كان ذلك عندما ظهر هذا الديوان في بيروت، فكان فتحا جديدا، وخطوة جريئة في الشعر العربي المعاصر، باتجاهه الجديد، وسمو رسالته، وحرارة كلمته، للفظ حلاوة، وللخيال أجنحة من حسن وللجمال مرابع من صور وألوان، وللفكر قبس وهاج.
تلك هي الرسالة التي آمن بها مؤلف هذا الكتاب ميخائيل نعيمة، ايمانه بالحياة والجمال والحق.فنادى بها، ودعا قومه على أن يؤمنوا بها، ويخلصوا لها، ويعلموا على تحقيق أهدافها ومراميها في عهد «الاستعمار التقليدي»، وأعني به الاستعمار الأدبي، الذي سيطر مدة طويلة على الأقلام العربية فكبلها، وتحكم على شل عاطفتها، ووأد عذاري أفكارها.
في هذا الظرف من الخمول والجمود والتقليد، الذي مني به الأدب العربي، تلاقت عصبة من الأدباء اللبنانيين المهاجرين في نيويورك على غير موعد. فاتفقوا فيها على تأسيس رابطة أدبية مهمتها: انتشال الأدب العربي من هذه الوهدة السحيقة ببث روح جديد في عروقه وانعتاقه من عقاله، والأخذ بيده إلى طريق النور، والجمال، والحياة، والحرية.
فتأسست« الرابطة القلمية» سنة 1920 وكان من بين أعضائها البارزين: جبران خليل جبران- عميد ميخائيل نعيمة- سكرتير. ايليا ابو ماضي، ونسيت عريضة، وندره حداد أعضاء.
ومن ثم اخذ إنتاج هؤلاء يظهر في إعداد مجلة« السائح» التي كانت تطلع على الأدب العربي كحادث جليل جديد. فتنوه بها الصحف، وتنقل عنها، وتعلق عليها بإعجاب، وتدرس فصولها في المدارس. ولم يصبر أنصار التقليد على هذه العاصفة الهوجاء التي تهب على الأقطار العربية فتستأصل جذور وجذع أدبها الرث. فشرعوا ينقمون على أصحابها، وينعتونهم بالخروج عن حرمة الأدب العربي، واستهتارهم بأصول لغته.
بهذه الحرارة وهذا الحماس، شق الأدب الرابطي بعنف طريق مجده وأدى رسالته خير الأداء، بتحريره للأدب العربي من«استعماره التقليدي».فأعجب برسالته المعجبون، وتتلمذ في مدرسته طلاب الأدب المتحررون.
قصدت الحديث عن الأدب الرابطي، لأعطي فكرة خاطفة للقارئ الاسباني عن هذه الحلقة الرئيسية المركزية التي تعد بحق نقطة انطلاق في أدبنا العربي الحديث.
أما الفضل في تأسيس هذه الرباطة فيرجع إلى ميخائيل الذي كتب إليه رفيقه جبران يلح عليه بالحضور إلى نيويورك، للسعي في انجاز هذا المشروع، وغيره من المشاريع الأدبية.
ومعرفته بجيران تبدأ في سنة 1912 عندما التحق ميخائيل في خريفها بجامعة واشنطون التي تخرج منها بعد أربع سنوات بشهادتي : بكالوريوس في العلوم، وليسانس في الحقوق.
