يوم التقيت الأديب الكبير طه حسين في مرفأ بيروت الذي تم مؤخراً تدميره ـ للأسف ـ وكان على ظهر الباخرة «اوزونيا» برفقة زوجته السيدة سوزان، ومعاونه الأستاذ فريد شحادة، في طريقهم إلى أوروبا، لم يخطر ببالي أن أطرح عليه أسئلة خفيفة الظل.. ولم يخطر ببالي طبعاً أن هذا المرفأ سيتم تدميره! (كما حدث في 4 آب/أغسطس 2020).
طه حسين كان رجلاً مسناً ومريضاً ذاهباً إلى موته.
وكنت ذاهبة إلى حياتي، وليس في رصيدي غير كتاب.. وقد رضي باستقبالي في الباخرة اوزونيا (المارة بمرفأ بيروت ترانزيت) فقد اتصل الدكتور الراحل سهيل ادريس (ناشري يومئذ) وذكر له اسم والدي الذي كان رئيساً للجامعة السورية قبل أن يصير وزيراً.. وربطته بطه حسين صلة مودة أبجدية حتى أن أبي جعلني أطالع كتاب «الأيام» له وأنا صغيرة.
وهكذا فوجئت حينما التقينا وحاورته بأنه عاتب على أدباء «الجيل الجديد» (كنت منهم يومئذ) وحوارنا نشرته في أحد كتبي: (ع غ تتفرس). أما سبب عتبه فهو لأننا لا نهديه كتبنا ليطلع عليها والحقيقة أنني لم أجرؤ على ذلك)! وكنت قد قرأت سيرته الذاتية في كتابه «الأيام» وأنا صغيرة، وكانت من القراءات التي اختارها أبي لي كما سبق وذكرت، لكنني اكتشفت مؤخراً أن بوسع طه حسين أن يكون خفيف الظل في إجاباته لو تجرأت على طرح أسئلة كهذه عليه في ذلك اللقاء اليتيم..
طه حسين: أختار أن يكون فأراً!
قرأت مؤخراً أن طه حسين أجاب عن سؤال: لو لم تكن آدمياً، ماذا كنت تحب أن تكون؟ وقال: أن أكون فأراً! أضاف: وقد تعجب لذلك وسيزول عجبك! إنني أريد هذا الاختيار لأعيش في مكتبة عامرة بشتى أنواع الكتب والمؤلفات، فأظل ألتهمها وأتغذى عليها عقلاً وجسماً وقلباً، فأنا أشكّ في أنني أستطيع أن أعيش بدون قراءة! ـ المصدر: مجلة قديمة اسمها «الإثنين والدنيا» عام 1951 كانت تصدر عن دار الهلال في مصر!.. إجابة غاية في الطرافة، لكنني يوم التقيته لم أكن أعرف ذلك ولم أجرؤ أصلاً إلا على طرح أسئلة جادة!
هذا المرفأ لم يعد موجوداً!
واليوم، حين أتذكر لقائي به في «مرفأ بيروت» على ظهر الباخرة اوزونيا، أتذكر بحسرة ذلك المرفأ والانفجار المروع في بيروت الذي دمر المرفأ ونصف بيروت وقتل أكثر من 200 مواطن، ولعل المزيد تحت الأنقاض، ودمر بيوت 300 ألف مواطن صاروا مشردين، ولم أكن يومها في بيروت لحسن حظي، ونجوت مرة أخرى من ميتة عنيفة ولا أدري حتى متى، فأنا مشتاقة إلى بيروت على الرغم من كل شيء، وأنتظر بشوق عودة طائرات (الميدل ايست) اللبنانية لنقلنا إلى بيروت.
من يحب تلك المدينة هو كعاشق دائم الاشتعال رغم الخطر الذي قد يدمره.. في بيروت.
بيروت، أفتقدك!
أفتقد بيروت على الرغم من أنف الانفجارات والكهرباء المقطوعة وبقية الكوارث التي تتقن بيروت معاقرتها، هذا إلى جانب وباء كورونا!
