فلاح الجواهري - وعي على ذكرياتي: التجاني الماحي

يعوم مركب البضائع (الدوبة) براكبيه فوق مدينة وادي حلفا..
نحن فوق (اطلنطيد) غارق.. فوق المدينة الصغيرة العريقة المغمورة بمياه بحيرة النوبة (امتداد بحيرة ناصر)..
.. بضعة رؤوس لنخيل متباعدة تسبح في الماء الطامي.. برج كنيسة وعلى مسافة منه رأس مأذنة بيضاء، لم يكن عندي اجمل من هذا الرمز العظيم.. هذا كل ما هو مرئي من مدينة وادي حلفا..
رسى المركب عند مساحة رملية منبسطة.. وضعت الواح لنزولنا.. وضع كل احماله فوق الاتربة.. انا مع حقيبتي اليدوية التحقت بالآخرين منتظرا الخطوة القادمة، التي لا اعرف ماهيتها بالتحديد.. تقدم نحوي ثلاثة من زملاء الرحلة وقادوني معهم الى حيث يتجمع بقية الركاب العشرة.. لقد تبدلت علاقة الجميع معي بعد حادثة الغريق اصبحت محل رعايتهم وصداقتهم.
تنتشر فوق الاتربة اكشاك معدودة لخدمات اساسية للمسافرين..كشك لاعداد الشاي.. آخر لبعض الاكلات البسيطة.. كشك للتلغراف..
.. توجه اثنان من مجموعتنا الى تجمعات المسافرين الاخرين..عادا بعد قرابة الساعة ليخبرونا انهم ارسلوا برقيتين : الاولى برقية احتجاج لنشرها في الصحف السودانية والمصرية عن انعدام وسائل واحتياطات السلامة الاولية على ظهر المراكب الثلاثة.. البرقية الثانية نعي للغريق.
المدينة الغارقة كانت مركزا تجاريا هاما بين مصر والسودان.. تم تهجير سكانها الى شرق السودان من قبل الحكومة السودانية، الى منطقة(خشم القربة)، حيث اعدت لهم مساكن مناسبة ووزعت اراض زراعية لفلاحيها بديلا عن تلك الغارقة او التي تركت اضطرارا نتيجة ارتفاع مياه مشروع السد العالي، كانت عملية مماثلة لتلك التي حدثت في مصر حين تم تهجير ساكني النوبة الى مناطق قرب اسوان.
.. لم يبق من سكان حلفا الا نفر قليل ليمارسوا خدمات المسافرين القادمين من مصر او الذاهبين اليها.
بنى هؤلاء الباقون لانفسهم عششا من القش والخوص هي مكان اقامتهم ومركز خدماتهم.
كان علينا انتظار القطار القادم من الخرطوم حتى مساء اليوم التالي.. القطار يصل مرتين في الاسبوع الى بادية وادي حلفا لينقل المسافرين الى اسوان وليعود بالبضائع وبالمسافرين القادمين منها.
.. حل المساء وعذبت نسمات البادية من حولنا.. فرشت الحصائر ووضعت حقائب السفر وصررها حولنا.. كل اخذ وضعه المريح..من استلقى ومن جلس ومن وضع صرة كبيرة وراءه واخذ يجيل البصر ببقايا المدينة الغارقة..
.. من كشك قريب قدم صاحب المقهى بصينية تحمل اقداحا للشاي..
.. كنت لا ازال محرجا من رفاق سفري، فمن معبد ابي سمبل وحتى وصولنا الى حلفا، لم يسمحوا لي بدفع ثمن اقداح الشاي او الشواء الذي كان يقدمه (العم ابراهيم) على ظهر المركب، رغم ممانعتي الشديدة في البدء والتي اضطررت الى تجاهلها بعد فترة.. كنت ومنذ ذاك الحين في ضيافة الجمع السوداني.
في الليل عاد تاج الدين فرحا بعد ان اختفى في الظلام ساعة او بعضها.. عاد وبيد واحدة فانوس، و بالاخرى زجاجتي ويسكي.. الفانوس استعاره من احدى العشش القليلة المتناثرة حولنا في البادية.. الوسكي قايضه بجنيهين مصريين من احد المتعاملين في البضائع المهربة كالسجائر والمشروبات والعطور واقراط الذهب وما شابه..