وأثناء دراسته في هذه الجامعة، كان ينشر من حين إلى حين في مجلة« الفنون» التي كان يصدرها في نيويورك رفيق صباه نسيب عريضه. وأول مقال كتبه في حياته هو مقال تعرض فيه لنقد قصة « الأجنحة المتكسرة» لجبران. فكان لهذا المقال صدى بعيد في نفس مؤلفه، وكان السبب المباشر في تعارفهما فيما بعد. ثم تلا هذا المقال بمقالات أخرى في النقد بجرأة نادرة، وصلابة حديدية، وتهكم لاذع. فندد بالكويتيين ذوي الوراثات الأدبية، وحمل حملة عاصفية على الشعراء الذين لبس لهم من فن الشعر إلا القوافي والأوزان، ورصف الألفاظ، وترفيع الأفكار، واجترار المعاني، فنكل بهم أشد التنكيل، دون رحمة أو شفقة. وجمع هذه المقالات في كتاب اسماه«الغربال» وصدر في مصر سنة 1923. وكان لصدوره ثورة ضد أقلامنا الرجعية. حيث اضطلع بموازين، وآراء جديدة في مفهوم رسالة الأدب الحي. وكررت طبعاته. وما زال لحد الآن، منارة يهتدي بنورها طلاب الفكر الجديد، والحرف الوضئ. وقبل أن يصدر هذا الكتاب، صدرت له مسرحية« الآباء والأبناء» التي كتبها سنة 1917 على أثر تخرجه من جامعة واشنطن، وهي مكتوبة باللغة العربية، واللهجة اللبنانية العامة. الا إنها عندي لم تلق النجاح الذي تستحقه، لان قسمها مكتوب باللهجة العامية اللبنانية الصميمة التي تجهلها البلدان العربية، ما عدا لبنان بالطبع. وحبذا لو عاد إليها مؤلفها من جديد، وكتب قسمها العامي بالفصيح. لأن فيها من جميل الحوار، وقوة المشاهد وغناها الشيء الكثير، زيادة على معالجتها لموضوع حيوي له قيمته ووزنه في المجتمع العربي، و الغيرالعربي.
وإلى جانب الشعر والنقد والمسرح، عالج نعيمة القصة والسيرة. وقد صدرت له مجموعته القص
للأذواق الأدبية. وهذه الكتب جميعها مع كتابيه« المراحل»و« همس الجفون» صدرت له وهو في مهجره الأمريكي.
و«جبران خليل جبران» هو كتاب أرخ فيه لرفيقه. ويعتبر تحفة فنية، ومن أحسن الكتب التي ألفت في الأدب العربي. تلاقت فيه الفلسفة، والفن، والموعظة، والحكمة، والشعر، والتوجيه، والنقد بأسلوب محكم مشرق، وأكسية أنيقة جديدة.
وقد عرف في هذا الكتاب كيف يعطي للأدب حقه، ولعاطفة الصداقة« بعض» حقها الا انه قد بالغ في نقد«جبران» من حيث أنه إنسان، لا من حيث انه أديب. فأظهر بعض هفواته الشخصية ومبادله التي لا تمت إلى الأدب والفن في شيء. وقد نقل هذا الكتاب مع أخيه« مذركات الارقش»إلى الانجليزية ونشرتهما المكتبة الفلسفية بنيويورك. فاستقبلتهما الصحافة الأمريكية والانجليزية استقبالا ممتازا. أما بالعربية فقد صدر الأول سنة 1934 والثاني سنة 1948.
وميخائيل نظم الشعر بالانجليزية والروسية. هذه اللغة التي بدأ يتعلمها منذ حداثته في مدرسته الابتدائية التي أنشأتها الجمعية الروسية الإمبراطورية في قريته بسكنتا التي شهدت ولادته سنة 1889. وبعد أن أتم دراسته فيها سنة 1902 انتقل من دار المعلمين الروسية إلى مدرسة « الناصرة» بفلسطين، وفيها تضلع في العربية والروسية. ومكافأة على جده وحزمه، أوفدته الجمعية الروسية سنة 1906 إلى معهد السينمار بمدينة بولتافا من أعمال أوكرانيا. وأقام في المعهد مدة خمس سنوات، درس فيها الأدب الروسي والآداب العالمية.
وقد ترجم بعد ذلك كل أشعاره المكتوبة بالانجليزية والروسية، وضمها إلى أشعاره العربية، وصدرت في ديوان« همس الجفون». ولم يعد إلى كتابة الشعر إلى يومنا هذا، أي منذ عشرين سنة، كما جاء في رسالة بعث بها في السنة الماضية.
ونعيمة اتخذ مذهبا فلسفيا سلكه بإيمان وإخلاص، ودعا الناس إلى سلوكه. وإذا تصفحنا كتبه« البيادر» 1945 « زاد المعاد»1936 « صوت العالم» 1948 « الأوثان» 1946 وسواها من كتبه، نجدها تبشر بهذا المذهب داعية إلى وجود إنسان واحد، تحت علم واحد، في بقعة واحدة، تحت قانون واحد هو : المحبة، التي لا تدين بأي دين، ولا تتعصب لأي جنس، أو أمة ، أو إقليم، ولا تتلون بأي لون من الألوان، أو ترتدي بشرة من البشر. فعواطفها تطوي الأبعاد، وتهزأ بالحدود، وتسخر بالخصومات والنعرات والأحقاد والاختلافات والعصبيات. وهو القائل في « البيادر» ص 44 « أحر به ان يمحو التخوم والحدود التي يقيمها بينه وبين أخيه الإنسان إذ لا تخوم في الله ولا حدود. أحر به أن يجعل من قلبه مائدة لكل ما في الكون، مثلما كل ما في الكون مائدة لقلبه. أحر به أن يعانق بفكره كل المخلوقات مثلما تعانق كل المخلوقات فكره. أحر به أن يغسل بدمه وزر جاره، من أن يلبس من جاره وزرا فوق أوزاره».
