ترتبط الانطباعية كتشكيل بصري في طبيعة نشأتها بفن الرسم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر بمعيّة الرسام الفرنسي كلود مونيه ( 1840 – 1926 ) الذي ترجم تأثره بالطبيعة من حوله وجاهياً في لوحته الشهيرة بإسم " انطباع شروق الشمس " عام 1872 والتي عبّدت الطريق أمام نشوء وتطور مدرسة فنية تولدت أصلا عن حاجة نفسية لاشباع النظر بجمال المنظر أو المشهد الحي المنقول إلى اللوحة ، مع الحرص على إبراز أثر الريشة ووضوح اللون في إيصال فكرتها ، لا التعلق بأشكال مرمّزة لغايات لا نفهمها ، ما يعني مباشرة تعشيق العمل الفني بالحواس دون التلبث عند تشريح اللوحة بأحكام مُلتبسة ، تعقِّد الفهم المنشود لفنيتها وتجفف من نضارتها البصرية التي تروي عطش المتلقي لواحةٍ تأثرية بالابداع . وكما اشتغلت الانطباعية على التأثير الجمالي في الرائي كرسم ، فإنها كانت أبقى وآكد عمقا انفعالياً في القارىء كنص ، إذ تسربت إلى الحيّز الأدبي بمختلف وجوهه الإبداعية كالشعر والرواية والقصة والمسرحية وغيرها ، التي اعتمدها الكُتّاب كقوة تعبيرية وذروة جمالية بالتلازم والتساوق مع الظواهر البحثية في حاضرة النقد عالمياً ومحلياً كنسق توليدي فيه من قوة الإحياء وفتنة الايحاء ما يساعد القارىء في الابتعاد عن محنة استقراء النص بين الصعوبة والغموض . ولطالما التبسَ على النقَدَة فهم الانطباعية كمذهب بحثي ، فهي وإن كانت محمودة في المُنتَج الابداعي ، إلا أن البعض اتهمها بالذاتية المفرطة في تأويل ذلك المنتج ، وأنها تعتمد الذوق الخاص والشعور الشخصي الانفعالي جداً بالنص قبل كل شيء ، وأنها لا تُؤْمِنُ بالمعيار العلمي في تقييم المنقود بل تكتفي بتبيان الأثر الشعوري النفسي الذي هو نصير المؤثرات المباشرة في ذات الناقد ثم القارىء . أيضاً لم يتأخر رواد المناهج النقدية المغايرة في المغالاة بتهميش الانطباع التأثري ، بل وشيطنته حتى نفوا أن يكون منهجاً أو مذهباً نقدياً في الأصل وذلك على الرغم من أنه يربط الأدب بالواقع مُتناسين أن كل منهج نقدي وضمناً الانطباعي إنما ينطلق من خصوصية الناقد وضغط إحساسه بالنصوص المبحوثة مهما كان موضوعياً ، كما أنه لا يستقيم الا بتكامله مع مؤهلات القارىء الذي قد لا يمتلك مدىً ثقافياً يؤكد طاقته الاستيعابية لجمالية النص وتحقيق اتصاله به كما يجب . ولذلك فإن الانطباعية التأثرية لم تحتفل بأدوات بحثية تقنية تقيس جودة الأعمال الأدبية كغيرها من أنواع النقد ، بل ابتعدت عن الاستلاب التقني للتسميات الذي وقعت في أسره تلك الأنواع ، كالمصطلحات التقعيدية التي تؤطر تفسير النصوص ، والتي لطالما سحَرَت نقادنا بتراكيبها اللغوية المترجمة بمعظمها من دون الحاجة لها دائما أو بالضرورة للإحاطة بقيمة النص شكلاً ومضموناً ، مهما كانت علمية أو أكاديمية موضوعية . وهو ما يعني أن سهولة المصطلح النقدي الانطباعي المحلي لا يقلل في موضوعيته وجديته من كفاءة تقييم المنقود قياسا على المصطلح المستورد ، إذا ما اتفقنا أن النقد هو إضاءات غنية تستكمل تشكيل وعي القارىء بالنصوص والذي بعيدا من لا