لم تمض الا دقائق حتى بان خيال احدهم في الظلام مقتربا منا وكنا قد اخذنا وضع حلقة سمر دائرية.. كان القادم عامل كشك المقهى والمأكولات وقد حمل بيده صينية وبها عدد من صحون المكسرات والمخلل وبزر البطيخ المجفف وعددا من الاقداح الفارغة.
قام تاج الدين بصب الوسكي في بضعة اقداح.. هنالك دورق من الماء العكر لمن يريد.. آخرون امتنعوا شاكرين..
.. كثرت النوادر والحكايا السودانية الظريفة.. طلب احدهم من (شرف) ان يمتعهم&
بصوته..لحظات وكان الجميع يغنون معه.. آخرون يصفقون النغم المصاحب ككورس منسجم..
.. استمرت جلسة السمر حتى ساعة متأخرة من الليل.. قفز تاج الدين وتوجه من جديد صوب بصيص ضوء احدى العشش وأختفى في الظلمة.. عاد ومعه شخص آخر يحملان صينية كبيرة.. وضعاها وسط دائرة السامرين.. كانت فتة كوارع & (باجة) هلل لأبخرتها ولحمها وثريدها الكل بفرح وانبهار.." ينصر دينك يا تاج "
" يا اعظم رجل في العالم! ".. " يا تاج الدين والدنيا، يا تاج الملوك.. " "يا تاج راسنا!" ترددت اصوات ثناء الجميع على مفاجئة تاج الدين المثيرة.
.. لم نبق في الصينية إلا العظام.. اولمناها لكلبين ربضا من بدء الجلسة قربنا وشاركانا بما رزق الله.
نهض مصطفى واختفى في الظلمة ليعود بعد قليل بحصيرة ووسادة.. فرش الحصيرة فوق الرمل ووضع الوسادة عند طرفها " أهو ياسيدي فرشتك الملوكي "..
اغفى الجميع فيما عداي.. تجولت على حافة المياه التي التحفت بحلكة السماء.. عدت صوب بصيص فوانيس العشش المتناثرة.. بعض المسافرين استلقوا على تخوت المقهى.. البعض منهم استلقى فوق حصائر التخوت بعد فرشها على الارض.. الحقائب والرزم والصرر متناثرة هنا وهناك..
.. اكملت جولتي كحارس للمنطقة.. عدت فاستلقيت على فراشي الملوكي.. لحظات وضقت ذرعا بالحصيرة الملكية.. تركتها لاستلقي على الرملة الباردة واسيح في السماء الصافية بافلاكها المتشابكة.. تتبعت وهج المجرة المضبب، الذي يبدو وكأنه وشاح جرجرت حواشيه آلاف الانجم حوله..
لم افق إلا ووهج الشمس يبهر عينيّ في الصباح.
.. عصراً سمعنا من بعيد صوت انفاس القطار القادم، ثم صفيره المتقطع كاشارة عن قرب وصوله..لملم المسافرون حاجياتهم ووضعوها قرب السكة الحديدية.. لم تكن هنالك محطة.. هذه سكة حديد جديدة فوق تلال حلفا الغارقة.
كانت العربات والقاطرة ذاتها قديمة جدا ولعلها نفس القاطرة الاولى من ايام حكم غوردون نهاية القرن التاسع عشر.
أخذنا اماكننا على المقاعد الخشبية في العربة بعد ان كنا قد تزودنا بالماء وببعض الاطعمة الضرورية..عند الغروب تحرك القطار وبدأ اهتزاز العربات على الجانبين يتزايد، كذلك تزايدت نفخات الغبار الآتية من بين شقوق الواح ارضية العربات التي كانت تسمح برؤية الحصا والتراب بين السكتين التي يدّب عليهما القطار.
حين احسست بالتعب والنعاس في ساعة متأخرة من الليل لم أجد احسن من الاستلقاء فوق الواح ارضية العربة تحت المقعد الذي نجلس عليه، رغم ما كان من حركة الالواح صعودا ونزولا ورغم نفخات الاتربة القادمة من بينها.. كانت اغفاءاتي متقطعة، لكنها كانت كافية لان استعيد بعض نشاطي عند شروق الشمس.
