أمل الكردفاني- رسائل حب- قصة

جثا حتى قارب قامة الطفل الذي مد له برسالة فأخذها وفض مظروفها ليجدها رسالة حب:
سأل الطفلَ:
- من أعطاكها؟
- أختي..
- آه..اختك.. اشكرها أذاً..
- إنها تنظر لنا من أعلى..
رفع راسه وأرسل لها قبلة في الهواء، ثم مضى وهو يضحك..
وفي المساء شعر بالذنب. فعليه أن يرد على الرسالة برسالة أيضاً..إنها فتاة لطيفة، وتستحق ألا يجرح مشاعرها بالتجاهل:
(عزيزتي مُنى..)
فكر في البداية ورآها حسنة.
( عزيزتي مُنى..قلبي لا زال يخفق بسبب رسالتك)
تأمل السطر:
- ستظن بأنني أحببتها...وهذا أبعد شيء عن الحقيقة..
عاد وكتب
- هل حقاً هذه الرسالة لي... إنني سعيد..رغم أنني أكبر منك سناً..بل ربما أنت في عمر ابنتي لو كانت لي ابنة، رغم أنني متأكد بأنها ما كانت لتكون جميلة مثلك..ربما إذا بلغت السادسة عشر من عمرها قد تصبح جميلة مثلك..لا أدري..لم أحتج أبداً للتفكير في الزواج والإنجاب..فلقد فضلت التفرغ للكتابة..أو دعيني أخبرك بصراحة..أنا أخاف الزواج والإنجاب..ولذلك اعترفت أمام نفسي وقررت اتخاذ موقف حاسم تجاه هذا الأمر...وهكذا ابتعدت عن النساء رغم أنهن لطيفات كالزهور..جميلات ومهذبات..وأحياناً خبيثات قليلاً..لكنهن لطيفات في كل الأحوال..التقيت بوالدك البارحة، كنا في عزاء صديقنا المشترك الذي تعرفينه .. عبد اللطيف..لقد حزنا عليه كثيراً.. لكننا كبرنا في السن..لقد أخبرت والدك بأنني سأموت بعد عبد اللطيف لكنه رفض مؤكداً بأنه هو من سيموت قبلي..لكنني أدعو أن يعيش طويلاً طويلاً فهو لديه أنتِ وشقيقك اللطيف وماما الطيبة..لقد طبخت لنا وجبة رائعة قبل شهر من الآن..كانت عبارة عن بطاطس بالفرن..وكانت شهية..ستكبرين وتصبحين ماهرة مثلها..متأكد من ذلك..فأنت ذكية وتتعلمين بسرعة..عندما كنا أنا وأبوك في مثل سنك تقريباً عشنا بمفردنا لبضعة أشهر..سافرنا في رحلة عبر النهر ومن هناك إلى مدينة جميلة، لقد استأجرنا غرفة صغيرة في نُزل صغير، كنا نخرج لصيد السمك..لقد فزعنا جداً حين انغرس شص الصنارة في يد والدك ونزل الدم فشعرت بالخوف، ولكنني بسرعة انتزعت الشص. تعرفين طبعاً أن الشص له إبرتان، ابرة للأمام وإبرة للخلف، لذلك عندما انتزعت الشص انتزعت معه بعض اللحم..أنظري ليد والدك..ستجدين علامة الجرح باقية حتى الآن..يا لها من أيام جميلة..تزوج والدك من ماما الجميلة وأنجبك..فحملتك بين يدي وأنت تشبهين الجرو الصغير الذي بلا فرو..كان منظرك مضحكاً ولم أكن أعتقد بأنك ستصبحين بمثل هذا الجمال واللطف..هاجرت لدولة أخرى وبقيت في الخارج عدة سنوات ثم عدت ورأيت كم إبنتي الحبيبة مُنى قد كبرت..وأصبحت أميرة من أميرات الممالك القديمة..تماماً مثل المسلسل الذي يبثونه الآن..مسلسل لا أتذكر اسمه ولكنني متأكد بأنك تتابعينه لأن بطلته فتاة تشبهك تماماً..
إبنتي العزيزة منى..اسعدتني رسالتك كما قلت لك..تصبحين على خير"
لم يقرأها مرة أخرى بل طواها ووضعها داخل الظرف الذي به رسالتها. ثم نزل وسلمه لشقيقها الصغير الذي هرول ثم عاد وسلم رسالة أخرى من الفتاة ففتحها بيأس وقرأها:
(حتى لو لم تكن تحبني فلا تتوقف عن مراسلتي)..
فأسقط في يده، وارتسم الحنق على ملامحه.
- ما هذه الورطة..هذه الفتاة تحتاج للجلد المبرح..
وتذكر سن المراهقة، فقال لوالدها وهما على المقهى:
- لماذا لا تخرج مع اطفالك وتسري عنهم..
- هل ضقت بي ذرعاً؟
- أصدقك القول نعم..فنحن نلتقي كل يوم..صحيح أن لقاءنا يُسري عني كثيراً في غابة الكتب والأوراق التي أعيش فيها..مع ذلك يجب أن تمنح أولادك بعض الاهتمام..
- آه..هم لا يحتاجون لي.. أمهم تذهب بهم يومياً إلى بيت أختها..وتمنعهم من زيارة شقيقتي..