يلقي بالاً لأشكال اللوازم الفنية لدراستها ، لأنها في الحقيقة بؤرة اشتغالية مجردة للاكاديمي او الباحث المتخصص . ولطالما كان من الاجحاف اتهام الناقد الانطباعي بالابتعاد عن السياق التاريخي والاجتماعي والنفسي للعمل الفني ، فهو ينطلق في قراءته الأولى للنص درساً وتأويلاً حتى يصل إلى تقديره بحكم نوعي ، ناهضاً على فكره المحيط بالمنقود في الهوية والكينونة والتجربة من جهة ، ومن ذاتيته المتلَبِّسة فيه حكماً بقوة الفطرة والشعور من جهة ثانية ، والتي لا يمكن له كمُفسِّر للأدب ومهما كان موضوعياً أن يخرج منها أو يلغيها تماماً تحت تأثير أي منهج نقدي آخر، فطالما هناك مشاعر فإنّ هناك انطباع وتأثير، وطالما هناك انفعال فإنّ على الناقد الاستجابة . من هنا نجد أن الانطباعية لا تغيب كأداة تفسير جمالية عن المسار العام للمناهج النقدية على امتداد الجغرافيا العربية ، يؤكد ذلك التأويل القَلِق والفهم المُتباين الذي يعتور تلك المناهج في التطبيق والتحقيق بين ناقد وآخر ، وعدم التسليم بأنّ الفعل النقدي يجب أن يوفر لذة فكرية وشغفاً متاحاً بالنص المنقود ، أي تظهير شعورية النص الذي يؤكد ملكة الابداع لكاتبه ، من دون اهمال عناصره الموضوعية التي تتعلق ببنائه الفني وأنساقه . لا تتقصد النية هنا إلى تهميش خصائص المناهج النقدية التي يمارسها النقاد في دراساتهم ، ، بل يحق لنا رصد كفاءة تلك المناهج كل على حدة ، تماماً كما يُجازُ لنا في المقابل تثبيت الاعتراف وإعادة الاعتبار للمنهج الانطباعي التأثري الذي مارسه كثيرون من رواد النقد في الغرب والشرق ، فالعيب ليس في القواعد بل في تطبيقها. لقد كان أناتول فرانس ( 1844 – 1924 ) قائد الانطباعية الأول في مهدها الفرنسي ، وآراؤه معروفة فيها للقاصي والداني ، وأهم ما فيها هو أنه من المستحيل على الناقد أن يتمظهر بالجمود والشكلية في المناهج النقدية القديمة او الجديدة ، لأن في ذلك ابتعاد عن النص وتسخيف لبؤرته الذاتية التي تولّدُ الحاجة لدراسته ، وهو أمر غير مقبول على اطلاقيته بل ومقيِّد للناقد والكاتب معاً في أن يكتب كلاهما بروحية المُبدع . إنها فكرة الشك بالمنهج المكتمل الموضوعية ، التي ترتفع كما يرى فرانس بالقيمة البحثية للانطباعية إلى واجهة المدارس النقدية الأخرى كالتاريخية والبنيوية والنفسية والواقعية ... الخ ، إذ لا منظور موضوعي / أكاديمي / علمي تام في أي منهج إلا وترفده ذائقة انطباعية خاصة تجتهد في مسك وإدارة المتحول المفاجىء من شعور وفهم القارىء الذي لا قرار لسلوكياته أمام أية اشكالية ما عامة أو خاصة تثيره في النص المقروء . فما نكتبه من نقد هو موجه للقارىء، والقارىء أولا ، مهما كانت وظيفته الاجتماعية . وفي هذا تأكيد لحيوية مندرجات القراءة الباحثة للانطباعي الذي يحاكي ويأوِّل فنية المبحوث ويقينية مثاقفته مع مجتمعه كتذوق جمالي لعمل يراه عظيماً وخالداً ، لا الركون عبثاً وتعنّتاً إلى الأحكام النقدية التي قامت على معايير صارمة لمناهج وافدة من مدنيات أخرى تسبقها إلينا الفكرة الشائعة بنجاعتها حتى قبل اطّلاع النَّقَدة عليها ! وهذا ما يولد إشكالية الاعتراف بالفهم الصحيح لطبيعة النقد كظاهرة مستدامة وحالة التزام بحثية متعلقة بابداع المنقود ، وليس أبداً علماً قاعدياً حتى هذه اللحظة على الأقل . ما يعني انعدام المسافة المُعتَبرَة علمياً بين الذات والموضوع وأن اختيار الناقد لأي نص من بين مئات النصوص التي تعرض له ينضوي حكماً تحت مقتربات هذا المعنى مهما كانت طبيعة التصور النقدي . ولا يعني ذلك أبداً أن النص في مرمى التقريظ دائماً ، بل من الممكن جداً أن يكون دافعاً للتأثُّر السلبي به من قبل الناقد ، مع تبيان أسباب ذلك من دون الاخلال بالممارسة النقدية بوصفها علاقة مثالية بين العقل والكلمة في نهاية الأمر . وعلى الرغم من اختلاف الزمان والمكان ، وفي إضاءة موازية ، كان الدكتور طه حسين ( 1889- 1973 ) متفقاً غير متباين مع أناتول فرانس في تمثُّلهِ مزايا التذوق المباشر للنصوص ، وانطباعياً معاهداً على الذوق والمشاعر في حكمه على الأعمال الأدبية ، تأثريّاً حتى العظم ، لا يمنعه تفاعله مع الآداب العالمية ومناهجها النقدية انطلاقاً وممارسة ، من التشيُّع للانطباع التأثري وفرضه – بنجاح - كمنهج نقدي في التنظير والتطبيق . وليس أدل على ذلك من كتبه الذائعة الصيت والتي أحدثت ضجة كبيرة وتأثيراً لافتاً في نشأة النقد العربي الحديث كما في كتابه " في الأدب الجاهلي " الذي أثار ضجة كبيرة أدبياً بل ودينياً في استنتاجاته الخاصة ، أو كتابه " مع المتنبي " الذي لبسَ فيه حسين شخصية المتنبي عقلاً وروحاً بمحاسنها وهنّاتها في قراءة تأثرية فكرية وذوقية لشعر الأخير ومواقفه ، وبشكل مثير. ليس ذلك فحسب بل أكد وبنكهة نقدية خاصة متقدمة أن للمتنبي نظرات فلسفية وجودية في شعره الذي يجمع فيه بين الفكرة والانفعال ، بعيداً من التألّي على مقوماته الفنية التي تفسرُ جانباً مهماً من ابداعيته . إنه الانطباعي الاول في تاريخ النقد العربي الحديث ، طه حسين الدكتور الذي لم يمارس ممكنات رتبته العلمية في الخطاب النقدي كمرجعية للحكم على النصوص بل آثر تنهيج ذاتيته في ذلك بخلفية تنويرية شغلت دارسي الأدب ونقاده لفترة طويلة وظلت محور نقاشات مستمرة حتى يومنا هذا ، على الرغم من مهاجمته بعض النقاد الشباب في عصره في أكثر من حوار ولقاء موثق معه . وبعيداً من التابوهات المنهجية للنقد التي توقد نار التأويل تحت مواقد النصوص بشغف التنظير ، فإن تقدير الناقد الانطباعي لقيمة النص الذي يتعامل معه لا يرهق القارىء بورشة كتابية تشكل مَلزَمَة شمولية تحجز متن النص وهامشه احتياطياً حتى الانتهاء من تفريغ دلالاته الجمالية كالايحاء بمعنى ما ، أو الغموض المثير للفكر، لأن ذلك يحوِّلُ المنقود وفي سياق مباغت ومضجِر للمتلقي إلى وثيقة رسمية مجردة ومباشرة فاقدة للحيوية والتأثير وخاضعة للصرامة التي تشكل في وجه من وجوهها نمطاً تفسيرياً من شأنه أن يعنِّتَ النص ويضعفه ويقلل من أهمية عفويته وصدقه أمام القارىء. لقد خنقَ نقادنا أذواقهم الخاصة ودخلوا في خطأ تاريخي كبير هو حرق المراحل الأدبية الحاضنة للابداع في سياقاتها الاجتماعية ( تاريخ ، زمان ، مكان ) أملاً بمحاولات اللحاق بما استجد من منطلقات نقدية مغايرة للانطباع التأثري ، أغرقتهم في دوامة التجريب ومحنة القضم وابتسار تطبيق تلك المنطلقات ، وكرَّسَتْ ، وفي طفرة غريبة غبّ الطلب ، روّادَ النقدية الغربية الجديدة كمرجعية للنصوص النقدية العربية : تودوروف ، دي سوسير ، بارت ، كوهين ، غولدمان ، لوكاش ، ويليك ، كرستيفا ، أليوت ، كريماس ، باختين ، إيكو ، الخ ... متجاوزين حقيقة أن الوضع مختلف تماما عما ظنوه ، وأن مصطلح النقد الجديد بنُسَخِهِ الشكلية الروسية أو الانجلو – أميركية أو الفرنسية يقتضي الانتهاء أولاً ألا نكون غُيَّباً عن الرؤى المرتجاة للنصوص المُبدَعَة ، وأن نعيد كل شيء إلى مكانه الصحيح ، ونبدأ بمراجعاتنا البحثية لكل ما استقر بين أيدينا من النصوص السابقة أو اللاحقة والتي لم يشملها النقد . ذلك أن تراكم الأدب كمًّا ونوعاً في الشعر أو الرواية ، المسرح وغيرها يحتاج إلى مواجهة التقصير في تشكيل مفاهيم نقدية واحدة قابلة للاجتهاد دوما ، ضمنا الانطباعية ، كنواة مرجعية تحتم على النَّقدَة الوصول إلى نمذجة التفكير البحثي المحلي الملائم لمعالجة ذلك النتاج الأدبي ، وكي لا يلتبس عليهم الأمر في التمثل النظري والممارسة التطبيقية الصحيحة للمناهج الجديدة في مراحل لاحقة . لقد أكدت الانطباعية التأثرية فائدةَ تناسُقِ لغةِ السلاسة مع ذواتنا ومع الآخرين ، إذ تتساوقُ أحاسيسَنا بين مركز النص وضواحيه ، مما يُستَنشَقُ طِيبهُ بمَشُوقِ البصر كلما تداخلت قلوبَنا تصاويرُهُ الملونة من دون التأخر في الحكم على التآليف بما تستحقه في نهاية الأمر. وهو أمر يحفّزنا إلى رصد المستوى الفني للنص الذي يحتاج بالضرورة إلى توليد الأثر القيمي في المتلقي ، وإلا فإنه يبقى أيقونة فنية منعزلة ، وهذه مهمة القراءة الانطباعية التي تبلور جوهر تلك العلاقة بين المستوى الفني وأثره من جهة ، وتؤكد أهلية الناقد وحمولاته المعرفية من جهة ثانية ، لا الاكتفاء بالاختباء وراء منهج أكاديمي بعينه يقيد النص بإسقاط القواعد الجاهزة عليه ، ولا يؤكد لنا موهبة الناقد وجرأته من عدمهما. هذا مع التأكيد أن لكل ناقد الحق في تناول الاشكالية الأدبية التي يراها مناسبة للبحث وإثبات الدوافع التي دفعته لذلك والتي واحد منها على الأقل ذاتي بامتياز ، ومرتبط بشخصية الناقد الثقافية والاجتماعية . إذ كيف يمكنني كقارىء أن أميز بين ميول الناقد وموضوعيته في تأويل المنقود وتقديره سلباً أو إيجاباً ؟ وهل كل ما كُتب في النقد كان بحثاً علمياً خالصاً ، بعيداً من الانطباعية والتأثر ؟ إنه الفاصل الزئبقي الوهمي بين الذات والموضوع ، والذي من غير الممكن التقاطه أو ضبطه في مشيئة الناقد الناهضة على خلفيات مدخرات ذوقه الفني الخاصة ، لا على الاكتفاء بأن يسمي هو نفسه موضوعياً منهجيا .
الحسام محيي الدين
الحسام محيي الدين
الحسام محيي الدين
الحسام محيي الدين ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit الحسام محيي الدين und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen...
www.facebook.com