وسأتذكر دائماً طه حسين على ظهر الباخرة اوزونيا في مرفأ بيروت.. وكان ياما كان لبنان والمرفأ.. والبواخر.. وطه حسين على ظهر الباخرة ورفضه وزوجته استقبال المصور (فاروج) الذي رافقني وأعلنوا: لا صور. كنت أتمنى تلك الصور، لا لتصويري مع طه حسين وزوجته ومعاونه (فريد شحادة) فحسب، بل وأيضاً لتصوير مرفأ بيروت حين كان مزدهراً في ذلك الزمان.. قبل أن يصير مخزناً لمتفجرات ما، لدولة ما أو لميليشيا ما، والله أعلم!
أحب رسائل الحب!
في عالمنا العربي ما يشبه الهــــياج، وفي عالمنا العــــربي ما يشبه الهلع من نشر رسائل الحــــب لكبار الأدباء.. بل ويتم أرغام السيدة العربية التي وجهها إليها مبدع على تمزيقها أو عدم نشرها على الأقل. وهو ما لم أفعله وسأتابع نشر بعض رسائل الحب من مبدعين وصلتني، لقيمتها الإبداعية. فأنا سأموت كما مات من كتبها وسيموت الذين يهاجمون نشري لذلك، لكنها ستبقى بعد رحيلنا جزءاً من الأدب العربي الجميل.
نحن نخشاها وهم يفرحون بها
في الغرب يحتفون برســائل الحب، كما حدث يوم نشرت حبيبة رئيس الجمهورية الراحل ميتران رسائله إليها وهو متزوج وأب غير شرعي لابنتها مازارين التي اعترف بها، والتي جاءت مع أمها (عشيقته) في حفل طقوس دفنه وعانقتها زوجته الشرعية في اعتراف بحقائق الحياة.
رسائل حب المبدعين تراث أدبي!
الفرنسيون خاصة، والغربيون عامة، يحرصون على رسائل حب المبدعين الراحلين كجزء من تراثهم الأدبي ويحتفون بنشرها.. فكلنا سنموت، الذين قاموا بنشرها والذين أقاموا القيامة لذلك (كما حدث لي يوم نشرت رسائل غسان كنفاني لي، وبعده أنسي الحاج، وكما سأفعل مع رسائل مبدعة أدبياً أو لمبدعين في حقول أخرى كالموسيقى، كما في رسائل الملحن الكبير بليغ حمدي لي، الذي كان فخوراً بأنه أصغر سناً من جميع الذين لحنوا لتلك المشهورة المبدعة الكبيرة أم كلثوم..
فرسائل الحب ضوء كشاف على أعماق المبدع العاشق، وصورة عن عصره، وأنا ببساطة من ناشري رسائل الحب، ولكنني أولاً من محبيها وأحرص على مطالعتها باللغات التي أتقنها.. فالإبداع والحب كالتوائم المتصلة، لا يمكن فصلهما.
ألبير كامو عاشقاً
واليوم أستمتع بقراءة رسائل الحب التي كتبها المبدع ألبير كامو إلى ماريا كاساريس، التي أحبها حتى الجنون في إحدى فترات حياته. وصدرت عن دار غاليمار للنشر في باريس.
البير كامو هو الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام 1957 لكنه فيما يبدو لم يفز بجائزة الحب، ربما لأنه لم يكن يدري حقاً هل هو من العشاق أم لا.
إذ انه يكتب لحبيبته الجميلة الممثلة ماريا كاساريس العديد من الرسائل، ومما جاء فيها: في 30 أيار (مايو) 1950: الجو حار وثقيل، أحلم بجسدك العاري وغفواتك الخفيفة. البارحة استيقظت وأنا أناديك، حلمت بأنني داخل سجن الأشغال الشاقة في مدينة كايين وأصرخ وأنا أناديك كما لو كنت الخلاص، أنت انتصاري الصغير، أتعشقينني دائماً بتلك الكيفية المفرطة، أليس كذلك؟ أنا أعيش في القمة تمزقني السعادة باستمرار.. أحبك!
