(1)
خلال الشهر الماضي جاء صديقنا القديم محمد حافظ رجب من الإسكندرية. حضر ندوة بأتيليه القاهرة ورحل ، دون أن نراه.
أخبرني الشاب أن الحضور كان قليلا ، وأنه جلس على المنصة صامتا، عجوزا هده الإعياء، وأنه سأل عني، وعاد.
خلوة الغلبان إبراهيم أصلان
(2)
وأنا كنت، زمان، غادرت منزلي والكاتب الراحل ضياء الشرقاوي واتجهنا إلى ميدان( الكيت كات) بحثا عن سيارة أجرة يعود بها إلى منزله، إلا أننا رحنا نتجول ونتحدث على شاطئ النهر مثلما اعتدنا أن نفعل كلما جاء لزيارتي.
كان ذلك في وقت متأخر من إحدى ليالي الصيف، بداية الستينيات . وكنا نجلس على السور الحجري القصير الذي يعلو الشاطيء المنحدر، والأشجار الهائلة التي يحتلها طائر أبو قردان تحجب السماء من فوقنا، وأمامنا كانت الأغصان القوية لهذه الأشجار قد تدلت وصنعت لنفسها
جذورا أخرى في أرض الرصيف المغطاة بالإسفلت، عندما لمحت شابا يعبر كوبري الزمالك ( أزيل الآن) ويتجه نحونا في خطوات متباطئة وهو يتأبط حزمة من الورق.
صافح ضياء دون أن يلتفت إليّ وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة لا تخلو من استهجان.
تبادلا عبارات قليلة، ثم سمعته يقول لضياء، الذي كان واقعيا اشتراكيا في ذلك الوقت:
” أنتم لسه بتكتبوا القصص الواقعية بتاعتكم دي؟”.
ورأيت ضياء يبتسم ويهز رأسه بما يعني :
” نعم”.
وقال الآخر:
” دا احنا خلاص، عملنا مدرسة جديدة في القصة”،
ورفع ذراعه الخالية إلى أعلى وقال:
” ودلوقت قاعدين فوق، وعمالين نطرطر عليكم، وأنتم قاعدين تحت”.
واستعرق في الضحك وأضاف:
” آه والله” .
ورأيت ضياء يضحك مرتبكا ويحرك وجهه إلى هنا أو هناك، وينقل ثقله من قدم إلى أخرى، حتى أسعفه الموقف بعربة يستوقفها ، وينصرف.
وبقينا وحدنا على شاطئ النهر.
منذ ذلك الحين لم نفترق، إلا فترات اعتكافه المتباعدة، وحتى عاد نهائيا إلى الإسكندرية.
(3)
ومحمد حافظ رجب هو صاحب المجموعات الرائدة ( غرباء- الكرة ورأس الرجل – مخلوقات براد الشاي المغلي) فضلا عن مجموعة مشتركة مع آخرين ( أكل عيش) ومجموعتين أخيرتين أصدرهما بعد صمت دام قرابة الثلاثين عاما هما ( حماصة وقهقهات الحمير الذكية) و( طارق ليل الظلمات) التي أقيمت من أجلهما ندوة الأتيليه، وهى كتابة تقتفي آثار نهجه المعروف ، بعد أن هدأ القلب المعذب وافتقدت الروح حماستها وجمودها القديم اللافح.
وهو من نسبت له تلك الصيحة الشهيرة ( نحن جيل بلا أساتذة) والتي اتخذت علامة على جيل كامل من الكتاب، بينما قائلها الحقيقي هو الناقد سيد خميس. وهو الفقير المشاكس الذي تقدم الصفوف أعزل إلا من إيمانه بما يكتب، متلقيا الطعنات عوضا عن آخرين.
عرفته حواري الإسكندرية وأرصفة المحطات بائعا للب والسجائر وأوراق الياناصيب، وعرف هو سلطة القهر باكرًا متمثلة في شرطة البلدية. كم حكى لي، وعبر في قصصه، عن تلك الملاحقة التي تركت في نفسه أثرًا داميًا، من هؤلاء الذين كانوا لا يكفون عن مطاردة الباعة من رصيف إلى آخر بينما هم يسعون من أجل لقمة العيش ، ومغالبة الأيام.
كلن حافظ قد شارك في العام 1950، أي في الخامسة عشرة من عمره في تأسيس الرابطة الثقافية للأدباء الناشئين، ثم رابطة لكتاب الطليعة عام 56، نشرت قصصه الأولى في جريدة ( المساء) التي كان يشرف عليها رموز اليسار الوطني في ذلك الوقت. كانت قصص البدايات تلك من أجمل النصوص التي عرفتها القصة الواقعية ومن أكثرها رهافة وتأثيرًا.
تناوله مفكروااليسار ونقاده في المساء وغيرها باعتباره ظاهرة مهمة ومدهشة:
بائع اللب الذي يكتب قصصًا!
تزوج حافظ في سن مبكرة( السابعة عشرة تقريبا – ولد في 1935) وسرعان ما أصبح أبا لفتاتين، إلا أن زواجه تعرض لانتكاسة هائلة وبقيت الصغيرتان في رعايته. وعندما كان في الخامسة والثلاثين، طيبا مثل طفل، كانت كبراهن في السابعة عشرة.