.. ازداد عدد المسافرين بشكل كبير خلال الليل وعند الفجر.. لا تزال هنالك امكنة فارغة كثيرة للجلوس في العربة.. توقف القطار لفترة تزيد على الساعة في (بو حمد) لملء صهريج القاطرة بالماء امكننا خلالها من النزول لغسل وجوهنا ولنأكل الشواء ونشرب الشاي في مقهى عند زقاق قريب بين الابنية الطينية الواطئة.&
..لم يواصل القطار جر عرباته العديدة بتثاقل و بطء لفترة طويلة حتى توقف دون ان تكون هنالك قرية او محطة مرئية.. نزل عدد كبير من المسافرين يستقصون سبب التوقف..كان سائق القاطرة ومساعده يقرفصان قرب احد انابيب القاطرة التي أخذت تنفث البخار بشدة من فتحة غير صغيرة فيها.. السائق يلعن كل شيء في الارض والسماء.. يروح ويجيء محملقا في الانبوبة المخرومة ويعود ليواصل صب لعناته.. كانت تلك احدى انابيب الدفع البخاري الاربعة، ومالم تستبدل بواحدة اخرى فلن تستطيع القاطرة مواصلة السير.
لا مكتب للتلغراف او التلفون الا على مبعدة لا تقل عن خمسين كيلومترا..حتى لو تم الاتصال بالخرطوم وهو المركز الوحيد الذي ستصل منه النجدة فسيستغرق الامر يوما وليلة او حتى يومين لانجاز ابدال الانبوبة.
.. انتشر الركاب بين نخيلات معدودة طلبا للظل ولنسمات طرية تهب من النيل القريب.. جلس آخرون حول السائق يتشاورون.. هب سائق القاطرة فجأة وسأل من حوله عن قطعة جلدية عريضة.. لم يطل التفكير فقد سارع احد المسافرين الى افراغ حقيبته الجلدية في العربة وجلبها الى السائق.. قام سائق القاطرة بتقطيع الحقيبة الى اشرطة جلدية عريضة.. لف الانبوبة المخرومة بشريط جلدي وربطه باسلاك اخرجها من صندوق عدد القاطرة.. لفّ شريط جلدي آخر وثبته باسلاك اخرى.. اعاد العملية مرتين اخريين.. صعد الى القاطرة ورفع يديه بدعاء الى السماء.. نفثت القاطرة انفاسها ودخانها بقوة من جديد.. تحركت ببطء ساحبة ورائها العربات العديدة القديمة المغبرة.. هلل الجميع.. اطلق السائق صافرة القاطرة عدة مرات.. عاد الجميع الى عرباتهم&
..عند المساء كنا في عطبرة.
دخلنافي زقاق بين البيوت الطينية المحاذية للخط الحديدي.. هنالك ساحة ترابية صغيرة حولها عدة دكاكين جلست عند مداخلها نسوة مترهلات..اكثرهن كان ينفث دخان النارجيلة التي امامهن.. كان هذا هو سوق محطة عطبرة.
جلسنا - جماعة تاج الدين - مصطفى وشرف وانا، في مقهى صغير يعد المشويات في صدر السوق وكان السائق ومساعده ضيوف الشرف عندنا.
عند حلول الظلام تحركت القاطرة ببطء وحذر من جديد..قرابة منتصف الليل اخذت مكاني السابق لاستلقي تحت المقاعد..لم تكن نفخات الاتربة وحركة الالواح الخشبية لارضية العربة هي وحدها التي جعلت الاغفاء عسيرا، كانت الارجل الكثيرة المتزاحمة من جانبي المقعدين الملتصقين ببعضهما يميني ويساري هي السبب الاكبر..لقد اكتضت العربات بالمسافرين.
.. ظهيرة اليوم التالي كنا قد وصلنا الخرطوم.
..لم ينفع اصرار تاج الدين ومصطفى وشرف في ان اذهب الى بيت واحد منهم...شاهدت لوحة كتب عليها (فندق النور) غير بعيد عن المحطة التي كنا نقف عند مخرجها..
- اشكركم يا اخوان.. ساقيم هنا وسنلتقي كثيرا فيما بعد..
