أمل الكردفاني - لا تودع الحياة.. قصة قصيرة

إن نظرات الوداع واضحة، ليست ضاحكة أبداً، بل يغمر الحزن سطح العين ببياضه وسواده. كستار المسرح، ينسدل الوداع في المقلتين. بلا تصفيق بل بلحن يوناني يجمع أحزان الشرق والغرب ليكون الوداع.
لا تودع الحياة.. صحيح أنه لا شيء في الحياة يمكن ابتلاعه ليندمج بجسدك وروحك، مع ذلك لا تودع الحياة..
لا تستسلم، فلا زلت ترى ضوء الشمس، وحين تعبر أزقة المدن الساحلية، تغرد النوارس والغربان سوياً، وستشاهد صبية تقود درجاتها الصغيرة بانفتاح طفولي.
تمتلك ذكريات عظيمة، ذكريات عظيمة الألم واخرى عظيمة الفرح، وهذا لأنك إنسان، فلا تودع الحياة، مارست الشر كما مارست الخير، هذا لأنك كنت تمتلك وعياً بقيمة كل منهما.. فلا تودع الحياة..كل الأشياء لها طعمها حتى الألم، ففيه يتكثف شعورنا بوجودنا. كانبثاق الفكرة أو أكثر.
هذه هي الحياة..
طريق طويل قصير..
فلنتركها لتودعنا..ولكن لا تودع الحياة...إنك حين تودعها إنما تلغي وجودك السابق كله..وتعتبره صفراً.. وجوداً خالياً من المنجزات.. رغم أن وجودك في حد ذاته كان إنجازاً أكبر مما تتصور...
فلا تودع الحياة..
لا زالت أمامك ساعات أوحتى دقائق..ليس مهماً، لكن عشها منغمساً في موجاتها المتلاطمة..كسفينة عسكرية، يقترب منها طوربيد مدمر... فقلبك قوي..قوي كقلب أسد لا يمل من لعق جراحه بعد معاركه الشرسة المستمرة..
الجروح تندمل يا صديقي..الحزن يمر..الدمع يجف..فلا تودع الحياة..
قلت ذلك له وكان ينظر لي كما أنظر له...تحت قدميه كرسي خشبي..وحول رقبته أنشوطة، وشعره الناعم ينسدل على جبته اللامعة فيخفي نحول وجهه..نظر لي طويلاً بعينين مكفهرتين..ثم رفع رأسه وحدق في السقف وابتلع غصة فتراقصت تفاحة عنقه للأعلى والأسفل..
لا زال هناك وقت..يمكننا أن نرسم فيه لوحات لقصص الأطفال المصورة..وقبل أن أدخل على غرفتك تلقيت رسالة بقبول عرضنا من جمعية لرعاية الأيتام..
سمعت صوت حذائه يطرق على قاعدة الكرسي الخشبي..ثم ارتجف جسده..
من البؤس أن لا نمتلك موهبة العيش. لذلك لم أشأ حضور جنازته، حيث دفنته الشرطة بلا مراسم.
وعلى الجسر وقفت أتأمل النهر الأزرق.
هناك أسماك تمتلك موهبة العيش دون أن ترى الشمس بدون حجاب. وعشرات السيارات خلفي تحدث ضوضاء، شيء ما كان يخجلني. يخجلني أن أرى الحياة نابضة بكل ذلك العنفوان، وهو غائب تحت التراب.
سيستمر ذلك الخجل لسنوات طويلة، لم يكن ذلك بالمشهد السهل. ليس بالسهولة التي يمكن للذاكرة أن تقفز عليه، رغم أن لا شيء يجعلني مذنباً. لكن انخفاضاً ما قد حدث في درجة استمتاعي بالحياة. ربما عصف بروحي إكتآب مزمن. ذلك الذي يجعل الماس المشع والحجر متشابهين. الظلام والنور، الحضور والغياب. فحتماً لم تعد الأشياء كما كانت عليها من قبل.
كان الأمر برمته غريباً ككابوس مزعج. كانقطاع صوت الموسيقى فجأة مخلفاً ذلك الإنقطاع صمتاً وفراغاً وتشويشاً.
حين فتحت الغرفة كان يعقد آخر عقدة في الأنشوطة، ثم يلفها بسرعة حول رقبته.
كان المنزل صامتاً كما لو أنه يحتفي بالموت، وفضاءاته تحتشد برائحة الموت.
المنزل نظيف كالعادة. الكراسي حول طاولة الطعام وفي منتصف الطاولة أصيص تبرز منه ساق خضراء لوردة بيضاء. ظِلُّ الأصيص يمتد فوق السطح الأملس للطاولة البيضاوية البنية. وفي منتصف الصالة سجادة قديمة مهترأة، وعلى جانبيها أريكة يقابلها كرسيان من طراز خشبي قديم، ربما كانوا مدهونين بلون ذهبي أو أخضر. وعلى الجدار لوحة مقلدة لبوتيتشيلي. وعلى يمينها مباشرة باب غرفته.
هنا سريره الضيق، وطاولة مربعة قصيرة عليها كتابين. وقلم حبر. وقرب النافذة المطلة على حديقة صغيرة، يقف دولاب من ضلفة واحدة. دولاب حديدي مرقع بالصدأ. هذا كل شيء..
- لست حيوياً..
كان يقول ذلك، ليعني افتقاره لموهبة العيش.
- حاولت كثيراً، لكنني لم انجح.
يبتلع أقراصه المهدئة وهو يقول ذلك. فأشعل سجارة لكلينا.
أمسح الحديقة ببصري، وأعرف ان الوردة على الأصيص منها.
- لقد نجحت..
أجيبه وأضيف:
- لو لم تنجح لما غرست تلك الوردة بالأصيص..ليست الحياة سوى مجازات لا متناهية يا صديقي..
أمام سور الحديقة تعبر الفتاة التي تقود الدراجة بانفتاح طفولي.
فأتراجع إلى الخلف.. أجلس على سريري، وأتناول أحد الكتابين..كان عنوانه "المَرايا".. خشيت ان يكون ما فيه أقل إلهاماً من عنوانه..فأعدته إلى الطاولة..ثم انكفأت على جنبي..
بدأت ظلمة الغروب تبحر في سقف الغرفة..ثم تغطيها بسديم حالك..غدأ سأشرع في رسم قصص لأطفال دار الأيتام..
أغمضت عينَيَّ وهمست:
- كي لا تودع الحياة..كي لا تودع الح..ي..ا..ة..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...