المهم ، ترتب على هذا الاهتمام النقدي بقصص حافظ أن قام يوسف السباعي الذي كان مسئولا عن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بإرسال مندوب خاص يستدعيه إلى العاصمة. في ذلك الوقت تمام كان أبو حافظ قد استطاع الحصول على محل صغير افتتحه مطعمَا معتمدًا على أن حافظ سوف يعاونه في تشغيله ( راجع قصص: ” الأب حانوت وغيرها” ). وحافظ رفض عرض أبيه من دون مناقشة. جاء محملا بالآمال الكبيرة إلى المدينة التي استدعته باسم أحد كبار مسئوليها، فاتحة ذراعيها لموهبته الغالية، وهى الآمال ، الواهية دائمًا، والتي أدت إلى البداية الحقيقية لمأساته.
كان حاصلًا على الابتدائية، وهكذا قام السباعي بتعيينه موظفًا بالمجلس الأعلى بمكافأة قدرها اثنا عشر جنيهًا . ولم تمر أيام قليلة على استلامة العمل حتى مات أبوه.
ويقول لي:
” مات بعد ماسبته وجيت على طول . أنا السبب”
(4)
سكن حافظ حجرة على سطح عمارة قديمة بحي ( العجوزة) القريب من ( الكيت كات) حيث أعيش. كان أصحاب العمارة قد خصصوا لكل شقة حجرة صغيرة للغسيل، إلا أن هؤلاء قاموا بتأجيرها، وسكن هو واحدة منها.
كانت مساحة الحجرة مترًا واحدًا في مترين ، وهو نفس حجم السرير المعدني الذي وضعه بداخلها ، لذلك كان بابها يفتح إلى الخارج. كنت أخلع حذائي وأنا واقف على السطح وأعتلي الفراش بينما يتراجع هو لكي يفسح لي. مع الوقت صرت أطرق الباب وانتظره حتى يرتدي ثيابه ونغادر المبنى كله إلى منزلي أو المرور على بعض أصدقائه من الكتاب. كان الفنان والناقد التشكيلي الراحل محمود بقشيش ( أيامها كان يكتب القصة أيضًا) يعيش في سطح آخر مشابه، وكان الموهوب جدًا محمد جاد يعيش في شقة أرضية بنفس الحي حيث التقيت لأول مرة بالشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم ويحيى الطاهر عبدالله والصديق الكاتب سيد خميس الذي كانت له مهام تثقيفية في إطار الجماعة كلها. وكان حافظ يقول لي إنه لايضيع وقتأ:
” أبو السيد، كان بيقعد معانا بعينه اليمين ، وهو ماسك ماركس وعمال يقراه بعينه الشمال” .
عبرالسنوات التي قضاها في القاهرة توطدت علاقتنا. لم نفترق إلا أوقات أزماته التي كانت تداهمه ويخضع فيها للعلاج، أو المرات التي كان يفر فيها من وطأة الأحوال ليلوذ بالإسكندرية زمنا ثم يعود.
كان حريصًا على ألا نلتقي أبدًا إلا وهو صحيح الروح والبدن . وأنا كنت أكثر منه حرصًا على إسقاط هذه الأوقات من علاقتنا.
ولكن ذلك لم يمكن تجنبه . ولن أكتب عن ذلك الآن.
(5)
يرتدي قميصًا ويرسل الآخر إلى المكوجي، ويجلس في انتظاره. إلا أن المكوجي كان يهمله بسبب انشغاله في كي أكوام الملابس التي تأتيه من كل شقة عبى حدة. وبدأ حافظ يعتقد، بسبب من أن التجاهل كان عموميًا، ولا توجد أية أسباب مفهموة لما يجري، أن وراء ذلك كله نوعًا من العمد، وأنه يتعرض لما يشبه التضييق، أو الملاحقة.
إنها ليست حكاية مكوجي يتجاهل القميص الذي يجب أن يذهب به إلى العمل ، لقد تجاهلته المدينة التي استدعته فاتحة ذراعيها، تبدد السحر، وكشر الواقع عن جهامته القاسية ، ولم يكن محمد حافظ رجب موهوبًا كبيرًا فقط ، بل كان يتمتع بقدر هائل من الحساسية والطهارة الروحية النادرة، ورغم أنه كان لايخلو من فظاظة حيال أنصاف الموهوبين والأشباه، إلا أنه كان وديعًا مثل طفل، صريحًا وبسيطًا ، وهو ضرب من الامتياز الذي تنفرد به الأذهان المتفوقة والمدركة لقيمتها في نفس الوقت. كان يشعر أن الجميع غرباء حد القهر، وأن الجيل الذي ينتمي إليه جيل
يتيم و( بلا أساتذة ) فعلا ، هؤلاء الذين تركوه هكذا ضحية لكل صنوف القهر والتهميش، وبدأت قصصه تأخذ مجرى مغايرا تمامًا.
(6)
كان صبري حافظ من أوائل النقاد الذين تابعوا أعمال أبناء الستينيات وكتبوا عنها ( ولعل هذه مناسبة نقر فيها بحقيقة أنه كان من أوائل النقاد الذين اعتنوا بالاطلاع على محاولاتي الأولى، في حديقة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب حيث كان يعمل ، وإنه بادر بالكتابة عنها، قبل أن أقوم بنشرها).