- والله ده شيء مش صحيح.. كمان دي منطقة مش ولابد.. قريبة من حي المومسات..
لم تنفع محاولاتهم لاثنائي.. تحركوا معي صوب الفندق.. تقدم تاج الدين الى حيث يجلس صاحب الفندق في فسحة صغيرة عند المدخل وهمس في اذنه ببضع عبارات.. رحب الرجل بي واشار الى خادم الفندق ليوصلني الى غرفتي..عانقت تاج الدين ومن ثم مصطفى وشرف..اوصلتهم الى المدخل وعدت لاذهب مع خادم الفندق الى غرفتي.
.. سارعت لاسأل عن موقع الحمام.. كان في الفضاء الخلفي للفندق.
..فتحت الدُوش فانصب ماء صاف منه.. وقفت تحت الماء الصافي المنعش.. ظل سيل من الطمي ينحدر من رأسي وجسمي على ارضية الحمام لفترة غير قصيرة وانا انظر اليه باستغراب شديد..ها قد حملت معي اتربة اسوان والنوبة وشمال السودان.
القيت بنفسي على السرير وغفوت بعمق..صحوت قبل الغروب بقليل..نزلت وتناولت الشاي في فناء الفندق وخرجت بعدها استقصي معالم المنطقة التي انا فيها..
.. بعد بضع مئات من الامتار كان هنالك حي متواضع ببيوت طينية واطئة وبيت او بيتين من الطين وآلاجر..هنا وهناك نسوة يقفن عند الابواب.. فندق من طابقين بواجهة ضيقة يحمل لافتة (فندق النيل الازرق)..عند باب الفندق تقف إمرأتان في اوسط العمر احداهما مليحة الوجه.. كلتاهما متبرجتان.. النسوة جميعهن في رداء &(الثوب) السوداني المحتشم..الوان اثوابهن ونقوشها واضحة وفرحة..واصلت سيري مخترقا الحي..عند وصولي باب فندق النيل الازرق، سألتني مليحة الوجه بابتسامة لطيفة :
- مش عايز ونس ؟!.. عيب تكون لوحدك في المسا.
- شكرا يا حلوتي.. للاسف! والله انا على موعد مع صديق، رددت عليها بابتسامة مماثلة وواصلت السير ببطء.. لم يطل تجوالي في الحي.. عدت الى فندقي..
.. قرب طاولة مسؤول الفندق كان في انتظاري تاج الدين وبصحبته شاب آخر وقد وضع امامه حقيبتي اليدوية وبدلتي فوقها.. عرفني تاج الدين بأخيه اسماعيل.. مددت يدي لادفع لصاحب الفندق فقال لي " لما تبات عندينا في الفندق وقتيها راح تدفع ".
كان بيت تاج الدين في حي متواضع اغلب بيوته من الطين.. البعض منها من قسمين الخلفي من الآجر والامامي من الطين.
البيت الطيني لتاج الدين الجزء الامامي منه ،هو(البراني)، وهو لضيوف الدار من الرجال.. باحة واسعة مكشوفة بها اربعة اسرة حديدية، وغرفة طويلة تؤدي من الامام الى الباحة ومن الخلف الى (الدخلاني) من الدار حيث الاهل من النسوة والاطفال.. الباب الخارجي لا يُحكّم بالقفل او الترباس..جاهز ابدا لأن يُدفع ليدخل ضيف او زائر من المعارف او الاصدقاء او ممن يوصي بهم هؤلاء.. منهم من يأتي من مدن اخرى ليبيت - وتقدم له كل واجبات الضيافة اللائقة المتواضعة الاخرى - حتى ينهي الزائر اشغاله الطارئة التي استدعت قدومه الى العاصمة.
.. كان الليل قد حل حين دخلنا باحة (البراني).. وضع حقيبتي داخل غرفة الضيوف ومنها اشار الى المرافق الصحية في طرفها والى شماعة لتعليق الملابس والى بضعة ازواج من النعال قرب المدخل.
تاج الدين في منتصف العشرينات، لايزال اعزبا، موظف في دائرة البريد، له أخ،هو اسماعيل في العشرين من عمره..طالب جامعي، واخت في السادسة عشرة.. الوالد قد توفي قبل عامين.. الام خياطة ملابس لأهل الحي والمعارف والاقرباء.
