البصرية.
وعليه، فالقصيدة الكونكريتية غنية بعلاماتها اللغوية والتشكيلية والعلامات غير اللفظية المتعددة الأبعاد والدلالات.
2- مصطلحات القصيدة الكونكريتية:
يلاحظ الدارس أثناء دراسته للقصيدة الكونكريتية أن لها عدة مصطلحات ومفاهيم تختلف من باحث إلى آخر، وهذه المصطلحات يمكن حصرها في هذه اللائحة المفاهيمية التالية: القصيدة الكونكريتية – القصيدة المرآوية- القصيدة المحسوسة- القصيدة الملموسة- القصيدة البصرية - القصيدة التشكيلية- القصيدة المكانية - القصيدة الأيقونية – القصيدة السيميائية- القصيدة الفضائية - القصيدة الكاليغرافية - القصيدة الهندسية – القصيدة الصورة- القصيدة الطبوغرافية – القصيدة البلاستيكية- القصيدة الطباعية - القصيدة العينية- القصيدة المجسمة- القصيدة المشهدية- القصيدة اللوحة- القصيدة الحروفية- القصيدة الميكانيكية- القصيدة المتعددة الأبعاد- القصيدة المستقبلية- القصيدة الكرافيكية... وهلم جرا
دونكم – إذا- بعض الأشكال الكاليغرافية التي تبين لنا بعض الأنواع المندرجة ضمن القصيدة البصرية:
نموذج للقصيدة المشهدية
نموذج القصيدة المتعددة الأبعاد
القصيدة الميكانيكية
3- مكونات القصيدة الكونكريتية:
تتسم القصيدة الكونكريتية بمجموعة من المقومات والمكونات والخاصيات والسمات الضرورية التي تميزها عن باقي القصائد الشعرية المعروفة في الساحة الثقافية العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة. ومن هنا، فإن القصيدة الكاليغرافية تعرف بهذه العناصر التمييزية التالية:
* ترتكز على متعة العين ومتعة الأذن على حد سواء؛
* تجمع بين البعد الزمني والبعد المكاني؛
* تتأرجح بين الإنشاد والكتابة المجسمة؛
* يتم فيها التشديد على ثنائية البياض والسواد؛
* قصيدة سماعية وبصرية في آن معا؛
* قصيدة مكانية وفضائية وهندسية وتشكيلية؛
* تنبني على ثلاث وظائف أساسية : الوظيفة اللسانية والوظيفة التشكيلية والوظيفة الأيقونية؛
* تنبني على التنوع السيميائي للخط، وتبئير علامات الترقيم، وتهجين العلامات الإعرابية، وتنويع الأشكال البصرية، وتشغيل الألوان؛
* تتطلب قارئا مؤهلا يملك إمكانيات القراءة اللسانية والبصرية؛
* تجمع في بوتقة فنية واحدة بين الشاعر والخطاط و التشكيلي؛
* تتحول القصيدة الكاليغرافية إلى لوحة لسانية مشهدية مجسمة؛
* تتكئ على التبئير والتشديد والتشظي الكرافيكي والنبر البصري؛
* توظف الخطوط المغربية والعربية المعروفة في عالم النسخ والكتابة والطباعة؛
* تجمع بين الخط اليدوي والخط المطبعي والخط الكاليغرافي.
4- القصيدة الكونكريتية العربية القديمة:
لم يعرف الشعر العربي ونقده القصيدة الكونكريتية إلا في العصور المتأخرة مع الشعراء الأندلسيين والمغاربة، وإن كانت هناك محاولات سابقة في مجال تحبير الكتابة وتجويدها ولاسيما فيما يتعلق بكتابة النصوص الدينية والصوفية والفقهية. ومن العلماء الذين اهتموا بالكتابة نذكر على سبيل التمثيل: ابن مقلة في رسائله، وإخوان الصفا الذين فلسفوا الحروف وصوفوا الأشكال البصرية في كثير من رسائلهم الكلامية والعقائدية، وابن عربي في كتابه:"الفتوحات المكية"، والصولي في كتابه: " أدب الكاتب"، والقلقشندي في كتابه:" صبح الأعشى"، وابن وهب في كتابه:"البرهان في وجه البيان"، وابن السيد البطليوسي في كتابه: " الاقتضاب في شرح أدب الكتاب"، وابن خلدون في كتابه:"المقدمة" ماعدا الكتب والرسائل والمنظومات والمخطوطات التي اهتمت بعالم الكتابة تنميقا وتزويقا وضبطا.
وفي الحقيقة، لا تركز هذه الكتب التي سبق ذكرها وسرد عناوينها إلا على أهمية الخط والإملاء وتجويد الكتابة وضبطها وتزيينها.
ويتبين لنا من هذا كله أن :" مجموع الكتابات التي اهتمت بالموضوع في التراث، لم تتجاوز في أغلبها، جانب التقعيد للإملاء والكتابة أو الحديث عن الصناعة، وحتى في الحالات التي تتجاوز هذا المستوى، نقف على تأويلات وشروح محكومة بخلفيات ثقافية ومعتقدية، تحول دون اعتمادها نظريات علمية في الموضوع."
بيد أن المتأخرين من الشعراء والنقاد اهتموا بالبعد البصري أوالمكاني كما فعل ابن رشيق القيرواني في كتابه:" العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده " حينما تحدث عن مجموعة من الأشكال الشعرية البصرية التي انزاحت عن الفضاء العمودي السيمتري المتناظر كالشكل القواديسي والمسمط والموشح ، وقد أدرج البلاغيون المتأخرون بعض الأشكال البصرية الأخرى ضمن علم البديع، فتحدثوا عن عدة أشكال أيقونية كالقلب (تقديم الأبيات في صورة مربع)، والتفصيل (وضع الأبيات وفق نظام يسمح بفصل أجزاء منها)، والتختيم (تتشابك الأبيات والأشطر في شكل خاتم)، والتثمين كما عند أبي الطيب صالح بن شرف الرندي في كتابه:"الوافي في علم القوافي"،وابن رشيق القيرواني في كتابه:"العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده".
