إبراهيم ناجي القاص المجهول
ماذا تعرف عن إبراهيم ناجي غير أنه شاعر الأطلال التي غنتها أم كلثوم؟
لا بأس أن تتردد طويلا كما ترددت أنا، لتبحث في ذاكرتك عن شيء آخر لإبراهيم ناجي.. ربما تتذكر بالكاد أن له أربعة دواوين شعرية هي:
وراء الغمام، 1934م.
ليالي القاهرة، 1944م.
في معبد الليل، 1948م.
الطائر الجريح، 1953م.
المفاجأة أن لإبراهيم ناجي مجموعتين قصصتين. والآن كيف أسقطت الذاكرة القصصية هذا، ولماذا؟
لدي تصور مسبق. جرت العادة أن الشاعر إذا كتب سردا نقابلة بالإنكار والاستهانة، وهو نفس الأمر إذا كتب الناقد إبداعا، أو كتب المبدع نقدا... باختصار هذا هو الفكر الأحادي. فلا يمكننا تصور أن الذات المبدعة متعددة، لا يمكن حصرها في مسار وحيد.. إنها ذات متفاعلة، لو أطلقنا صراحها ستدهشنا بقدراتها.
وفي الإنسان طاقات اقتدار..... آه لو يعرف كيف تدار.
المشكلة تكمن في أن المبدع نفسه، لا يؤمن بتعددية ذاته المبدعة وقدراتها، لهذا فإن جانبا كبيرا من الظلم الذي وقع على القاص إبراهيم ناجي هو مسئول عنه.
هذا ما يلمسه الأستاذ الدكتور منير فوزي في دراسة نادرة عن القاص إبراهيم ناجي. لكن الأمر لم يتوقف عند الجهد النقدي والتحليلي، بل يشمل جهد الجمع والتحقيق لتجارب إبراهيم ناجي القصصية التي كان يقدمها على استحياء.
بالنسبة لي، لاحظت في نصوص ناجي القصصية ما هو جدير بالقراءة ووضعها في ذاكرة القصة المصرية. مثلا اللغة القادرة على التجسيد المشهدي برغم شعريتها. القدرة على نكز الدلالات وتوزيعها بين جنبات القصة بدون مباشرة. الاهتمام بالأبعاد النفسية والثقافية للشخصية لتبدو حية مفعمة بالواقعية. هذا فضلا عن طاقة من الحيوية السردية تصول في الأزمنة والأمكنة بمهارة.
وقبل أن اترك الكلام لصاحبه الدكتور منير فوزي، أود الإشارة إلى البناء المشبع للقصة القصيرة، وهذه سمة ميزت معظم كتّاب القصة في هذه الفترة أمثال : يحي حقي ونجيب محفوظ ومحمود البدوي وإحسان عبد القدوس.. إلخ. في هذا الوقت كانت القصة بقوة رواية. كان ذلك قبل هواجس التفكيك والتقليص التي ألمت بالقصة في نهاية الستينيات بدواعي الكتثيف واللغة التلغرافية، والقصة الشعرية، والومضة وغير ذلك من صور الانهيار في المفهوم السردي للقصة القصيرة التي أفضت إلى انصراف جمهور القراء عنها.
نعرض جانبا من قصص إبراهيم ناجي كما قدمها الدكتور منير فوزي في دراسة بعد جمعها وتحقيقها بعنوان ( أغنية ومزمار )
صدى.. ذاكرة القصة القصيرة
***********************
يضم هذا الكتاب بين دفتيه مجموعة متنوعة من الأعمـــال القصصية التى كتبها ونشرها الأديب الشاعر الدكتور إبراهيـم ناجى (31 ديسمبر 1898 ـ 24 مارس 1953) . وإذا كان جلُّ المثقفين يعرفون ناجى حق المعرفة بوصفه شاعراً متميزاً ، فإن القليل ـ والقليل جداً ـ هم أولئك الذين يعرفون أن لناجى إسهامات فى إطار فن القصـة القصيرة ، تقارب إسهاماته فى الشعر ، وأنه أصدر فى حياته عملين ، الأول : مدينة الأحلام (1935) ، ودس فيه من إبداعاته القصصية ثلاث قصص قصيرةٍ له هى على الترتيب : مدينة الأحلام ، والنوافذ المغلقة ، والحرمان ، بالإضافة إلى ترجمته لقصتين قصيرتين من أعمال "بيرانديللو" و "دانونتزيو" وتلخيصه لرواية "تشارلز مورجان" : المنبع ، والثانى : أدركنى يا دكتور (1950) وهى مجموعة قصصية ضمت عشرين قصة قصيرة من أعماله التى نشرها من قبل فى الصحف والجرائد .
