عطية عامر واحد من الرجال القلائل الذين أحبهم وأحترمهم في آن. أغلب الظن أنني سمعت اسمه للمرة الأولى سنة 1978 إن لم تخني الذاكرة. كان ذلك من خلال ما أسرّته لى أستاذتى الدكتورة سهير القلماوي، وكانت رئيسة قسم اللغة العربية الذي كنت أعمل فيه أستاذًا مساعدًا في ذلك الزمان البعيد. وأخبرتنى أنها كانت في زيارة رئيس جامعة القاهرة الذي رجاها أن تقبل انضمام د. عطية عامر أستاذًا للأدب المقارن في مصر.
ألح عليها في الرجاء، خصوصًا بعد أن رفض قبوله أساتذة كلية دار العلوم التي تخرج فيها، وتولت إرساله إلى فرنسا للحصول على دكتوراه الدولة من السوربون، لكي يكون خليفة لمحمد غنيمي هلال الذي وضع مهاد دراسات الأدب المقارن في الجامعات العربية كلها. وبالفعل ذهب عطية عامر إلى السوربون، وحصل على دكتوراه الدولة في موضوع النقد الأدبى الانطباعي أو التأثري بلا فارق. وفى السوربون وقع عطية عامر في غرام شابة سويدية كانت تدرس في الجامعة نفسها، لكي تحصل على دبلوم في العلوم السياسية. ونشأت علاقة حب بين الشاب المصرى، مبعوث دار العلوم، والشابة السويدية، واكتملت العلاقة بالزواج، وأكمل عطية عامر أطروحته للدكتوراه التي نالت كل الاستحسان من أساتذته في السوربون. وتوّج الزواج الفرحة بين الشاب المصري والشابة السويدية التي كانت منتسبة إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي برئاسة أولف بالمه الذي ظل رئيسًا للحكومة إلى أن اغتاله أحد المعادين للحزب.
المهم عاد الدكتور عطية عامر إلى مصر من فرنسا مصطحبًا زوجه الشابة، واستقر بهما المقام إلى أن توترت العلاقة بين عبدالناصر والشيوعيين المصريين، وعرف عطية عامر عن طريق قريب له في جهاز أمن الدولة أن عبد الناصر أمر بالقبض على التجمعات الشيوعية في مصر، وأن اسمه - أى عطية عامر - موجود في قوائم المطلوبين للقبض عليهم. وأخبر عطية عامر زوجه التي كانت قد حصلت على إجازة مفتوحة من وزارة الخارجية التي تعمل فيها ابتداء، وسافرت للدراسة في السوربون على نفقتها. وساعدت الزوج (التي نسيت اسمها) عطية عامر على الهروب إلى السويد، حتى لا يقع الزوج فريسة البطش الوحشي الذي عانى منه الشيوعيون المصريون من ديسمبر 1959 إلى سنة 1964. وبالفعل اتفقت مع سفير السويد على أن يحصل زوجها على جواز سفر سويدي، يجعل من عطية عامر تاجر أخشاب سويدي الجنسية. وخرج عطية عامر وزوجه من القاهرة ليلاً إلى الإسكندرية، وركبا منها باخرة تقودهما إلى فرنسا، كي يرتحلا من فرنسا إلى السويد. وقد أخبرني عطية عامر، في إحدى جلساتنا الحميمة، أنه ظل خائفًا إلى أن تجاوزت السفينة، وكانت أجنبية الجنسية، حدود المياه الإقليمية لمصر، وأصبحت خارج الحدود المصرية، وأنه فور أن شعر بالأمان، كتب برقية طويلة جدا إلى عبدالناصر، يصارحه برأيه فيما فعل بالشيوعيين من أصدقائه وبالإخوان المسلمين على السواء، وكان في كل ما كتبه ممتلئًا بثقافة الديمقراطية السياسية التي تشربها في سنواته الباريسية. وبالطبع، وصلت البرقية إلى رئاسة الجمهورية، فما كان من كبار العاملين فيها إلا أن أسقطوا الجنسية عن أخينا عطية الذي ما إن استقر في استكهولم - عاصمة السويد - حتى حصل على الجنسية السويدية. وما كان أسهل هذا الأمر بعد أن عادت زوجه إلى وزارة الخارجية.
والتحق عطية عامر بجامعة استكهولم التي ترقى فيها، وعمل على إنشاء قسم اللغة العربية فيها إلى أن أصبح رئيسًا للقسم، ومرت سنوات طويلة، مات فيها عبد الناصر في سبتمبر 1970، وتولى محمد أنور السادات الذي عاهد الناس على أن يسير على طريق عبدالناصر، لكن ما إن تمكن من الحكم حتى أخذ يمضي في طريق مناقض، وسرعان ما أطاح بزملاء العهد الناصري فيما أسماه ثورة التصحيح. وكان ذلك في مايو 1971، وهو الشهر الذي حصلت فيه دول الخليج على استقلالها (قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة) ضمن سياسة بريطانيا في شرق السويس. وكان ذلك بعد عشر سنوات من استقلال الكويت 1961. وقد أعلن السادات ثورة التصحيح بعد توقيع معاهدة الصداقة المصرية - السوفييتية، وذلك تمهيدا لإلغائها بطرد المستشارين والخبراء السوفييت في يوليو 1972، وأخيرا الإعلان عن إلغائها فعليًا في مارس 1976، حين بدأت القطيعة النهائية مع الاشتراكية الناصرية التي أخذ السادات في محوها بسياسات الانفتاح التي أعقبت حرب أكتوبر التي استثمر السادات نتائجها في التقارب مع الأمريكان الذين أصبحوا الراعي الرسمي لعملية السلام مع إسرائيل، وذلك رغم أنف الملايين الذين صاحوا مع أمل دنقل، قائلين: لا تصالح.