ومن هنا يطل علينا مذهبه الفلسفي « الحلولية»، هذا المذهب الذي يستهوي عادة الشعراء المثاليين المساويين، الحالمين أبدا بالجمال، المبشرين دائما بالمحبة والخير في صعيد الحق والنور. وليبس ميخائيل وحده من إتباع هذا المذهب. فبين شعراء العرب اليوم، كثير ممن تمذهبوا بهذا المذهب الذي يقول: « بالوحدة الجوهرية بين الله والعالم. فالله هو كل شيء. وما كونه الفسيح الا مظاهر متعددة لإلوهيته».
وتغلغل فيلسوف العرب ميخائيل بفكرة النشيط العميق في الكون، وما فيه من نبات، وجماد، وحيوان وما يحويه من ملموس وغير ملموس من منظور وغير منظور. فرأى الكون قوة هائلة تنفصل عن بعضها، لتمتزج بغيرها لتأدية الغاية التي انبثقت من اجلها: « تتصل الخليقة كلها بعضها فانتم في ارتباط سرمدي مع كل ما في الكون« البيادر» ص 50.
وليس في الكون شيء ولد عبثا حتى الأشياء التافهة في نظر نعيمة أزلية، لا لون لها ولا آخر. لأنها منحدرة من الله. والله أزلي خالد. « فالوجود بكل ما فيه من محسوس، وغير محسوس هو جسد الله الحي. وانتم منه. وأنا« البيارد» ص 49.
ويمكننا من هنا أن نستخلص إلا فرق عند نعيمة بين الإنسان، والجمادات والنباتات، الا من حيث الإدراك والوعي والحساسية. أما الغاية التي وجدوا جميعا من أجلها فواحدة. فلا موت ولا حياة، ولا حساب ولا عقاب، لهذا الإنسان. لأن الكون عند صاحبنا فوارة الهية أزلية خالدة بخلود اله. والله هو المحبة. لذلك كان الإنسان الصادر عن الله صورة لمصدره، فكان أوليا بأزليته، أبديا بابديته« البيادر» ص 62.
وليس من قصدي أن اتوسع في هذه الدراسة الخاطفة عن نعيمه وفلسفته في الحياة وما في الحياة من آلام، وأفراح، وأشواق، وأحلام، وشكوك، وغيرها. وحسبي إني فتحت كوة تجاه القارئ البعيد عن نعيمه. وحسب هذا القارئ أن يطل منها على هذا الفيلسوف المثالي الذي جاء مبشرا برسالة الخير والمحبة، والجمال، على أبناء العالم العربي، في ذلك الشرق، مهبط الوحي، ومنبع الروح. وليطلع أيضا على بعض اتجاهاته الفلسفية. وحسبه كذلك أن يرجع إلى هذا الديوان الذي ستطلع عليه صفحاته مشرقة فواحة بنور وعبير هذا الشاعر المفكر.
ويظهر لي أن نعيمة تأثر بمواعظ الإنجيل من جهة. وبروح الاشتراكية لا قشورها من جهة أخرى. وان هو لم يتأثر بالإنجيل كثيرا، فقد أثرت فيه قوالبه اللفظية دون شك ولا ريب. كقوله مثلا: « جردوا قلوبكم من مدافع الطمع، وحراب البغض، وقنابل الحسد»«لا تبغضوا أحدا من الناس...ابغضوا كل ما في الناس من ضعف واثم»«لا تكرهوا الظالم، اكرهوا الظلم»« لا تهربوا من الجاهل اهربوا من الجهل»« إن شئتم أن يكون علمكم الخارجي طاهرا...اغسلوا أيديكم بماء الغفران، وعطروها بشذى المحبة»« زاد المعاد».