.. كان تاج في اجازته السنوية، قضى معظمها في القاهرة ولم يبق منها إلا بضعة ايام سيعود بعدها الى عمله.
.. ادخل تاج الدين بدلتي وقميصي الى (الدخلاني) من الدار.. قام اسماعيل بفرش عدة حصائر في الباحة المكشوفة.. دخل تاج الدين بعد قليل حاملا صينية نحاسية فوقها صحون اطعمة واقداح من اللبن الزبادي والخبز..
استلقينا على الاسرة.. دار الحديث ونحن نتكيء على الوسائد عن ايامنا السابقة ومشاريعنا اللاحقة.. عن السودان ووضعه الجديد بعد ثورة اكتوبر السلمية المبشرة بالخير..عن اجواء الديقراطية التي تسود في البلد منذ قرابة العام.. كانت فرصة لي لافاتح تاج الدين بالرسالة التي احملها لرئيس مجلس رئاسة الدولة، الدكتور التجاني الماحي.
اطلعني تاج الدين على ان المجلس الثلاثي الدوري التناوب، قد انتهى وأن آخر دورة له كانت برئاسة التجاني الماحي.. الرئيس السوداني الحالي هو اسماعيل الازهري الذي انتخبه البرلمان للمنصب قبل فترة قصيرة.. سالته عن صعوبة مقابلة رأس الدولة السابق وعن كيفية ترتيب موعد للقائه..
- لا موعد ولا هم يحزنون.. غدا سنذهب للقائه في داره.. ففي يوم الجمعة هذا، يستقبل الكبار امثاله زوارهم.
- كيف ؟!.. رئيس دولة! وشخصية ثقافية هامة.. لا في السودان وحسب بل العالم كله.. مسؤول تنظيمات الشباب والمستشار الاقليمي لمنظمة الصحة في الامم المتحدة..لقد ابدت ملكة انكلترا اثناء زيارتها للسودان في فترة رئاسته، اعجابها الشديد بثقافته.. لابد وانك تمزح يا تاج!
- نحن في السودان يا اخينا!!..هنا من المعيب أن يغلق احد بابه ، موظفا بسيطا كان مثلي او رئيس دولة، في وجه زائريه.
عند الضحى عادت اليّ البدلة والقميص نظيفة مكوية.. نضوت دشداشتي بعد ان لازمتني منذ (دوبة)اسوان والى ذلك اليوم.. ارتديت بدلتي وابدلت نعالي بحذاء .. احسست نفسي غريبا بعض الشيء.
كان الوقت ضحى حين وصلنا الى بيته في منطقة بحري (يقسم النيل الازرق والنيل الابيض العاصمة الى الخرطوم وبحري وأم درمان)
..بيت حديث متواضع من طابق واحد يذكرني ببيوت الطبقة العراقية المتوسطة في بغداد.. حديقة امامية صغيرة ومساحة حجرية مظللة بسقف (طارمة.. فارنده) فوقها طاولة دائرية..هنالك بابان.. الجانبي تصورته يودي الى غرفة الضيوف، والامامي الى (الدخلاني) حيث الأهل والعائلة.. بابا الحديقة مفتوحان على سعتهما.. ضغط تاج الدين على زر الجرس..
.. فتح الباب الامامي ليخرج منه شاب في العشرينات فارع الرأس بجلابية بيضاء .. قدم الى باب الحديقة وعلى وجهه ابتسامة ترحيب.. بادره تاج الدين :
- صباح الخير.. أنا تاج الدين الحسن، ومعي ضيف من العراكَـ، ممكن نكَـابل الوالد الكريم.
رحب بنا وقادنا الى (الطارمة).. استأذننا ودخل من الباب الامامي.. لحظات وخرج علينا رجل مربوع القامة في الخمسينات من عمره مشى وخط المشيب في فوديه، بجلابية طويلة وعمة سودانية بيضاوين..
- يا أهلا ومرحبا.. يا أهلا وسهلا.. مد يده فصافحنا..