- متشاجرتان؟
- لا....بل تبدوان متوافقتين في العلن..لكن أنت تعرف طبيعة النساء..بينهن أحقاد لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة..ونحن وأولادنا ضحايا هذه الحروب الباردة..
- إن للنساء خصائص غريبة..يمتلكن إرادة جبارة للصراع..وخوض المعارك والدسائس والبكاء أيضاً..ما هذا الكائن الغريب؟
- كائنات فضائية تغزو أرضنا وتحتلنا وتستعبدنا ثم تقنعنا بأنها ضحية إجرامنا لأننا قساة القلوب وأنانيون..
ثم نظر الأب إلى الأفق واتسعت عيناه وهو يقبض على صدره بكفيه:
- علي..إنني أموت يا علي..
...
مضت عشر سنوات منذ وفاة صديقه..اما هو ففشل في تحقيق اي نجاح يذكر فيما تفرغ له..الف بضع روايات لم تجد ناشراً فنشرها على نفقته الخاصة بعد أن باع حاسبه الشخصي الذي كان يكتب به..ثم انتقل للعيش في دولة أخرى ليعمل كحارس ليلي..ليس حارساً بالضبط بل مستقبل بوابة..إذ كان عليه أن يقف لعشر ساعات أمام بوابة فندق فخم..
(تورمت ساقي هذا اليوم..لذلك منحوني إجازة وأحالوني للكشف الطبي على حساب التأمين..)
كتب ذلك من على هاتفه وأرسله لها:
- متى ستعود؟
- ولماذا أعود؟ إنني لا أملك شيئاً هناك يا عزيزتي..
- وأنا..
- ألا زلتِ تعتقدين بأنك تحبينني.. أنتِ في السادسة والعشرين الآن..كان من المفترض ان تكون تلك السنوات قد انضجت مشاعرك..
- متى ستفهم؟..
- هذا مستحيل...
- لقد بعتُ اليوم عشر نسخ من رواياتك..
- كيف فعلتِ ذلك؟..
- هكذا.. كل نسخك التي خزنتها عندنا قبل رحيلك بعتها واليوم بعت آخر عشر نسخ منها..
...
- لماذا أنتَ صامت؟..
- لأنني لا أعرف كيف اشكرك..
- بل تعرف..
...
- هل تتذكر عندما كتبت لي بأنك اتخذت قراراً حاسماً بعدم الزواج والانجاب والتفرغ للكتابة.. حسنٌ..لن تنجح بدوني أبداً.. أنت لا تفهم..انا.. أنا مؤمنة بك..هل تعلم ذلك.. هل تعتقد أن هذا غير مهم؟..
وضع هاتفه وأغمض عينيه بيأس..
- سأموت بعد عبد اللطيف مباشرة يا علي..
- لن تموت بعده..بل بعدي..
..
بدا له الماضي بعيداً وقد عبرته السنوات وغمرته بأتربة الشحوب..رفع كفه ورأى التجاعيد قد نُقشت فوق جلده..
- لم ينجح أحد..
كان ذلك رسوبهم الأول، ثلاثتهم رسبوا في ذلك العام..وعادوا إلى منازلهم مسرورين..كانوا يسيرون في الشارع وابتساماتهم تتوهج، حتى أن كل من قابلهم كان يصيح:
- كلية الطب..
- مبروك..واضح أنكم حققتم نتائج باهرة..
ولكي يتجنبوا محاسبة الأهل، سرقوا كرة قدم واتجهوا إلى الميدان..ولعبوا لزمن طويل..كان أطول زمن قضوه في اللعب..وعادوا مساء، حيث نام الأهل، كان خبر رسوبهم قد بلغهم فناموا..
- هل ستعيد السنة يا عبد اللطيف؟
- نعم بالتأكيد..
- أما أنا فسأهاجر..
- وانا سأعمل في متجر والدي..هذا هو كارنا الأساسي..
...
حمل الهاتف من جديد ورأى وميض رسائلها دون أن يقرأها..
كان كل شيء يبدو له في غير موضعه الصحيح..كل شيء مقلوباً..بل معجونا ببعضه البعض..الزمن بماضيه وحاضره مختلط بالأماكن والأشخاص والأحداث بالموت بالميلاد..انقبض صدره..فنهض من سريره بقدمين حافيتين، ثم فتح شباك النافذة..كان زميله في العمل ورفيق غرفته يغط في النوم..فمضى هو على أطراف أصابعه حتى بلغ النافذة وفتحها..
- أغلق النافذة...فالجو بارد..
قال رفيقه الذي رفع راسه وحدق فيه بعين واحدة تاركاً الأخرى مغلقة في بقية نومها، ثم أضاف بغضب:
- البرد قارس ..اغلق النافذة فنحن في الطابق السبعين..
غير أن قلبه انتفض حين رأى جلباب رفيقه يختفي من وراء النافذة..
- علي...علي..ما هذا؟.. هل.. هل هذا أنت أم جلبابك...علي..علي..لا يمكن ان تكون قد سقطت من النافذة..هذا مستحيل...هذا جلبابك قد طار..أليس كذلك؟..
ركض بسرعة وأخرج راسه من النافذة..غير أن القاع كان سحيقاً جداً فصاح بصوت مجروح:
- علي.. علي..
وفي ذات الوقت كان ضوء الهاتف يومض ومضات متقطعة ويائسة..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...