ولا أجرؤ أن أقول رأيي في كتابه« مرداد» لأني لم أطلع عليه بعد. رغم أن مؤلفه بعث به إلي. الا أنه ضاع في البريد مع الأسف. هذا الكتاب الذي ألفه أولا بالانجليزية. وصدر في نيويورك عن دار المكتبة الفلسفية ثم نقله بعد ذلك إلى العربية. وفي مطلع هذه السنة صدرت بالهند- بومباي طبعة خاصة منه بالانجليزية. وكان له نجاح كبير بين الكتاب والمفكرين الهنود. فمنهم من أطلق عليه كتاب الساعة، ومنهم من أطلق عليه كتاب الجيل. واذكر أني قرأت في إحدى الصحف العربية الصادرة بالبرازيل مقالا مضمنه: ان أفكار«مرداد» قد أخذت تشق طريقها في نفوس الناس، حتى أن بعضهم قد تمسك بآرائه وأصبح يطبق حياته على حسب أفكاره ومعتقداته، ذاكرة أن هذا الكتاب أحسن كتب نعيمه« ناسك الشخروب». وهذا اللقب أطلقه عليه أدباء العرب لتوهمهم بتنسك صاحبه في شخروبة. و الشخروب هو عبارة عن مزرعة ورثها هو و اشقاؤه. وتقع في شرقي بسكنتا، وترتفع عن سطح البحر بنحو 6000قدم. ويوجد في هذه المزرعة كهف رهيب يركن إليه نعيمه وقت تنزلاته. وفيه كتب بعض مؤلفاته منها كتابه عن« جيران».
وقد اشتهرت هذه القرية- التي تبعد عن بيروت بنحو 45 كلم- بجمال طبيعتها، وغزارة مياهها. أما سكانها فقد عرفوا من قديم بحصافة رأيهم، وسداد فكرهم، وطول نفسهم في المنافسة والمناظرة والحكاية.
ولبسكنتا اليوم مكانة عظيمة في نفوس أدباء العرب الذين يقصدونها لزيارة فيلسوفهم من معجبين ومستفسرين وسائلين.
ونعيمة وجد سعادته وراحته في هذه القرية التي عاد إليها من أمريكا سنة 1932. وبهذه المناسبة أقيمت على شرفه ببيروت حفلة تكريم كبرى. ومنذ ذلك الحين وهو قابع فيها بين المطالعة والتأليف وتحضير المحاضرات لمنابر والمذاييع. ولم يعرف عليه يوما ما أنه سخر قلمه لهرج السياسة، أو عفر أدبه لمدح أحد كان من كان، أو خاض في جدال أدبي عقيم. ومن شانه الصراحة في القول، والصرامة في العدل. وللأدب عنده حرمته وقدسيته. وهو القائل في إحدى محاضراته: بعبادة الأدب. لم يتأثر بأي كاتب من الكتاب رغم إعجابه الشديد بالأدب الروسي، وبالخصوص دوستويفسكي. لأسلوبه شخصية قوية، وطابع إنساني. ويمتاز بغناه اللفظي وموسيقته، واستعاراته المبتكرة، وحرارة كلمته. وما زال لحد الآن في نشاطه الأدبي، ينتج باستمرار.
هذا هو ميخائيل نعيمه، رائد الأدب العربي المعاصر وهاديه. وهو الآن يتمتع بشهرة عريضة قي أمريكا وانجلترا وفرنسا والهند، بعد ما نقلت كتبه إلى لغات هذه الأقطار.
ولا أريد أن أقول شيئا في هذه الترجمة بعدما خبرت أصلها. ولا ترك الحكم للقارئ الاسباني نفسه، فهو حري بها. على أني أريد أن اشكر المستشرقة الدكتورة لينور مرتينث مرتين نيابة عن أدباء العرب، على قيامها بترجمة آثارها العربية إلى لغتها، وعلى ما ستقوم به من ترجمات مقدرا كل التقدير جرأتها وإقدامها على ترجمة هذا الديوان، رغم الصعاب التي توجد في ترجمة الشعر من لغة إلى لغة، خصوصا إذا كان بين اللغتين تنافر كما هو موجود بين العربية والاسبانية.
*
وهكذا انفجرت همسات هذا الديوان، بعد ما ضاقت في جفونها. فسعت إلى آفاق جديدة بأكسية اسبانية، كما تنفجر الدوحة بعد ما تضيق في بذرتها، منشدة ملاعب النور والنسيم والطيب.