صديقنا الناقد صبري حافظ كتب في العدد الخاص بالقصة القصيرة الذي أصدرته مجلة ( المجلة عدد أغسطس 1966) برئاسة يحيى حقي في معرض حديثه عن حافظ رجب الذي كان قد انقلب فجأة على نهجه الواقعي المألوف ، يقول:
” إن تجربة حافظ رجب لا تعبأ بأي من التقاليد، ولا تعبأ أساسًا بالتقيد بحرفية الصورة. فتنافرها مع الواقع ليس في نهاية المطاف غير وجه من وجوه الالتحام بهذا الواقع والصدرور عنه، فهى تنطلق أساسًا من الفانتزي محلقة في أجواء أكثر جنونًا وسوداوية من أجواء كافكا… فعالمه ملىء بالتشوش، فاقد للتوازن ولكثير من مواصفاته البسيطة غائبة عن سمائه أغلب القيم الإيجابية والسليمة…….(…) إلا أنها من أقدر أقاصيص هذا الجيل على بلورة الملامح العامة والأبعاد العميقة لهذه اللحظة الحض ارية التي تصدر عنها ، مشكلة بذلك وجهًا بارزًا ومهمًا من أوجه ذلك التيار الأقصوصي” .
وكان حافظ رجب قد شارك في هذا العدد بقصة عنوانها ( مخلوقات براد الشاي المغلي) علق عليها يحيى حقي قائلا:
” قرأت هذه القصة فتراءات في ذهني لوحة من تصاوير ” دالي” فنحن أمام عالم صامت مشوه، أهله قزم، وأصم ، وأعور، ومقطوع الساق، وأصلع وامرأة استحالت دمية (…..) إنسان يسكن علبة سجائر، وإنسان يدخل براد شلي أو ساقًا خشبية، وإنسان ينفذ من أذن إنسان إلى داخله…(…) انظر قوله: ” هل تتبادل أنت وأبي مكاننا، وأخيرًا أنا كرة اللحم في رأسك الصلعاء، ويصير ابنك ابني ويصير أبي صنية القهوة وتصير أنت أبي وأصير أنا أبي وتصير أنت “. نفس مهددة بالفصام والتشتت لعجزها عن التماسك والتوحد” .
اخترت هذه المقاطع الطويلة نسبيًا من مقالة أستاذنا الراحل لأنها تعطي صورة عامة ودالة ليس على خصائص هذا العالم الذي كان استولى على مخيلة حافظ وراح هو يعبر عنه في لغة تميزت بالإشراق الفني وجدة الصورة ومباغتتها المدهشة فقط، ولكن لأنها تعطي صورة عن رؤية كاتب مبدع من جيل اسيق ومثقف كبير في نفس الوقت.
وأنا ، بسبب من معرفتي بحافظ رجب، كنت أظن أن قراءة مختلفة كانت كفيلة، اتكاء على العناصر الأساسية الفاعلة في تجربته الحياتيه والفنية التوصل ، عبر قراءة أخرى ، إلى مرفأ ، وخلاص ، ربما.
لقد توقفت عند حقي وصبري حافظ باعتبار أنهما الأكثر جدية وقيمة بين من تناولوا عمله، بينما تجاهلت ما لا حصر له من التعليقات التي لم توفر تهمة واحدة لم تلصقها بعقله، رغم أن الكثيرين من هؤلاء كانوا حميرًا، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
لقد كانت هناك مشاكل نفسية، نعم ، وهى مسألة عادية تمامًا ولا يوجد أحد، مبدعًا على وجه الخصوص، بمنحى منها، وقد كانت هناك نصيحة طبية بالاستمرار في الكتابة من أجل استعادة التوازن، وقد اندفعت موهبته الكبيرة إلى صيغة تعبيرية هي نوع من الإعلاء الجمالي أو ( التحويل) القائم على التشويه التلقائي لذلك المكبوت الضاري، هكذا قرأنا ما قرأنا من أعماله فاتنة، حقيقية ومستتغربة.
هي حالة لم يكن مجديًا فيها، نقديًا التوقف عند المحتوى الظاهر لهذه الأعمال ( مثل إنسان يدخل من أذن إنسان مثلا).
كان الأمر يتطلب ، هكذا هيىء لي، أن التوقف عند الآليات أو الوسائل، التي تمت بها عمليات التحويل ذاتها، هو الأهم.
ولكن أغلبنا ن لم يبصر، ولم يرحم.
ثم نعتذر عن هذا الكلام الثقيل كله. ونقول ‘إن الوعكات كانت تتلاحق، وتتزايد أيام غياب حافظ للعلاج أو الفرار إلى الإسكندرية.
(7)
طوال فترات انقطاعه لم تتوقف رسائله إليّ.
وسوف أسمح لنفسي هنا بأن أنشر واحدة من هذه الرسائل:
” البحر، 9 يونيو 1969، مقعد خاص ، أصفر بمظلة.
إبراهيم،
أيها الوغد.
أردت أن أراك، أقبلك.
من بلاهة هذا الزمان أن لا يمكنني أن أراك كما أحب.
الوسيلة البدائية العاجزة لحد البله….
وسيلتنا المكتوبة، أستعملها لأراك.
أكتب لك.
كيف نتناول الحكمة لنضمد هذا الجرح؟
إمبابة، وأنت وحجرة الكنب، والكتب، وحانوت الحلاق، والقلة فوق الحافة، وأنا وأنت في حلق الجامعة…. ” سفر الجامعة” يثير فينا الاندهاش. ( كنا قرأنا العهد القديم سويًا).
إبراهيم ياوغد.
