إذا صح المثل السائر القائل: إن ذاكرة الشعوب العربية وأخلاقها، فهي من غير شك تعاني من ضعف الذاكرة في جملة ما تعانيه من آفات أخرى، بل أن هذا الضعف في ذاكرتها هو بكل تأكيد الذي حال بينها وبين أخذ العبر والدرس مما يوالي وما يزال يتوال عليها من محن ونكبات في ماضيها وحاضرها ثم أن الضعف في الذاكرة، قد تتجاوز «إصاباته»، الوقائع والأحداث، لنمتد إلى الجماعات والأفراد، ولئن كان جوهر هذا الموضوع بالذات يعد بحرا لا ساحل له ـ كما قيل ـ فإن ما حرك هذه الخاطرة في ذهني هو عينة واحدة ـ وربما تكون صغيرة ـ ومن أصناف الألوان التي تمثل ضعف الذاكرة، وتتمثل هذه العينة أو هذا اللون في شخصية من بين شخصيات عديدة حاك ضعف الذاكرة حولها خيوطا من عناكب النسيان بألطف تعبير وأرهف تصوير، إنها شخصية المرحوم الكاتب الكبير الأستاذ احمد حسن الزيات وما أظن أن مثقفا عربيا على طول الساحة العربية بل ومن خارجها لا يعترف بأفضلية هذا الرجل وبما أسداه من خدمات جلى للثقافة العربية كيفا وكما ومن من أفراد جيل المثقفين في أوائل الثلاثينات والأربعينات، لم يتلمذ لمدرسة أحمد حسن الزيات في كلية «مجلة الرسالة» وعبر كتبه المفيدة الموضوع منها والمترجم على السواء حتى أنه وعلى طول المسافة في تاريخ الصحافة العربية كلما ذكر اسم «الرسالة»
كمجلة إلا وينصرف لرسالة الزيات، التي كانت بحق رسالة غمرت بإشعاعها الفكري مجموع الرقعة العربية من المحيط إلى الخليج، وآنست بقية المغتربين العرب فيما وراء البحار.
لقد ألف الأستاذ أحمد حسن الزيات كتابه «تاريخ الأدب العربي» فأتاح لجيل الثلاثينيات والأربعينيات فرصة دراسة هذا الأدب والتعرف عليه في غير عسر وبدون تشعب ولا تعقيد.
ولم يكن بدعا أن تتلقاه المدارس الحرة في المغرب خلال تلك الحقبة ولكأنه هبة من السماء إلى أرضنا في وقت كانت فيه تلك المدارس تعاني من قلة الإمكانيات المادية والمعنوية منها على السواء، مثلما كانت تعاني من أشباح الحروب الصليبية ولكأنه رحمه الله أراد وكما جعل ذلك شعار لمجلة الرسالة أن يوصل ماضي الأمة بحاضرها ويعمل على رسم آفاق مستقبلها.
فأصدر مجلة «الرسالة» التي استطاعت فعلا أن توصل الماضي بالحاضر، وتكون أداة «للآداب الرفيعة» وسرعان من التف حولها صفوة من طليعة النهضة الفكرية في تلك الحقبة الذين دأب أفرادها على إثراء صفحاتها بالدراسات القيمة والمقالات الرصينة الهادفة في مختلف «الآداب والفنون» فكان من بينهم الدكتور طه حسين والدكتور زكي مبارك والعالم الباحث صاحب النفس الطويل الأستاذ أحمد أمين والأستاذ مصطفى صادق الرافعي وغيرهم من الشخصيات التي كان أصحابها مصنفين في عداد عمالقة الفكر، والمعرفة، فكان لكل منها اتجاهه الفكري، وأسلوبه التعبيري واختصاصه الدراسي، وتفتحت مجلة الرسالة على الثقافة العالمية فكانت تترجم من الآداب الأخرى كل ما يمكن أن يوصف بالجودة والإبداع من قديم الآداب الأجنبية وحديثها فتولى المرحوم الأستاذ دريني خشبة ترجمة أدويبا هوميروس بينما اضطلع الأستاذ فليكس فارس بترجمة كتاب الفيلسوف الألماني نيتشه «هكذا قال زرادشن» وخلد الأستاذ فخري أبو السعود دراسة ربما لا يوجد لها نظير إلى يومنا هذا في موضوع الأدب المقارن بين الأدبين العربي والإنجليزي، كما أن مجلة «الرسالة» كانت أول من اكتشف موهبة البحث العلمي ذي السرد الأدبي في شخصية الدكتور أحمد زكي رئيس مجلة تحرير العربي رحمه الله وذلك من خلال سلسلة مقالاته: «قصة المركوب وكيف كشفه رجاله».