يا عزيزي ألبير كامو: وأنا أحب حبك لحبيبتك!
ولعل فوزك بحبها أهم عندك من جائزة نوبل التي فزت بها!
طه حسين كان رجلاً مسناً ومريضاً ذاهباً إلى موته.
وكنت ذاهبة إلى حياتي، وليس في رصيدي غير كتاب.. وقد رضي باستقبالي في الباخرة اوزونيا (المارة بمرفأ بيروت ترانزيت) فقد اتصل الدكتور الراحل سهيل ادريس (ناشري يومئذ) وذكر له اسم والدي الذي كان رئيساً للجامعة السورية قبل أن يصير وزيراً.. وربطته بطه حسين صلة مودة أبجدية حتى أن أبي جعلني أطالع كتاب «الأيام» له وأنا صغيرة.
وهكذا فوجئت حينما التقينا وحاورته بأنه عاتب على أدباء «الجيل الجديد» (كنت منهم يومئذ) وحوارنا نشرته في أحد كتبي: (ع غ تتفرس). أما سبب عتبه فهو لأننا لا نهديه كتبنا ليطلع عليها والحقيقة أنني لم أجرؤ على ذلك)! وكنت قد قرأت سيرته الذاتية في كتابه «الأيام» وأنا صغيرة، وكانت من القراءات التي اختارها أبي لي كما سبق وذكرت، لكنني اكتشفت مؤخراً أن بوسع طه حسين أن يكون خفيف الظل في إجاباته لو تجرأت على طرح أسئلة كهذه عليه في ذلك اللقاء اليتيم..
طه حسين: أختار أن يكون فأراً!
قرأت مؤخراً أن طه حسين أجاب عن سؤال: لو لم تكن آدمياً، ماذا كنت تحب أن تكون؟ وقال: أن أكون فأراً! أضاف: وقد تعجب لذلك وسيزول عجبك! إنني أريد هذا الاختيار لأعيش في مكتبة عامرة بشتى أنواع الكتب والمؤلفات، فأظل ألتهمها وأتغذى عليها عقلاً وجسماً وقلباً، فأنا أشكّ في أنني أستطيع أن أعيش بدون قراءة! ـ المصدر: مجلة قديمة اسمها «الإثنين والدنيا» عام 1951 كانت تصدر عن دار الهلال في مصر!.. إجابة غاية في الطرافة، لكنني يوم التقيته لم أكن أعرف ذلك ولم أجرؤ أصلاً إلا على طرح أسئلة جادة!
هذا المرفأ لم يعد موجوداً!
واليوم، حين أتذكر لقائي به في «مرفأ بيروت» على ظهر الباخرة اوزونيا، أتذكر بحسرة ذلك المرفأ والانفجار المروع في بيروت الذي دمر المرفأ ونصف بيروت وقتل أكثر من 200 مواطن، ولعل المزيد تحت الأنقاض، ودمر بيوت 300 ألف مواطن صاروا مشردين، ولم أكن يومها في بيروت لحسن حظي، ونجوت مرة أخرى من ميتة عنيفة ولا أدري حتى متى، فأنا مشتاقة إلى بيروت على الرغم من كل شيء، وأنتظر بشوق عودة طائرات (الميدل ايست) اللبنانية لنقلنا إلى بيروت.
من يحب تلك المدينة هو كعاشق دائم الاشتعال رغم الخطر الذي قد يدمره.. في بيروت.
بيروت، أفتقدك!
أفتقد بيروت على الرغم من أنف الانفجارات والكهرباء المقطوعة وبقية الكوارث التي تتقن بيروت معاقرتها، هذا إلى جانب وباء كورونا!