الإسكندرية رطبة فارغة لاتثير مخزون قاع الأشياء…
تزدحم الأشياء…
تتركم فوق بعضها وتستسلم للنعاس…
وتموت الدوامة في صمت.
كيف العودة إلى الديار من جديد ياوغد؟
الذين في يدهم العودة قتلوها بالتحايل المستبد….
اصحوا ياسادة الكون الغريق.
تمردت على العمل أمس.
لم أذهب إلى المتحف اليوم.
جلست في مواجهة الكورنيش لأراك.
أنت ياصديقي كيف تعيش؟
كيف تلعب لعبة الاستمرار؟
كيف تتناول زادك؟
هل تلعب لعبة الكتابة؟
في مأواك أراك…
في اضطجاعك أراك…
في الساعات المتلاحقة أراك….
تنكب على الأشياء المزروعة بين دفتي مايسمى بكتاب.
عصر الشهداء موجود…
شهداء ملايين الكلمات…
شهداء بحر الوعي…
إلى أين يا إبراهيم ؟
فررت من القاهرة…
لكن هذه المدينة حقيقية يا إبراهيم …
كل من خارجها يلعب ألعابه لتحدث المعجزة وتلتتفت مرة إليه .
ياإبراهيم ….
واصل إثارتي ليخرج المخزن الثاني تراكمات السنين.
لو لم تكن أنت ماكنت قد جئت إلى البحر والكرسي الأصفر الدائر تحت المظلة في منتصف طريق الكورنيش وجلست أكتب لك.
قلت عن حياة تتحرك عنكم.
كن بديل عيني وقل لي:
مادورونا فيها؟
اليوم رأيت فاروق منيب ( القاص والمحرر الثقافي الراحل) يجلس فوق دكة صفحته الجديدة في المساء( يقصد الجريدة).
لم تقل لي متى أحضر لتناول القربان من خزينة الجمهورية ( يقصد صرف مكافأة قصة منشورة له).
عبدالفتاح الجمل ( أحد قوى الخير النادرة في حياتنا الثقافية) توهج المساء,
تركه…غادره…
يافتى حرك شهيتك معي لنقيم مآدبنا.
هل سيحدث مرة ثانية أن تحرك غيبوبتك؟
تركب القطار…تنزل الإسكندرية …تذهب إلى البحر…تسأل عن عنواني، ثم تكف … وتعود إلى القاهرة بذكريات يوم تقضيه ولا أراك؟
( كنت قد ذهبت لزيارته ولم أعثر على بيته وكتبت له عن ذلك).
لو لم يغادر الهارب مدينتكم لكان قد حاكم بعض الذين يحاكمون غيرهم الآن.
أنتظر بلهفة كميات كثيرة من نفسك.
أقرأ بشكل مرعب…..
عدت إلى أرسين لوبين…
الفرسان الأربعة …إسكندر ديماس…
آخر ما قرأت قصيدة لمايكوفسكي…
هذا الوغد يثيرني لأبحث عنه.
هل تعرف طريقة لإيصال السلام لإبراهيم فتحي؟
لقد فقدت بعد العودة عنوانه… وأحس بالذنب لأنني لم أرسل له السلام.
رسالتك الأخيرة عملت شيئا غريبًا (تناولت الرسائل القادمة لي من كل مكان …جمعتها …كوما…
وفقتها …إلى الأبد).
كيف حال أسرتك؟
ياللشوق ياولد …
مشكلة تحويل الزمن … مرعبة.
أكتفي هنا…إلى لقاء…
أخوك…
حافظ”.
(8)
مضت السنوات إذن وتوقف حافظ رجب عن الكتابة إليّ. صمت عني وعن الآخرين. استقر موظفًا ، بسيطًا ، هادئًا ومنسيًا في أرشيف المتحف الروماني يالأسكندرية . لقد تعاقبت الأجيال، وبهتت الصور ، وبد ا حافظ منسيًا إلا من أبناء جيله الذين احتفظوا له بمكانه لا يطاوله فيها إلا القليلون .
(9)
وخلال الشهر الماضي جاء من الإسكندرية وحضر ندوة لم يعلن عنها بأتيلية القاهرة ، ورحل دون أن نراه . وأخبرني الشباب أن الحضور كان قليلا، وأنه جلس على المنصة، صامتًا، عجوزًا هده الإعياء، وأنا لا أصدق ، لأن رفاق الشباب يحتفظون في الذاكرة بصورتهم التي فارقونا عليها. إنهم يظلون شبابًا كما هم، مهما انصرمت الأعوام حتى نلتقيهم، حينئذ ندرك ، نحن ماصرنا إليه.
وإذا كان بوسع أحد ، مثلي، أن يظن بأنه كان من الناجيين، فلقد حدث ذلك لأننا كنا أبناء شرعيين لهذه ” القاهرة “، وليس بالتبني، لم نتوقع منها شيئا، لذلك فوتنا عليها، وعلى أنفسنا، مشاعر الخيبة والمرارة.
(10)
ماأعاننا على الاستمرار( أنت …يامن هناك) أننا كنا أقل طيبة منك، وأكثر قسوة.
( مارس 1997)
________
* هذا المقال كتبه إبراهيم أصلان ( مارس 1997) وضمنه كتابة ” خلوة الغلبان “
sadazakera.wordpress.com
خلال الشهر الماضي جاء صديقنا القديم محمد حافظ رجب من الإسكندرية. حضر ندوة بأتيليه القاهرة ورحل ، دون أن نراه.