محمد الصباغ
دعوة الحق
19 العدد
دعوة الحق - همس الجفون
تلك هي الرسالة التي آمن بها مؤلف هذا الكتاب ميخائيل نعيمة، ايمانه بالحياة والجمال والحق.فنادى بها، ودعا قومه على أن يؤمنوا بها، ويخلصوا لها، ويعلموا على تحقيق أهدافها ومراميها في عهد «الاستعمار التقليدي»، وأعني به الاستعمار الأدبي، الذي سيطر مدة طويلة على الأقلام العربية فكبلها، وتحكم على شل عاطفتها، ووأد عذاري أفكارها.
في هذا الظرف من الخمول والجمود والتقليد، الذي مني به الأدب العربي، تلاقت عصبة من الأدباء اللبنانيين المهاجرين في نيويورك على غير موعد. فاتفقوا فيها على تأسيس رابطة أدبية مهمتها: انتشال الأدب العربي من هذه الوهدة السحيقة ببث روح جديد في عروقه وانعتاقه من عقاله، والأخذ بيده إلى طريق النور، والجمال، والحياة، والحرية.
فتأسست« الرابطة القلمية» سنة 1920 وكان من بين أعضائها البارزين: جبران خليل جبران- عميد ميخائيل نعيمة- سكرتير. ايليا ابو ماضي، ونسيت عريضة، وندره حداد أعضاء.
ومن ثم اخذ إنتاج هؤلاء يظهر في إعداد مجلة« السائح» التي كانت تطلع على الأدب العربي كحادث جليل جديد. فتنوه بها الصحف، وتنقل عنها، وتعلق عليها بإعجاب، وتدرس فصولها في المدارس. ولم يصبر أنصار التقليد على هذه العاصفة الهوجاء التي تهب على الأقطار العربية فتستأصل جذور وجذع أدبها الرث. فشرعوا ينقمون على أصحابها، وينعتونهم بالخروج عن حرمة الأدب العربي، واستهتارهم بأصول لغته.
بهذه الحرارة وهذا الحماس، شق الأدب الرابطي بعنف طريق مجده وأدى رسالته خير الأداء، بتحريره للأدب العربي من«استعماره التقليدي».فأعجب برسالته المعجبون، وتتلمذ في مدرسته طلاب الأدب المتحررون.
قصدت الحديث عن الأدب الرابطي، لأعطي فكرة خاطفة للقارئ الاسباني عن هذه الحلقة الرئيسية المركزية التي تعد بحق نقطة انطلاق في أدبنا العربي الحديث.
أما الفضل في تأسيس هذه الرباطة فيرجع إلى ميخائيل الذي كتب إليه رفيقه جبران يلح عليه بالحضور إلى نيويورك، للسعي في انجاز هذا المشروع، وغيره من المشاريع الأدبية.
ومعرفته بجيران تبدأ في سنة 1912 عندما التحق ميخائيل في خريفها بجامعة واشنطون التي تخرج منها بعد أربع سنوات بشهادتي : بكالوريوس في العلوم، وليسانس في الحقوق.
وأثناء دراسته في هذه الجامعة، كان ينشر من حين إلى حين في مجلة« الفنون» التي كان يصدرها في نيويورك رفيق صباه نسيب عريضه. وأول مقال كتبه في حياته هو مقال تعرض فيه لنقد قصة « الأجنحة المتكسرة» لجبران. فكان لهذا المقال صدى بعيد في نفس مؤلفه، وكان السبب المباشر في تعارفهما فيما بعد. ثم تلا هذا المقال بمقالات أخرى في النقد بجرأة نادرة، وصلابة حديدية، وتهكم لاذع. فندد بالكويتيين ذوي الوراثات الأدبية، وحمل حملة عاصفية على الشعراء الذين لبس لهم من فن الشعر إلا القوافي والأوزان، ورصف الألفاظ، وترفيع الأفكار، واجترار المعاني، فنكل بهم أشد التنكيل، دون رحمة أو شفقة. وجمع هذه المقالات في كتاب اسماه«الغربال» وصدر في مصر سنة 1923. وكان لصدوره ثورة ضد أقلامنا الرجعية. حيث اضطلع بموازين، وآراء جديدة في مفهوم رسالة الأدب الحي. وكررت طبعاته. وما زال لحد الآن، منارة يهتدي بنورها طلاب الفكر الجديد، والحرف الوضئ. وقبل أن يصدر هذا الكتاب، صدرت له مسرحية« الآباء والأبناء» التي كتبها سنة 1917 على أثر تخرجه من جامعة واشنطن، وهي مكتوبة باللغة العربية، واللهجة اللبنانية العامة. الا إنها عندي لم تلق النجاح الذي تستحقه، لان قسمها مكتوب باللهجة العامية اللبنانية الصميمة التي تجهلها البلدان العربية، ما عدا لبنان بالطبع. وحبذا لو عاد إليها مؤلفها من جديد، وكتب قسمها العامي بالفصيح. لأن فيها من جميل الحوار، وقوة المشاهد وغناها الشيء الكثير، زيادة على معالجتها لموضوع حيوي له قيمته ووزنه في المجتمع العربي، و الغيرالعربي.