وفى هذه السنوات، أعلن السادات أن حق العودة إلى مصر مفتوح أمام كل الذين اضطروا إلى تركها كرهًا خلال العهد الناصري الذي ظلت معتقلاته وصمة عار في تاريخه، رغم كل إنجازاته القومية التي لا ينكرها منصف. وبناء على قرار السادات، أعيدت الجنسية المصرية للذين أسقط النظام الناصري الجنسية عنهم، ومنهم عطية عامر الذي وجد نفسه مرحبًا به للعودة إلى جامعة القاهرة. وبالفعل عاد الرجل، لكن أساتذة كلية دار العلوم (التي هو أصلا منتسب إلى أعضاء هيئة التدريس بها) رفضوا عودته بحجة أن لديهم من يشغل كرسي الأدب المقارن بالفعل. ولما لم يكن هناك من يشغل هذا المنصب في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، لم يكن هناك مفر أمام رئيس جامعة القاهرة سوى الإلحاح على الدكتورة سهير القلماوى أن تقبل الرجل في قسمها، وقد قبلت.
هكذا أصبح الدكتور عطية عامر أستاذًا للأدب المقارن بقسم اللغة العربية الذي استقبله أساتذته بنفور. وكنت ألاحظ أن أساتذتي في القسم لم يبدوا ترحيبًا به، فظل الرجل أشبه بالغريب، وقضى عامًا دراسيًا يقوم بتدريس مادة الأدب المقارن لطلاب الفرقة الرابعة في قسم اللغة العربية، وكذلك الأدب العربي لطلاب قسم اللغة الفرنسية، والحق أنني أحسست بوحدة الرجل، فكنت أجالسه بين المحاضرات، أو نذهب سويًا إلى نادي الجامعة القريب في حي الدقي. وشهرًا فشهرًا، صرنا صديقين حميمين رغم فارق السن والدرجة العلمية. وأذكر يومًا أني وجدته وحيدًا في النادي، فدعوته إلى الذهاب معى إلى مسكني، وكانت زوجتي تستعد لإقامة احتفال بعيد ميلاد ابنتي سهى (سهير) عليها رحمة الله، وحضر عطية عامر الاحتفال بعيد ميلاد ابنتي، وشعر بأنه في أسرة حميمة تعده واحدًا منها. وقد رأيت التأثر في عينيه، خصوصًا حين أخبرنى أنه لم يحضر معه أحدًا من أسرته التي تضم ابنًا اسمه أحمس وابنة اسمها إيزيس. وكلاهما لا يعرف اللغة العربية مثل زوجه التي وعدها بأن تلحق به مع الولد والفتاة عندما يستقر في القاهرة. وكان لا يزال يحتفظ بسكنه القديم قبل أن ينفي نفسه، مكرهًا، من مصر.
ولكن ما لاحظته بعد ذلك أن عطية عامر لم يستقر، خصوصًا بعد كل هذه السنوات الطويلة التي قضاها في مجتمع الرفاهية والديمقراطية، أقصد السويد التي لم يكن فيها فساد، ولا وسائط. وما كان أكثر ما يشكو إليّ من الارتفاع غير الإنساني لأسعار الشقق المناسبة التي لا يمكن أن تتناسب مع مرتبه في جامعة القاهرة، ولا مع مدخراته في السويد. وظل عطية عامر دائم الشكوى، وظل يعاني الوحدة وافتقاد الحياة الرخية التي اعتادها في السويد، ومرت أشهر العام الدراسي الذي ما إن انتهى من تصحيح أوراق الامتحان حتى عاد إلى السويد. وهناك استقر به الأمر، بعد التشاور مع أسرته، على أن يعود أستاذًا في جامعة استكهولم التي أصبح فيها رئيسًا لقسم اللغة العربية. وكان القسم قد أخذ في الازدهار، خصوصًا بعد أن أصبحت رغبة العمل في الأقطار النفطية مغوية للشباب السويدي. وأرسل عطية عامر إلى جامعة القاهرة معتذرًا عن العودة، ومستقيلاً من عمله فيها. ولم ينسَ أن يرسل لي رسالة حميمة بعد أن استقر به الأمر في السويد مع بداية العام الدراسي 1978 - 1979. وظل الرجل حريصًا على مراسلتى، وأنا أتجاوب معه في المراسلة إلى أن جاء صيف 1980، وأخبرني عن رحلته في أقطار إفريقية عديدة مع زوجه التي أصبحت تشغل منصبًا رفيعًا في وزارة الخارجية السويدية. ودعاني إلى أن أذهب إلى جامعة استكهولم وأعمل معه أستاذًا زائرًا في القسم الذي يرأسه، وبالفعل وصلتنى دعوة رسمية منه خلال العام 1981، والحق أني فرحت بدعوته للعمل أستاذًا زائرًا، فقد كنت أتطلع إلى زيارة السويد التي لم أكن أعرف عنها سوى أنها البلد الذي يمنح جائزة نوبل الشهيرة، وأنها وطن مخرج السينما العالمي إنجمار برجمان، والمؤلف المسرحي الشهير سترندبرج، وقمت بعرض خطاب الدعوة على قسم اللغة العربية ولكن أستاذي د.عبدالمحسن بدر - رحمه الله - رفض بشدة، مذكرًا إياي بأنه ليس هناك من يقوم بتدريس النقد الأدبي سواي، بعد سفر زميلي عبدالمنعم تليمة إلى جامعة أوساكا في اليابان، أستاذًا زائرًا لأربع سنوات.