فابن رشيق القيرواني مثلا في كتابه:" العمدة" يذكر القواديسي قائلا:" ومن الشعر نوع غريب يسمونه القواديسي، تشبيها بقواديس الساقية لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضها في الجهة الأخرى..." كما عند الرجاز طلحة بن عبيد الله العوني:
كم للدمـــى أبكــــار = بالخبيثين من مــنازل
بمهجتي للوجد من = تذكـــــــارها منازلُ
معاهد رعيـلهـــــا = مثعنجر الهواطـــــــل
لما نأى ساكنهـــــا = فأدمــــى هواطـــــــل
في حين يتميز المسمط بتعدد الأشطر والأبيات مع اختلاف القوافي والروي تشابها وتطابقا، يقول ابن رشيق في هذا الصدد:" ... فمن ذلك الشعر المسمط، وهو أن يبتدئ الشاعر ببيت مصرع ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته، ثم يعيد قسيما واحدا من جنس ما ابتدأ به، وهكذا إلى آخر القصيدة(....) وربما جاؤوا بأوله أبيات خمسة على شرطهم في الأقسمة، وهو المتعارف، أو أربعة ثم يأتون بعد ذلك بأربعة أقسمة"، ومن أمثلة المسمط ماقاله الشاعر:
خيال هــــاج لي شجنا فبــــت مكابدا حـزنا
عميد القلـــــب مرتهنا = بذكر اللهو والطـرب
سبتني ظبيـــــــة عطل = كـأن رضابها عســل
ينـــــوء بخصرها كفل = ثقيل روادف الحقـب
وإذا انتقلنا إلى هيكل الموشح الأندلسي فهو يعتمد في بنائه الجمالي والفني والمعماري على المطلع والقفل والدور والأبيات والغصن والسموط والخرجة كما في هذا الموشح لابن زهر الحفيد الأندلسي :
أيـّها الساقي إليك المُشتكى = قد دعوناك وإن لم تسـْمع ِ
ونديم ٍ همــتُ في غُـرَّتـِه
وشربتُ الرّاح من راحتِه
كلـّما استيقظ َ من غَفـْوتـِه
جذبَ الزّق إليه واتـّـكا = وسقاني أربعا ً في أربع ِ
غُصْن بان ٍ مال من حيثُ استوى
بات من يهواه من فــَرْط الجوى
خافقَ الأحشاءِِ موهـــونَ القوى
كلـّما فكـّر في البـَيـْن ِ بكى = ويحَه يبكي لـِمَا لم يـَقـَع ِ
ما لعيـــني عَشِـيَتْ بالنـّظرِ
أنـْكرَتْ بعــدَك ضَـــوْءَ القمر
وإذا ما شِئـْتَ فاسمَعْ خَبـَري
عشيـَتْ عيناي من طول ِ البـُكاء = وبكى بعضي على بعضي معي
ليسَ لي صبْرٌ ولا لي جَلـَد ٌ
يا لـَقــومي عَذَلوا واجتهدوا
أنكروا شكـــــــوايَ ممّا أجدُ
مثلُ حالي حقـُّه أن يـُشْـتـَكـَي = كـَمَدَ اليأس ِ وذُلَّ الطمـــع ِ
كبـِدي حرّى ودمعي يكـِفُ
يعرفُ الذنبَ ولا يعتـــرفُ
أيـّها المعرضُ عمَّــــا أصفُ
قد نما حبـُّـك عندي وزكـــا = لا تـَقـُلْ في الحبِّ إنـّي مدَّعي
أما عن أجزاء هذا الموشح فنوضحه بالشكل التالي:
* المطلع: وهو بداية الموشح وبنيته الاستهلالية، ويكون غالبا مصرعا كمطلع موشح الأعمى التطيلي :
حلو المجاني ماضره لو أجناني = كما عناني شغلي به وعــناني
وهو بدون تصريع في موشح ابن زهر الحفيد:
أيـّها الساقي إليك المُشتكى = قد دعوناك وإن لم تسـْمع
وكل موشح يتوفر على المطلع وستة أجزاء فهو موشح تام، وكل موشح يفتقر إلى المطلع ويتكون من خمسة أجزاء فهو موشح أقرع. ومن المعلوم أن كل مطلع يتكون من شطرين، وكل شطر يسمى بالغصن، ويعني هذا أن المطلع يتألف من غصنين متماثلين وزنا وقافية.
* الدور : يتكون الدور من مجموعة من الأسماط أو السموط، ولاتقل الأسماط عن ثلاثة ولا تزيد عن أربعة:
ونديم ٍ همتُ في غُـرَّتــِه
وشربتُ الرّاح من راحتِـه
كلـّما استيقظ َ من غَفـْوتـِه
* السمط : يتكون الدور من مجموعة من السموط أو الأسماط، ويلتزم الوشاح بعدد أسماط الدور الأول في كل الأدوار.
* القفل : يأتي القفل مباشرة بعد البيت، ويفصل بين أبيات الموشح، ويتكون غالبا من غصنين متماثلين من حيث الوزن والقافية كما في موشح الأعمى التطيلي:
أو في التداني شيء يفي بأشجاني = وفي ضماني أن ينتهي من يلحاني
بينما القفل في موشح ابن زهر غير موحد القافية والروي:
جذبَ الزّق إليه واتـّـكا = وسقاني أربعا ً في أربع ِ
* البيت: يتكون البيت من الدور والقفل معا، ويختلف تمام الاختلاف عن البيت في القصيدة العمودية التي تتكون من الصدر والعجز، وهو في موشح ابن زهر:
ونديم ٍ همـــتُ في غُـرَّتـِه
وشربـتُ الرّاح من راحتِه
كلـّما استيقظ َ من غَفـْوتـِه
جذبَ الزّق إليه واتـّـكا = وسقاني أربعا ً في أربع ِ
*الخرجة : تقع الخرجة في نهاية الموشح، وتصاغ بلغات متعددة، وتشبه القفل في الوزن والقافية. وهي في موشح الأعمى التطيلي موحدة القافية والروي:
واش كان دهاني ياقوم واش كان بلاني
واش كان دعاني نبدل حبيبي بثان
وترد الخرجة في موشح ابن زهر غير مقفاة:
قد نما حبـُّـك عندي وزكا = لا تـَقـُلْ في الحبِّ إنـّي مدَّعي
وإذا انتقلنا إلى التختيم فيعرفه ابن الرندي بقوله:" وذلك أن تصنع أبياتا تكتب في شكل مختم تتقاطع أشطره، ويشترك مايتلاقى منها في مواضع التقاطع في لفظة أو حرف واحد أو أكثر، إما مصحفا أومختلف الضبط وإما باقيا بحاله"
أما التفصيل فيعرفه كذلك أبو البقاء الرندي بقوله:" وهو أن يقسم الشعر بقسمين أو أكثر في مواضع متوازية من أبياته، وإذا فصل منه قسم من كل بيت عما قبله كان الباقي تام الوزن والمعنى. ويتبعك بذلك من القطع بحسب ما تقتضيه صنعة ذلك".
