جاذبية صدقي - أيام زمان...

صورتها في خيالي – سحر بنت الخامسة عشر ربيعها – هي هي أبدا تضم يديها تضغط بهما على صدرها، ورأسها ملقى إلى الخلف، ووجهها مرفوع نحو السماء بعينين مغمضتين في نشوة كأنما هناك من يمسح على وجنتها بتحنان، أو كأنما تستنشق هواء غير الذي نستنشقه كلنا ! ثم تميل برأسها شيئًا إلى جانب ترهف أذنيها مفترة الثغر عن بسمة حالمة هانئة، كأنما يهمس إليها ملك خفي بكلمات غزل يطيب لها سماعها، وتندفع الدماء لوقعها حارة إلى وجنتيها ! وتتكور شفتاها ناتئتين وردة نضرة في كمها، على أهبة الاستعداد أبدا لتلقى قبلة العمر من فارس أحلامها الذي يشغلها ويحاورها بحصانه الأبيض في يقظتها وإغفائها. فتارة هو جبار خشن الطباع، يختطفها أمامه يكاد يهصر بدنها بين أحضانه ويفر بها على حصانه عبر الصحارى والبراري إلى حيث يعيشان وحيدين على جزيرة نائية أسقطها ملك الحب من الفردوس خصيصا لهما، وتارة هو رقيق يسيل وجداً مثال رجل المجتمع العصري بكل ميزاته، يراقصها برشاقة ويضمها إلى صدره قيد أنملة، وعيناه في عينيها تقولان مائة شيء وشيئا ..!

حبيبتي كانت والله هي “سحر” أحببتها أكثر من زميلاتي الأخريات. وكنا في القسم الداخلي من كليتنا أعز صديقين وأوفي رفيقتين، لا نكاد نفترق على رغم اختلاف أخلاقنا، كأنما تكمل إحدانا الأخرى وكنا مجتهدتين في دروسنا ، لذلك لم يكن هنا كما يقلق بالنا من هذه الناحية. أما فيما عدا العلم، فلم تكن آراؤنا تلتقي البتة. وكثيرًا ما احتد النقاش بيننا وعنف، ثم فجأة نتصافى، وتحتفظ كل منا برأيها سبب المناقشة، لا تتنازل عنه لرفيقتها، ولا تتنازل عن رفيقتها من أجله. وكانت زميلاتنا ومعلماتنا تتغامزن وهن يشرن إلينا قائلات:

ها هما مرة ثانية : السالب والموجب في كهرباء مدرستنا !

وكان أهل سحر من سوهاج الناعسة في أحضان الصعيد الأقصى، على حين يقيم أهلي في القاهرة. فإذا جاء أحدهم لزيارتي، حمل إلى هدية من فاكهة الموسم، أو الحلوى أو فطيرات دقيقة تتهاوى بين أناملنا رقة وعذوبة آكلها أنا وزميلاتي فلا تكاد تحيق بأحشائنا ، ونظل نتلمظ ونتمصص أصابعنا إصبعا.. إصبعا استطالة للمذاق الحلو الذي مر بنا كالحلم! أما سحر فكانت السلال الصعيدية الممتازة بالمتانة وحسن الجدل تصلها تباعا، وقد حوت كل ما تحلم به أمعاء حفنة بنات في القسم الداخلي من مدرسة أجنبية، قوام طعامها سلطة خضراء تزيد الشهية الفتية ضراوة، وشرائح شفافة من الشواء تكاد نرى من خلالها الكائنات كأنما أرسلها لنا الطاهي.. عينة !

فما كانت “ماري” الخادم الخصوصية للناظرة – تطل برأسها من حجرة الدراسة، وتهمس في أذن معلمتنا كلمات نرى هذه بعدها وقد ابتسمت ناحية “سحر” وأومأت إليها أن اخرجي لحظات، حتى تهب البنت متوثبة تهرع خلف “ماري” وعندما كانت “سحر” تعود ووجنتاها متوردتان وتلمع عيناها اللوزيتان نفهم – نحن أعضاء العصابة أن طردا من إياهم” قد حل عندنا مكرما معززًا !

ويدوى رنين الجرس معلنا انتهاء الدرس، فنتكالب خارجات نتزاحم حول”سحر” التي يرتفع شأنها بيننا في تلك المناسبات، ونمرق متلصصات نختبئ في زاوية تحت السلم. وما تلبث سحر أن تلحق بنا وهي تجرر خلفها سلة وقورة انتفخت أوداجها بالعز والخير مما تشتهي الأنفس وتسر الأعين، وضخم سطحها وبرز مستديرا ككرش محترمة يكاد يتفتق عن قطعة الخيش التي تغطيه وقد خيطت إلى جوانب السلة بدوبارة فيعلو هتافنا في ترحاب ونحن حول السلة العزيزة نوسعها ضما وتقبيلا ونهوى على الدوبارة قضما بأسناننا منا من تسلكها من الغرزات بدقة وحزم، ومنا من تمزع الخيش بأظفارها، ولا تنتظر في لهفتنا وجوعنا أن نجيء بمطواة أو مقص!