وهذا الكتاب يحوى نيفاً وعشرين قصة قصيرة لناجى ، منها ثلاث فقط سبق نشرها فى كتاب (مدينة الأحلام) ، ولكن نظراً لأن هذا الكتاب كان متنوعـاً فى مادته وغير مختصٍ بفن القصة القصيرة وحدها ، فقد آثرتُ أن أضم هذه القصص إلى ما جمعته لناجى من أقاصيص أخرى من مختلف الصحف والمجلات .
ويعود سرُّ اهتمامى بدراسة الفن القصصىّ عند ناجى إلى سببين : الأول أن النزعة القصصية مسيطرة على ناجى نثراً وشعراً ، وأن أهم قصائده ذات طابع قصصىّ ، كالأطلال التى يستهلها بأنها (قصة حب عاثر) ، والعودة وغيرها ، والثانى : شعورى بالظلم الفادح الذى وقع على شخص ناجى وانسحب إلى مجمل إبداعاته ، خصوصاً الجانب القصصىّ الذى حظى بظلمٍ كبير من جـانب النقاد ، حتى أن ناقداً قصصياً كبيراً كالدكتور سيد حامد النساج (رحمه الله) لم يتورع فى أن يجمع كل سلبيات الفن القصصىَ ويسقطها على ناجى وعلى قصصه فى ثمانى صفحات ، فى تحامل ظاهر وواضح . وهى للأسف الدراسة الوحيدة التى قامت على قصص ناجى حتى الآن ، ولم يفكر من بعدها واحد من النقاد فى مراجعة ما قاله الدكتور النساج ، أو يعكف على إعادة النظر فى أعمال ناجى ! .
لقـد عانى "ناجى" من الظلم البيِّن فى حياته ، وما عاناه بعد رحيله أنكى وأشد ، ويعود جزء من الظلم الذى وقع عليه إلى شخص ناجى نفسـه ، الذى حرص أن يقدم نفسه ـ على استحياء ـ بوصفه قاصاً ، يسجّل خواطر طبيب ـ أكثر منه اهتماماً برصد تقلبات الواقع وانعكاس ذلك على نفوس الشخصيات ومجريات الأحداث .
إن قراءة متأنية لمقدمة مجموعته القصصية (أدركنى يا دكتور) تكشف تهيب ناجى وحرصه على تقديم نفسه بصفته الوظيفية ، لا بصفته الإبداعية بدءاً من الإهداء (إلى زملائى الأطباء ، إلى مرضى القلوب ، إلى مرضى الأجساد ، إلى مرضى الأرواح ، إلى الشهداء الذين اكتظت بهم ساحة الحياة ، إلى الألى يتطلعون إلى السلوى وينشدون العزاء . أقدم هذه الاعترافات ، هذه التجارب ، هذه الأصداء ، لعلهم يجدون فيها ما ينشدون من راحةٍ لكروبهم ، وهدوء لقلوبهم) .
إن ناجى يصف قصصه هنا بأنها (اعترافات وتجارب) وهو أمر ليس صحيحاً تمام الصحة ، فالمجموعة تضم بينها ما لا يدخل فى إطار الطب والأطباء ، بل إن بعض هذه القصص تناولت قضايا مبتكرة وموضوعات جديدة أثرت فى عـدد غير قليل من كتاب الجيل اللاحق لناجى ، وكانت نواةً لبعض أعمالهم المتميزة التى قدمتهم للحياة الأدبية بوصفهم قاصين متميزين ، وهو ما تكشف عنه الدراسة التى ألحقتها بالكتاب وموضوعها : الفن القصصى عند إبراهيم ناجى .