وإلى جانب الشعر والنقد والمسرح، عالج نعيمة القصة والسيرة. وقد صدرت له مجموعته القص
للأذواق الأدبية. وهذه الكتب جميعها مع كتابيه« المراحل»و« همس الجفون» صدرت له وهو في مهجره الأمريكي.
و«جبران خليل جبران» هو كتاب أرخ فيه لرفيقه. ويعتبر تحفة فنية، ومن أحسن الكتب التي ألفت في الأدب العربي. تلاقت فيه الفلسفة، والفن، والموعظة، والحكمة، والشعر، والتوجيه، والنقد بأسلوب محكم مشرق، وأكسية أنيقة جديدة.
وقد عرف في هذا الكتاب كيف يعطي للأدب حقه، ولعاطفة الصداقة« بعض» حقها الا انه قد بالغ في نقد«جبران» من حيث أنه إنسان، لا من حيث انه أديب. فأظهر بعض هفواته الشخصية ومبادله التي لا تمت إلى الأدب والفن في شيء. وقد نقل هذا الكتاب مع أخيه« مذركات الارقش»إلى الانجليزية ونشرتهما المكتبة الفلسفية بنيويورك. فاستقبلتهما الصحافة الأمريكية والانجليزية استقبالا ممتازا. أما بالعربية فقد صدر الأول سنة 1934 والثاني سنة 1948.
وميخائيل نظم الشعر بالانجليزية والروسية. هذه اللغة التي بدأ يتعلمها منذ حداثته في مدرسته الابتدائية التي أنشأتها الجمعية الروسية الإمبراطورية في قريته بسكنتا التي شهدت ولادته سنة 1889. وبعد أن أتم دراسته فيها سنة 1902 انتقل من دار المعلمين الروسية إلى مدرسة « الناصرة» بفلسطين، وفيها تضلع في العربية والروسية. ومكافأة على جده وحزمه، أوفدته الجمعية الروسية سنة 1906 إلى معهد السينمار بمدينة بولتافا من أعمال أوكرانيا. وأقام في المعهد مدة خمس سنوات، درس فيها الأدب الروسي والآداب العالمية.
وقد ترجم بعد ذلك كل أشعاره المكتوبة بالانجليزية والروسية، وضمها إلى أشعاره العربية، وصدرت في ديوان« همس الجفون». ولم يعد إلى كتابة الشعر إلى يومنا هذا، أي منذ عشرين سنة، كما جاء في رسالة بعث بها في السنة الماضية.
ونعيمة اتخذ مذهبا فلسفيا سلكه بإيمان وإخلاص، ودعا الناس إلى سلوكه. وإذا تصفحنا كتبه« البيادر» 1945 « زاد المعاد»1936 « صوت العالم» 1948 « الأوثان» 1946 وسواها من كتبه، نجدها تبشر بهذا المذهب داعية إلى وجود إنسان واحد، تحت علم واحد، في بقعة واحدة، تحت قانون واحد هو : المحبة، التي لا تدين بأي دين، ولا تتعصب لأي جنس، أو أمة ، أو إقليم، ولا تتلون بأي لون من الألوان، أو ترتدي بشرة من البشر. فعواطفها تطوي الأبعاد، وتهزأ بالحدود، وتسخر بالخصومات والنعرات والأحقاد والاختلافات والعصبيات. وهو القائل في « البيادر» ص 44 « أحر به ان يمحو التخوم والحدود التي يقيمها بينه وبين أخيه الإنسان إذ لا تخوم في الله ولا حدود. أحر به أن يجعل من قلبه مائدة لكل ما في الكون، مثلما كل ما في الكون مائدة لقلبه. أحر به أن يعانق بفكره كل المخلوقات مثلما تعانق كل المخلوقات فكره. أحر به أن يغسل بدمه وزر جاره، من أن يلبس من جاره وزرا فوق أوزاره».