وترددت لبعض الوقت، ولم أبد اعتراضًا على رأي أستاذي عبدالمحسن بدر، فقد كان اعتراضه منطقيا. ولكني - بدافع أجهله - طلبت من القسم عدم اتخاذ قرار، وترك الأمر لي، كي أرد على دعوة عطية عامر بخطاب رقيق يحمل معاني العرفان والاعتذار معا. ولم أكن أنا ولا عبدالمحسن بدر يعلم ما سوف يفعله بنا السادات بعد وقت قصير. فقد كانت الأحداث تتسارع في مصر، والمشاعر المتوترة تتجمع ضد السادات، والمعارضون لاتفاقيات كامب ديفيد لاتزال أصواتهم مرتفعة، وكنت واحدًا منهم، فلم أكن أرى في المعاهدة ما يحقق السلام العادل، أو يحرر الأرض العربية كلها، وكنت أشارك في التوقيع على البيانات المعادية للسياسات الساداتية التي أضاعت أحلامنا القومية في العدل الاجتماعي والوحدة، وكذلك الحرية التي تحولت إلى اضطهاد للقوميين والناصريين واليساريين، مقابل التحالف مع جماعات الإسلام السياسي التي أطلق السادات سراح قياداتها، ليتحالف معهم، ويستعين بقوتهم في القضاء على خصومه، وهو التحالف الذي أدى إلى الاحتقان الطائفي الذي ترتبت عليه أحداث الزاوية الحمراء في يونيو 1981.
ولم يكن من المستغرب أن يبطش السادات بخصومه من كل الاتجاهات، ويلقي بالكثير منهم في المعتقلات. أما الذين لم يدخلوا السجون، فسرعان ما صدر قرار السادات (التاريخى؟!) بفصل أكثر من ستين أستاذًا جامعيًا، منهم ستة من قسم اللغة العربية الذي كانت تدرس فيه زوجته. وكان المرحوم عبدالمحسن أولنا الذي صدر قرار بنقله إلى وزارة التعمير، أما أنا فقد نقلت إلى هيئة التأمينات الاجتماعية، مع لطفي الخولي وخيري عزيز وزميلي عبدالمنعم تليمة، متعه الله بالصحة. (وكان لطفي الخولي في باريس فظل فيها، أما عبدالمنعم تليمة فكان في جامعة أوساكا في اليابان): أما بقية الزملاء، وكان منهم نصر حامد أبو زيد، رحمه الله، وسيد البحراوي وصبري المتولي فقد ذهبوا إلى وزارة الشئون الاجتماعية، على اختلاف مؤسساتها.
الطريف أنني كنت وعزالدين إسماعيل، رحمه الله، في منزل المرحوم صلاح عبدالصبور لمراجعة الأوراق التي تركها في مكتبه بعد وفاته في الثالث عشر من أغسطس سنة 1981، وكنا في أواخر أغسطس تقريبا، ودار حديث عن نية السادات في فصل معارضيه من الجامعة، وإبعادهم عنها، وتكرر الحديث نفسه في اليوم الثاني في مكتب عميد الكلية حسين نصار، وكان معنا محمد الجوهري وكيل الكلية، وتحدثنا عن صدور قرار جمهوري بإبعاد معارضي السادات عن الجامعة، وظللنا نسخر من الأمر ضاحكين. وقال حسين نصار هازلاً: أظن أن جابر سيكون من هؤلاء، وضحكنا إلى أن تركت مكتب العميد، وذهبت إلى منزلي. والغريب أن ما قاله حسين نصار على سبيل الهزل تحول إلى جد، فقد زارني أمل دنقل في مساء اليوم نفسه، وكانت معه قصيدة «الطيور» التي قرأها، وقال: إنه أهداها لي، فسألته: هل اسمي ضمن أسماء المبعدين من الجامعة؟ فأومأ بالإيجاب، وحكى لي أن قوائم أسماء الأساتذة المبعدين وصلت إلى الجرائد، ولكنها سحبت منها قبل الطبع لتراجع الحكومة في الإعلان عن أسماء الأساتذة، تخوفا من حدوث مظاهرات، فقد كان المناخ السياسي بالغ التوتر. أما أستاذي حسين نصار الذي كان عميد الكلية، فقد شعر بالحزن البالغ، كما لو كان هو السبب في إبعادي عن الجامعة، بعد أن قال هازلاً ما قال، ونحن نضحك في مكتبه. ولم يتصور أن يصله القرار الجمهوري بأسماء المفصولين من كليته، وبينهم جابر تلميذه الذي كان يضعه في منزلة ابنه. ولذلك طلب من محمد الجوهري أن يذهب إلى منزلي، مؤكدا أن الإبعاد سيكون لفترة قصيرة، وهو أمر أثبتت الأحداث المتلاحقة عدم صحته، فقد ازداد الموقف السياسي اشتعالاً، وبدا السادات، كما لو كان قد فقد اتزانه تمامًا.
وما إن صدر قرار إبعادنا عن الجامعة، وهدأت انفعالات الغضب الأولى، حتى تذكرت أنني لم أرسل ردًا على دعوة صديقي عطية عامر، فجلست إلى مكتبي، وكتبت له ردًا يخبره بما انتهى إليه مصيري، وأخبرته أنه في حل من دعوتي بعد أن انتفت عني صفة الأستاذ الجامعي بفضل قرار السادات الذي صدر في الثالث من سبتمبر 1981.
ويبدو أنني أيقظت في ذاكرة عطية عامر ما سبق أن عاناه في 1959، فاتصل برئيس جامعة استكهولم الذي أكد ترحيب الجامعة بدعوتي، أيًا كان موقعي، وأرسل لي عطية عامر مجددًا الدعوة بصورة رسمية.
وكنت قد ألحقت بمكتب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات، ولم يكن مطلوبا مني سوى أن أذهب كل يوم لأحتسي فنجان قهوة مع اللواء المسئول عن الأمن بالهيئة. ويبدو أن سيادة اللواء أراد الإفادة من معلومات الأستاذ الجامعي الذي يجالسه صباح كل يوم، فأخذ يطرح علي الأسئلة عن النظم والمذاهب السياسية والفكرية التي يسمع عنها، ولا يعرف معلومات محددة عن كل منها، فصار يسألني عن الوجودية، والفارق بين المذاهب المثالية والمادية. أو الفارق بين الماركسية والشيوعية، أو بينهما وباقي مذاهب الاشتراكية.