إضافة إلى كل هذا، فالقلب حسب أبو البقاء الرندي على ثلاثة أضرب:" أحدها قلب ترتيب ألفاظ البيت، فيستقيم وزنه ومعناه.....، والثاني قلب ترتيب حروف الكلام فيقرأ منعكسا كما يقرأ مستقيما....والثالث ماكان نحو هذا الشكل المربع الذي صنعته، وهو يقرأ عرضا كما يقرا طولا:
كما عرف الشعراء الأندلسيون بالتربيع والتفريع والتشجير النباتي حيث كتبوا قصائد شعرية في شكل نخلة على سبيل الخصوص.
وإليكم نموذجا شعريا مجسما بطريقة التختيم وهو للشاعر الأندلسي ابن قلاقس من شعراء القرن السادس الهجري:
نموذج أيقوني يمثل التختيم
5- القصيدة الكونكريتية الغربية :
اهتم الشعراء الغربيون بالقصيدة الكونكريتية أيما اهتمام لأبعادها الرمزية والسيميائية والشعرية، وهذا الاهتمام إن دل على شيء فإنما يدل على مدى انفتاحهم الكوني والإنساني على ثقافات عالمية وخاصة الثقافة الإسلامية والشرقية . ونجد القصيدة الكونكريتية جلية ومشخصة لدى الكثير من الشعراء الغربيين ولاسيما الفرنسيين منهم كمالارمي Mallarmé في قصيدته :"Un coup de dès n'abolira pas le hasard"، ورامبو Rimbaud، وبول إيلوار Paul Eluard، وكيوم أبولينير Guillaume Apollinaire في قصائده المجسمة كقصيدة :" برج إيفيل"، وقصيدة: " الحمامة" وقصيدة :" النسر" بالإضافة إلى قصائد المستقبليين في إيطاليا، وتجارب القصيدة العينية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان.
وإليكم بعض النماذج الكونكريتية في الشعر الغربي:
قصيدة كونكريتية في شكل شجرة
قصيدة كونكريتية في شكل حذاء
قصيدة الحمام لأبولينير
قصيدة النسر لأبولينير
قصيدة برج إيفيل لأبولينير
6- القصيدة الكونكريتية المغربية الحديثة:
إذا كان الشعر المغربي الحديث بصريا متناظر الأشطر صدرا وعجزا، ومتناسق الأبيات فضائيا بطريقة عمودية سيميترية يتوازى فيه السواد على رقعة البياض، إلا أننا نجد بين ثنايا هذا الشعر نصا كونكريتيا للشاعر المغربي علال بن الهاشمي الفيلالي المكناسي الذي كتب مسرحية شعرية حوارية في صورة إنسان مجسم له رأس وجسم ورجلان وهي باسم:" الشاعر". وبين أطراف هذا النص الدرامي أسماء الشخصيات المتحاورة وبنية استهلالية مناصية تحدد سياق القصيدة العام والخاص.
ومن المعلوم أن هذه المسرحية الشعرية قد نشرت في مجلة:" هنا كل شيء"، في عدد18، من شهر فبراير من سنة 1954م.
ودونكم، إذا، هذه القصيدة الكونكريتية التي وردت في شكل هيئة إنسان :
قصيدة الشاعر لعلال بن الهاشمي الفيلالي المكناسي
7- القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة:
لم تظهر القصيدة الكونكريتية بالمغرب إلا بعد منتصف السبعينيات من القرن العشرين مع مجموعة من الشعراء منهم: بنسالم حميش في ديوانه:" كناش إيش تقول" ، وديوان" ثورة الشتاء والصيف"، وأحمد بلبداوي في دواوينه الشعرية كديوان:" سبحانك يابلدي" ، وديوان :" حدثنا مسلوخ الفقر وردي"،وديوان:" هبوب الشمعدان" ، ومحمد بنيس في ديوانه الشعري:" في اتجاه صوتك العمودي "، وديوان:" مواسم الشرق"، و" كتاب الحب" ، وعبد الله راجع في ديوانه" سلاما وليشربوا البحار" .
وإذا كان محمد بنيس من أوائل الدارسين الذين تنبهوا إلى أهمية البعد البصري والمكاني في العمل الشعري في كتابه: " ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" في الفصل الأول أثناء حديثه عن بنية المكان ، فإن الشاعر بنسالم حميش أول من كتب القصيدة البصرية بالمغرب حسب تصريحاته واعترافاته الشخصية في ديوانه:" كناش إيش تقول" سنة 1977م.
هذا،وقد كانت مجلة " الثقافة الجديدة " التي يترأسها محمد بنيس ومجلة:" البديل" التي كان يسهر عليها بنسالم حميش وراء انتشار القصيدة الكونكريتية وانتشارها بين الشعراء واتساع مداها مغاربيا وعربيا إلى جانب بعض الصحف التقدمية آنذاك كجريدة المحرر وجريدة الاتحاد الاشتراكي وجريدة أنوال. وقد أرفقت هذه التجربة بصدور مجموعة من البيانات تسمى ببيانات الكتابة كبيان الكتابة الذي كتبه محمد بنيس ونشره في مجلة :" الثقافة الجديدة".