وما ننجح في شق ثغرة صغيرة حتى يشتد الصراع والتنافس ونحن ندب أيدينا تجوس في ظلام الأعماق تصيد لكل نصيبها وتزأر إحدانا كالأسد الظافر وهي تسحب خارجا دجاجة سمينة محمرة تعمل فيها أسنانها، وتغرغر أخرى بضحكة جذلة وقد قبضت أصابعها المستكشفة على حمامة محشوة بفريك هو من النعيم أما التي تكون من نصيبها فطيرة سخنة الحجم تنز سمنا وعسلا فكانت لا تنبس بشفة بل تفتح فاها إلى أقصاه، ويدها بعد في أعماق السلة، استعدادا لتلقى الفطيرة اللينة الرجراجة. !

وما يخفت شيئًا صراخ النسور الجارحة في أحشائنا حتى نروح نتراشق بعظام ضحايانا. وتغترف واحدة ملء حفنتها فريكا تدسه دسا في فم زميلتها فجأة وتضرب عليه بكفها لا تزحزحها وقد تزدرده المسكينة تغص به، وقد تتملص منفلتة وتدفع الفريك بعنف من فمها رذاذا كمدفع رشاش وهي تقلد جندي الميدان وتدور حول نفسها ونحن نكاد نموت من الضحك ونختنق بما حشرناه في أشدقانا . ولا تسل عن صفائح الجبن القديمة وعسل النحل أما الفطير المسمى قرقوش العفريت الجميل ذو حبات الكمون المحمصة التي تزين سطحه. فدعه إلى جانب كان حبيبنا ، نتقاتل من أجله ونحشر به جيوبنا مع ما يتبقى بعد الوليمة من أرجل حمام وصدور دجاج لوقت الحاجة – ووقت الحاجة هذا كان دائماً خلال درس من الدروس. لم يكن يهنأ لنا أكل بقدر ما كنا نتحايل خلسة على ازدراده مستخفيات وراء ضلفتي كتاب مفتوح أمامنا في غفلة من عين معلمتنا !

وكثير ما فضحتنا رائحة ما نخبئ من أطايب بين دفاترنا.

وقد حدث أن دست “سحر” قطعة كبيرة من مربى المفتقة دفعة واحدة في فمها خلال حصة الأدب الإنجليزي ولاكتها مرة ومرتين… وقبل أن تزدردها هانئة شعرت بيد تقبض على كتفها فوقف شعرها.. وجحظت عيناها .. ودارت على عقبيها لتواجه معلمتنا الأمريكية العجوز بنظارتها الذهبية الإطار مزروعة فوق أنفها تتراقص من الغضب الذي يعتمل في صدر صاحبتها. فشهقت البنت وكادت روحها تفلت من يأس موقفها وشدقها منتفخ كأنما فيه كرة صغيرة. وكانت المعلمة قد تسللت خلفها دون أن تشعر بها مقتفية أثر الرائحة النفاذة التي ملأت أرجاء ،الحجرة، تمط عنقها .. ككلب صيد أصيل.. حتى قادتها إلى مقعد “سحر”.

“ما هذا الذي أرى ؟ أبقرة أنت لا تني عن المضغ؟ يا لـ”شكسبير” المسكين! يا لضيعة تعبه لو علم أن ثمار عبقريته ستدرس لأمثالكن، لفكر مرتين قبل أن يخط حرفًا على ورق !

كل هذا والدموع تسيح من عيني “سحر” المذعورتين، وقطعة “المفتقة” العتيدة على حالها متربعة في عظمة داخل شدقها الأيسر.

نظرنا بعضنا إلى بعض – نحن صديقاتها – ولم يطل بنا التشاؤم، فقد أكببنا نحشر أفواهنا بكل ما في جيوبنا، وأحطنا بمعلمتنا “مس بارز” العجوز نتشدق تحت ناظريها، وسحناتنا تتقلص وتعوج ذات اليمين وذات الشمال من عسر ما تقاسي من المضغ والبلع فنسيت “سحر” وتحولت إلينا مبهورة تكاد تنفجر من الغيظ. ثم صاحت بغل ووجهها محتقن وحاجباها الأشيبان رقاصان من فرط ثورتها :

1مرحی، مرحى

6وانقضت علينا تقرص خدودنا، وتلطم أذرعتنا ، ومن كانت لها منا ضفيرة تشدها تسحبها منها كمقود الجاموسة ! ثم أمرتنا كلنا أن نقف في صف ووجوهنا نحو الحائط حتى تذهب تستدعى الناظرة.