وتحولت جلسة القهوة كل صباح إلى درس، أقوم فيه بدور الأستاذ، ومضى أكثر من شهر، كنت أذهب فيه إلى الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات، إلى أن جاء يوم السادس من أكتوبر، حيث اغتيل السادات في منصة العرض العسكري. ومضت الأيام متسارعة وقلقة. وكنت قد تقدمت بالدعوة الرسمية للعمل أستاذًا زائرًا بجامعة استكهولم قبل وفاة السادات، فطلب مني رئيس الهيئة الذي أخذ صورة الدعوة أن أمنحه بعض الوقت للحصول على موافقة الجهة الأعلى. وكانت الجهة الأعلى هي المرحوم مصطفى كمال حلمي الذي كان وزيرًا للتعليم، بوصفي كنت أستاذًا جامعيًا قبل الإبعاد عن الجامعة. وجاءت تأشيرة الوزير بأنه لا مبرر للموافقة لأن المذكور الذي هو أنا، قد انتفت عنه صفة الأستاذ الجامعي بعد خروجه من الجامعة. وقد أطلعنى رئيس هيئة التأمينات والمعاشات على الرفض وهو حزين حزنًا صادقًا، فقد نشأت بيننا علاقة احترام ومودة في الفترة القصيرة التي عملت خلالها بالهيئة ملحقًا بمكتبه. وقال لي في أسى: لا تحزن. سوف يدبر الله لنا حلاً. وعندما تتابعت الأيام، وحدث اغتيال السادات بالطريقة التي جعلتني أشعر بالحزن عليه، وتدمع عيني وأنا أرى جنازته، وأقارن بينها وجنازة عبدالناصر، فلم يكن الرجل يستحق ما جرى له رغم كل ما فعله فينا، فقد كان صاحب رؤية، نختلف معها ونعارضها. لكن اغتياله بالطريقة التي حدثت، كان جريمة بشعة في آخر الأمر.
ولن أنسى ذلك اليوم الذي استدعاني فيه رئيس مجلس إدارة الهيئة وهو حزين الوجه، ودعاني إلى الجلوس أمامه، وكنا في أوائل شهر نوفمبر، ومدّ لي يده بملف، طالبا مني تصفحه، ففعلت ما طلب مني، وأصابني الخرس وغامت عيني بالدمع، فقد كان الملف عن معاش الشهيد محمد أنور السادات الذي أعتبر موته استشهادا لأنه كان بين جنده الذين خاضوا بأوامر منه حرب أكتوبر، وكل صفحة من الملف عن أحد المستحقين لمعاش الشهيد، ابتداء من الزوجة جيهان والابن والبنات من أولادها، ولم أر صفحة لمعاش كاميليا التي هي ابنته من زوجه الأولى. وبعد أن صمت طويلا، قال لي رئيس مجلس الإدارة الذي يحزنني أنني نسيت اسمه: تأمّل فيما يفعله الله في خلقه، وصمت، فصمت بدوري، وخرجت من مكتبه، وأنا أتمتم قائلا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكنت قد هاتفت عطية عامر، كي أبلغه بمبررات رفض الدعوة، فأمهلني يوما للتصرف في الأمر، قائلا في النهاية بحسم: لا تهتم، سوف تكون معنا قريبا. وبعد يومين بالضبط، جاءني رسول من السفارة السويدية يدعوني لمقابلة السفير، فذهبت إلى مكتب السفير الذي استقبلني بحرارة، داعيًا إياي إلى الجلوس، وأخرج من مكتبه مظروفا فتحه، فإذا فيه شهادة لمن يهمه الأمر بأنني مدعو أستاذا زائرا لصفتي العلمية، أيا كان المنصب الذي أشغله، أو الجهة التي أعمل بها. وفرحت بهذه الشهادة، وشكرت السفير على إعدادها، فأجابني مبتسما: لا تشكرني أنا، بل اشكر أصدقاءك في استكهولم.
وفي اليوم الثاني، وقد دخلنا في نوفمبر 1981، حملت الشهادة إلى رئيس مجلس الإدارة الذي قرأها فرحا، وقال لي من حقك أن تفخر بهذه الشهادة، وكدت أقول له: بل أفخر بصداقة الذي كان وراءها، ولكني آثرت الصمت. ولم أجد على لساني سوى كلمات تقول: أرجو أن تكون هناك موافقة، فقال لي الرجل بثقة، نلتقي غدًا وتكون معي الموافقة إن شاء الله، فقلت وراءه: إن شاء الله. وقابلته في اليوم الثاني، وقال: لا داعي لموافقة وزير التعليم العالي، حسبك أن تتقدم بمذكرة لي، طالبا إجازة من دون مرتب لمدة عام للسياحة في أوربا، فقلت مندهشا: عام للسياحة في أوربا؟! فأجابني الرجل باسما: اكتب يا دكتور جابر طلب الإجازة دون نقاش. وكتبت الطلب على ورقة بيضاء أعطاها لي، وعندما أسلمته الطلب، كتب تحته: موافق، واستدعى اللواء المسئول عن أمن الهيئة، صديق جلسات القهوة الصباحية، وقال له: خذ صديقك الدكتور جابر واستكمل معه الإجراءات. وبالفعل اصطحبني الرجل إلى مكتبه وأخرج كتاب تصاريح السفر للخارج، وسحب منه الورقة الصفراء التي سأقدمها للجوازات مع فيزا الدخول للسويد التي قدمها لي قنصل السويد في اليوم التالي، وودعت زوجي وابنتي سهير - رحمها الله - وابني أحمد في مطار القاهرة، مرتبكا مضطربا، وركبت الطائرة، متعجبا من سهولة الإجراءات، لكني لم أشعر بالاطمئنان الكامل إلا بعد أن هبطت الطائرة في مطار روما، حيث انتظرت ساعتين، كي أركب طائرة الخطوط الإسكندنافية. وأخيرا هبطت الطائرة في مطار استكهولم، وخرجت من باب الجوازات. وأخذت حقيبتي التي حملتها خارجا، وكان أول وجه قابلته داخل المطار هو وجه عطية عامر، مبتسما لي، فاتحا ذراعيه فألقيت بنفسي بين ذراعيه، قائلا: كيف أشكرك أيها الصديق العزيز، فنظر إليّ قائلا: حمدًا لله على سلامتك، ومرحبا بك في جامعة استكهولم. وكانت هذه الجملة مفتتح سنة كاملة، تكاد تكون أسعد سنوات عمري، في السويد التي لا أزال أذكرها ومعها عطية عامر بالحب والعرفان.
