"كان ذلك لغزاً بالنسبة لي، إذ استمرت تلك المشكلة منذ الطفولة حتى وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، فلا زلت أحبس الكلام الذي أود قوله فلا أقوله، تلك التعليقات العابرة التي تتراقص في ادمغتنا حتى أطراف ألسنتنا، لكننا بعد ذلك كله نبتلعها ولا ننطقها لأسباب عديدة".
كان ذلك إجتماعنا الأول حين سردت قصتي عليهم. فانبرت فتاة تؤكد أنها تعاني من ذات المشكلة، فهي تقمع رغبتها في التعليق العابر، تفكر كثيراً قبل أن تتحدث. وقالت المعالجة النفسية، أن ما يحدث لنا هو خلاصة الحكمة الصينية القديمة. إذ يجب أن نفكر كثيراً فيما نريد قوله قبل أن ننطق به؛ ولذلك فالإنسان الصيني يميل إلى العمل أكثر من الثرثرة.
الفتاة كانت تسدل شعراً أسوداً وناعماً على كتفيها وكان يلمع كما لو كان مبتلاً بالماء، كان وجهها الأسمر المرتبك يزيدها جمالاً. وحين انتهى لقاؤنا كمجموعة تعاني من صعوبات في التكلم، حاولت مرافقتها حتى آخر الطريق، لكنني لم أملك الجرأة على اقتراح ذلك عليها. لقد فكرت كثيراً كعادتي، ونظرت لي هي كما لو كانت تفكر بدورها في الحديث. في النهاية افترقنا، كل في طريقه. في الواقع كان طريقنا واحداً لكنني تعمدت الذهاب عبر الطريق المعاكس. يجب قمع ذلك الشعور المؤسف بالرغبة المستحيلة. خلعت ملابسي وارتديت ملابس العمل، عفريتة زرقاء، ونظارة لمنع دخول شرر اللحام المتطاير في عيني.
وقال المعلم صاحب الورشة:
- عدتَ مبكراً؟..
فكرت طويلاً في الرد، فناولني أحد المفاتيح الإنجليزية لأبدأ تفكيك الماكينة الفولاذية.
- إنك تميل إلى الصمت كثيراً وهذا ممل في عملنا هذا..عملنا هذا شاق يحتاج إلى قليل من الثرثرة..
كدت أن أقول له بأنني لا أميل إلى الصمت..لكنني تراجعت، فماذا سأستفيد، وماذا لو أعتقد انني مصاب بلوثة عقلية..وماذا وماذا..
فتح الصامولة بلفة واحدة فتدفق الزيت الأسود وقال:
- أحياناً يجب أن نكون عفويين لنستمتع بالحديث يا ولد.. اطلق لسانك من عقاله..
أضررت لإخباره بالمشكلة، فقال ضاحكاً:
- كل الناس هكذا..إنني أراجع ما أود قوله عشرات المرات قبل أن اتحدث مع زوجتي..تعرف أن النساء حرفيات، لا يحبذن لغة المجاز..ناولني مفتاح أربعة وعشرين.
ناولته المفتاح فأخذه وعضه بفمه أثناء حديثه:
- هااهاايي وهاهاا ااههم ايييوووييإإي آآهييي
قلت بقلق:
- لم أفهم؟
نزع المفتاح من بين فكيه وقال:
- حماتي وحدها التي لا تهتم بردود فعل الآخرين..
صمتَ برهة ثم أضاف:
- تطعنهم في مقتل وتثير حفيظتهم ولا تفكر في عواقب كلامها..ويوماً ما سيقتلها شخص ما...
قهقهت ضاحكاً.
"أن لا تهتم بعواقب ما تقول"
همست لنفسي، وتذكرت الفتاة ذات الشعر المبتل.
قال المعلم:
- كان والدي يقمعنا حينما نتحدث ونحن أطفال..لقد ظننت حينها أن حديث الكبار خطير..عندما كبرت وجدته تافهاً جداً..كان قمع الكبار لنا مجرد محاولة لمنح أنفسهم أهمية زائفة عبر التقليل من شأن ما نقوله..لذلك ربيت ولدي على حرية الحديث.. لكنه قبل يومين تجرأ أكثر مما ينبغي وتجاوز الحاجز فلطمته لطمة دوخته..مع ذلك لا زلت سعيداً بأنه أصبح رجلاً واثقاً من نفسه وليس مثلك..