وسيتمثل بعض الشعراء التجربة الكونكريتية الأولى كمحمد الطوبي في ديوانه:" غواية الأكاسيا" ، ووفاء العمراني في ديوانها: "حين لابيت..."
وقد بلغت العلاقة بين الشعر والتشكيل أوجها في الكتاب المشترك الذي أنجزه الشاعر المغربي حسن نجمي والفنان التشكيلي محمد القاسمي بعنوان:" الرياح البنية".
7- القصيدة الكونكريتية العربية المعاصرة:
من المعلوم لدى الباحثين والدارسين والنقاد أن التجربة الكونكريتية لم تقتصر على شعراء المغرب فقط، بل هناك محاولات قام بها شعراء معاصرون حداثيون من تونس حيث الشاعر منصف المزغني يكتب ديوانا شعريا سنة 1988م بعنوان:" قوس الرياح" يضمنه قصائد كاليغرافية وبصرية مثل قصيدة:" جرول بن طمعون الخشنشري" :
كما كتب شعراء الشام من سوريا ولبنان قصائد شعرية كونكريتية، واحتضنتها مجلات حداثية كمجلة :" الآداب" البيروتية، ومجلة:"شعر"، ومجلة :" مواقف".
ومن أهم الشعراء الكونكريتيين العرب المعاصرين نذكر على سبيل المثال: أدونيس، وعبد القادر أرناؤوط ونذير نبعه في قصيدتيهما: " الموت طفل أعمى"، و"بكت المرآة"، وصادق الصائغ في قصيدته: " هذا قبر المرحوم":
8- الكتابات النقدية و البيانية حول القصيدة الكونكريتية:
يعد محمد بنيس أول من اهتم بالقصيدة الكونكريتية في المغرب في الفصل الذي خصصه للبعد البصري في التجربة الشعرية التفعيلية المعاصرة ضمن كتابه القيم" ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب" ، بيد أن محمد الما?ري سيخصص كتابا كله لدراسة القصيدة الكونكريتية في المغرب في كتابه الهام:" الشكل والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي"، وسيتبعه في ذلك كل من شربل داغر في كتابه" الشعرية العربية الحديثة، تحليل نصي؛ وحاتم الصكر في مقاله:" بعض مشكلات توصيل الشعر من خلال شبكة الاتصال المعاصرة"، ومحمد مفتاح في كتابه:" التشابه والاختلاف" ...
ولكن يعتبر المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي السباق إلى إبراز أهمية الخط والحرف والوشم في تشكيل الإبداع والفن على حد سواء في كتابيه: " الاسم العربي الجريح"، و:" ديوان الخط العربي"...
ومن المعلوم أن محمد بنيس هو أول من كتب بيانا للكتابة بعنوان:"بيان الكتابة"، ونشره في مجلة الثقافة الجديدة في العدد19 من سنة 1981م. وقد استتبع ها البيان ردودا نقدية مدعمة (حواش حول البيان لعبد الله راجع، وأحمد بلبداوي...)، وردودا ناسفة مثل رد نجيب العوفي الذي يقول": إن مستوى الكتابة في البيان، يبدو متفوقا على مستوى الكتابة في كثير من النصوص الإبداعية التي ينظر لها ويراهن عليها. فكأن البيان يشكل نموذجا لذاته ومصداقا لنظريته، وكان الإبداع، وهذه هي المفارقة، يصاب بضيق التنفس داخل مجاله الحيوي الطبيعي، من حيث يسترد حيويته وانتعاشه خارج هذا المجال، فهو غريب في موطنه، مستأنس في منفاه. وتبدو هذه المفارقة واضحة حين نقارن، من نحو عام، بين النصوص النظرية للحداثة والنصوص التطبيقية – الإبداعية لها. حيث تسرق الأولى سر الثانية وتفلح في استخدام السر. بناء على هذا اعتبر (بيان الكتابة) لمحمد بنيس، أرقى كتابة من كثير من نصوصه الشعرية، تلك النصوص التي خانها الشعر وهو يمارسها وحالفه وهو ينظر لها. هل هو نزق الإبداع هذا الذي ينسف جغرافية الكتابة ويخرق دستور النوايا؟! أم هي إشكالية النظرية والممارسة وقلق العلاقة بينهما؟!"
وعلى الرغم من هذا، تبقى الكتابات التي تناولت التجربة الكاليغرافية المغربية المعاصرة قليلة جدا تعد على الأصابع، ومازال البحث بكرا في حاجة ماسة للبحث والتنقيب والتحليل النصي
8- صراع البدايـــات:
وقع خلاف كبير وسجال جدلي عويص حول المؤسس الأول للقصيدة الكاليغرافية ومبلور مشروع الكتابة في الشعر المغربي المعاصر، فتعددت الأجوبة وكثرت البيانات والحواشي والردود الموضوعية وغير الموضوعية في الصحف المغربية وخاصة في المحرر الثقافي والعلم الثقافي، إذ هناك من يثبت الريادة لمحمد بنيس، وهناك من يرجعها لبنسالم حميش.
فمحمد بنيس يقول في كتابه:" ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب":"لم يتطرق النقاد لبنية المكان في المتن الشعري المعاصر بالمغرب، وعدم احتفالهم بهذا المجال البصري يعبر بوضوح عن تحكم التصور التقليدي في قراءات النص الشعري، خاصة وأن أهمية المكان ذات دلالة لايمكن اعتبارها جانبا هامشيا، أو ترفا فكريا، أو لعبة مجانية"
ويقول عبد الله راجع:" وإنه من الضروري توظيف العين التي ظلت مهملة منذ بداية الشعر العربي إلى بداية تجربة بنسالم حميش"، ويقول المرحوم محمد الما?ري معترفا:" إذا كان من حق أحد أن يغضب أو يثور لغبن لحقه من كتابي فهو الأستاذ بنسالم حميش، الذي فاتني الالتفات إلى تجربته الأولى في التوزيع الفضائي للنص.... وبالتالي إلى سبق إنجازي تم في صمت، دون صخب أو ضجيج" .