أما عن مصادر هذه المجموعة فقد اعتمدت فى جمعها أولاً على دليل المرحوم الدكتور حامد النساج ، الذى تبين لى عقب جمع هذه القصص اشتماله على عددٍ كبيرٍ من الأخطاء ، منها أن هناك أعمالاً نسبت إلى ناجى وهى ليسـت من تأليفه مثل قصة (جحيم امرأة) التى نسبها له الدكتور النساج وهى قصة لمحمود تيمور وقد نشرت فى العدد الثالث والخمسين من مجلة القصة بتاريخ (5/12/1951) ، وكذلك قصة (صانع الأحلام) التى هى من تأليف "إبراهيم نوار" وقد نشرت فى العدد 973 من مجلة الإذاعة المصرية بتاريخ (7/11/1953) . ويبدو أن الخطأ فى نسبة هذه القصة مردّه للطباعة ، فإبراهيم نوار هو الاسم التالى لناجى ، غير أن الفاصل بين الاسمين تجاوز ناجى إلى قصة إبراهيم نوار ، كما تضافرت الأخطاء إذ أشار دليل الدكتور النساج إلى قصة (الليل) ونسبها إلى ناجى اعتماداً على ما نشر فى العدد السابع والأربعين من (المجلة الجديدة) بتاريخ (15/5/1935) ، والقصة من تأليف الكاتب الإيطالى "لويجى بيرانديللو" وترجمة إبراهيم ناجى ، وقد ُنشرت القصة ضمن كتاب (مدينة الأحلام) وشغلت الصفحات من (38 ـ 45) .
ومن الواضح تماماً أن الدكتور النساج لم يطلع على الكتابات النثرية المنشورة لناجى وهى كتاب "مدينة الأحلام" ومجموعة "أدركنى يا دكتور" ، وهو مايفسر إغفاله لهما فى قائمة المجموعات القصصية المطبوعة للمرحلة ، كما يفسر عدم وضع العلامة المميزة التى حددها الدكتور النساج والمبينة لصـدور القصة ضمن مجموعة قصصية معينة .
والمتابع للرصيد القصصى المنشور لناجى فى الصحف والمجلات يتبين له أن ناجى قاص دائم التبديل والتغيير ، فهو قد ينشر إحدى قصصه فى مجلة أو صحيفة ثم يعود ويعيد النظر فى صياغتها وإعادة هيكلتها ، بتغيير عنوان القصة (وهو ملمح واضح جداً فى قصصه) ، ومن ذلك على سبيل المثال قصص : الحمى الشوكية التى نشرها فى العدد الخامس والثلاثين من مجلة القصة بتاريخ (5/3/1951) ، وهى نفسها قصة (الضمير) المنشورة فى العدد الثانى من مجلة (حكيم البيت) بتاريخ (1/2/1934) ، وقصة (فى الريف) التى ضمتها مجموعة (أدركنى يا دكتور) الصادرة فى عام 1950 ، أعاد نشرها باسم (أغنية ومزمار) فى العدد الرابع والسبعين من مجلة القصة بتاريخ (20/10/1952) . وقصة (أحلام الموتى) من مجموعة (أدركنى يا دكتور) سبق نشرها فى العددين السادس والسابع من مجلة (الراوى) بتاريخ (16/7/1936) والعدد التاسع والعشرين من (المجلة المصرية) بتاريخ (15/4/1938) باسم (وراء الطبيعة) . كما أن هناك عدداً آخر من القصص لم يكتف ناجى بتغيير عناوينها فحسب وإنما قام بإعادة هيكلتها فنيـاً مثل قصة (ذكاء) المنشورة فى العدد الثالث من مجلة القصة بتاريخ (5/11/1949) والتى ُنشرت بوصفها أول قصة بوليسية لناجى ، أعاد ناجى صياغتها فى العدد السابع والثلاثين من مجلة القصة بتاريخ (5/4/1951) باسم (ذكاء نادر) .
ومعظم هذه التغييرات كان ـ عادة ـ ما يعقبها تعديلات خاصة بالضبط والإضافة والحذف أحياناً ، وهى ظاهرة تكشف عن سمةٍ مهمة من سمات ناجى القاص ، وهى حرصه الدائم على التجويد وعلى تقديم نفسه أديباً متمكناً مشاركاً فعالاً فى الحركة القصصية ، إذ إن هذه التعديلات غالباً كانت نتاج محاورات بينه وبين أصدقائه كتاب القصة الشبان فى ذلك الحين ، الذين كانت تربطهم به أواصـر صداقة ورابطة فكرٍ وحب .