ومن هنا يطل علينا مذهبه الفلسفي « الحلولية»، هذا المذهب الذي يستهوي عادة الشعراء المثاليين المساويين، الحالمين أبدا بالجمال، المبشرين دائما بالمحبة والخير في صعيد الحق والنور. وليبس ميخائيل وحده من إتباع هذا المذهب. فبين شعراء العرب اليوم، كثير ممن تمذهبوا بهذا المذهب الذي يقول: « بالوحدة الجوهرية بين الله والعالم. فالله هو كل شيء. وما كونه الفسيح الا مظاهر متعددة لإلوهيته».
وتغلغل فيلسوف العرب ميخائيل بفكرة النشيط العميق في الكون، وما فيه من نبات، وجماد، وحيوان وما يحويه من ملموس وغير ملموس من منظور وغير منظور. فرأى الكون قوة هائلة تنفصل عن بعضها، لتمتزج بغيرها لتأدية الغاية التي انبثقت من اجلها: « تتصل الخليقة كلها بعضها فانتم في ارتباط سرمدي مع كل ما في الكون« البيادر» ص 50.
وليس في الكون شيء ولد عبثا حتى الأشياء التافهة في نظر نعيمة أزلية، لا لون لها ولا آخر. لأنها منحدرة من الله. والله أزلي خالد. « فالوجود بكل ما فيه من محسوس، وغير محسوس هو جسد الله الحي. وانتم منه. وأنا« البيارد» ص 49.
ويمكننا من هنا أن نستخلص إلا فرق عند نعيمة بين الإنسان، والجمادات والنباتات، الا من حيث الإدراك والوعي والحساسية. أما الغاية التي وجدوا جميعا من أجلها فواحدة. فلا موت ولا حياة، ولا حساب ولا عقاب، لهذا الإنسان. لأن الكون عند صاحبنا فوارة الهية أزلية خالدة بخلود اله. والله هو المحبة. لذلك كان الإنسان الصادر عن الله صورة لمصدره، فكان أوليا بأزليته، أبديا بابديته« البيادر» ص 62.
وليس من قصدي أن اتوسع في هذه الدراسة الخاطفة عن نعيمه وفلسفته في الحياة وما في الحياة من آلام، وأفراح، وأشواق، وأحلام، وشكوك، وغيرها. وحسبي إني فتحت كوة تجاه القارئ البعيد عن نعيمه. وحسب هذا القارئ أن يطل منها على هذا الفيلسوف المثالي الذي جاء مبشرا برسالة الخير والمحبة، والجمال، على أبناء العالم العربي، في ذلك الشرق، مهبط الوحي، ومنبع الروح. وليطلع أيضا على بعض اتجاهاته الفلسفية. وحسبه كذلك أن يرجع إلى هذا الديوان الذي ستطلع عليه صفحاته مشرقة فواحة بنور وعبير هذا الشاعر المفكر.
ويظهر لي أن نعيمة تأثر بمواعظ الإنجيل من جهة. وبروح الاشتراكية لا قشورها من جهة أخرى. وان هو لم يتأثر بالإنجيل كثيرا، فقد أثرت فيه قوالبه اللفظية دون شك ولا ريب. كقوله مثلا: « جردوا قلوبكم من مدافع الطمع، وحراب البغض، وقنابل الحسد»«لا تبغضوا أحدا من الناس...ابغضوا كل ما في الناس من ضعف واثم»«لا تكرهوا الظالم، اكرهوا الظلم»« لا تهربوا من الجاهل اهربوا من الجهل»« إن شئتم أن يكون علمكم الخارجي طاهرا...اغسلوا أيديكم بماء الغفران، وعطروها بشذى المحبة»« زاد المعاد».