ويقول محمد مفتاح:" وقد أثر بنسالم حميش في جماعة من هؤلاء الشعراء بممارسة الكتابة الكاليغرافية بالخط المغربي. وقد تلقفوا هذه الممارسة فبدأوا يكتبون قصائد كاليغرافية بالخط المغربي"
ونقول بكل صدق بأن بنسالم حميش هو أول من كتب قصيدة كاليغرافية بالمغرب في سنة 1977م من خلال ديوانه الشعري:"كناش إيش تقول؟"، لكن محمد بنيس هو أول من أصدر بيانا تنظيريا حول الكتابة سنة 1984م، وهو أيضا أول من تنبه أكاديميا ونقديا إلى أهمية المكان في الشعر المغربي المعاصر في رسالته الجامعية:" ظاهرة الشعر المغربي المعاصر" سنة 1979م.
9- أسباب ظهور القصيدة الكونكريتية:
يمكن القول من خلال تصفحنا لمجموعة من البيانات التنظيرية : إن ثمة مجموعة من الأهداف والدواعي التي كانت وراء ظهور القصيدة الكاليغرافية المعاصرة بالمغرب يمكن حصرها في النقط التالية:
* الانزياح عن نمطية الخط العربي الآرامي ورتابته البصرية والكاليغرافية واستبداله بخطوط مغربية وأندلسية من أجل الدفاع عن الخصوصية والهوية، وإن كان بنسالم حميش ينفي هذه الخصوصية بقوله:"أما حيث يهربون من الحفرة ليسقطوا في البئر فعند استعمالهم الأحادي لخط رتيب، تفوح منه روائح الأحراز والطلاسم، يعتقدون خطأ أنه مغربي خصوصي، في حين أنه نشأ بالقرب من المشرق العربي، في القيروان، نقلا محرفا عن الخط الكوفي... ويقول العارفون: إن أقدم نماذج هذا الخط المولد ترجع إلى القرن الرابع الهجري...نرى – إذا- أن القول بالخصوصية والتميز في هذا الباب هو من قبيل التنطع والمطالبة بخصوصية وهمية لاتغني ولاتسمن من جوع" .
* إعادة الاعتبار للخط المغربي وتحريره من سلطة الخط المشرقي؛
* الكتابة فعل تحرري، " وهي أبعد ماترى إلى النص كذرة مغلقة، يوجد من باطن أدلة لم ينحتها تاريخ اللغة والذات والمجتمع. ومن ثم، فإن الكتابة نزوع لعالم مغاير في النص وبالنص.هذا ليس كافيا أيضا"
* تغيير طريقة القارئ في تعامله مع المكتوب، وفي هذا يقول بنسالم حميش:" لماذا القلب والتشطيب؟ لماذا الحواشي ؟ ثم لماذا الخط؟ كنت ملزما وقد رفضت بعض الأساليب في الكتابة الشعرية أو أوحى ببديل، فاهتديت بالتدريج إلى الوقوف على أساليب وشكول أخرى أدهشني توالدها وتنوعها. وهكذا أخذت عند الضرورة واللزوم بالقلب والتشطيب في شأن بعض البيان، راغبا في تغيير علاقة القارئ التقليدية بالكتاب والمكتوب، وفي نزع صفة القدسية عنهما ثم بالتالي، في تقوية علاقة القارئ بهما في مجال البصر والاستيعاب"
* الكتابة رؤية للعالم وميسم للمواجهة والتأسيس؛ لأن الكتابة تهدف حسب محمد بنيس:" إلى بلورة رؤية مغايرة للعالم، تستمد من التأسيس والمواجهة بنيتها الرئيسية. والمجتمع فاعل في وجود العالم وسيرورته، على أن المجتمع العربي، ومنه المغربي، لم ولايختار حياته بمحض إرادته، بعكس ماتحاول أن توهمنا بذلك إيديولوجية الهيمنة والاستبداد، من خلل مقيداتها ومروياتها.إن المجتمع العربي مغلول في ماضيه وحاضره بالأمر والردع والاستعباد، مبعد عن الابتكار والتحرر، وبرغم تحكم الصوت والسيف في مسافة خطواته واتجاهها، فقد استيقظ على تدمير الإخضاع هنا وهناك، بصيغ وأنماط متعددة"
* المزاوجة بين بلاغة العين وبلاغة الأذن، يقول أحمد بلبداوي:"حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإني لا أنقل إلى القارئ معاناتي فحسب، بل أنقل إليه نبضي مباشرة وأدعو عينيه للاحتفال بحركة جسدي على الورق. يصبح للمداد الذي يرتعش على البياض، كما لو كان ينبع من أصابعي مباشرة لا من القلم، ويغدو للنص إيقاع آخر يدرك بالعين مضافا إلى إيقاع الكلمات المدرك بالأذن..."
* الدفاع عن ذاكرة الخط المغربي التاريخية والحضارية والإبداعية، يقول أحمد بلبداوي:" من هنا لايكون الخط مجرد زخرف وديكور خارجي بقدر ماهو منغرس في بنية اللغة...وهذه الذاكرة ليست ثابتة كما لو كانت قانونا مرتبطة به ارتباط الظل، تنتقل عدواها إلى مضمون النص ذاته، وتحتاج من الكاتب إلى وعي خاص وجهد في تفجير هذه الذاكرة....إن الخط في تصوري يحمل ذاكرة النص الذي يكتب به، ويشرب من مائه وعلى طريقة الصوفي ابن عربي أقول: إن الخط أنثى عاشقة تستقبل بكل لذة العاشقين ما ينضح به النص في روحها..."