ولعله مما يجدر الإشارة إليه أن هذه المجموعة من القصص التى تضمها دفتا كتاب قصصىّ لأول مرةٍ ، هى جزء من إنتاج الراحل إبراهيم ناجى ، والذى يأمل الباحث المحقق من خلال نشرها أن يعيد الناس نظرتهم لناجى ، ليس فقط بوصفه قاصاً وإنما بوصفه مفكراً استخدم فنوناً عدة للتعبير عن رؤية شديدة الخصوصية للعالم والتى تتمثل فى أن العالم كل لا يتجزأ وأن الحرمان والكبت لا يولدان غير الموت والدمار ، وأخطر أنواع الدمار دمار النفوس ، كما أنه لاشىء يدفع الرقى فى الحياة كالفن ، الذى وقوده المرأة وزاده التجربة وجوهره التجدد والتبدل .
أما عن المنهج الذى وضعتُ عليه هذه المجموعة ، فقد قمت بترتيبها ترتيباً زمنياً تصاعدياً طبقاً لتاريخ نشرها ، مبتدئاً بأقدمها ومنتهياً بأحدثها ، مع بيان قصير لكل قصة يوضح تاريخ نشرها وموضعه ، وبيان ما إذا كان قد تكرر نشرها أو تغير عنوانها وموضع ذلك وتاريخه … إلخ .
وبالنسبة لعنوان المجموعة (أغنية ومزمار) وهو عنوان إحدى قصص ناجى المنشورة مع مجموعته "أدركنى يا دكتور" وإن كان بمسمى آخر هو (فى الريف) ، وقد أعاد ناجى نشر هذه القصة باسم (أغنية ومزمار) ، فإننى وجدت أن أنسب عنوان يصلح لقصص هذه المجموعة هو هذا العنوان ، على الرغم من عدم اشتمال المجموعة على قصة تحمل هذا الاسم ، وهو عنوان يحمل روح الشعر وجوهر القصة ، وأعنى الإيقاع والشعبية .
ويعلم الله وحده حجم المشاق التى تكبدتها من أجل جمع هذه القصص من أروقة المجلات والصحف القديمة ، التى لا يكاد يوجد الكثير منها كاملاً فى دار الكتب ، ذلك أنك إذا وجدت سلسلة أو دوريةً غالباً ما تجدها منزوعة الفرائد بسقوط غير عددٍ منها ، ويحدث أن يكون مطلبك فى هذه الأعداد المفقودة . غير أن اهتمام ناجى المفرط بتكرار إنتاجه ساعدنى فى أن أحصل على أغلب ـ إن لم يكن كل ـ إنتاجه القصصى .
وقد وجدت أن الفائدة المرجوة من وراء هذا العمل لا يمكن أن تؤتى أكلها إلا فى وجود دراسة نقدية تتناول "الفن القصصى عند إبراهيم ناجى" ، وتتضح من خلالها الخصائص الفنية لقصصه ، والسمات المميزة لها ، وإسهاماته وتأثيره فى القاصين اللاحقين له ، فألحقت بخاتمة الكتاب دراسة نقدية تعالج كل ذلك ، وفضلت أن أجعلها فى خاتمة الكتاب لا فى أوله ، حتى لا يدخل القارئ على قصص ناجى من خلال آراء مسبقة ، وإنما يستخلص بنفسه هذه الآراء ، حتى إذا وصل إلى الدراسة يكون قد تشبع برؤيته الشخصية ، وتكونت لديه آراء من واقع قراءته هو ، لا من آراء الغير .
ويبقى فى النهاية أن أسند الفضل إلى أصحابه ، فأتقدم بالشكر إلى الأستاذ رجب الصعيدى مدير عام خدمات القراء بدار الكتب المصرية الذى قدم لى كل التيسيرات الممكنة فى وقتٍ كانت دار الكتب فيه فى طور التجديدات ، وكان صعيباً استخراج ما تم استخراجه فى ظل هذه الظروف ، فله منى كل الشكر والتقدير . كذلك أقدم شكرى للناقد والباحث والأديب الأستاذ مصطفى بيومى بجامعة المنيا الذى شاركنى ـ ومايزال ـ هم إنصاف ناجى .
فإن أكن قد أصبت فلله الفضل من قبل ومن بعد ،
وعليه قصد السبيل ، والله المستعان .