جابر عصفور
مجلة العربي مايو 2012
ألح عليها في الرجاء، خصوصًا بعد أن رفض قبوله أساتذة كلية دار العلوم التي تخرج فيها، وتولت إرساله إلى فرنسا للحصول على دكتوراه الدولة من السوربون، لكي يكون خليفة لمحمد غنيمي هلال الذي وضع مهاد دراسات الأدب المقارن في الجامعات العربية كلها. وبالفعل ذهب عطية عامر إلى السوربون، وحصل على دكتوراه الدولة في موضوع النقد الأدبى الانطباعي أو التأثري بلا فارق. وفى السوربون وقع عطية عامر في غرام شابة سويدية كانت تدرس في الجامعة نفسها، لكي تحصل على دبلوم في العلوم السياسية. ونشأت علاقة حب بين الشاب المصرى، مبعوث دار العلوم، والشابة السويدية، واكتملت العلاقة بالزواج، وأكمل عطية عامر أطروحته للدكتوراه التي نالت كل الاستحسان من أساتذته في السوربون. وتوّج الزواج الفرحة بين الشاب المصري والشابة السويدية التي كانت منتسبة إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي برئاسة أولف بالمه الذي ظل رئيسًا للحكومة إلى أن اغتاله أحد المعادين للحزب.
المهم عاد الدكتور عطية عامر إلى مصر من فرنسا مصطحبًا زوجه الشابة، واستقر بهما المقام إلى أن توترت العلاقة بين عبدالناصر والشيوعيين المصريين، وعرف عطية عامر عن طريق قريب له في جهاز أمن الدولة أن عبد الناصر أمر بالقبض على التجمعات الشيوعية في مصر، وأن اسمه - أى عطية عامر - موجود في قوائم المطلوبين للقبض عليهم. وأخبر عطية عامر زوجه التي كانت قد حصلت على إجازة مفتوحة من وزارة الخارجية التي تعمل فيها ابتداء، وسافرت للدراسة في السوربون على نفقتها. وساعدت الزوج (التي نسيت اسمها) عطية عامر على الهروب إلى السويد، حتى لا يقع الزوج فريسة البطش الوحشي الذي عانى منه الشيوعيون المصريون من ديسمبر 1959 إلى سنة 1964. وبالفعل اتفقت مع سفير السويد على أن يحصل زوجها على جواز سفر سويدي، يجعل من عطية عامر تاجر أخشاب سويدي الجنسية. وخرج عطية عامر وزوجه من القاهرة ليلاً إلى الإسكندرية، وركبا منها باخرة تقودهما إلى فرنسا، كي يرتحلا من فرنسا إلى السويد. وقد أخبرني عطية عامر، في إحدى جلساتنا الحميمة، أنه ظل خائفًا إلى أن تجاوزت السفينة، وكانت أجنبية الجنسية، حدود المياه الإقليمية لمصر، وأصبحت خارج الحدود المصرية، وأنه فور أن شعر بالأمان، كتب برقية طويلة جدا إلى عبدالناصر، يصارحه برأيه فيما فعل بالشيوعيين من أصدقائه وبالإخوان المسلمين على السواء، وكان في كل ما كتبه ممتلئًا بثقافة الديمقراطية السياسية التي تشربها في سنواته الباريسية. وبالطبع، وصلت البرقية إلى رئاسة الجمهورية، فما كان من كبار العاملين فيها إلا أن أسقطوا الجنسية عن أخينا عطية الذي ما إن استقر في استكهولم - عاصمة السويد - حتى حصل على الجنسية السويدية. وما كان أسهل هذا الأمر بعد أن عادت زوجه إلى وزارة الخارجية.
والتحق عطية عامر بجامعة استكهولم التي ترقى فيها، وعمل على إنشاء قسم اللغة العربية فيها إلى أن أصبح رئيسًا للقسم، ومرت سنوات طويلة، مات فيها عبد الناصر في سبتمبر 1970، وتولى محمد أنور السادات الذي عاهد الناس على أن يسير على طريق عبدالناصر، لكن ما إن تمكن من الحكم حتى أخذ يمضي في طريق مناقض، وسرعان ما أطاح بزملاء العهد الناصري فيما أسماه ثورة التصحيح. وكان ذلك في مايو 1971، وهو الشهر الذي حصلت فيه دول الخليج على استقلالها (قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة) ضمن سياسة بريطانيا في شرق السويس. وكان ذلك بعد عشر سنوات من استقلال الكويت 1961. وقد أعلن السادات ثورة التصحيح بعد توقيع معاهدة الصداقة المصرية - السوفييتية، وذلك تمهيدا لإلغائها بطرد المستشارين والخبراء السوفييت في يوليو 1972، وأخيرا الإعلان عن إلغائها فعليًا في مارس 1976، حين بدأت القطيعة النهائية مع الاشتراكية الناصرية التي أخذ السادات في محوها بسياسات الانفتاح التي أعقبت حرب أكتوبر التي استثمر السادات نتائجها في التقارب مع الأمريكان الذين أصبحوا الراعي الرسمي لعملية السلام مع إسرائيل، وذلك رغم أنف الملايين الذين صاحوا مع أمل دنقل، قائلين: لا تصالح.
وفى هذه السنوات، أعلن السادات أن حق العودة إلى مصر مفتوح أمام كل الذين اضطروا إلى تركها كرهًا خلال العهد الناصري الذي ظلت معتقلاته وصمة عار في تاريخه، رغم كل إنجازاته القومية التي لا ينكرها منصف. وبناء على قرار السادات، أعيدت الجنسية المصرية للذين أسقط النظام الناصري الجنسية عنهم، ومنهم عطية عامر الذي وجد نفسه مرحبًا به للعودة إلى جامعة القاهرة. وبالفعل عاد الرجل، لكن أساتذة كلية دار العلوم (التي هو أصلا منتسب إلى أعضاء هيئة التدريس بها) رفضوا عودته بحجة أن لديهم من يشغل كرسي الأدب المقارن بالفعل. ولما لم يكن هناك من يشغل هذا المنصب في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، لم يكن هناك مفر أمام رئيس جامعة القاهرة سوى الإلحاح على الدكتورة سهير القلماوى أن تقبل الرجل في قسمها، وقد قبلت.