* الرغبة في التفرد والتميز على مستوى خريطة الشعر العربي عن طريق تمثل الأشكال الخطية المحلية واستلهام التجارب الخطية الغربية والأندلسية وأشكالها الفضائية والمكانية كقصيدة الموشح وقصيدة الزجل والقصائد الكونكريتية الأندلسية ذات التشجير النباتي؛
* السعي وراء التجريب والحداثة بحثا عن أشكال أسلوبية وفنية وتقنية جديدة لتثوير الشعر المغربي المعاصر؛
* التأثر بالقصائد الكونكريتية الغربية والآسيوية؛
* الاستفادة من الفنون التشكيلية واستعانة الشاعر بالرسام والخطاط؛
* التأثر بأفكار جاك دريدا الذي أعطى الأولوية للكتابة قبل الصوت الكلامي، وفي هذا يقول محمد بنيس:" أما بنية المكان فهي التي تجاهلها أو جهلها نقاد الشعر المعاصر، في عموم العالم العربي، وقد أسرهم الإيقاع، وما ذلك إلا نتيجة انحيازهم للكلام، وإلغائهم الكتابة، وهم في موقفهم هذا على عكس بعض الشعراء والنقاد الأندلسيين والمغاربة القدماء، وبعض الشعراء الأوربيين والأمريكيين اللاتينيين المعاصرين، وكذلك بعض الشعراء الآسيويين، يابانيين وصينيين، الذين جعلوا من التركيب الخطي بعدا بلاغيا يفتح النص على البصر بعد أن اكتفى بالسمع زمنا طويلا."
تلكم – إذا- هي الأسباب والدواعي التي دفعت شعراء القصيدة المغاربة السبعينيين إلى تمثل القصيدة الكاليغرافية كتابة وتخطيطا ورؤية.
10- مميزات القصيدة الكونكريتية المعاصرة:
تتسم القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة بمجموعة من المميزات الدلالية والمرجعية والمناصية والكرافيكية التي تفردها وتميزها عن باقي التجارب الشعرية المغربية المعاصرة الأخرى. وسنحاول الآن تبيان هذه المميزات على المستوى الكرافيكي والدلالي والمرجعي والجمالي :
أ- المستوى الكرافيكي:
* البنية المناصية:
نعني بالمناص العتبات والملحقات التي تحيط بالنص الشعري من الداخل والخارج كالعناوين والهوامش والمقتبسات والبيانات والحواشي وحيثيات النشر والتعيين الجنسي والفهرسة والإهداء والصور والأيقونات والغلاف الخارجي الأمامي والخلفي .
أما المناص الخارجي فنقصد به الشهادات والحوارات والكتابات الذاتية والغيرية والاشتقاق النصي.
وعليه، لقد اهتم شعراء القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة (بنسالم حميش، وعبد الله راجع، وأحمد بلبداوي، ومحمد بنيس، ومحمد الميموني، ووفاء العمراني، ومحمد الطوبي وغيرهم...) بالبعد البصري في قصائدهم تخطيطا وتشكيلا وتحبيرا. فاهتموا في البداية بالعتبات المناصية وركزوا على إشباع عناوينهم بالسواد إبرازا وإظهارا وتسميكا. ومن ثم، أصبحنا أمام عناوين مكثفة بصرياـ ومطرزة بتلوينات طباعية وخطية ذات وظائف سيميولوجية ودلالية، تساعد المتلقي على فهم النص وتفسيره أو تفكيكه وتركيبه.
ومن المعروف، أن العناوين البصرية قد تطورت في العقود الأخيرة مع تطور الطباعة واللون ودخول العالم إلى فضاء كوني رقمي تفاعلي أرحب زاخر بالتقنيات الحاسوبية المتطورة.
وهكذا، نجد شعراء السبعينيات والأجيال التي تبعتهم يهتمون بالعناوين الخارجية والداخلية مركزين على تبئير النص اللغوي وأيقنة عتباته وتفضية عناوينه، واستخدام مجموعة من الخطوط البصرية ولاسيما الخط المغربي والأندلسي منها قصد التحرر من المركزية الشرقية كما يقول محمد بنيس في :" بيان الكتابة" :" كثيرا ماكتبنا عشقنا للخط المغربي، هذا الأثر الأخير الذي يمنح هويتنا ابتهاجا. إنها عودة المكبوت. حاولنا محق هذا العشق، تنويمه، بحجة تكريس وحدة الخط العربي، وحدة الذوق، وحدة الحساسية. كنا سذجا، لأن الكبت المتزايد لم يحمل معه غير التصدع المتصاعد لحجاجنا. كان المشرق بالنسبة لنا مصدر الحقيقة، الصواب والخطأ، ومع صدور"الاسم العربي الجريح" و" ديوان الخط العربي" لعبد الكبير الخطيبي انفجرت العين وتاهت اليد، كان الجسد يستيقظ على ذهوله، آثارنا التي نومناها باسم الوحدة تبغتنا وتأخذنا مواربة، ولم ندرك أن الوحدة الحقيقية هي التي تنبثق عن فروقنا المتعددة، حيث ينتفي استبداد المركز، واستعباد مختلف الإمكانات. وحدة المجموع لاوحدة المفرد هي التي نسير إليها، يكفي ما آلت إليه وحدة المفرد من انغلاق وانهيار وإرهاب.
لم نكن وحدنا مكبوتين، بل الخط المغربي هو الآخر انزاح عن فضاء العين، دخل مدرجات الأقبية وانزوى، ألغاه الخط المشرقي لأول مرة في العصر الحديث مع الدعوة إلى الخروج من التخلف. وتلك قصة أخرى. لم تكن خرافة الحداثة غير استسلام لنمطية تقمع أحادية المفرد بها تعددية المجموع.