ونذكر فيما يذكره الذاكرون من روائع الإنتاج في رسالة الزيات وصحبه، أعدادها الممتازة التي كانت تصدر في طليعة كل شهر محرم، حيث تتبارى الأقلام في تحديد معالم الرسالة المحمدية ونضل صاحبها عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وتستخرج لها صورا زاهية من بين المواد الخام المعقدة في كتب السير الأخرى وتصوغها في بيان مشرق تكون افتتاحية الأستاذ الزيات عقدا تتلألأ أحجاره الثمينة في جيد كل عدد من تلك الأعداد.
وبعد حين من صدور مجلة الرسالة وما حظيت به من «اتساع في الذيوع والانتشار» بادر الأستاذ الزيات إلى تعزيزها بأختها مجلة «الرواية» التي خصصها لترجمة الآداب الأخرى إلى لغة الضاد فجاءت كمثل الرسالة، عامرة بأحسن القصص وأروعه في آداب الغرب.
وبذلك فتح الزيات رحمه الله نافذة أوسع للقارئ العربي ليرى من خلالها ما يجري على غير ساحته العربة من ألوان الإنتاج الفكري الغربي قديمه وحديثه الكلاسيكي منه والإبداعي ـ على حد تعبير الأستاذ الزيات ـ وعلى مدى عشرين سنة تمكنت مجلة «الرسالة» من تعميق الفكر العربي وإثرائه وسدت الفراغ الهائل في الوطن العربي وجمعت حولها كتابا وقراء ربطت بينهم روابط متينة على الرغم من شط المزار وتباعد الديار.
كما أنها كانت قبل ذلك وبعد ذلك منبع عطاء فكري تميز بخصوبته وبطابعه الأصيل في الآداب والعلوم والفنون.
وبذلك أصبحت مجلدات «الرسالة» تشكل تراثا للفكر العربي بداية من لوائل الثلاثينيات إلى أوائل الخمسينات، وهي فترة اعتبرت بحق فترة متسمة بالحيوية والرصانة مثلما طبعها الانتعاش ثم الازدهار.
ومن من أفراد جيل هذه الحقبة من لا يتذكر وبشيء غير قليل من الانتشاء تلك المعارك الأدبية التي جرت في ميدان الرسالة حول تلك القضية التقليدية، قضية القديم والحديث، التي ماتزال «الحاسة السادسة» لاستكشاف المتعة الأدبية تتذوقها وتتلذذ بل وتنتشي بها، مضمونا وتعبيرا، إلى يومنا هذا وفي زمننا هذا؟؟
حتى إذا احتجبت مجلة «الرسالة» متأثرة بظروف الحرب وعواقبها، تركت ذلك الفراغ الهائل الذي ما أظن أن مجلة أخرى قد تمكنت من سده رغما عن كثرة أسمائها وتعداد أماكن صدورها واختلاف مذاهبها وطرائفها «وموضاتها» كذلك، وذلك في وقت مني فيه الفكر العربي بآفة أخرى تجلى مفعولها في صراع «الطوائف» المذهبية الذي كلما ظهرت فيه طائفة لعنت أختها.
بينما بقيت آفة العقوق تطارد صاحب الرسالة الأستاذ الزيات حيث لم يجد من الاهتمام أو السند ما يساعده على ما كان يأمله من القيام بعملية بعث لمجلته فضاعت نصائحه وتوجيهاته واقتراحاته في أجواء مشحونة بالصخب والضجيج.
لما قيل عنه يومئذ من أنه «عملية تحول أو تحويل» للثقافة العربية وهي عملية لم تزد على أن حققت امثولة ذلك الغراب الذي روي أنه أراد تقليد الحمامة فلم يوفق في تقليدها ولما أراد العودة إلى مشيته وجد نفسه أنه نسيها وتولى الأستاذ المرحوم الأستاذ أحمد حسن الزيات في أواخر أيامه رئاسة تحرير مجلة «الأزهر» وظل يتفرج على ما يجري في الساحة العربية من الشيء ونقيضه في الحقل الثقافي إلى أن لقي ربه مثلما يلقاه كل ذوي الرسالات الصادقة فرحمه الله وجزاه خير على ما قدمه من خدمات جلى للثقافة العربية وآدابها، وما أردت أن تكون كلمتي هذه كدراسة شخصية ولا لتأثير «رسالة» فتلك مهمة تحتاج إلى جهد ووقت و«مزاج» بالاصطلاح المصري، وإنما هي مجرد خواطر عابرة أردت لها أن تكون بطاقة تعريف، أو استمارة لحالة مدنية عسى أن يرى فيها الجيل الحاضر صورة من همة أولئك الرجال الذين وفق المرحوم أحمد الزيات في أن يجمعهم حول مجلته، وما من واحد منهم إلا وقد أسهم بفكره في بناء صرح نهضة فكرية شامخة البنيان عز سد فراغها بعد غيابهم.