وما إن أغلقت الباب خلفها حتى أسرعنا كالنمل النشيط نزيل كل أثر للجريمة من مكتباتنا . فكورنا لفائف الجرائد المزيتة وألقينا بها من النافذة التي فتحناها على مصراعيها ليتدفق الهواء طلقا، يدفع أمامه الروائح الثرثارة الفضاحة وكانت إحدانا تحتفظ دائمًا بزجاجة ماء في درجها ، فدارت بها علينا تمضمض أفواهنا، ونميل على حافة النافذة إلى خصرنا، نبصق ونغسل أيدينا.

وجاءت الناظرة تدب بخطوات عسكرية، فدفعت الباب وشملت الحجرة بنظرة فاحصة لتفاجأ بما لم يخطر على بالها، حتى لقد سقط فكها وانفغر فاها من فرط دهشتها:

كانت الحجرة مثالاً للنظافة والنظام، وكانت كل منا تجلس مكانها

أليفة مستكينة تتصفح كتابها أو تكتب في دفترها. ولما دخلت وقفنا لها احتراماً ونحن نبتسم وننحني لها بأدب ووقار ثم رحنا ننظر إليها مستطلعات بسذاجة وبراءة وما بعدهما سذاجة وبراءة.

فاستدارت الناظرة إلى المعلمة المسكينة – التي كانت تقرض أظفارها حرجا وتحدث نفسها كمن أصابها مس وسألتها من بين أسنانها وهي تعقد ذراعيها على صدرها في ضيق.

أي مس “بارنز” ها أنا ذي جئت كما طلبت مني، هل لك أن تخبريني عن سبب إقلاقي؟ أدعابة أم مزاح؟

ففأفات وثأثأت، تدور حول نفسها، وتفرك كفيها وتغمغم هن يأكلن خلال الدرس – أقسم على ذلك”.

فانبرت سحر العفريتة بعينيها الصعيدتين الأسرتين ووجهها الأسمر هادئ القسمات يشع براءة وقالت بعد أن استأذنت للكلام أ

– آيا ناظرتنا المبجلة: لقد كنا ندرس مسرحية شكسبير” الخالدة “ماكبث” وبها مشهد لثلاث ساحرات وصفهن المؤلف العبقري بقوله يلكن الكلمات في أفواههن الدرداء كأنما يمضغن طعامًا عسيراً إذ كنت وصديقاتي نحاول تقليد وصف شكسبير للساحرات و ……

هنا هبت أخرى منا تتم دجل رئيسة عصابتنا “سحر” فتقول:

فربما ظنت “مس بارنز” – وبعض الظن إثم – أننا حقا نمضغ طعاما ؟ فردت ثالثة بصوت صغير وهي تطرق استحياء

وهل هذا يليق؟ هل جننا أو فقدنا الصواب حتى نقدم على مثل تلك الفعلة ونغضب معلمتنا الفاضلة؟”

كل هذا، ومس بارنز تشهق عجبا، وتدير عينيها الفيرانيتين فينا مبهورة، تلهث، كأنما تشهد مسرحية فريدة.

فتعالت ابتسامة على فم الناظرة وسرعان ما وأدتها، وتنحنحت تزم شفتيها الشاحبتين في حزم ووقار وتقول

– آه.. فهمت

ثم أردفت:على كل حال سأرى بنفسي “

ودارت علينا تفتح مكتباتنا واحدة تلو الأخرى تعبث بأوراقنا ودفاترنا سدى. لم تجد أثرًا وإن ضئيلا ينم عن صدق اتهام معلمتنا لنا. ولكن كان لا بد أن ننال عقابا ما حتى لا نشمت في مس بارنز العجوز فأمرتنا الناظرة أن ندع مسرحية شكسبير إلى جانب وأن تكتب كل منا مائة مرة بخط واضح نظيف يجب ألا ألعب ألاعيب شيطانية على معلمتنا الفاضلة” وتركتنا وخرجت.

فرحنا نغمغم وندمدم غاضبات. فرمقتنا “مس بارنز” في صمت بنظرة طويلة، وفجأة انفجرت ضاحكة، وقد غلبها روحها الأمريكي المرح، وصاحت وهي تغالب الضحك لقد كنت “عفرت” منكن في زماني! كأن الله ينتقم منى بكن!

فتكالبنا على الحبيبة العجوز وكدنا نزهق روحها تماما من فرط ما أوسعناها ضما وتقبيلا، والمسكينة بيننا توشك أن تفطس وتروح ضحيتنا

وقالت زعيمتنا وهي تصوب عينيها الآسرتين نحو مس بارنز وقد شحنتها بكل ما في وسعها سذاجة وفتنة:

آي “مس بارنز” : اغضبي أنت؟

فنظرت المعلمة إلى سحر ومسحت على شعرها الحالك المسترسل، وتمتمت بحنان:

ت أنتن بناتي! أو تغضب الأم من بنتها طويلا؟!

ومرة ثانية، تحملت مس ( بارنز) شهيد في اصطبار ت عناق وقبلات عشرين مهرة فتية!




أعلى