نظر لوجهي المتجهم وقال:
- ليس مثلك..لقد فكرت في عدم قول ذلك لأن ذلك قد يجرح شعورك.. فما رأيك؟ هل كان عليَّ أن احتفظ بهاتين الكلمتين لنفسي؟..
فكرت قليلاً وقلت:
- نعم...لقد أصابني كلامك بالإحباط..
سحب جسده من تحت الماكينة وقال:
- لأنها حقيقة أم لأنها كذب؟
قلت:
- لأنها ..لأنها...
أوصلت سلك ماكينة اللحام بالكهرباء وبدأت في كي الثقب الحديدي فتطاير الشرر في وجهي، ولكنني لم أكن أراه..بالتأكيد هناك رجل واثق من نفسه قد طرح ما في قلبه للفتاة ذات الشعر المبتل ونال قلبها..وها هو الأسبوع الثاني، اليوم الذي سنجتمع فيه في صالة المعالجة النفسية، لكنها لم تأتِ، اقصد الفتاة ذات الشعر المبتل.
وحين سرت في الطريق خشيت أن أراها تقف أمام شاب آخر..غير أن هذا لم يحدث.
قال المعلم:
- أنت لا تصلح للعمل هنا.. أنصحك بالبحث عن هواية أخرى..وأقول هواية لأن عملنا هذا عمل حقيقي وليس هواية وأنت تسهو كثيراً.. أقول لك هات المفتاح الكذا فلا تسمعني إلا بعد تكرار كلامي ثلاث او أربع مرات.. كان الاستاذ في المدرسة يقذف الطالب منا حين يسهو أثناء الدرس بالطبشور وهو يصيح:
- هل أنت عاشق؟..
يقهقه معلمي قائلاً:
- كان الأساتذة يعرفون ما بنا حقاً.. لقد جعلوا من إعلان مشاعرنا أضحوكة دمرت ثقتنا بالحب.. تزوجت زوجتي وحتى الآن لم أخبرها بحبي لها وهي بدورها لم تفعل حتى ونحن في اشد اللحظات حميمية.. لذلك ربيت ولدي على إطلاق العنان لمشاعره..أخبرته بأنه سيعشق وينكسر قلبه عشرات المرات لكن عليه أن لا يفقد ثقته في الحب..لأنه في تلك اللحظة سيفقد رغبته في الحياة..
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي حين رأيتها في الأسبوع الثالث وتذكرت كلام معلمي.. وكان عليَّ أن أتخذ خطوة جريئة..توجهت نحوها..ورأيت عينيها المتوترتين..قلت بصوت مرتعش:
- هل استفدتِّ من هذه الحلقات؟
قالت:
- لا..لا أعرف.. لا أشعر بتقدم..
نظرتُ إلى عينيها مليَّاً فقالت:
- وأنت؟
كانت يداي متعرقتين فأدخلتهما في جيب بنطالي وقلت:
- لولا هذه الدروس لما استطعت الاقتراب منك والنظر إلى عينيك الجميلتين..
لا .. لم أقل ذلك بالطبع، كنت أود قول ذلك، لكنني قلت:
- لا .. لم استفد..
التقطت حقيبتها وقالت:
- لذلك لن آتي مرة أخرى..
ورأيتها تغادر..رأيتها تجمع شعرها المبتل وتعقده بمشبك خزفي أبيض...انتفض قلبي فصحت:
- أرجوكِ لا تفعلي..
التفتت نحوي ونظرت لي بدهشة متسائلة، فقلت:
- لا تذهبي فأنا أحبك..
لا.. بالطبع لم اقل لها ذلك بل قلت:
- لا تعقدي شعرك..أتركيه منسدلاً على كتفيك..هذا أجمل..
سهت ببصرها في وجههي لبرهة ثم أطلقت العنان لشعرها وغادرت.
قال معلمي:
- أراكَ جمعت حاجياتك..هل ستغادر الورشة؟
قلت:
- بلى..
قال:
- إلى أين؟
قلت:
- لا أعرف..سأبحث عن هواية أخرى..
قال:
- جرب التمثيل المسرحي..
رميت بقجتي على كتفي وعبرت الطرق الواسعة والأزقة الضيقة..
لم ألتق بها بعد ذلك أبداً رغم أنني كنت أتأمل جميع المتفرجين أثناء التمثيل..كانوا يضحكون بجزل..لكنها لم تكن هناك..كنت متأكداً بأنني لو تحدثت إليها يوم مغادرتها قبل سنوات لما كنت ممثلاً مسرحياً ناجحاً.. كانت الحياة ستكون أقل سخرية مما هو عليه الآن..
