في أسبوع، في عشرة أيام، في شهر في سنة...في خطوة في خطوتين في ثلاث في عشر خطوات...حاولت الاختيار، غير أن البائع الذي يفترش الكتب قال:
- لا تشترِ هذه الخزعبلات..
رددت يدي عن الكتاب، ووجهت نحوه نظرة متسائلة فقال:
- لا تصلح هذه الكتب معك..فلن تصبح مليونيراً لا في أسبوع ولا مائة عام..
ولما رأى الدهشة في عينيَّ أضاف:
- إن شخصيتك ليس من ذاك النوع الذي يمكنه أن يغتال الفكرة..
ثم أشعل سجارة واخذ يصيح:
- الكتاب بجنيهين..كل كتاب بجنيهين فقط..تعال يا مثقف.. تعالوا يا متعلمين يا بتوع المدارس...
فتركته ومضيت..وها قد مضت عشرون عاماً وكلي فضول لقراءة تلك الكتب التي تغتال الفكرة.. أي فكرة تلك التي قصدها ذلك البائع يا ترى؟..
واسترجعت تاريخي البعيد لأجده مجرد ماضٍ بلا تاريخ.. ذلك أن التاريخ حدث من الزمن وأما الماضي فحدث مع الزمن.. خديجة تزوجت وأنجبت ستة أطفال..أصبحوا كباراً الآن..ذلك الحب الوهمي الوحيد الذي ومض وانطفأ بسرعة كبيرة، أعقبته خيبات وخيبات...فأي فكرة تلك التي يمكن إغتيالها؟...كل العلاقات الماضية تتحول في الحاضر لمشهد كوميدي مثير للضحك..أيها العجوز..ها قد بت تعاني من أمراض الشيخوخة..تذكرت أنني لم أزر الموتى منذ زمن بعيد فمضيت نحوهم ثم وقفت من على البعد أمام مقبرة الأسرة..وقفت فقط محاولاً استرجاع صورهم وأصواتهم، غير أن ذلك استعصى عليَّ..جاء حارس المقبرة ووقف إلى جانبي يتأمل..
- يرحمهم الله..
هدهدت رأسي..فأضاف:
- إنني أعتني بها جيداً.. لقد جعلها جدك الأكبر وقفاً..لم تشهد المنطقة من قبل وقفاً لأسرة واحدة..
- يمكنك أن تدفن بها أي شخص خارج الاسرة إنني شخصياً لا أمانع..
- ولكن ..أليس ذلك مخالفٌ لوصية جدك؟
- جدي مات..ولن يضيره إضافة آخرين .. نحن لن نتزاوج داخل القبور..
- حسنٌ..كما تأمر.. ولكن هل سيقبل باقي الورثة؟
- لم يتبق سواي..
-وأولادك؟
- ليس لدي أولاد..
- أها..
ويبدو أنه صمت حزناً على وضعي رغم أنني لم أجد ما يثير الحزن..
- حسنٌ..جهز قبراً واحداً لي عندما اموت..واجعل باقي المساحة مفتوحة لمن يريد..
- تمام..
وابتعدت..وظِلٌ قصير يزحف أمامي فيشوش أفكاري. لذلك قررت السير بظهري.. درت بعقبي وأخذت أسير إلى الخلف...كان ذلك متعباً جداً، ليس لأن بعض المارة كانوا ينظرون إليَّ باستغراب، ولكن لأنه كان عليّ أن ألتفت كل دقيقة لأرى الشارع خلفي..وبصورة ما استقليت سيارة النقل ومنها سرت إلى منزلي بمشية خلفية..قال الغسال ضاحكاً:
- مايكل جاكسون..
قلت معترضاً:
-ليس كذلك..لكنني أكره ظلي فقط..
قال:
- لماذا..ما الذي فعله بك؟
قلت:
- قسم ذاتي لنصفين..عندما أراه أشعر بأنه جزءً مني..ولكنني أدوسه بقدمي..
قال:
- حسنا والملابس كذلك..إن كل شخص يأخذ ملابسه ينظر لها كما لو كانت ابنه..يعدها ويتأملها.. ذلك يشعرني بأنني قابلة توليد..
- هذا شعور نبيل منك في الواقع أيها الغسال الطيب..إن كل شيء يدخل في ملكية الإنسان يندمج بالذات.. لكن ظلي ليس ملكي وهذه هي المشكلة..إنه رفيق بغيض..هاربٌ دائماً من تحت حذائي..