حان الوقت لنمنح النص ابتهاجه، ونسترد ملكيتنا للخط المغربي. بعضهم يقول إن الخط المغربي متمنع الاستعمال في كتابة تحررية، مادامت تاريخيته محكمة الوصل بالسلطة والمتعاليات.لاتنسوا أن الوعي النقدي منهج أساس في الكتابة. تأملوا قليلا،هاهو الخط المغربي يمتد من الأندلس غربا وشمالا إلى حدود مصر شرقا، وبعض البلاد الأفريقية جنوبا، مغربي بهذا المعنى لايقتصر على المغرب السياسي، ولكنه المغرب الجغرافي الذي أنتج وأبدع خصوصية هذا الخط. متنوع في تقنياته حتى لكأنه مسافات من الموسيقى والغناء. عطاء شعبي قبل أن يكون إمضاء سلطويا. نرج فيه الثوابت ونخلخل الاطمئنان، ملكيتنا نحن أيضا، نعلن خروجنا عليه فيما نحن داخله، بين الخارج والداخل نقيم. نسترد هذا الخط ونسائله، نفكك أسطوريته ومتعالياته، لاتغوينا جماليته بقدر ما ننصت فيه لأثر من آثار جسدنا. لامجال للحجاج إذا، لقد عرف الخط العربي، ومنه المغربي، كيف يدمر المعنى، ويبني لنفسه نسقا متمنعا على الخضوع لسلطة المتعاليات. وهاهي الكتابة تكرس لعبة النرد بعيدا عن كل صدفة.
عودة الخط المغربي تتنصل من كل قطعة مع النوازع الأخرى من الخطوط العربية، ولا مع الممارسات الخطية خارج العالم العربي، لأن الكتابة تنبذ الانغلاق مهما كانت صيغته، فيما لاتستسلم لمحو الفرق.إنها مغربية، عربية، إنسانية."
إذا، لقد تمثل الشعراء المغاربة المعاصرون الخط المغربي من أجل التحرر من شرنقة الشرق والتميز عن شعرائه مكانيا وخطيا بالخط المغربي الأندلسي الأفريقي الذي يحمل في طياته أبعادا حضارية وتاريخية وقيما إيجابية تسعف الشاعر المغربي المعاصر على التحرر والتفرد بالذات المبدعة.
وعلى أي حال، فالعنوان البصري في التجربة المغربية المعاصرة هو أول ما يلفت نظرنا في هيئة طباعية بارزة فوق غلاف الديوان أو صفحته الأولى. ويظهر أمام المتلقي بهيئة حروف طباعية متباينة شكلا وخطا وكتابة ولونا. ولقد استفاد من تلوينات الخط المغربي كما استفاد من الخطوط الأخرى كالخط الكوفي والخط النسخي والخط الرقعي والخط الفارسي والخط الشخصي.
فإذا كان محمد بنيس يعتمد على الخط المغربي تحبيرا وكتابة وتخطيطا، فإن أحمد بلبداوي في ديوانيه: " حدثنا مسلوخ الفقروردي" و" هبوب الشمعدان" يعتمد على خطه الشخصي مع الاستفادة من الخط المغربي والخط الكوفي والخط المطبعي.
أما بنسالم حميش في ديوانه الأول:" كناش إيش تقول" فقد استعمل الخط الرقعي والخط النسخي والخط المغربي الأندلسي وخطه الشخصي، كما انبهر بخطوط أخرى كالخط الديواني الجلي والريحاني والثلثي الخ...ومزج أيضا بين الخط والحروف المطبعية وذلك حسب المقام والاقتضاء وتجنبا للرتابة والتقعيد.
وعلى العموم، فقد تميز النص الموازي بما فيه العنوان والإهداء والمقتبس واللوحة والأيقونات الخارجية و الداخلية في القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة بالتبئير السيميائي والأيقنة الفضائية والتلوين الطباعي والتشبع بالسواد المختلف سمكا و رقة، والتميز مكانيا وموقعيا، والاستفادة من تنوع الخطوط وأشكالها المختلفة، والاهتداء بالفراغ والامتلاء.
ويهتم محمد الطوبي كذلك في ديوانه: " غواية الأكاسيا" بتزيين عناوين قصائده الشعرية الرأسية و العلوية وتحبيرها بخطه الشخصي الذي يختلف سمكا و رقة من قصيدة إلى أخرى، وتتباين العناوين عنده عن القصائد الشعرية التي تسيجها سمكا وتنحيلا، تضخيما وتنحيفا، إشباعا وتجويعا:
عنوان مرقق وقصيدة مشبعة
عنوان مشبع وقصيدة مرققة
هذا، وقد قدمت الشاعرة وفاء العمراني بتعاون مع محمد البوكيلي في ديوانها الشعري: " حين لابيت..." مجموعة من العتبات المناصية في رقعة معمارية فسيفسائية تذكرنا بالنقش المغربي وزخارفه البديعية، كما استفادت من مجموعة من الخطوط الحرفية التي أضفت على الديوان جمالية فنية وعبقا دلاليا ورمزيا:
عنوان خارجي لديوان وفاء العمراني
مقتبس من ديوان وفاء العمراني
إهداء من ديوان أحمد بلبداوي:"حدثنا مسلوخ الفقروردي"
* البنية الجسدية:
اتخذت القصيدة الكونكريتية في التجربة الشعرية المغربية المعاصرة عدة أشكال كاليغرافية وطيبوغرافية، فاستفادت من خطوط متنوعة مغربية ومشرقية إبرازا وترقيقا، إشباعا وترشيقا. كما تباينت فيها الحروف والحركات الإعرابية وعلامات الترقيم والمورفيمات النحوية والكلمات والعبارات والجمل. فقد وجدنا محمد بنيس في دواوينه الكاليغرافية يتلاعب بالحروف والكلمات والجمل وعلامات الترقيم تبئيرا وتركيزا.
1- الحركات الإعرابية:
اهتم شعراء القصيدة الكونكريتية المغربية المعاصرة بضبط الحركات الإعرابية في قصائدهم الشعرية شكلا وإملاء ووضعا، فركزوا كثيرا على الحركات الثلاث كالفتحة والضمة والكسرة التي تساهم في تفعيل النص وتوتيره دراميا ودلاليا ورؤيويا، في حين يبقى السكون علامة الصمت والتوقف والرفض والفصل بين المتواليات الكلامية والتخفيف من إيقاع الحركات المتعاقبة.
ومن المعروف أن الفتحة تدل في القصائد الشعرية المجسمة على القوة والتسلط والسيادة والاستواء والاتساع والانفتاح والهيمنة، بينما تدل الضمة على الرفعة والسمو والاستعلاء، في حين تحيل الكسرة على الانكسار والسقوط والانخفاض والانتظار والانحناء.