فرحمة الله على الأستاذ الزيات، وإنها لكلمة وفاء وتقدير في شهر ذكراه، وذلك بالأصالة عن نفسي وباسم كل من استفاد من رسالة الزيات في هذا البلد وجعل من اقتنائها بابا في ميزانيته الأسبوعية حتى ولو كانت اليد قصيرة لأن الزمن يومئذ كان يقاس فيه الناس بما يعرفون لا بما يملكون، فسبحان مبدل الأحوال.
دعوة الحق
176 العدد
كمجلة إلا وينصرف لرسالة الزيات، التي كانت بحق رسالة غمرت بإشعاعها الفكري مجموع الرقعة العربية من المحيط إلى الخليج، وآنست بقية المغتربين العرب فيما وراء البحار.
لقد ألف الأستاذ أحمد حسن الزيات كتابه «تاريخ الأدب العربي» فأتاح لجيل الثلاثينيات والأربعينيات فرصة دراسة هذا الأدب والتعرف عليه في غير عسر وبدون تشعب ولا تعقيد.
ولم يكن بدعا أن تتلقاه المدارس الحرة في المغرب خلال تلك الحقبة ولكأنه هبة من السماء إلى أرضنا في وقت كانت فيه تلك المدارس تعاني من قلة الإمكانيات المادية والمعنوية منها على السواء، مثلما كانت تعاني من أشباح الحروب الصليبية ولكأنه رحمه الله أراد وكما جعل ذلك شعار لمجلة الرسالة أن يوصل ماضي الأمة بحاضرها ويعمل على رسم آفاق مستقبلها.
فأصدر مجلة «الرسالة» التي استطاعت فعلا أن توصل الماضي بالحاضر، وتكون أداة «للآداب الرفيعة» وسرعان من التف حولها صفوة من طليعة النهضة الفكرية في تلك الحقبة الذين دأب أفرادها على إثراء صفحاتها بالدراسات القيمة والمقالات الرصينة الهادفة في مختلف «الآداب والفنون» فكان من بينهم الدكتور طه حسين والدكتور زكي مبارك والعالم الباحث صاحب النفس الطويل الأستاذ أحمد أمين والأستاذ مصطفى صادق الرافعي وغيرهم من الشخصيات التي كان أصحابها مصنفين في عداد عمالقة الفكر، والمعرفة، فكان لكل منها اتجاهه الفكري، وأسلوبه التعبيري واختصاصه الدراسي، وتفتحت مجلة الرسالة على الثقافة العالمية فكانت تترجم من الآداب الأخرى كل ما يمكن أن يوصف بالجودة والإبداع من قديم الآداب الأجنبية وحديثها فتولى المرحوم الأستاذ دريني خشبة ترجمة أدويبا هوميروس بينما اضطلع الأستاذ فليكس فارس بترجمة كتاب الفيلسوف الألماني نيتشه «هكذا قال زرادشن» وخلد الأستاذ فخري أبو السعود دراسة ربما لا يوجد لها نظير إلى يومنا هذا في موضوع الأدب المقارن بين الأدبين العربي والإنجليزي، كما أن مجلة «الرسالة» كانت أول من اكتشف موهبة البحث العلمي ذي السرد الأدبي في شخصية الدكتور أحمد زكي رئيس مجلة تحرير العربي رحمه الله وذلك من خلال سلسلة مقالاته: «قصة المركوب وكيف كشفه رجاله».
ونذكر فيما يذكره الذاكرون من روائع الإنتاج في رسالة الزيات وصحبه، أعدادها الممتازة التي كانت تصدر في طليعة كل شهر محرم، حيث تتبارى الأقلام في تحديد معالم الرسالة المحمدية ونضل صاحبها عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وتستخرج لها صورا زاهية من بين المواد الخام المعقدة في كتب السير الأخرى وتصوغها في بيان مشرق تكون افتتاحية الأستاذ الزيات عقدا تتلألأ أحجاره الثمينة في جيد كل عدد من تلك الأعداد.
وبعد حين من صدور مجلة الرسالة وما حظيت به من «اتساع في الذيوع والانتشار» بادر الأستاذ الزيات إلى تعزيزها بأختها مجلة «الرواية» التي خصصها لترجمة الآداب الأخرى إلى لغة الضاد فجاءت كمثل الرسالة، عامرة بأحسن القصص وأروعه في آداب الغرب.