(تمت)
كان ذلك إجتماعنا الأول حين سردت قصتي عليهم. فانبرت فتاة تؤكد أنها تعاني من ذات المشكلة، فهي تقمع رغبتها في التعليق العابر، تفكر كثيراً قبل أن تتحدث. وقالت المعالجة النفسية، أن ما يحدث لنا هو خلاصة الحكمة الصينية القديمة. إذ يجب أن نفكر كثيراً فيما نريد قوله قبل أن ننطق به؛ ولذلك فالإنسان الصيني يميل إلى العمل أكثر من الثرثرة.
الفتاة كانت تسدل شعراً أسوداً وناعماً على كتفيها وكان يلمع كما لو كان مبتلاً بالماء، كان وجهها الأسمر المرتبك يزيدها جمالاً. وحين انتهى لقاؤنا كمجموعة تعاني من صعوبات في التكلم، حاولت مرافقتها حتى آخر الطريق، لكنني لم أملك الجرأة على اقتراح ذلك عليها. لقد فكرت كثيراً كعادتي، ونظرت لي هي كما لو كانت تفكر بدورها في الحديث. في النهاية افترقنا، كل في طريقه. في الواقع كان طريقنا واحداً لكنني تعمدت الذهاب عبر الطريق المعاكس. يجب قمع ذلك الشعور المؤسف بالرغبة المستحيلة. خلعت ملابسي وارتديت ملابس العمل، عفريتة زرقاء، ونظارة لمنع دخول شرر اللحام المتطاير في عيني.
وقال المعلم صاحب الورشة:
- عدتَ مبكراً؟..
فكرت طويلاً في الرد، فناولني أحد المفاتيح الإنجليزية لأبدأ تفكيك الماكينة الفولاذية.
- إنك تميل إلى الصمت كثيراً وهذا ممل في عملنا هذا..عملنا هذا شاق يحتاج إلى قليل من الثرثرة..
كدت أن أقول له بأنني لا أميل إلى الصمت..لكنني تراجعت، فماذا سأستفيد، وماذا لو أعتقد انني مصاب بلوثة عقلية..وماذا وماذا..
فتح الصامولة بلفة واحدة فتدفق الزيت الأسود وقال:
- أحياناً يجب أن نكون عفويين لنستمتع بالحديث يا ولد.. اطلق لسانك من عقاله..
أضررت لإخباره بالمشكلة، فقال ضاحكاً:
- كل الناس هكذا..إنني أراجع ما أود قوله عشرات المرات قبل أن اتحدث مع زوجتي..تعرف أن النساء حرفيات، لا يحبذن لغة المجاز..ناولني مفتاح أربعة وعشرين.
ناولته المفتاح فأخذه وعضه بفمه أثناء حديثه:
- هااهاايي وهاهاا ااههم ايييوووييإإي آآهييي
قلت بقلق:
- لم أفهم؟
نزع المفتاح من بين فكيه وقال:
- حماتي وحدها التي لا تهتم بردود فعل الآخرين..
صمتَ برهة ثم أضاف:
- تطعنهم في مقتل وتثير حفيظتهم ولا تفكر في عواقب كلامها..ويوماً ما سيقتلها شخص ما...
قهقهت ضاحكاً.
"أن لا تهتم بعواقب ما تقول"
همست لنفسي، وتذكرت الفتاة ذات الشعر المبتل.
قال المعلم:
- كان والدي يقمعنا حينما نتحدث ونحن أطفال..لقد ظننت حينها أن حديث الكبار خطير..عندما كبرت وجدته تافهاً جداً..كان قمع الكبار لنا مجرد محاولة لمنح أنفسهم أهمية زائفة عبر التقليل من شأن ما نقوله..لذلك ربيت ولدي على حرية الحديث.. لكنه قبل يومين تجرأ أكثر مما ينبغي وتجاوز الحاجز فلطمته لطمة دوخته..مع ذلك لا زلت سعيداً بأنه أصبح رجلاً واثقاً من نفسه وليس مثلك..
نظر لوجهي المتجهم وقال:
- ليس مثلك..لقد فكرت في عدم قول ذلك لأن ذلك قد يجرح شعورك.. فما رأيك؟ هل كان عليَّ أن احتفظ بهاتين الكلمتين لنفسي؟..