ولا أجرؤ أن أقول رأيي في كتابه« مرداد» لأني لم أطلع عليه بعد. رغم أن مؤلفه بعث به إلي. الا أنه ضاع في البريد مع الأسف. هذا الكتاب الذي ألفه أولا بالانجليزية. وصدر في نيويورك عن دار المكتبة الفلسفية ثم نقله بعد ذلك إلى العربية. وفي مطلع هذه السنة صدرت بالهند- بومباي طبعة خاصة منه بالانجليزية. وكان له نجاح كبير بين الكتاب والمفكرين الهنود. فمنهم من أطلق عليه كتاب الساعة، ومنهم من أطلق عليه كتاب الجيل. واذكر أني قرأت في إحدى الصحف العربية الصادرة بالبرازيل مقالا مضمنه: ان أفكار«مرداد» قد أخذت تشق طريقها في نفوس الناس، حتى أن بعضهم قد تمسك بآرائه وأصبح يطبق حياته على حسب أفكاره ومعتقداته، ذاكرة أن هذا الكتاب أحسن كتب نعيمه« ناسك الشخروب». وهذا اللقب أطلقه عليه أدباء العرب لتوهمهم بتنسك صاحبه في شخروبة. و الشخروب هو عبارة عن مزرعة ورثها هو و اشقاؤه. وتقع في شرقي بسكنتا، وترتفع عن سطح البحر بنحو 6000قدم. ويوجد في هذه المزرعة كهف رهيب يركن إليه نعيمه وقت تنزلاته. وفيه كتب بعض مؤلفاته منها كتابه عن« جيران».
وقد اشتهرت هذه القرية- التي تبعد عن بيروت بنحو 45 كلم- بجمال طبيعتها، وغزارة مياهها. أما سكانها فقد عرفوا من قديم بحصافة رأيهم، وسداد فكرهم، وطول نفسهم في المنافسة والمناظرة والحكاية.
ولبسكنتا اليوم مكانة عظيمة في نفوس أدباء العرب الذين يقصدونها لزيارة فيلسوفهم من معجبين ومستفسرين وسائلين.
ونعيمة وجد سعادته وراحته في هذه القرية التي عاد إليها من أمريكا سنة 1932. وبهذه المناسبة أقيمت على شرفه ببيروت حفلة تكريم كبرى. ومنذ ذلك الحين وهو قابع فيها بين المطالعة والتأليف وتحضير المحاضرات لمنابر والمذاييع. ولم يعرف عليه يوما ما أنه سخر قلمه لهرج السياسة، أو عفر أدبه لمدح أحد كان من كان، أو خاض في جدال أدبي عقيم. ومن شانه الصراحة في القول، والصرامة في العدل. وللأدب عنده حرمته وقدسيته. وهو القائل في إحدى محاضراته: بعبادة الأدب. لم يتأثر بأي كاتب من الكتاب رغم إعجابه الشديد بالأدب الروسي، وبالخصوص دوستويفسكي. لأسلوبه شخصية قوية، وطابع إنساني. ويمتاز بغناه اللفظي وموسيقته، واستعاراته المبتكرة، وحرارة كلمته. وما زال لحد الآن في نشاطه الأدبي، ينتج باستمرار.
هذا هو ميخائيل نعيمه، رائد الأدب العربي المعاصر وهاديه. وهو الآن يتمتع بشهرة عريضة قي أمريكا وانجلترا وفرنسا والهند، بعد ما نقلت كتبه إلى لغات هذه الأقطار.
ولا أريد أن أقول شيئا في هذه الترجمة بعدما خبرت أصلها. ولا ترك الحكم للقارئ الاسباني نفسه، فهو حري بها. على أني أريد أن اشكر المستشرقة الدكتورة لينور مرتينث مرتين نيابة عن أدباء العرب، على قيامها بترجمة آثارها العربية إلى لغتها، وعلى ما ستقوم به من ترجمات مقدرا كل التقدير جرأتها وإقدامها على ترجمة هذا الديوان، رغم الصعاب التي توجد في ترجمة الشعر من لغة إلى لغة، خصوصا إذا كان بين اللغتين تنافر كما هو موجود بين العربية والاسبانية.
*
وهكذا انفجرت همسات هذا الديوان، بعد ما ضاقت في جفونها. فسعت إلى آفاق جديدة بأكسية اسبانية، كما تنفجر الدوحة بعد ما تضيق في بذرتها، منشدة ملاعب النور والنسيم والطيب.
محمد الصباغ
دعوة الحق
19 العدد
دعوة الحق - همس الجفون