أخبرني الشاب أن الحضور كان قليلا ، وأنه جلس على المنصة صامتا، عجوزا هده الإعياء، وأنه سأل عني، وعاد.
خلوة الغلبان إبراهيم أصلان
(2)
وأنا كنت، زمان، غادرت منزلي والكاتب الراحل ضياء الشرقاوي واتجهنا إلى ميدان( الكيت كات) بحثا عن سيارة أجرة يعود بها إلى منزله، إلا أننا رحنا نتجول ونتحدث على شاطئ النهر مثلما اعتدنا أن نفعل كلما جاء لزيارتي.
كان ذلك في وقت متأخر من إحدى ليالي الصيف، بداية الستينيات . وكنا نجلس على السور الحجري القصير الذي يعلو الشاطيء المنحدر، والأشجار الهائلة التي يحتلها طائر أبو قردان تحجب السماء من فوقنا، وأمامنا كانت الأغصان القوية لهذه الأشجار قد تدلت وصنعت لنفسها
جذورا أخرى في أرض الرصيف المغطاة بالإسفلت، عندما لمحت شابا يعبر كوبري الزمالك ( أزيل الآن) ويتجه نحونا في خطوات متباطئة وهو يتأبط حزمة من الورق.
صافح ضياء دون أن يلتفت إليّ وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة لا تخلو من استهجان.
تبادلا عبارات قليلة، ثم سمعته يقول لضياء، الذي كان واقعيا اشتراكيا في ذلك الوقت:
” أنتم لسه بتكتبوا القصص الواقعية بتاعتكم دي؟”.
ورأيت ضياء يبتسم ويهز رأسه بما يعني :
” نعم”.
وقال الآخر:
” دا احنا خلاص، عملنا مدرسة جديدة في القصة”،
ورفع ذراعه الخالية إلى أعلى وقال:
” ودلوقت قاعدين فوق، وعمالين نطرطر عليكم، وأنتم قاعدين تحت”.
واستعرق في الضحك وأضاف:
” آه والله” .
ورأيت ضياء يضحك مرتبكا ويحرك وجهه إلى هنا أو هناك، وينقل ثقله من قدم إلى أخرى، حتى أسعفه الموقف بعربة يستوقفها ، وينصرف.
وبقينا وحدنا على شاطئ النهر.
منذ ذلك الحين لم نفترق، إلا فترات اعتكافه المتباعدة، وحتى عاد نهائيا إلى الإسكندرية.
(3)
ومحمد حافظ رجب هو صاحب المجموعات الرائدة ( غرباء- الكرة ورأس الرجل – مخلوقات براد الشاي المغلي) فضلا عن مجموعة مشتركة مع آخرين ( أكل عيش) ومجموعتين أخيرتين أصدرهما بعد صمت دام قرابة الثلاثين عاما هما ( حماصة وقهقهات الحمير الذكية) و( طارق ليل الظلمات) التي أقيمت من أجلهما ندوة الأتيليه، وهى كتابة تقتفي آثار نهجه المعروف ، بعد أن هدأ القلب المعذب وافتقدت الروح حماستها وجمودها القديم اللافح.
وهو من نسبت له تلك الصيحة الشهيرة ( نحن جيل بلا أساتذة) والتي اتخذت علامة على جيل كامل من الكتاب، بينما قائلها الحقيقي هو الناقد سيد خميس. وهو الفقير المشاكس الذي تقدم الصفوف أعزل إلا من إيمانه بما يكتب، متلقيا الطعنات عوضا عن آخرين.
عرفته حواري الإسكندرية وأرصفة المحطات بائعا للب والسجائر وأوراق الياناصيب، وعرف هو سلطة القهر باكرًا متمثلة في شرطة البلدية. كم حكى لي، وعبر في قصصه، عن تلك الملاحقة التي تركت في نفسه أثرًا داميًا، من هؤلاء الذين كانوا لا يكفون عن مطاردة الباعة من رصيف إلى آخر بينما هم يسعون من أجل لقمة العيش ، ومغالبة الأيام.
كلن حافظ قد شارك في العام 1950، أي في الخامسة عشرة من عمره في تأسيس الرابطة الثقافية للأدباء الناشئين، ثم رابطة لكتاب الطليعة عام 56، نشرت قصصه الأولى في جريدة ( المساء) التي كان يشرف عليها رموز اليسار الوطني في ذلك الوقت. كانت قصص البدايات تلك من أجمل النصوص التي عرفتها القصة الواقعية ومن أكثرها رهافة وتأثيرًا.
تناوله مفكروااليسار ونقاده في المساء وغيرها باعتباره ظاهرة مهمة ومدهشة:
بائع اللب الذي يكتب قصصًا!
تزوج حافظ في سن مبكرة( السابعة عشرة تقريبا – ولد في 1935) وسرعان ما أصبح أبا لفتاتين، إلا أن زواجه تعرض لانتكاسة هائلة وبقيت الصغيرتان في رعايته. وعندما كان في الخامسة والثلاثين، طيبا مثل طفل، كانت كبراهن في السابعة عشرة.