هكذا أصبح الدكتور عطية عامر أستاذًا للأدب المقارن بقسم اللغة العربية الذي استقبله أساتذته بنفور. وكنت ألاحظ أن أساتذتي في القسم لم يبدوا ترحيبًا به، فظل الرجل أشبه بالغريب، وقضى عامًا دراسيًا يقوم بتدريس مادة الأدب المقارن لطلاب الفرقة الرابعة في قسم اللغة العربية، وكذلك الأدب العربي لطلاب قسم اللغة الفرنسية، والحق أنني أحسست بوحدة الرجل، فكنت أجالسه بين المحاضرات، أو نذهب سويًا إلى نادي الجامعة القريب في حي الدقي. وشهرًا فشهرًا، صرنا صديقين حميمين رغم فارق السن والدرجة العلمية. وأذكر يومًا أني وجدته وحيدًا في النادي، فدعوته إلى الذهاب معى إلى مسكني، وكانت زوجتي تستعد لإقامة احتفال بعيد ميلاد ابنتي سهى (سهير) عليها رحمة الله، وحضر عطية عامر الاحتفال بعيد ميلاد ابنتي، وشعر بأنه في أسرة حميمة تعده واحدًا منها. وقد رأيت التأثر في عينيه، خصوصًا حين أخبرنى أنه لم يحضر معه أحدًا من أسرته التي تضم ابنًا اسمه أحمس وابنة اسمها إيزيس. وكلاهما لا يعرف اللغة العربية مثل زوجه التي وعدها بأن تلحق به مع الولد والفتاة عندما يستقر في القاهرة. وكان لا يزال يحتفظ بسكنه القديم قبل أن ينفي نفسه، مكرهًا، من مصر.
ولكن ما لاحظته بعد ذلك أن عطية عامر لم يستقر، خصوصًا بعد كل هذه السنوات الطويلة التي قضاها في مجتمع الرفاهية والديمقراطية، أقصد السويد التي لم يكن فيها فساد، ولا وسائط. وما كان أكثر ما يشكو إليّ من الارتفاع غير الإنساني لأسعار الشقق المناسبة التي لا يمكن أن تتناسب مع مرتبه في جامعة القاهرة، ولا مع مدخراته في السويد. وظل عطية عامر دائم الشكوى، وظل يعاني الوحدة وافتقاد الحياة الرخية التي اعتادها في السويد، ومرت أشهر العام الدراسي الذي ما إن انتهى من تصحيح أوراق الامتحان حتى عاد إلى السويد. وهناك استقر به الأمر، بعد التشاور مع أسرته، على أن يعود أستاذًا في جامعة استكهولم التي أصبح فيها رئيسًا لقسم اللغة العربية. وكان القسم قد أخذ في الازدهار، خصوصًا بعد أن أصبحت رغبة العمل في الأقطار النفطية مغوية للشباب السويدي. وأرسل عطية عامر إلى جامعة القاهرة معتذرًا عن العودة، ومستقيلاً من عمله فيها. ولم ينسَ أن يرسل لي رسالة حميمة بعد أن استقر به الأمر في السويد مع بداية العام الدراسي 1978 - 1979. وظل الرجل حريصًا على مراسلتى، وأنا أتجاوب معه في المراسلة إلى أن جاء صيف 1980، وأخبرني عن رحلته في أقطار إفريقية عديدة مع زوجه التي أصبحت تشغل منصبًا رفيعًا في وزارة الخارجية السويدية. ودعاني إلى أن أذهب إلى جامعة استكهولم وأعمل معه أستاذًا زائرًا في القسم الذي يرأسه، وبالفعل وصلتنى دعوة رسمية منه خلال العام 1981، والحق أني فرحت بدعوته للعمل أستاذًا زائرًا، فقد كنت أتطلع إلى زيارة السويد التي لم أكن أعرف عنها سوى أنها البلد الذي يمنح جائزة نوبل الشهيرة، وأنها وطن مخرج السينما العالمي إنجمار برجمان، والمؤلف المسرحي الشهير سترندبرج، وقمت بعرض خطاب الدعوة على قسم اللغة العربية ولكن أستاذي د.عبدالمحسن بدر - رحمه الله - رفض بشدة، مذكرًا إياي بأنه ليس هناك من يقوم بتدريس النقد الأدبي سواي، بعد سفر زميلي عبدالمنعم تليمة إلى جامعة أوساكا في اليابان، أستاذًا زائرًا لأربع سنوات.
وترددت لبعض الوقت، ولم أبد اعتراضًا على رأي أستاذي عبدالمحسن بدر، فقد كان اعتراضه منطقيا. ولكني - بدافع أجهله - طلبت من القسم عدم اتخاذ قرار، وترك الأمر لي، كي أرد على دعوة عطية عامر بخطاب رقيق يحمل معاني العرفان والاعتذار معا. ولم أكن أنا ولا عبدالمحسن بدر يعلم ما سوف يفعله بنا السادات بعد وقت قصير. فقد كانت الأحداث تتسارع في مصر، والمشاعر المتوترة تتجمع ضد السادات، والمعارضون لاتفاقيات كامب ديفيد لاتزال أصواتهم مرتفعة، وكنت واحدًا منهم، فلم أكن أرى في المعاهدة ما يحقق السلام العادل، أو يحرر الأرض العربية كلها، وكنت أشارك في التوقيع على البيانات المعادية للسياسات الساداتية التي أضاعت أحلامنا القومية في العدل الاجتماعي والوحدة، وكذلك الحرية التي تحولت إلى اضطهاد للقوميين والناصريين واليساريين، مقابل التحالف مع جماعات الإسلام السياسي التي أطلق السادات سراح قياداتها، ليتحالف معهم، ويستعين بقوتهم في القضاء على خصومه، وهو التحالف الذي أدى إلى الاحتقان الطائفي الذي ترتبت عليه أحداث الزاوية الحمراء في يونيو 1981.