[SIZE=26px]منير فوزى[/SIZE]
[SIZE=22px]المنيا فى 31 ديسمبر 1998م[/SIZE]
sada-zakera.blogspot.com
ماذا تعرف عن إبراهيم ناجي غير أنه شاعر الأطلال التي غنتها أم كلثوم؟
لا بأس أن تتردد طويلا كما ترددت أنا، لتبحث في ذاكرتك عن شيء آخر لإبراهيم ناجي.. ربما تتذكر بالكاد أن له أربعة دواوين شعرية هي:
وراء الغمام، 1934م.
ليالي القاهرة، 1944م.
في معبد الليل، 1948م.
الطائر الجريح، 1953م.
المفاجأة أن لإبراهيم ناجي مجموعتين قصصتين. والآن كيف أسقطت الذاكرة القصصية هذا، ولماذا؟
لدي تصور مسبق. جرت العادة أن الشاعر إذا كتب سردا نقابلة بالإنكار والاستهانة، وهو نفس الأمر إذا كتب الناقد إبداعا، أو كتب المبدع نقدا... باختصار هذا هو الفكر الأحادي. فلا يمكننا تصور أن الذات المبدعة متعددة، لا يمكن حصرها في مسار وحيد.. إنها ذات متفاعلة، لو أطلقنا صراحها ستدهشنا بقدراتها.
وفي الإنسان طاقات اقتدار..... آه لو يعرف كيف تدار.
المشكلة تكمن في أن المبدع نفسه، لا يؤمن بتعددية ذاته المبدعة وقدراتها، لهذا فإن جانبا كبيرا من الظلم الذي وقع على القاص إبراهيم ناجي هو مسئول عنه.
هذا ما يلمسه الأستاذ الدكتور منير فوزي في دراسة نادرة عن القاص إبراهيم ناجي. لكن الأمر لم يتوقف عند الجهد النقدي والتحليلي، بل يشمل جهد الجمع والتحقيق لتجارب إبراهيم ناجي القصصية التي كان يقدمها على استحياء.
بالنسبة لي، لاحظت في نصوص ناجي القصصية ما هو جدير بالقراءة ووضعها في ذاكرة القصة المصرية. مثلا اللغة القادرة على التجسيد المشهدي برغم شعريتها. القدرة على نكز الدلالات وتوزيعها بين جنبات القصة بدون مباشرة. الاهتمام بالأبعاد النفسية والثقافية للشخصية لتبدو حية مفعمة بالواقعية. هذا فضلا عن طاقة من الحيوية السردية تصول في الأزمنة والأمكنة بمهارة.
وقبل أن اترك الكلام لصاحبه الدكتور منير فوزي، أود الإشارة إلى البناء المشبع للقصة القصيرة، وهذه سمة ميزت معظم كتّاب القصة في هذه الفترة أمثال : يحي حقي ونجيب محفوظ ومحمود البدوي وإحسان عبد القدوس.. إلخ. في هذا الوقت كانت القصة بقوة رواية. كان ذلك قبل هواجس التفكيك والتقليص التي ألمت بالقصة في نهاية الستينيات بدواعي الكتثيف واللغة التلغرافية، والقصة الشعرية، والومضة وغير ذلك من صور الانهيار في المفهوم السردي للقصة القصيرة التي أفضت إلى انصراف جمهور القراء عنها.
نعرض جانبا من قصص إبراهيم ناجي كما قدمها الدكتور منير فوزي في دراسة بعد جمعها وتحقيقها بعنوان ( أغنية ومزمار )
صدى.. ذاكرة القصة القصيرة
***********************
يضم هذا الكتاب بين دفتيه مجموعة متنوعة من الأعمـــال القصصية التى كتبها ونشرها الأديب الشاعر الدكتور إبراهيـم ناجى (31 ديسمبر 1898 ـ 24 مارس 1953) . وإذا كان جلُّ المثقفين يعرفون ناجى حق المعرفة بوصفه شاعراً متميزاً ، فإن القليل ـ والقليل جداً ـ هم أولئك الذين يعرفون أن لناجى إسهامات فى إطار فن القصـة القصيرة ، تقارب إسهاماته فى الشعر ، وأنه أصدر فى حياته عملين ، الأول : مدينة الأحلام (1935) ، ودس فيه من إبداعاته القصصية ثلاث قصص قصيرةٍ له هى على الترتيب : مدينة الأحلام ، والنوافذ المغلقة ، والحرمان ، بالإضافة إلى ترجمته لقصتين قصيرتين من أعمال "بيرانديللو" و "دانونتزيو" وتلخيصه لرواية "تشارلز مورجان" : المنبع ، والثانى : أدركنى يا دكتور (1950) وهى مجموعة قصصية ضمت عشرين قصة قصيرة من أعماله التى نشرها من قبل فى الصحف والجرائد .
