أجلس بالمقهى والنهار يستأذن فى الانصراف. أضع ساقا على ساق، وجسدي مسترخٍ فى مقعد البامبو المريح. أمسك فنجان القهوة بإصبعين.. الفنجان أقرب إلى فمي.. وعيني فى اتجاه الباب الزجاجى الذى فتح ببطء لتخرج منه سيدة تضخ عطرا وتسبقها هالة من ضياء. لا أذكر ماذا فعلت بالفنجان؟ ولا أدرى إن كنت رشفت القهوة أم رشفت من موجة الهواء المعطر التى هاجمتنى. المقهى يزدحم بالجالسين، بعضهم يثرثرون معا، والآخرون يحدثون أنفسهم دون أن تتحرك شفاههم. ما الذى جعلني أتأكد أنها جاءت من أجلي؟ لماذا أنا؟ ولماذا قمت من مكاني عندما اقتربت؟ وهل رأى الجالسون والسائرون هالة الضياء وغشيتهم موجة العطر المسكرة؟ وهل ميزوا الألوان المتداخلة في هالة الضياء المدهش.. البرتقالي الشفقي والأزرق السماوي الموشى بالأبيض الثلجي؟
اقتربتْ كأنها تقصدني.. ولما أصبحت على بعد خطوتين انحرفت يسارا ثم واصلت كأنها تدعوني لأتبعها فأسرعتُ خلفها. دخلت إلى محل الملابس التى سبقتني إليه. اقتربت منها وتأملتها عن قرب..
يا رب هذا جمال أخافه.. فكيف ألمس هذا الجسد المرمرى؟ بل كيف أحتمل الوهج الذى يشع منه؟ وهج دافئ معطر موحٍ متواطيء يتمسح بي في نعومة قطة. جسد لا يمكن احتماله مستورًا بالثياب فكيف إذا تكشَّف. يحتال فيملأ فضاء الرؤية دون تقحُّمٌ. العينان تكفياني.. فما بال هاتين الشفتين الظالمتين تضرمان النار في شغاف قلبي. لماذا تهرب عيني من جمال العينين لتقع على جمال أشدّ؟ حاولت أن أفر من سطوة الجذب المُعجِز للعينين فسقطت نظراتي على فضاء تزينه قدمان صغيرتان مرمريتان شاهقتا البياض لا تستطيعان الاختباء فى حذاء فضي.. وكأن قوة قاهرة سحبت نظراتى لأعلى ببطء. رأيت ساقين من رخام وردي يشعان حرارة.. كأنهما مخروطتان بيد فنان بارع..
أبصرت ما جعلني كالواقف أمام فرقة مدججة بالسلاح، تسد علىّ الطريق، فلا أستطيع الهرب، ولا أقدر على التقدم. انسابت دموع الفرح من عيني فلم أقدر على منعها. رأيتني أقف أعزل دون غطاء يحميني من طائر الجمال الذى حط على كتفيّ وبين عينيّ وفى عمق قلبي المترع بالرعشة. أنقذتني ابتسامة مباغتة انطلقت من عينيها فأضاءت الكون، وأدفأت قلبي. أمعنت النظر محاولا التثبت، فرأيت بقايا الابتسامة الكونية تلون شفتيها وخدها، وهى تستدير وتمضي متباطئة فى رقة. لم أعرف كيف سرت وراءها مسحورًا؟ قطعت بضع خطوات سريعة وواسعة فحاذيتها.. واتتني شجاعة كاسحة كأني صاحب حق قديم فسألتها:
- أين كنت طوال العمر الذى مضى؟
- دعني أسألك.. لم تأخرت كل هذه السنين؟
قبل أن أجيب رأيتها تقذف بحذائها الفضي من قدميها. سحبتني من يدي وصعدت إلى المسرح الخالي وراحت ترقص على أنغام متداخلة تأتي من بعيد.. أصغيت فإذا هى خليط من دقات لدربكة مصرية وموسيقى سودانية وفالس غربي. وجدت نفسي أجاريها فى الرقص. كأن أصابعها نقلت براعتها فى الرقص إلى جسدي.. فاشتعلتُ حماسا وأنا أدور معها وأصابعنا متشابكة. كلما تغيرت النغمة تبدلت خطواتنا لتوافقها. تصببنا عرقا فجلسنا على أرضية المسرح الذى امتلأ بجمهور أخذ يصفق بحرارة.. أخجلتنا الحفاوة فقمنا نرد التحية بانحناءات متتالية. قبل أن يغادر الجمهور أمسكت بيدي جيدا.. راقبتها وهى تصعد لأعلى. وجدتني بجوارها نسبح فى فضاء المسرح ونراقب الجمهور.. تعجبت من الخفة والسلاسة التى نتحرك بها. لم أعرف إلى أين نذهب. نظرت إليها فأشارت إلى القبة فانفتحت ببطء. تسربنا إلى فضاء يزينه قمر فى المحاق.. غاظني أنه منبعج.. لكنه كان ينير الشوارع والبنايات بما يكفي لمتابعة المدينة الساكنة. مضينا نستكشف الشوارع والتقاطعات والميادين. حاولت أن أكلمها لكن الهواء صار مصفحًا فاكتفيت بالمراقبة. استخدمت نظراتي وضغطات أصابعي لتعرف الأماكن التى أريد رؤيتها. السكون يلف كل شيء. بعد عدة دورات رأيت المدينة تصحو فأخذتني النشوة. خطر ببالي أن أسبح منفردا في الفضاء. حاولت أن أخلص يدي من بين أصابعها، فحذرتني بنظرة صاعقة، لكني لم أمتثل. هويت بسرعة فارتعبت. أفقت على الأصوات العالية التى تحيط بي.. لكنى لم أميز كلمة واحدة. أحسست أن قلبي ينقر فى صدري بقوة. والأسى على فقدانها يغمرني. حاولت أن أحرك ساقي فلم أستطع. اكتفيت بنظرة واحدة إلى فنجان القهوة الذى ما زال في يدي.