ويعد محمد بنيس من أوائل الشعراء الذين تلاعبوا بالعلامات الإعرابية، وحملوها دلالات جمالية وبصرية ورؤيوية كما في هذا النموذج البصري:
2- علامات الترقيم:
نجد أغلب الشعراء الكونكريتيين المغاربة المعاصرين قد تخلصوا من علامات الترقيم، ولم يستعملوها إلا نادرا كما لدى الشاعر محمد الطوبي في ديوانه :"غواية الأكاسيا" الذي مازال يحافظ إلى حد ما على علامة الاستفهام ويستخدم النقط الدائرية وعلامات الحذف. ويعني هذا أن شعراء القصيدة الكاليغرافية قد تمردوا عن القواعد الضابطة والفرامل المقيدة، وجعلوا الشعر ينساب اختيالا وافتخارا، ويسترسل رفعة وسموا، ويتبختر في الرقعة البيضاء مشبعا بالسواد تارة و متخففا منه تارة أخرى كأن هؤلاء يكتبون القصيدة النثرية بفضائها السائب حرية واتساعا وانفتاحا.
زد على ذلك، فقد أعطى الشكل البصري المجسم للقصيدة الكاليغرافية امتدادا فضائيا موسعا من الصعب تسييجه مشهديا أو تأطيره فضائيا، بل هناك قصائد تتمرد عن قوالبها الهندسية ولوحاتها المغلقة:
أحمد بلبداوي
ومن هنا، فعلامات الترقيم المغيبة في النص توسع الدلالة وتكثف المعاني، وتحقق للنص اتساقه وانسجامه الذهني، كما تعبر عن ثورة الشاعر عن سلطة المعيار، و تمرده الكاسح عن المألوف والنظام والشرعي والسلطوي رغبة في تغيير الواقع الكائن، وتدمير السائد، والانزياح عن المقدس، وتكسير الطابوهات الموروثة من أجل بناء عالم جديد.
وإليكم نموذجا شعريا كاليغرافيا لأحمد بلبداوي يسترسل فيه إنشادا وكتابة ساخرا من الواقع المستلب مستشرفا عبر رموزه اللفظية وغير اللفظية واقعا ممكنا أفضل:
ويرى محمد الما?ري في كتابه القيم : " الشكل والخطاب" أن الترقيم:" قوامه مجموعة علاقات لا أثر لها أصلا في سلسلة الكلام أثناء القراءة بصوت مرتفع أي إنها لاتبرز كأدلة صوتية، ولكن أثرها يبرز كأدلة ضاغطة للنبر فقط.
غير أن علامات الترقيم تكون دالة من هذا المنظور بالذات، فغيابها أو تغيير مواقعها، غالبا ما يكون سببا في اتساع الدلالة، أو إنتاج معنى نقيض.
وغياب علامات الترقيم في النص الشعري يمنح تفسيرا واحدا، وهو أن إيقاعية النص تكفي لوحدها لضبط الدلالة وتوجيه المتلقي. ومن هذا المنطلق امتنع الشاعر ملارمي عن ترقيم بعض نصوصه، ولكنه في المقابل جرد علامات الترقيم من وظيفتها الأصلية، بنقلها من موقعها الطبيعي ليساعد في بناء الفضاء الصوري، للنص برسم شكل معين، يقول: خذوا نصا وضعوه جانبا، ولا تتركوا إلا علامات الترقيم، إن هذه الأخيرة،تعتبر مفضلة، لأنها تمنح صورة النص واتساقه في حين يبقى مدلوله جليا بما فيه الكفاية حتى في غيابها."
وعليه، فعلى الرغم من تغييب علامات الترقيم في القصيدة الكاليغرافية المغربية المعاصرة، فإن غيابها يستلزم استحضارها ووضعها على محك التأويل و التشريح والتفكيك مع طرح الأسئلة العميقة الظاهرة والمضمرة مع العلم أن الأسئلة في الحقيقة أهم من الأجوبة كما يقول كارل ياسبرز.
3- التبئير البصري:
إذا تأملنا دواوين الشعراء الكونكريتيين المغاربة المعاصرين، فسنلاحظ ظاهرة لافتة للانتباه وهي ظاهرة التبئير البصري طاغية على كثير من قصائد بنسالم حميش ومحمد بنيس وأحمد بلبداوي،باعتبار أن هذه الوحدات الخطية سواء أكانت حروفا أم مورفيمات أم كلمات أم جملا أم مقاطع نصية لها أهمية كبرى في التدلال والإيحاء والتعيين والتضمين والتأشير على الأطروحة القضوية للقصيدة الشعرية.
ومن أهم الشعراء الذين ركزوا على تبئير الحرف بصريا نستحضر الشاعر أحمد الطوبي الذي اهتم كثيرا بتسويد حرف الواو في ديوانه: " غواية الأكاسيا" :
تبئير الحروف
ويعد بنسالم حميش إلى جانب أحمد بلبداوي في ديوانه :" هبوب الشمعدان" من الشعراء البارزين الذين اعتنوا أيما عناية بتبئير الكلمة بتحبيرها وتشبيعها بالسواد سمكا وسوادا وتفخيما كما في هذا النموذج البصري:
تبئير الكلمة بصريا - بنسالم حميش-
تبئير الكلمة بصريا – أحمد بلبداوي
وقد قام أحمد بلبداوي في دواوينه الشعرية الكونكريتية بتبئير الوحدات الخطية الكرافية والمونيمات الدالة والمقاطع النصية مع تجسيم الجمل والأسطر الشعرية ولاسيما في ديوانه الشعري:"حدثنا مسلوخ الفقر وردي":
تبئير الجملة البصرية (وأبصرنا)
تبئير المقطع الشعري
وقد يلتجئ الشاعر إلى تبئير قصيدته الشعرية اعتمادا على التقابل البصري أو التماثل الفضائي من خلال تشغيل جدلية البياض والسواد والتلاعب بالأسطر والأشطر الشعرية تدويرا واسترسالا وانسيابا وتوزيعا وتقطيعا وترتيبا كما في ديوان محمد بنيس"مواسم الشرق":