وهذا الكتاب يحوى نيفاً وعشرين قصة قصيرة لناجى ، منها ثلاث فقط سبق نشرها فى كتاب (مدينة الأحلام) ، ولكن نظراً لأن هذا الكتاب كان متنوعـاً فى مادته وغير مختصٍ بفن القصة القصيرة وحدها ، فقد آثرتُ أن أضم هذه القصص إلى ما جمعته لناجى من أقاصيص أخرى من مختلف الصحف والمجلات .
ويعود سرُّ اهتمامى بدراسة الفن القصصىّ عند ناجى إلى سببين : الأول أن النزعة القصصية مسيطرة على ناجى نثراً وشعراً ، وأن أهم قصائده ذات طابع قصصىّ ، كالأطلال التى يستهلها بأنها (قصة حب عاثر) ، والعودة وغيرها ، والثانى : شعورى بالظلم الفادح الذى وقع على شخص ناجى وانسحب إلى مجمل إبداعاته ، خصوصاً الجانب القصصىّ الذى حظى بظلمٍ كبير من جـانب النقاد ، حتى أن ناقداً قصصياً كبيراً كالدكتور سيد حامد النساج (رحمه الله) لم يتورع فى أن يجمع كل سلبيات الفن القصصىَ ويسقطها على ناجى وعلى قصصه فى ثمانى صفحات ، فى تحامل ظاهر وواضح . وهى للأسف الدراسة الوحيدة التى قامت على قصص ناجى حتى الآن ، ولم يفكر من بعدها واحد من النقاد فى مراجعة ما قاله الدكتور النساج ، أو يعكف على إعادة النظر فى أعمال ناجى ! .
لقـد عانى "ناجى" من الظلم البيِّن فى حياته ، وما عاناه بعد رحيله أنكى وأشد ، ويعود جزء من الظلم الذى وقع عليه إلى شخص ناجى نفسـه ، الذى حرص أن يقدم نفسه ـ على استحياء ـ بوصفه قاصاً ، يسجّل خواطر طبيب ـ أكثر منه اهتماماً برصد تقلبات الواقع وانعكاس ذلك على نفوس الشخصيات ومجريات الأحداث .
إن قراءة متأنية لمقدمة مجموعته القصصية (أدركنى يا دكتور) تكشف تهيب ناجى وحرصه على تقديم نفسه بصفته الوظيفية ، لا بصفته الإبداعية بدءاً من الإهداء (إلى زملائى الأطباء ، إلى مرضى القلوب ، إلى مرضى الأجساد ، إلى مرضى الأرواح ، إلى الشهداء الذين اكتظت بهم ساحة الحياة ، إلى الألى يتطلعون إلى السلوى وينشدون العزاء . أقدم هذه الاعترافات ، هذه التجارب ، هذه الأصداء ، لعلهم يجدون فيها ما ينشدون من راحةٍ لكروبهم ، وهدوء لقلوبهم) .
إن ناجى يصف قصصه هنا بأنها (اعترافات وتجارب) وهو أمر ليس صحيحاً تمام الصحة ، فالمجموعة تضم بينها ما لا يدخل فى إطار الطب والأطباء ، بل إن بعض هذه القصص تناولت قضايا مبتكرة وموضوعات جديدة أثرت فى عـدد غير قليل من كتاب الجيل اللاحق لناجى ، وكانت نواةً لبعض أعمالهم المتميزة التى قدمتهم للحياة الأدبية بوصفهم قاصين متميزين ، وهو ما تكشف عنه الدراسة التى ألحقتها بالكتاب وموضوعها : الفن القصصى عند إبراهيم ناجى .