قال:
-إن ابنة القاضي تلك الفتاة القصيرة تحب ظلها الطويل وهذا يدعم وجهة نظرك..أعتقد ذلك..
- هل تذكرها؟
- كانت حبيبتك على ما أتذكر..
سرحت ببصري بعيداً فاضاف:
- كنت أنت في كلية أخرى.. ولم يجمعنا سوى الحزب...
- أها.. تلك ذكريات بعيدة يا صديقي..
-فصلونا من الكلية..
أشعل سجارة وقال والدخان يعج أمام وجهه:
- كنا ثوريين..
همست:
- شباب..
ابتسم فظهرت أسنانه الصفراء:
- نعم..شباب.. تلك المرحلة التي تقرر مصيرك ومستقبلك..لا تتمتع بالرشد اللازم..
- لكننا كنا سعداء..أليس كذلك..؟
- كنا...
سألته:
- والآن..ألستَ سعيداً؟
حك ذقنه بأصبع يده الصغير دون أن يفلت السجارة من أصابعه الأخرى:
- لا أعرف..لكنني تعمدت أن لا يتعلم إبني السياسة..
- هذا جيد.. سيصبح رأسمالياً لو نجحت في إبعاده عن القناعات الحمقاء..
قال:
- صحيح..ولو نجح كرأسمالي فسيصبح بعدها سياسياً لا يشق له غبار..غير أنني أخشى شيئاً واحداً فقط..
ألقى السجارة تحت أقدامه وسحقها وهو يضيف:
- أن يرث جيناتنا الحمقاء تلك..
قلت:
- أي جينات..
قال:
- الجينات التي تمنعه من إغتيال الفكرة..
تركته أمام مغسلته، وتوجهت نحو منزلي..هناك شرعت في رسم شجرة العائلة بدقة...ولاحظت أنها شجرة مقلوبة...إذ كان عدد الأجداد أكثر من الفروع دائماً....كنا نتآكل..لا أحد سواي..وانتابني شعور سيئ بالذنب.. نهضت وفتحت باب خزنتي القديمة مخرجاً بعض الميراث.. كانت بعض الحلي الذهبية وعشرات الصكوك التي تثبت ملكيات عقارية..يمكنني أن أبدأ منذ الآن.. لابد من اغتيال الفكرة.. وعليَّ قبل كل شيء أن أنبه حارس المقبرة بإلغاء القرار السابق...
(تمت)
.
.
- لا تشترِ هذه الخزعبلات..
رددت يدي عن الكتاب، ووجهت نحوه نظرة متسائلة فقال:
- لا تصلح هذه الكتب معك..فلن تصبح مليونيراً لا في أسبوع ولا مائة عام..
ولما رأى الدهشة في عينيَّ أضاف:
- إن شخصيتك ليس من ذاك النوع الذي يمكنه أن يغتال الفكرة..
ثم أشعل سجارة واخذ يصيح:
- الكتاب بجنيهين..كل كتاب بجنيهين فقط..تعال يا مثقف.. تعالوا يا متعلمين يا بتوع المدارس...
فتركته ومضيت..وها قد مضت عشرون عاماً وكلي فضول لقراءة تلك الكتب التي تغتال الفكرة.. أي فكرة تلك التي قصدها ذلك البائع يا ترى؟..
واسترجعت تاريخي البعيد لأجده مجرد ماضٍ بلا تاريخ.. ذلك أن التاريخ حدث من الزمن وأما الماضي فحدث مع الزمن.. خديجة تزوجت وأنجبت ستة أطفال..أصبحوا كباراً الآن..ذلك الحب الوهمي الوحيد الذي ومض وانطفأ بسرعة كبيرة، أعقبته خيبات وخيبات...فأي فكرة تلك التي يمكن إغتيالها؟...كل العلاقات الماضية تتحول في الحاضر لمشهد كوميدي مثير للضحك..أيها العجوز..ها قد بت تعاني من أمراض الشيخوخة..تذكرت أنني لم أزر الموتى منذ زمن بعيد فمضيت نحوهم ثم وقفت من على البعد أمام مقبرة الأسرة..وقفت فقط محاولاً استرجاع صورهم وأصواتهم، غير أن ذلك استعصى عليَّ..جاء حارس المقبرة ووقف إلى جانبي يتأمل..
- يرحمهم الله..
هدهدت رأسي..فأضاف:
- إنني أعتني بها جيداً.. لقد جعلها جدك الأكبر وقفاً..لم تشهد المنطقة من قبل وقفاً لأسرة واحدة..