المهم ، ترتب على هذا الاهتمام النقدي بقصص حافظ أن قام يوسف السباعي الذي كان مسئولا عن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بإرسال مندوب خاص يستدعيه إلى العاصمة. في ذلك الوقت تمام كان أبو حافظ قد استطاع الحصول على محل صغير افتتحه مطعمَا معتمدًا على أن حافظ سوف يعاونه في تشغيله ( راجع قصص: ” الأب حانوت وغيرها” ). وحافظ رفض عرض أبيه من دون مناقشة. جاء محملا بالآمال الكبيرة إلى المدينة التي استدعته باسم أحد كبار مسئوليها، فاتحة ذراعيها لموهبته الغالية، وهى الآمال ، الواهية دائمًا، والتي أدت إلى البداية الحقيقية لمأساته.
كان حاصلًا على الابتدائية، وهكذا قام السباعي بتعيينه موظفًا بالمجلس الأعلى بمكافأة قدرها اثنا عشر جنيهًا . ولم تمر أيام قليلة على استلامة العمل حتى مات أبوه.
ويقول لي:
” مات بعد ماسبته وجيت على طول . أنا السبب”
(4)
سكن حافظ حجرة على سطح عمارة قديمة بحي ( العجوزة) القريب من ( الكيت كات) حيث أعيش. كان أصحاب العمارة قد خصصوا لكل شقة حجرة صغيرة للغسيل، إلا أن هؤلاء قاموا بتأجيرها، وسكن هو واحدة منها.
كانت مساحة الحجرة مترًا واحدًا في مترين ، وهو نفس حجم السرير المعدني الذي وضعه بداخلها ، لذلك كان بابها يفتح إلى الخارج. كنت أخلع حذائي وأنا واقف على السطح وأعتلي الفراش بينما يتراجع هو لكي يفسح لي. مع الوقت صرت أطرق الباب وانتظره حتى يرتدي ثيابه ونغادر المبنى كله إلى منزلي أو المرور على بعض أصدقائه من الكتاب. كان الفنان والناقد التشكيلي الراحل محمود بقشيش ( أيامها كان يكتب القصة أيضًا) يعيش في سطح آخر مشابه، وكان الموهوب جدًا محمد جاد يعيش في شقة أرضية بنفس الحي حيث التقيت لأول مرة بالشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم ويحيى الطاهر عبدالله والصديق الكاتب سيد خميس الذي كانت له مهام تثقيفية في إطار الجماعة كلها. وكان حافظ يقول لي إنه لايضيع وقتأ:
” أبو السيد، كان بيقعد معانا بعينه اليمين ، وهو ماسك ماركس وعمال يقراه بعينه الشمال” .
عبرالسنوات التي قضاها في القاهرة توطدت علاقتنا. لم نفترق إلا أوقات أزماته التي كانت تداهمه ويخضع فيها للعلاج، أو المرات التي كان يفر فيها من وطأة الأحوال ليلوذ بالإسكندرية زمنا ثم يعود.
كان حريصًا على ألا نلتقي أبدًا إلا وهو صحيح الروح والبدن . وأنا كنت أكثر منه حرصًا على إسقاط هذه الأوقات من علاقتنا.
ولكن ذلك لم يمكن تجنبه . ولن أكتب عن ذلك الآن.
(5)
يرتدي قميصًا ويرسل الآخر إلى المكوجي، ويجلس في انتظاره. إلا أن المكوجي كان يهمله بسبب انشغاله في كي أكوام الملابس التي تأتيه من كل شقة عبى حدة. وبدأ حافظ يعتقد، بسبب من أن التجاهل كان عموميًا، ولا توجد أية أسباب مفهموة لما يجري، أن وراء ذلك كله نوعًا من العمد، وأنه يتعرض لما يشبه التضييق، أو الملاحقة.
إنها ليست حكاية مكوجي يتجاهل القميص الذي يجب أن يذهب به إلى العمل ، لقد تجاهلته المدينة التي استدعته فاتحة ذراعيها، تبدد السحر، وكشر الواقع عن جهامته القاسية ، ولم يكن محمد حافظ رجب موهوبًا كبيرًا فقط ، بل كان يتمتع بقدر هائل من الحساسية والطهارة الروحية النادرة، ورغم أنه كان لايخلو من فظاظة حيال أنصاف الموهوبين والأشباه، إلا أنه كان وديعًا مثل طفل، صريحًا وبسيطًا ، وهو ضرب من الامتياز الذي تنفرد به الأذهان المتفوقة والمدركة لقيمتها في نفس الوقت. كان يشعر أن الجميع غرباء حد القهر، وأن الجيل الذي ينتمي إليه جيل
يتيم و( بلا أساتذة ) فعلا ، هؤلاء الذين تركوه هكذا ضحية لكل صنوف القهر والتهميش، وبدأت قصصه تأخذ مجرى مغايرا تمامًا.
(6)
كان صبري حافظ من أوائل النقاد الذين تابعوا أعمال أبناء الستينيات وكتبوا عنها ( ولعل هذه مناسبة نقر فيها بحقيقة أنه كان من أوائل النقاد الذين اعتنوا بالاطلاع على محاولاتي الأولى، في حديقة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب حيث كان يعمل ، وإنه بادر بالكتابة عنها، قبل أن أقوم بنشرها).