كفر الزيات فى 11 أبريل 2009.
اقتربتْ كأنها تقصدني.. ولما أصبحت على بعد خطوتين انحرفت يسارا ثم واصلت كأنها تدعوني لأتبعها فأسرعتُ خلفها. دخلت إلى محل الملابس التى سبقتني إليه. اقتربت منها وتأملتها عن قرب..
يا رب هذا جمال أخافه.. فكيف ألمس هذا الجسد المرمرى؟ بل كيف أحتمل الوهج الذى يشع منه؟ وهج دافئ معطر موحٍ متواطيء يتمسح بي في نعومة قطة. جسد لا يمكن احتماله مستورًا بالثياب فكيف إذا تكشَّف. يحتال فيملأ فضاء الرؤية دون تقحُّمٌ. العينان تكفياني.. فما بال هاتين الشفتين الظالمتين تضرمان النار في شغاف قلبي. لماذا تهرب عيني من جمال العينين لتقع على جمال أشدّ؟ حاولت أن أفر من سطوة الجذب المُعجِز للعينين فسقطت نظراتي على فضاء تزينه قدمان صغيرتان مرمريتان شاهقتا البياض لا تستطيعان الاختباء فى حذاء فضي.. وكأن قوة قاهرة سحبت نظراتى لأعلى ببطء. رأيت ساقين من رخام وردي يشعان حرارة.. كأنهما مخروطتان بيد فنان بارع..
أبصرت ما جعلني كالواقف أمام فرقة مدججة بالسلاح، تسد علىّ الطريق، فلا أستطيع الهرب، ولا أقدر على التقدم. انسابت دموع الفرح من عيني فلم أقدر على منعها. رأيتني أقف أعزل دون غطاء يحميني من طائر الجمال الذى حط على كتفيّ وبين عينيّ وفى عمق قلبي المترع بالرعشة. أنقذتني ابتسامة مباغتة انطلقت من عينيها فأضاءت الكون، وأدفأت قلبي. أمعنت النظر محاولا التثبت، فرأيت بقايا الابتسامة الكونية تلون شفتيها وخدها، وهى تستدير وتمضي متباطئة فى رقة. لم أعرف كيف سرت وراءها مسحورًا؟ قطعت بضع خطوات سريعة وواسعة فحاذيتها.. واتتني شجاعة كاسحة كأني صاحب حق قديم فسألتها:
- أين كنت طوال العمر الذى مضى؟
- دعني أسألك.. لم تأخرت كل هذه السنين؟
قبل أن أجيب رأيتها تقذف بحذائها الفضي من قدميها. سحبتني من يدي وصعدت إلى المسرح الخالي وراحت ترقص على أنغام متداخلة تأتي من بعيد.. أصغيت فإذا هى خليط من دقات لدربكة مصرية وموسيقى سودانية وفالس غربي. وجدت نفسي أجاريها فى الرقص. كأن أصابعها نقلت براعتها فى الرقص إلى جسدي.. فاشتعلتُ حماسا وأنا أدور معها وأصابعنا متشابكة. كلما تغيرت النغمة تبدلت خطواتنا لتوافقها. تصببنا عرقا فجلسنا على أرضية المسرح الذى امتلأ بجمهور أخذ يصفق بحرارة.. أخجلتنا الحفاوة فقمنا نرد التحية بانحناءات متتالية. قبل أن يغادر الجمهور أمسكت بيدي جيدا.. راقبتها وهى تصعد لأعلى. وجدتني بجوارها نسبح فى فضاء المسرح ونراقب الجمهور.. تعجبت من الخفة والسلاسة التى نتحرك بها. لم أعرف إلى أين نذهب. نظرت إليها فأشارت إلى القبة فانفتحت ببطء. تسربنا إلى فضاء يزينه قمر فى المحاق.. غاظني أنه منبعج.. لكنه كان ينير الشوارع والبنايات بما يكفي لمتابعة المدينة الساكنة. مضينا نستكشف الشوارع والتقاطعات والميادين. حاولت أن أكلمها لكن الهواء صار مصفحًا فاكتفيت بالمراقبة. استخدمت نظراتي وضغطات أصابعي لتعرف الأماكن التى أريد رؤيتها. السكون يلف كل شيء. بعد عدة دورات رأيت المدينة تصحو فأخذتني النشوة. خطر ببالي أن أسبح منفردا في الفضاء. حاولت أن أخلص يدي من بين أصابعها، فحذرتني بنظرة صاعقة، لكني لم أمتثل. هويت بسرعة فارتعبت. أفقت على الأصوات العالية التى تحيط بي.. لكنى لم أميز كلمة واحدة. أحسست أن قلبي ينقر فى صدري بقوة. والأسى على فقدانها يغمرني. حاولت أن أحرك ساقي فلم أستطع. اكتفيت بنظرة واحدة إلى فنجان القهوة الذى ما زال في يدي.
كفر الزيات فى 11 أبريل 2009.