أما عن مصادر هذه المجموعة فقد اعتمدت فى جمعها أولاً على دليل المرحوم الدكتور حامد النساج ، الذى تبين لى عقب جمع هذه القصص اشتماله على عددٍ كبيرٍ من الأخطاء ، منها أن هناك أعمالاً نسبت إلى ناجى وهى ليسـت من تأليفه مثل قصة (جحيم امرأة) التى نسبها له الدكتور النساج وهى قصة لمحمود تيمور وقد نشرت فى العدد الثالث والخمسين من مجلة القصة بتاريخ (5/12/1951) ، وكذلك قصة (صانع الأحلام) التى هى من تأليف "إبراهيم نوار" وقد نشرت فى العدد 973 من مجلة الإذاعة المصرية بتاريخ (7/11/1953) . ويبدو أن الخطأ فى نسبة هذه القصة مردّه للطباعة ، فإبراهيم نوار هو الاسم التالى لناجى ، غير أن الفاصل بين الاسمين تجاوز ناجى إلى قصة إبراهيم نوار ، كما تضافرت الأخطاء إذ أشار دليل الدكتور النساج إلى قصة (الليل) ونسبها إلى ناجى اعتماداً على ما نشر فى العدد السابع والأربعين من (المجلة الجديدة) بتاريخ (15/5/1935) ، والقصة من تأليف الكاتب الإيطالى "لويجى بيرانديللو" وترجمة إبراهيم ناجى ، وقد ُنشرت القصة ضمن كتاب (مدينة الأحلام) وشغلت الصفحات من (38 ـ 45) .
ومن الواضح تماماً أن الدكتور النساج لم يطلع على الكتابات النثرية المنشورة لناجى وهى كتاب "مدينة الأحلام" ومجموعة "أدركنى يا دكتور" ، وهو مايفسر إغفاله لهما فى قائمة المجموعات القصصية المطبوعة للمرحلة ، كما يفسر عدم وضع العلامة المميزة التى حددها الدكتور النساج والمبينة لصـدور القصة ضمن مجموعة قصصية معينة .
والمتابع للرصيد القصصى المنشور لناجى فى الصحف والمجلات يتبين له أن ناجى قاص دائم التبديل والتغيير ، فهو قد ينشر إحدى قصصه فى مجلة أو صحيفة ثم يعود ويعيد النظر فى صياغتها وإعادة هيكلتها ، بتغيير عنوان القصة (وهو ملمح واضح جداً فى قصصه) ، ومن ذلك على سبيل المثال قصص : الحمى الشوكية التى نشرها فى العدد الخامس والثلاثين من مجلة القصة بتاريخ (5/3/1951) ، وهى نفسها قصة (الضمير) المنشورة فى العدد الثانى من مجلة (حكيم البيت) بتاريخ (1/2/1934) ، وقصة (فى الريف) التى ضمتها مجموعة (أدركنى يا دكتور) الصادرة فى عام 1950 ، أعاد نشرها باسم (أغنية ومزمار) فى العدد الرابع والسبعين من مجلة القصة بتاريخ (20/10/1952) . وقصة (أحلام الموتى) من مجموعة (أدركنى يا دكتور) سبق نشرها فى العددين السادس والسابع من مجلة (الراوى) بتاريخ (16/7/1936) والعدد التاسع والعشرين من (المجلة المصرية) بتاريخ (15/4/1938) باسم (وراء الطبيعة) . كما أن هناك عدداً آخر من القصص لم يكتف ناجى بتغيير عناوينها فحسب وإنما قام بإعادة هيكلتها فنيـاً مثل قصة (ذكاء) المنشورة فى العدد الثالث من مجلة القصة بتاريخ (5/11/1949) والتى ُنشرت بوصفها أول قصة بوليسية لناجى ، أعاد ناجى صياغتها فى العدد السابع والثلاثين من مجلة القصة بتاريخ (5/4/1951) باسم (ذكاء نادر) .
ومعظم هذه التغييرات كان ـ عادة ـ ما يعقبها تعديلات خاصة بالضبط والإضافة والحذف أحياناً ، وهى ظاهرة تكشف عن سمةٍ مهمة من سمات ناجى القاص ، وهى حرصه الدائم على التجويد وعلى تقديم نفسه أديباً متمكناً مشاركاً فعالاً فى الحركة القصصية ، إذ إن هذه التعديلات غالباً كانت نتاج محاورات بينه وبين أصدقائه كتاب القصة الشبان فى ذلك الحين ، الذين كانت تربطهم به أواصـر صداقة ورابطة فكرٍ وحب .