صديقنا الناقد صبري حافظ كتب في العدد الخاص بالقصة القصيرة الذي أصدرته مجلة ( المجلة عدد أغسطس 1966) برئاسة يحيى حقي في معرض حديثه عن حافظ رجب الذي كان قد انقلب فجأة على نهجه الواقعي المألوف ، يقول:
” إن تجربة حافظ رجب لا تعبأ بأي من التقاليد، ولا تعبأ أساسًا بالتقيد بحرفية الصورة. فتنافرها مع الواقع ليس في نهاية المطاف غير وجه من وجوه الالتحام بهذا الواقع والصدرور عنه، فهى تنطلق أساسًا من الفانتزي محلقة في أجواء أكثر جنونًا وسوداوية من أجواء كافكا… فعالمه ملىء بالتشوش، فاقد للتوازن ولكثير من مواصفاته البسيطة غائبة عن سمائه أغلب القيم الإيجابية والسليمة…….(…) إلا أنها من أقدر أقاصيص هذا الجيل على بلورة الملامح العامة والأبعاد العميقة لهذه اللحظة الحض ارية التي تصدر عنها ، مشكلة بذلك وجهًا بارزًا ومهمًا من أوجه ذلك التيار الأقصوصي” .
وكان حافظ رجب قد شارك في هذا العدد بقصة عنوانها ( مخلوقات براد الشاي المغلي) علق عليها يحيى حقي قائلا:
” قرأت هذه القصة فتراءات في ذهني لوحة من تصاوير ” دالي” فنحن أمام عالم صامت مشوه، أهله قزم، وأصم ، وأعور، ومقطوع الساق، وأصلع وامرأة استحالت دمية (…..) إنسان يسكن علبة سجائر، وإنسان يدخل براد شلي أو ساقًا خشبية، وإنسان ينفذ من أذن إنسان إلى داخله…(…) انظر قوله: ” هل تتبادل أنت وأبي مكاننا، وأخيرًا أنا كرة اللحم في رأسك الصلعاء، ويصير ابنك ابني ويصير أبي صنية القهوة وتصير أنت أبي وأصير أنا أبي وتصير أنت “. نفس مهددة بالفصام والتشتت لعجزها عن التماسك والتوحد” .
اخترت هذه المقاطع الطويلة نسبيًا من مقالة أستاذنا الراحل لأنها تعطي صورة عامة ودالة ليس على خصائص هذا العالم الذي كان استولى على مخيلة حافظ وراح هو يعبر عنه في لغة تميزت بالإشراق الفني وجدة الصورة ومباغتتها المدهشة فقط، ولكن لأنها تعطي صورة عن رؤية كاتب مبدع من جيل اسيق ومثقف كبير في نفس الوقت.
وأنا ، بسبب من معرفتي بحافظ رجب، كنت أظن أن قراءة مختلفة كانت كفيلة، اتكاء على العناصر الأساسية الفاعلة في تجربته الحياتيه والفنية التوصل ، عبر قراءة أخرى ، إلى مرفأ ، وخلاص ، ربما.
لقد توقفت عند حقي وصبري حافظ باعتبار أنهما الأكثر جدية وقيمة بين من تناولوا عمله، بينما تجاهلت ما لا حصر له من التعليقات التي لم توفر تهمة واحدة لم تلصقها بعقله، رغم أن الكثيرين من هؤلاء كانوا حميرًا، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
لقد كانت هناك مشاكل نفسية، نعم ، وهى مسألة عادية تمامًا ولا يوجد أحد، مبدعًا على وجه الخصوص، بمنحى منها، وقد كانت هناك نصيحة طبية بالاستمرار في الكتابة من أجل استعادة التوازن، وقد اندفعت موهبته الكبيرة إلى صيغة تعبيرية هي نوع من الإعلاء الجمالي أو ( التحويل) القائم على التشويه التلقائي لذلك المكبوت الضاري، هكذا قرأنا ما قرأنا من أعماله فاتنة، حقيقية ومستتغربة.
هي حالة لم يكن مجديًا فيها، نقديًا التوقف عند المحتوى الظاهر لهذه الأعمال ( مثل إنسان يدخل من أذن إنسان مثلا).
كان الأمر يتطلب ، هكذا هيىء لي، أن التوقف عند الآليات أو الوسائل، التي تمت بها عمليات التحويل ذاتها، هو الأهم.
ولكن أغلبنا ن لم يبصر، ولم يرحم.
ثم نعتذر عن هذا الكلام الثقيل كله. ونقول ‘إن الوعكات كانت تتلاحق، وتتزايد أيام غياب حافظ للعلاج أو الفرار إلى الإسكندرية.
(7)
طوال فترات انقطاعه لم تتوقف رسائله إليّ.
وسوف أسمح لنفسي هنا بأن أنشر واحدة من هذه الرسائل:
” البحر، 9 يونيو 1969، مقعد خاص ، أصفر بمظلة.
إبراهيم،
أيها الوغد.
أردت أن أراك، أقبلك.
من بلاهة هذا الزمان أن لا يمكنني أن أراك كما أحب.
الوسيلة البدائية العاجزة لحد البله….
وسيلتنا المكتوبة، أستعملها لأراك.
أكتب لك.
كيف نتناول الحكمة لنضمد هذا الجرح؟
إمبابة، وأنت وحجرة الكنب، والكتب، وحانوت الحلاق، والقلة فوق الحافة، وأنا وأنت في حلق الجامعة…. ” سفر الجامعة” يثير فينا الاندهاش. ( كنا قرأنا العهد القديم سويًا).
إبراهيم ياوغد.
الإسكندرية رطبة فارغة لاتثير مخزون قاع الأشياء…
تزدحم الأشياء…
تتركم فوق بعضها وتستسلم للنعاس…
وتموت الدوامة في صمت.