- يمكنك أن تدفن بها أي شخص خارج الاسرة إنني شخصياً لا أمانع..
- ولكن ..أليس ذلك مخالفٌ لوصية جدك؟
- جدي مات..ولن يضيره إضافة آخرين .. نحن لن نتزاوج داخل القبور..
- حسنٌ..كما تأمر.. ولكن هل سيقبل باقي الورثة؟
- لم يتبق سواي..
-وأولادك؟
- ليس لدي أولاد..
- أها..
ويبدو أنه صمت حزناً على وضعي رغم أنني لم أجد ما يثير الحزن..
- حسنٌ..جهز قبراً واحداً لي عندما اموت..واجعل باقي المساحة مفتوحة لمن يريد..
- تمام..
وابتعدت..وظِلٌ قصير يزحف أمامي فيشوش أفكاري. لذلك قررت السير بظهري.. درت بعقبي وأخذت أسير إلى الخلف...كان ذلك متعباً جداً، ليس لأن بعض المارة كانوا ينظرون إليَّ باستغراب، ولكن لأنه كان عليّ أن ألتفت كل دقيقة لأرى الشارع خلفي..وبصورة ما استقليت سيارة النقل ومنها سرت إلى منزلي بمشية خلفية..قال الغسال ضاحكاً:
- مايكل جاكسون..
قلت معترضاً:
-ليس كذلك..لكنني أكره ظلي فقط..
قال:
- لماذا..ما الذي فعله بك؟
قلت:
- قسم ذاتي لنصفين..عندما أراه أشعر بأنه جزءً مني..ولكنني أدوسه بقدمي..
قال:
- حسنا والملابس كذلك..إن كل شخص يأخذ ملابسه ينظر لها كما لو كانت ابنه..يعدها ويتأملها.. ذلك يشعرني بأنني قابلة توليد..
- هذا شعور نبيل منك في الواقع أيها الغسال الطيب..إن كل شيء يدخل في ملكية الإنسان يندمج بالذات.. لكن ظلي ليس ملكي وهذه هي المشكلة..إنه رفيق بغيض..هاربٌ دائماً من تحت حذائي..
قال:
-إن ابنة القاضي تلك الفتاة القصيرة تحب ظلها الطويل وهذا يدعم وجهة نظرك..أعتقد ذلك..
- هل تذكرها؟
- كانت حبيبتك على ما أتذكر..
سرحت ببصري بعيداً فاضاف:
- كنت أنت في كلية أخرى.. ولم يجمعنا سوى الحزب...
- أها.. تلك ذكريات بعيدة يا صديقي..
-فصلونا من الكلية..
أشعل سجارة وقال والدخان يعج أمام وجهه:
- كنا ثوريين..
همست:
- شباب..
ابتسم فظهرت أسنانه الصفراء:
- نعم..شباب.. تلك المرحلة التي تقرر مصيرك ومستقبلك..لا تتمتع بالرشد اللازم..
- لكننا كنا سعداء..أليس كذلك..؟
- كنا...
سألته:
- والآن..ألستَ سعيداً؟
حك ذقنه بأصبع يده الصغير دون أن يفلت السجارة من أصابعه الأخرى:
- لا أعرف..لكنني تعمدت أن لا يتعلم إبني السياسة..
- هذا جيد.. سيصبح رأسمالياً لو نجحت في إبعاده عن القناعات الحمقاء..
قال:
- صحيح..ولو نجح كرأسمالي فسيصبح بعدها سياسياً لا يشق له غبار..غير أنني أخشى شيئاً واحداً فقط..
ألقى السجارة تحت أقدامه وسحقها وهو يضيف:
- أن يرث جيناتنا الحمقاء تلك..
قلت:
- أي جينات..
قال:
- الجينات التي تمنعه من إغتيال الفكرة..
تركته أمام مغسلته، وتوجهت نحو منزلي..هناك شرعت في رسم شجرة العائلة بدقة...ولاحظت أنها شجرة مقلوبة...إذ كان عدد الأجداد أكثر من الفروع دائماً....كنا نتآكل..لا أحد سواي..وانتابني شعور سيئ بالذنب.. نهضت وفتحت باب خزنتي القديمة مخرجاً بعض الميراث.. كانت بعض الحلي الذهبية وعشرات الصكوك التي تثبت ملكيات عقارية..يمكنني أن أبدأ منذ الآن.. لابد من اغتيال الفكرة.. وعليَّ قبل كل شيء أن أنبه حارس المقبرة بإلغاء القرار السابق...
(تمت)
.
.