ولعله مما يجدر الإشارة إليه أن هذه المجموعة من القصص التى تضمها دفتا كتاب قصصىّ لأول مرةٍ ، هى جزء من إنتاج الراحل إبراهيم ناجى ، والذى يأمل الباحث المحقق من خلال نشرها أن يعيد الناس نظرتهم لناجى ، ليس فقط بوصفه قاصاً وإنما بوصفه مفكراً استخدم فنوناً عدة للتعبير عن رؤية شديدة الخصوصية للعالم والتى تتمثل فى أن العالم كل لا يتجزأ وأن الحرمان والكبت لا يولدان غير الموت والدمار ، وأخطر أنواع الدمار دمار النفوس ، كما أنه لاشىء يدفع الرقى فى الحياة كالفن ، الذى وقوده المرأة وزاده التجربة وجوهره التجدد والتبدل .
أما عن المنهج الذى وضعتُ عليه هذه المجموعة ، فقد قمت بترتيبها ترتيباً زمنياً تصاعدياً طبقاً لتاريخ نشرها ، مبتدئاً بأقدمها ومنتهياً بأحدثها ، مع بيان قصير لكل قصة يوضح تاريخ نشرها وموضعه ، وبيان ما إذا كان قد تكرر نشرها أو تغير عنوانها وموضع ذلك وتاريخه … إلخ .
وبالنسبة لعنوان المجموعة (أغنية ومزمار) وهو عنوان إحدى قصص ناجى المنشورة مع مجموعته "أدركنى يا دكتور" وإن كان بمسمى آخر هو (فى الريف) ، وقد أعاد ناجى نشر هذه القصة باسم (أغنية ومزمار) ، فإننى وجدت أن أنسب عنوان يصلح لقصص هذه المجموعة هو هذا العنوان ، على الرغم من عدم اشتمال المجموعة على قصة تحمل هذا الاسم ، وهو عنوان يحمل روح الشعر وجوهر القصة ، وأعنى الإيقاع والشعبية .
ويعلم الله وحده حجم المشاق التى تكبدتها من أجل جمع هذه القصص من أروقة المجلات والصحف القديمة ، التى لا يكاد يوجد الكثير منها كاملاً فى دار الكتب ، ذلك أنك إذا وجدت سلسلة أو دوريةً غالباً ما تجدها منزوعة الفرائد بسقوط غير عددٍ منها ، ويحدث أن يكون مطلبك فى هذه الأعداد المفقودة . غير أن اهتمام ناجى المفرط بتكرار إنتاجه ساعدنى فى أن أحصل على أغلب ـ إن لم يكن كل ـ إنتاجه القصصى .
وقد وجدت أن الفائدة المرجوة من وراء هذا العمل لا يمكن أن تؤتى أكلها إلا فى وجود دراسة نقدية تتناول "الفن القصصى عند إبراهيم ناجى" ، وتتضح من خلالها الخصائص الفنية لقصصه ، والسمات المميزة لها ، وإسهاماته وتأثيره فى القاصين اللاحقين له ، فألحقت بخاتمة الكتاب دراسة نقدية تعالج كل ذلك ، وفضلت أن أجعلها فى خاتمة الكتاب لا فى أوله ، حتى لا يدخل القارئ على قصص ناجى من خلال آراء مسبقة ، وإنما يستخلص بنفسه هذه الآراء ، حتى إذا وصل إلى الدراسة يكون قد تشبع برؤيته الشخصية ، وتكونت لديه آراء من واقع قراءته هو ، لا من آراء الغير .
ويبقى فى النهاية أن أسند الفضل إلى أصحابه ، فأتقدم بالشكر إلى الأستاذ رجب الصعيدى مدير عام خدمات القراء بدار الكتب المصرية الذى قدم لى كل التيسيرات الممكنة فى وقتٍ كانت دار الكتب فيه فى طور التجديدات ، وكان صعيباً استخراج ما تم استخراجه فى ظل هذه الظروف ، فله منى كل الشكر والتقدير . كذلك أقدم شكرى للناقد والباحث والأديب الأستاذ مصطفى بيومى بجامعة المنيا الذى شاركنى ـ ومايزال ـ هم إنصاف ناجى .
فإن أكن قد أصبت فلله الفضل من قبل ومن بعد ،
وعليه قصد السبيل ، والله المستعان .
[SIZE=26px]منير فوزى[/SIZE]
[SIZE=22px]المنيا فى 31 ديسمبر 1998م[/SIZE]
صدى.. ذاكرة القصة القصيرة
إبراهيم ناجي القاص المجهول ماذا تعرف عن إبراهيم ناجي غير أنه شا...