محمد فيض خالد - الدّراوه.. أقصوصة مصرية

ما إن تعلو شواشي عِيدان الذّرة ، فتتراقص شعرات كيزانها الشُّهب ، حتى تغوص القرية في لُججٍ من حَكايا أبناء المنّصر، وطُرف من مغامراتِ ثعالب الليل الذين لا يُعرف لهم ملة.
أيام وتتراجع الشّمس بوجهها الأصفر الحزين ، أمام كتائب الظّلام المخيفة، حينها يغمر المكان سكونٌ قاتل ، فلا تبدو معه بارقة أمل ، تخمد الحركة فوقَ الجسورِ التي تزاحمت مع المغيبِ ، بأسرابِ الفلاحين ، تتسابق في حميةٍ عائدة من فجِاجِ الأرضِ بعد جَهدِ يوم طويل ، تُلهب ظهور الدّواب قبل أن تلملمَ ابنة النّهار خيوطها الهاملة، لتستقر حيث كانت ، حتى إذا زلفت الشّمس عن كبدِ السّماء ، تُغِرق ضفائرها ثوبَ المساء المُتربص بالحقولِ ، ساعتئذٍ تخشع الأصواتُ ، فلا تسمع إلا رِكزا.
ينقطع حبل الرّجاء عن الموجوداتِ ، تنحصر حركة الأهالي بين جدرانهم الكئيبة ، تنبعث أضواء المصابيح على استحياءٍ، تتراقص ذبالتها خجلا فوقَ الحيطانِ المرتجفة، التي تخشى على نفسها ما يخشاه أهلوها، الذين علاهم الوجوم فأضحوا كطرائدِ الليل ، التي تفزع من صيادها.
يظلّ التوجس يكتنف القلوب التي تعلّقت بذاك المجهول الممدد فوق حقول الذرة ، يلوك في ظلمتهِ، وفحيح الشرّ يصمّ الآذان ، يفيض الفراغ الصّامت المتشح بالخوفِ بلا هوادةٍ ، يظل الناس _هكذا_ على حالتهم ، إلى أن تمشي جذوة النّهار في فحمةِ الليل ، وينحدر برقعه فيكشف عن وجهِ الصّباح الشاحب .
يلتف الناس يتسمّعوا أحاديثَ المساء بشغفٍ وفزع، تشاهد دخان نفوسهم وهي تحترق ببطئ، تكتمل الصورة فظاعةً مع تتابعِ أصواتِ الأعيرة النارية مجهولة المصدر ، التي تملأ الأفق في فوضاها قادمة من مكانٍ سحيق ، تتيّبس الحناجر ، وتزيغ الأبصار ، لحظتئذٍ ينزع كُلّ خاطرٍ من مكمنهِ ، وفوق المصاطب تغذي جلسات السّمر تلك المخاوف في جلالٍ ورهبة ، تتحرك الألسن في تحفزٍ ، فتنزح من آبارِ الرهبة، ما يغرق القلوب في شلالٍ يزعزع أركانها ، فتزيدها هما إلى همٍّ ، وكمدا فوق كمد.
همسا يتهالك النساء في أحاديثهن الباهتة في غبشِ الأعتاب ، يظل الناس يتخبطون تيها ، في غياهبِ الليلِ المترامية ، وقد سرى فيهم كسل الرضا بالمقسومِ ، وانتظار الفرج الذي لن يكون بغيرِ انقضاء موسم الذرة ، وانتزاع آخر عيدانه من الحقولِ.
حتى الدّواب والدواجن أصابها ما أصابَ أصحابها من خرسٍ ، فهي أحرص على الامتثالِ للطاعةِ، تفرغ الحظائر من صخبها المعهود ، وكأنّها تخاف ما يخاف البشر ، فعلى مرمى حجرٍ يكمن أبناء المنّصر ، وأشقياء الليل ، الذين زحفوا كالهوام عند المساءِ ، التصقوا بعيدانِ الذرة الملتفة بالبيوتِ، ينتظروا بفارغِ الصّبرِ الفرصة ، فتعمل معاولهم نقبا في الجدرانِ الطينية ، التي ارهقها الانتظار ، منذ أن امتدت رؤوس الذرة عالية ، وكأنّها اسكنت _خصيصا_ بين أحضانها كُلّ لصٍّ وطريد ، استقدمته ليسرق الراحة من عيونِ أبناء الطّين ، ويترك مكانها الحسرة والالتياع .
تمضي الأيام في كآبتها، يلعن الناس الذرة وأيامه ، وفي كُلّ لحظةٍ ينتظر النّاس ما يفجعهم ، أكثر من انتظارهم ما يفرحهم ، تسبح الدور في رهابها ، لا يفيق أهلها من أهوالهم بياض النهار ، حتى يعادوا إليهِ مساء.
تنضج كيزان الذرة ، وتبيضّ أثوابها ، وتبهت خضرتها آذنة بالرَّحيلِ ، ليبهت معها الخوف في صدورِ النَّاس ، يسدل السِّتار عن موسمها المُرهِق ، وها هي الأرض وقد خلت، تنتفض ثانية ؛ تتبختر في ثيابها السّود ، وكأنّ شيئا من ذكراها لم يكن، تتفلّت أشباح القوم من جديدٍ تملأ الحقول ، وبقايا من أحاديثِ الدّراوه عالقة تُوشِك أن تنزاح.

محمد فيض خالد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...