ولم يكن من المستغرب أن يبطش السادات بخصومه من كل الاتجاهات، ويلقي بالكثير منهم في المعتقلات. أما الذين لم يدخلوا السجون، فسرعان ما صدر قرار السادات (التاريخى؟!) بفصل أكثر من ستين أستاذًا جامعيًا، منهم ستة من قسم اللغة العربية الذي كانت تدرس فيه زوجته. وكان المرحوم عبدالمحسن أولنا الذي صدر قرار بنقله إلى وزارة التعمير، أما أنا فقد نقلت إلى هيئة التأمينات الاجتماعية، مع لطفي الخولي وخيري عزيز وزميلي عبدالمنعم تليمة، متعه الله بالصحة. (وكان لطفي الخولي في باريس فظل فيها، أما عبدالمنعم تليمة فكان في جامعة أوساكا في اليابان): أما بقية الزملاء، وكان منهم نصر حامد أبو زيد، رحمه الله، وسيد البحراوي وصبري المتولي فقد ذهبوا إلى وزارة الشئون الاجتماعية، على اختلاف مؤسساتها.
الطريف أنني كنت وعزالدين إسماعيل، رحمه الله، في منزل المرحوم صلاح عبدالصبور لمراجعة الأوراق التي تركها في مكتبه بعد وفاته في الثالث عشر من أغسطس سنة 1981، وكنا في أواخر أغسطس تقريبا، ودار حديث عن نية السادات في فصل معارضيه من الجامعة، وإبعادهم عنها، وتكرر الحديث نفسه في اليوم الثاني في مكتب عميد الكلية حسين نصار، وكان معنا محمد الجوهري وكيل الكلية، وتحدثنا عن صدور قرار جمهوري بإبعاد معارضي السادات عن الجامعة، وظللنا نسخر من الأمر ضاحكين. وقال حسين نصار هازلاً: أظن أن جابر سيكون من هؤلاء، وضحكنا إلى أن تركت مكتب العميد، وذهبت إلى منزلي. والغريب أن ما قاله حسين نصار على سبيل الهزل تحول إلى جد، فقد زارني أمل دنقل في مساء اليوم نفسه، وكانت معه قصيدة «الطيور» التي قرأها، وقال: إنه أهداها لي، فسألته: هل اسمي ضمن أسماء المبعدين من الجامعة؟ فأومأ بالإيجاب، وحكى لي أن قوائم أسماء الأساتذة المبعدين وصلت إلى الجرائد، ولكنها سحبت منها قبل الطبع لتراجع الحكومة في الإعلان عن أسماء الأساتذة، تخوفا من حدوث مظاهرات، فقد كان المناخ السياسي بالغ التوتر. أما أستاذي حسين نصار الذي كان عميد الكلية، فقد شعر بالحزن البالغ، كما لو كان هو السبب في إبعادي عن الجامعة، بعد أن قال هازلاً ما قال، ونحن نضحك في مكتبه. ولم يتصور أن يصله القرار الجمهوري بأسماء المفصولين من كليته، وبينهم جابر تلميذه الذي كان يضعه في منزلة ابنه. ولذلك طلب من محمد الجوهري أن يذهب إلى منزلي، مؤكدا أن الإبعاد سيكون لفترة قصيرة، وهو أمر أثبتت الأحداث المتلاحقة عدم صحته، فقد ازداد الموقف السياسي اشتعالاً، وبدا السادات، كما لو كان قد فقد اتزانه تمامًا.
وما إن صدر قرار إبعادنا عن الجامعة، وهدأت انفعالات الغضب الأولى، حتى تذكرت أنني لم أرسل ردًا على دعوة صديقي عطية عامر، فجلست إلى مكتبي، وكتبت له ردًا يخبره بما انتهى إليه مصيري، وأخبرته أنه في حل من دعوتي بعد أن انتفت عني صفة الأستاذ الجامعي بفضل قرار السادات الذي صدر في الثالث من سبتمبر 1981.
ويبدو أنني أيقظت في ذاكرة عطية عامر ما سبق أن عاناه في 1959، فاتصل برئيس جامعة استكهولم الذي أكد ترحيب الجامعة بدعوتي، أيًا كان موقعي، وأرسل لي عطية عامر مجددًا الدعوة بصورة رسمية.
وكنت قد ألحقت بمكتب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات، ولم يكن مطلوبا مني سوى أن أذهب كل يوم لأحتسي فنجان قهوة مع اللواء المسئول عن الأمن بالهيئة. ويبدو أن سيادة اللواء أراد الإفادة من معلومات الأستاذ الجامعي الذي يجالسه صباح كل يوم، فأخذ يطرح علي الأسئلة عن النظم والمذاهب السياسية والفكرية التي يسمع عنها، ولا يعرف معلومات محددة عن كل منها، فصار يسألني عن الوجودية، والفارق بين المذاهب المثالية والمادية. أو الفارق بين الماركسية والشيوعية، أو بينهما وباقي مذاهب الاشتراكية.