فكرت قليلاً وقلت:
- نعم...لقد أصابني كلامك بالإحباط..
سحب جسده من تحت الماكينة وقال:
- لأنها حقيقة أم لأنها كذب؟
قلت:
- لأنها ..لأنها...
أوصلت سلك ماكينة اللحام بالكهرباء وبدأت في كي الثقب الحديدي فتطاير الشرر في وجهي، ولكنني لم أكن أراه..بالتأكيد هناك رجل واثق من نفسه قد طرح ما في قلبه للفتاة ذات الشعر المبتل ونال قلبها..وها هو الأسبوع الثاني، اليوم الذي سنجتمع فيه في صالة المعالجة النفسية، لكنها لم تأتِ، اقصد الفتاة ذات الشعر المبتل.
وحين سرت في الطريق خشيت أن أراها تقف أمام شاب آخر..غير أن هذا لم يحدث.
قال المعلم:
- أنت لا تصلح للعمل هنا.. أنصحك بالبحث عن هواية أخرى..وأقول هواية لأن عملنا هذا عمل حقيقي وليس هواية وأنت تسهو كثيراً.. أقول لك هات المفتاح الكذا فلا تسمعني إلا بعد تكرار كلامي ثلاث او أربع مرات.. كان الاستاذ في المدرسة يقذف الطالب منا حين يسهو أثناء الدرس بالطبشور وهو يصيح:
- هل أنت عاشق؟..
يقهقه معلمي قائلاً:
- كان الأساتذة يعرفون ما بنا حقاً.. لقد جعلوا من إعلان مشاعرنا أضحوكة دمرت ثقتنا بالحب.. تزوجت زوجتي وحتى الآن لم أخبرها بحبي لها وهي بدورها لم تفعل حتى ونحن في اشد اللحظات حميمية.. لذلك ربيت ولدي على إطلاق العنان لمشاعره..أخبرته بأنه سيعشق وينكسر قلبه عشرات المرات لكن عليه أن لا يفقد ثقته في الحب..لأنه في تلك اللحظة سيفقد رغبته في الحياة..
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي حين رأيتها في الأسبوع الثالث وتذكرت كلام معلمي.. وكان عليَّ أن أتخذ خطوة جريئة..توجهت نحوها..ورأيت عينيها المتوترتين..قلت بصوت مرتعش:
- هل استفدتِّ من هذه الحلقات؟
قالت:
- لا..لا أعرف.. لا أشعر بتقدم..
نظرتُ إلى عينيها مليَّاً فقالت:
- وأنت؟
كانت يداي متعرقتين فأدخلتهما في جيب بنطالي وقلت:
- لولا هذه الدروس لما استطعت الاقتراب منك والنظر إلى عينيك الجميلتين..
لا .. لم أقل ذلك بالطبع، كنت أود قول ذلك، لكنني قلت:
- لا .. لم استفد..
التقطت حقيبتها وقالت:
- لذلك لن آتي مرة أخرى..
ورأيتها تغادر..رأيتها تجمع شعرها المبتل وتعقده بمشبك خزفي أبيض...انتفض قلبي فصحت:
- أرجوكِ لا تفعلي..
التفتت نحوي ونظرت لي بدهشة متسائلة، فقلت:
- لا تذهبي فأنا أحبك..
لا.. بالطبع لم اقل لها ذلك بل قلت:
- لا تعقدي شعرك..أتركيه منسدلاً على كتفيك..هذا أجمل..
سهت ببصرها في وجههي لبرهة ثم أطلقت العنان لشعرها وغادرت.
قال معلمي:
- أراكَ جمعت حاجياتك..هل ستغادر الورشة؟
قلت:
- بلى..
قال:
- إلى أين؟
قلت:
- لا أعرف..سأبحث عن هواية أخرى..
قال:
- جرب التمثيل المسرحي..
رميت بقجتي على كتفي وعبرت الطرق الواسعة والأزقة الضيقة..
لم ألتق بها بعد ذلك أبداً رغم أنني كنت أتأمل جميع المتفرجين أثناء التمثيل..كانوا يضحكون بجزل..لكنها لم تكن هناك..كنت متأكداً بأنني لو تحدثت إليها يوم مغادرتها قبل سنوات لما كنت ممثلاً مسرحياً ناجحاً.. كانت الحياة ستكون أقل سخرية مما هو عليه الآن..
(تمت)