وسأتذكر دائماً طه حسين على ظهر الباخرة اوزونيا في مرفأ بيروت.. وكان ياما كان لبنان والمرفأ.. والبواخر.. وطه حسين على ظهر الباخرة ورفضه وزوجته استقبال المصور (فاروج) الذي رافقني وأعلنوا: لا صور. كنت أتمنى تلك الصور، لا لتصويري مع طه حسين وزوجته ومعاونه (فريد شحادة) فحسب، بل وأيضاً لتصوير مرفأ بيروت حين كان مزدهراً في ذلك الزمان.. قبل أن يصير مخزناً لمتفجرات ما، لدولة ما أو لميليشيا ما، والله أعلم!
أحب رسائل الحب!
في عالمنا العربي ما يشبه الهــــياج، وفي عالمنا العــــربي ما يشبه الهلع من نشر رسائل الحــــب لكبار الأدباء.. بل ويتم أرغام السيدة العربية التي وجهها إليها مبدع على تمزيقها أو عدم نشرها على الأقل. وهو ما لم أفعله وسأتابع نشر بعض رسائل الحب من مبدعين وصلتني، لقيمتها الإبداعية. فأنا سأموت كما مات من كتبها وسيموت الذين يهاجمون نشري لذلك، لكنها ستبقى بعد رحيلنا جزءاً من الأدب العربي الجميل.
نحن نخشاها وهم يفرحون بها
في الغرب يحتفون برســائل الحب، كما حدث يوم نشرت حبيبة رئيس الجمهورية الراحل ميتران رسائله إليها وهو متزوج وأب غير شرعي لابنتها مازارين التي اعترف بها، والتي جاءت مع أمها (عشيقته) في حفل طقوس دفنه وعانقتها زوجته الشرعية في اعتراف بحقائق الحياة.
رسائل حب المبدعين تراث أدبي!
الفرنسيون خاصة، والغربيون عامة، يحرصون على رسائل حب المبدعين الراحلين كجزء من تراثهم الأدبي ويحتفون بنشرها.. فكلنا سنموت، الذين قاموا بنشرها والذين أقاموا القيامة لذلك (كما حدث لي يوم نشرت رسائل غسان كنفاني لي، وبعده أنسي الحاج، وكما سأفعل مع رسائل مبدعة أدبياً أو لمبدعين في حقول أخرى كالموسيقى، كما في رسائل الملحن الكبير بليغ حمدي لي، الذي كان فخوراً بأنه أصغر سناً من جميع الذين لحنوا لتلك المشهورة المبدعة الكبيرة أم كلثوم..
فرسائل الحب ضوء كشاف على أعماق المبدع العاشق، وصورة عن عصره، وأنا ببساطة من ناشري رسائل الحب، ولكنني أولاً من محبيها وأحرص على مطالعتها باللغات التي أتقنها.. فالإبداع والحب كالتوائم المتصلة، لا يمكن فصلهما.
ألبير كامو عاشقاً
واليوم أستمتع بقراءة رسائل الحب التي كتبها المبدع ألبير كامو إلى ماريا كاساريس، التي أحبها حتى الجنون في إحدى فترات حياته. وصدرت عن دار غاليمار للنشر في باريس.
البير كامو هو الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام 1957 لكنه فيما يبدو لم يفز بجائزة الحب، ربما لأنه لم يكن يدري حقاً هل هو من العشاق أم لا.
إذ انه يكتب لحبيبته الجميلة الممثلة ماريا كاساريس العديد من الرسائل، ومما جاء فيها: في 30 أيار (مايو) 1950: الجو حار وثقيل، أحلم بجسدك العاري وغفواتك الخفيفة. البارحة استيقظت وأنا أناديك، حلمت بأنني داخل سجن الأشغال الشاقة في مدينة كايين وأصرخ وأنا أناديك كما لو كنت الخلاص، أنت انتصاري الصغير، أتعشقينني دائماً بتلك الكيفية المفرطة، أليس كذلك؟ أنا أعيش في القمة تمزقني السعادة باستمرار.. أحبك!
يا عزيزي ألبير كامو: وأنا أحب حبك لحبيبتك!
ولعل فوزك بحبها أهم عندك من جائزة نوبل التي فزت بها!