وتحولت جلسة القهوة كل صباح إلى درس، أقوم فيه بدور الأستاذ، ومضى أكثر من شهر، كنت أذهب فيه إلى الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات، إلى أن جاء يوم السادس من أكتوبر، حيث اغتيل السادات في منصة العرض العسكري. ومضت الأيام متسارعة وقلقة. وكنت قد تقدمت بالدعوة الرسمية للعمل أستاذًا زائرًا بجامعة استكهولم قبل وفاة السادات، فطلب مني رئيس الهيئة الذي أخذ صورة الدعوة أن أمنحه بعض الوقت للحصول على موافقة الجهة الأعلى. وكانت الجهة الأعلى هي المرحوم مصطفى كمال حلمي الذي كان وزيرًا للتعليم، بوصفي كنت أستاذًا جامعيًا قبل الإبعاد عن الجامعة. وجاءت تأشيرة الوزير بأنه لا مبرر للموافقة لأن المذكور الذي هو أنا، قد انتفت عنه صفة الأستاذ الجامعي بعد خروجه من الجامعة. وقد أطلعنى رئيس هيئة التأمينات والمعاشات على الرفض وهو حزين حزنًا صادقًا، فقد نشأت بيننا علاقة احترام ومودة في الفترة القصيرة التي عملت خلالها بالهيئة ملحقًا بمكتبه. وقال لي في أسى: لا تحزن. سوف يدبر الله لنا حلاً. وعندما تتابعت الأيام، وحدث اغتيال السادات بالطريقة التي جعلتني أشعر بالحزن عليه، وتدمع عيني وأنا أرى جنازته، وأقارن بينها وجنازة عبدالناصر، فلم يكن الرجل يستحق ما جرى له رغم كل ما فعله فينا، فقد كان صاحب رؤية، نختلف معها ونعارضها. لكن اغتياله بالطريقة التي حدثت، كان جريمة بشعة في آخر الأمر.
ولن أنسى ذلك اليوم الذي استدعاني فيه رئيس مجلس إدارة الهيئة وهو حزين الوجه، ودعاني إلى الجلوس أمامه، وكنا في أوائل شهر نوفمبر، ومدّ لي يده بملف، طالبا مني تصفحه، ففعلت ما طلب مني، وأصابني الخرس وغامت عيني بالدمع، فقد كان الملف عن معاش الشهيد محمد أنور السادات الذي أعتبر موته استشهادا لأنه كان بين جنده الذين خاضوا بأوامر منه حرب أكتوبر، وكل صفحة من الملف عن أحد المستحقين لمعاش الشهيد، ابتداء من الزوجة جيهان والابن والبنات من أولادها، ولم أر صفحة لمعاش كاميليا التي هي ابنته من زوجه الأولى. وبعد أن صمت طويلا، قال لي رئيس مجلس الإدارة الذي يحزنني أنني نسيت اسمه: تأمّل فيما يفعله الله في خلقه، وصمت، فصمت بدوري، وخرجت من مكتبه، وأنا أتمتم قائلا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكنت قد هاتفت عطية عامر، كي أبلغه بمبررات رفض الدعوة، فأمهلني يوما للتصرف في الأمر، قائلا في النهاية بحسم: لا تهتم، سوف تكون معنا قريبا. وبعد يومين بالضبط، جاءني رسول من السفارة السويدية يدعوني لمقابلة السفير، فذهبت إلى مكتب السفير الذي استقبلني بحرارة، داعيًا إياي إلى الجلوس، وأخرج من مكتبه مظروفا فتحه، فإذا فيه شهادة لمن يهمه الأمر بأنني مدعو أستاذا زائرا لصفتي العلمية، أيا كان المنصب الذي أشغله، أو الجهة التي أعمل بها. وفرحت بهذه الشهادة، وشكرت السفير على إعدادها، فأجابني مبتسما: لا تشكرني أنا، بل اشكر أصدقاءك في استكهولم.
وفي اليوم الثاني، وقد دخلنا في نوفمبر 1981، حملت الشهادة إلى رئيس مجلس الإدارة الذي قرأها فرحا، وقال لي من حقك أن تفخر بهذه الشهادة، وكدت أقول له: بل أفخر بصداقة الذي كان وراءها، ولكني آثرت الصمت. ولم أجد على لساني سوى كلمات تقول: أرجو أن تكون هناك موافقة، فقال لي الرجل بثقة، نلتقي غدًا وتكون معي الموافقة إن شاء الله، فقلت وراءه: إن شاء الله. وقابلته في اليوم الثاني، وقال: لا داعي لموافقة وزير التعليم العالي، حسبك أن تتقدم بمذكرة لي، طالبا إجازة من دون مرتب لمدة عام للسياحة في أوربا، فقلت مندهشا: عام للسياحة في أوربا؟! فأجابني الرجل باسما: اكتب يا دكتور جابر طلب الإجازة دون نقاش. وكتبت الطلب على ورقة بيضاء أعطاها لي، وعندما أسلمته الطلب، كتب تحته: موافق، واستدعى اللواء المسئول عن أمن الهيئة، صديق جلسات القهوة الصباحية، وقال له: خذ صديقك الدكتور جابر واستكمل معه الإجراءات. وبالفعل اصطحبني الرجل إلى مكتبه وأخرج كتاب تصاريح السفر للخارج، وسحب منه الورقة الصفراء التي سأقدمها للجوازات مع فيزا الدخول للسويد التي قدمها لي قنصل السويد في اليوم التالي، وودعت زوجي وابنتي سهير - رحمها الله - وابني أحمد في مطار القاهرة، مرتبكا مضطربا، وركبت الطائرة، متعجبا من سهولة الإجراءات، لكني لم أشعر بالاطمئنان الكامل إلا بعد أن هبطت الطائرة في مطار روما، حيث انتظرت ساعتين، كي أركب طائرة الخطوط الإسكندنافية. وأخيرا هبطت الطائرة في مطار استكهولم، وخرجت من باب الجوازات. وأخذت حقيبتي التي حملتها خارجا، وكان أول وجه قابلته داخل المطار هو وجه عطية عامر، مبتسما لي، فاتحا ذراعيه فألقيت بنفسي بين ذراعيه، قائلا: كيف أشكرك أيها الصديق العزيز، فنظر إليّ قائلا: حمدًا لله على سلامتك، ومرحبا بك في جامعة استكهولم. وكانت هذه الجملة مفتتح سنة كاملة، تكاد تكون أسعد سنوات عمري، في السويد التي لا أزال أذكرها ومعها عطية عامر بالحب والعرفان.
جابر عصفور
مجلة العربي مايو 2012