في هذه اللحظة فتح الشاب باب غرفة الضيوف حاملا كرسيين مطويين، وفتحهما..كان التجاني قد دخل من حيث خرج الشاب ليأتي بكرسي ثالث " يبدو اننا اول الزائرين ".. فتح الكرسي الثالث وكرر عبارته :
- يا أهلا.. يا أهلا.. اشار الينا بالجلوس.
كنت حائرا باية تحية سابادر هذا الرجل العظيم " سيادة الرئيس..".. " سيادتكم.."
" شرف أن أقابل معاليكم.. (مر ببالي خطفا، اجتيازي الغرف الضخمة الثلاث والسكرتارية والحارس الشخصي في مصر وحيرتي وانا اجتازها في التحية المناسبة، لاقابل خالد محي الدين).. حل لغزي وحيرتي هذا تاج الدين حين سمعته يخاطب التجاني :
- مرحب بشوفتكم دكتور.. صباح السرور دكتور..
وقف الابن الشاب وراء والده في انتظار اشارته..
- صباح جميل اليوم..لا رطوبة عالية ولا حر الاسبوع الماضي الخانق.
- إنشاالله يدوم ويبكَـا كم يوم زيه الحال ده.. دكتور! أنا تاج الدين الحسن.. اكَـدملك ضيفي وصديقي دكتور فلاح الجواهري من العراكَـ.. قالها تاج الدين بحرارة.
- وكيف حال البلد العزيز، العراق ؟.. سأل التجاني
- والله..لايزال الوضع سيئا بعد الانقلاب البعثي الدموي عام 63..
.. قبل ان اواصل مناحتي.. قاطعني بلطف :
- بلدنا في الغربة نذكر خيره دائما.. التبدلات التي تحصل في الشعوب دليل حركتها وطموحها للتغيير..عَـيّـنْ خير يا شاب!.. انا اثق بحركات شعوبنا.. عندي أمل كبير وثقة فيها.
شعرت بالخجل.. بدأت مطالع سحابة كآبة ازاحها سؤال التجاني
- لك صلة بالشاعر الكبير الجواهري ؟
- أنا ابنه..
- يا ميت مرحب..يا ميت هلا، لقد التقيت بالوالد مرات.. في مؤتمرات عديدة، كان اولها مؤتمر المثقفين في القاهرة نهاية الاربعينات.. كيف حال الوالد الكريم ؟
- بخير والحمد لله ويهديكم شوقه وتحياته.. لقد حمّـلني رسالة اليكم.
تململ تاج الدين وحاول النهوض والاستئذان بالمغادرة بحجة مهمات عليه ان ينجزها قبل عودته الى عمله الوظيفي..
- مش كَـبل ما تشرب حاجة.. التفت الى ولده وراءه.. ادرك الشاب مهامه فاختفى دقائق في الدار ليعود باقداح مثلجة من عصير المانجة.
.. بعد ان غادر تاج الدين فتح التجاني رسالة الجواهري ولم يعلق شيئا عليها..
- بلـّغ الوالد اطيب تحياتي.
كان التجاني بعدها سيد الحديث الشيق المتنوع..
- هل تعرف ان لنا صلات نسب ودم مع العراق منذ ازمان بعيدة.. إن قبائل (العركيين) الكبيرة المنتشرة في ارجاء السودان، ماهم إلا العراقيين الذين قدموا واستوطنوا السودان، مع الزمن تحولت كلمة العراقيين (العراكَيين) بين الناس فاصبحت العركيين..أنا مغرم بتتبع تأريخ العراق قديما وحديثا.. دعني اطلعك على سجل مصور للتأريخ اتابعه واهوى جمعه..
..غاب لبضع دقائق ليعود حاملا البوما كبيرا.. قرّب كرسيه ليكون لصيقا بكرسي ّوفتح الألبوم..كانت صفحاته مليئة باسطر من الطوابع المختلفة الاحجام والالوان والقدم..
- أنظر! هذا طابع من اندر ما يكون الآن، إنه يؤرخ تتويج الملك فيصل الاول.. هذا طابع آخر له وهو يرتدي (الفيصلية)!.. وهذا في زيه البدوي!.. انظر!!.. انظر! هذا طابع نادر آخر للامير غازي.. وهذا!، هذا!..ما اندر هذا الطابع!!..



ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...