وبذلك فتح الزيات رحمه الله نافذة أوسع للقارئ العربي ليرى من خلالها ما يجري على غير ساحته العربة من ألوان الإنتاج الفكري الغربي قديمه وحديثه الكلاسيكي منه والإبداعي ـ على حد تعبير الأستاذ الزيات ـ وعلى مدى عشرين سنة تمكنت مجلة «الرسالة» من تعميق الفكر العربي وإثرائه وسدت الفراغ الهائل في الوطن العربي وجمعت حولها كتابا وقراء ربطت بينهم روابط متينة على الرغم من شط المزار وتباعد الديار.
كما أنها كانت قبل ذلك وبعد ذلك منبع عطاء فكري تميز بخصوبته وبطابعه الأصيل في الآداب والعلوم والفنون.
وبذلك أصبحت مجلدات «الرسالة» تشكل تراثا للفكر العربي بداية من لوائل الثلاثينيات إلى أوائل الخمسينات، وهي فترة اعتبرت بحق فترة متسمة بالحيوية والرصانة مثلما طبعها الانتعاش ثم الازدهار.
ومن من أفراد جيل هذه الحقبة من لا يتذكر وبشيء غير قليل من الانتشاء تلك المعارك الأدبية التي جرت في ميدان الرسالة حول تلك القضية التقليدية، قضية القديم والحديث، التي ماتزال «الحاسة السادسة» لاستكشاف المتعة الأدبية تتذوقها وتتلذذ بل وتنتشي بها، مضمونا وتعبيرا، إلى يومنا هذا وفي زمننا هذا؟؟
حتى إذا احتجبت مجلة «الرسالة» متأثرة بظروف الحرب وعواقبها، تركت ذلك الفراغ الهائل الذي ما أظن أن مجلة أخرى قد تمكنت من سده رغما عن كثرة أسمائها وتعداد أماكن صدورها واختلاف مذاهبها وطرائفها «وموضاتها» كذلك، وذلك في وقت مني فيه الفكر العربي بآفة أخرى تجلى مفعولها في صراع «الطوائف» المذهبية الذي كلما ظهرت فيه طائفة لعنت أختها.
بينما بقيت آفة العقوق تطارد صاحب الرسالة الأستاذ الزيات حيث لم يجد من الاهتمام أو السند ما يساعده على ما كان يأمله من القيام بعملية بعث لمجلته فضاعت نصائحه وتوجيهاته واقتراحاته في أجواء مشحونة بالصخب والضجيج.
لما قيل عنه يومئذ من أنه «عملية تحول أو تحويل» للثقافة العربية وهي عملية لم تزد على أن حققت امثولة ذلك الغراب الذي روي أنه أراد تقليد الحمامة فلم يوفق في تقليدها ولما أراد العودة إلى مشيته وجد نفسه أنه نسيها وتولى الأستاذ المرحوم الأستاذ أحمد حسن الزيات في أواخر أيامه رئاسة تحرير مجلة «الأزهر» وظل يتفرج على ما يجري في الساحة العربية من الشيء ونقيضه في الحقل الثقافي إلى أن لقي ربه مثلما يلقاه كل ذوي الرسالات الصادقة فرحمه الله وجزاه خير على ما قدمه من خدمات جلى للثقافة العربية وآدابها، وما أردت أن تكون كلمتي هذه كدراسة شخصية ولا لتأثير «رسالة» فتلك مهمة تحتاج إلى جهد ووقت و«مزاج» بالاصطلاح المصري، وإنما هي مجرد خواطر عابرة أردت لها أن تكون بطاقة تعريف، أو استمارة لحالة مدنية عسى أن يرى فيها الجيل الحاضر صورة من همة أولئك الرجال الذين وفق المرحوم أحمد الزيات في أن يجمعهم حول مجلته، وما من واحد منهم إلا وقد أسهم بفكره في بناء صرح نهضة فكرية شامخة البنيان عز سد فراغها بعد غيابهم.
فرحمة الله على الأستاذ الزيات، وإنها لكلمة وفاء وتقدير في شهر ذكراه، وذلك بالأصالة عن نفسي وباسم كل من استفاد من رسالة الزيات في هذا البلد وجعل من اقتنائها بابا في ميزانيته الأسبوعية حتى ولو كانت اليد قصيرة لأن الزمن يومئذ كان يقاس فيه الناس بما يعرفون لا بما يملكون، فسبحان مبدل الأحوال.
دعوة الحق
176 العدد
دعوة الحق - أحمد حسن الزيات ودوره في الحركة الأدبية المغربية
إذا صح المثل السائر القائل: إن ذاكرة الشعوب العربية وأخلاقها، فهي من غير شك تعاني من ضعف الذاكرة في جملة ما تعانيه من آفات أخرى، بل أن هذا الضعف في ذ...
www.habous.gov.ma