كيف العودة إلى الديار من جديد ياوغد؟
الذين في يدهم العودة قتلوها بالتحايل المستبد….
اصحوا ياسادة الكون الغريق.
تمردت على العمل أمس.
لم أذهب إلى المتحف اليوم.
جلست في مواجهة الكورنيش لأراك.
أنت ياصديقي كيف تعيش؟
كيف تلعب لعبة الاستمرار؟
كيف تتناول زادك؟
هل تلعب لعبة الكتابة؟
في مأواك أراك…
في اضطجاعك أراك…
في الساعات المتلاحقة أراك….
تنكب على الأشياء المزروعة بين دفتي مايسمى بكتاب.
عصر الشهداء موجود…
شهداء ملايين الكلمات…
شهداء بحر الوعي…
إلى أين يا إبراهيم ؟
فررت من القاهرة…
لكن هذه المدينة حقيقية يا إبراهيم …
كل من خارجها يلعب ألعابه لتحدث المعجزة وتلتتفت مرة إليه .
ياإبراهيم ….
واصل إثارتي ليخرج المخزن الثاني تراكمات السنين.
لو لم تكن أنت ماكنت قد جئت إلى البحر والكرسي الأصفر الدائر تحت المظلة في منتصف طريق الكورنيش وجلست أكتب لك.
قلت عن حياة تتحرك عنكم.
كن بديل عيني وقل لي:
مادورونا فيها؟
اليوم رأيت فاروق منيب ( القاص والمحرر الثقافي الراحل) يجلس فوق دكة صفحته الجديدة في المساء( يقصد الجريدة).
لم تقل لي متى أحضر لتناول القربان من خزينة الجمهورية ( يقصد صرف مكافأة قصة منشورة له).
عبدالفتاح الجمل ( أحد قوى الخير النادرة في حياتنا الثقافية) توهج المساء,
تركه…غادره…
يافتى حرك شهيتك معي لنقيم مآدبنا.
هل سيحدث مرة ثانية أن تحرك غيبوبتك؟
تركب القطار…تنزل الإسكندرية …تذهب إلى البحر…تسأل عن عنواني، ثم تكف … وتعود إلى القاهرة بذكريات يوم تقضيه ولا أراك؟
( كنت قد ذهبت لزيارته ولم أعثر على بيته وكتبت له عن ذلك).
لو لم يغادر الهارب مدينتكم لكان قد حاكم بعض الذين يحاكمون غيرهم الآن.
أنتظر بلهفة كميات كثيرة من نفسك.
أقرأ بشكل مرعب…..
عدت إلى أرسين لوبين…
الفرسان الأربعة …إسكندر ديماس…
آخر ما قرأت قصيدة لمايكوفسكي…
هذا الوغد يثيرني لأبحث عنه.
هل تعرف طريقة لإيصال السلام لإبراهيم فتحي؟
لقد فقدت بعد العودة عنوانه… وأحس بالذنب لأنني لم أرسل له السلام.
رسالتك الأخيرة عملت شيئا غريبًا (تناولت الرسائل القادمة لي من كل مكان …جمعتها …كوما…
وفقتها …إلى الأبد).
كيف حال أسرتك؟
ياللشوق ياولد …
مشكلة تحويل الزمن … مرعبة.
أكتفي هنا…إلى لقاء…
أخوك…
حافظ”.
(8)
مضت السنوات إذن وتوقف حافظ رجب عن الكتابة إليّ. صمت عني وعن الآخرين. استقر موظفًا ، بسيطًا ، هادئًا ومنسيًا في أرشيف المتحف الروماني يالأسكندرية . لقد تعاقبت الأجيال، وبهتت الصور ، وبد ا حافظ منسيًا إلا من أبناء جيله الذين احتفظوا له بمكانه لا يطاوله فيها إلا القليلون .
(9)
وخلال الشهر الماضي جاء من الإسكندرية وحضر ندوة لم يعلن عنها بأتيلية القاهرة ، ورحل دون أن نراه . وأخبرني الشباب أن الحضور كان قليلا، وأنه جلس على المنصة، صامتًا، عجوزًا هده الإعياء، وأنا لا أصدق ، لأن رفاق الشباب يحتفظون في الذاكرة بصورتهم التي فارقونا عليها. إنهم يظلون شبابًا كما هم، مهما انصرمت الأعوام حتى نلتقيهم، حينئذ ندرك ، نحن ماصرنا إليه.
وإذا كان بوسع أحد ، مثلي، أن يظن بأنه كان من الناجيين، فلقد حدث ذلك لأننا كنا أبناء شرعيين لهذه ” القاهرة “، وليس بالتبني، لم نتوقع منها شيئا، لذلك فوتنا عليها، وعلى أنفسنا، مشاعر الخيبة والمرارة.
(10)
ماأعاننا على الاستمرار( أنت …يامن هناك) أننا كنا أقل طيبة منك، وأكثر قسوة.
( مارس 1997)
________
* هذا المقال كتبه إبراهيم أصلان ( مارس 1997) وضمنه كتابة ” خلوة الغلبان “
أنت …يامن هناك
إبراهيم أصلان* (1) خلال الشهر الماضي جاء صديقنا القديم محمد حافظ رجب من الإسكندرية. حضر ندوة بأتيليه القاهرة ورحل ، دون أن نراه. أخبرني الشاب أن الحضور كان قليلا ، وأنه جلس على المنصة صامتا، عجوزا …