لقيتها ليتني ما كنت ألقاها!
تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها
أَثوابُها رثَّةٌ والرِّجْلُ حافيةٌ
والدمع تذْرفه في الخدِّ عيناها
بكت من الفقر فاحمرَّت مدامعها
واصفرَّ كالوَرْس من جوعٍ مُحياها١
مات الذي كان يحميها ويسعدها
فالدهر من بعده بالفقر أشقاها
الموت أفجعها والفقر أوجعها
والهمُّ أنحلها والغمُّ أضناها
فمنظر الحزن مشهود بمنظرها
والبؤس مرآهُ مقرونٌ بمرآها
كرُّ الجديدين قد أبلى عباءَتها
فانشقَّ أسفلها وانشق أعلاها
ومزَّق الدهرُ — ويلُ الدهرِ — مِئزرها
حتى بدا من شقوق الثوبِ جَنباها
تمشي بأطمارها والبرد يَلسعها
كأنه عقربٌ شالت زُباناها٢
حتَّى غدا جسمُها بالبردِ مرتجفًا
كالغُصن في الريح واصطكَّت ثناياها
•••
تمشي وتحمل باليُسْرى وليدَتها
حَمْلًا على الصَّدْر مدعومًا بيُمناها
قد قمَّطتها بأهدام ممزَّقةٍ
في العين منشرها سَمج ومَطواها
ما أنسَ لا أنسَ أني كنتُ أسمعها
تشكو إلى ربها أوصابَ دنياها
تقول: يا ربُّ لا تترك بِلا لبنٍ
هذي الرضيعة وارحمني وإياها
ما تصنع الأم في تربيب طفلتها
إن مسَّها الضرُّ حتى جفَّ ثدياها٣
يا ربُّ ما حيلتي فيها وقد ذبلت
كزهرة الروض فَقْدُ الغيث أظماها
ما بالها وهْي طول الليل باكيةٌ
والأمُّ ساهرة تبكي لمبكاها
يكاد ينقدُّ قلبي حين أنظرها
تبكي وتفتح لي من جوعها فاها
ويلُمِّها طفلةً باتت مروَّعة
وبتُّ من حولها في الليل أرعاها!٤
تبكي لتشكوَ من داءٍ ألمَّ بها
ولست أفهم منها كُنهَ شكواها
قد فاتها النطق كالعجماء أرحمها
ولست أعلم أي السقم آذاها
وَيح ابنتي إنَّ ريبَ الدهر روَّعها
بالفقر واليتم، آهًا منهما آها!
كانت مصيبتها بالفقر واحدةً
وموت والدها باليُتم ثنَّاها
•••
هذا الذي في طريقي كنت أسمعه
منها فأثَّر في نفسي وأشجاها
حتى دنوت إليه وهْي ماشيةٌ
وأدمعي أوسعت في الخدِّ مجراها
وقلت: يا أُختُ مهلًا إنني رجلٌ
أشارك الناس طُرًّا في بلاياها
سمعت يا أُخت شكوى تهمسين بها
في قالةٍ أوجعت قلبي بفحواها
هل تسمح الأخت لي أني أشاطرها
ما في يدي الآن أسترضي به الله
ثم اجتذبت لها من جيب ملحفتي
دراهمًا كنت أستبقي بقاياها٥
وقلت: يا أُخت أرجو منك تكْرمتي
بأخذها دونما مَنٍّ تغشَّاها
فأرسلتْ نظرة رعشاء راجفة
ترمي السهام وقلبي من رماياها
وأخرجَت زفَراتٍ من جوانحها
كالنار تصعد من أعماق أحشاها
وأجهشت ثم قالت وهي باكية:
واهًا لمثلك من ذي رقَّة واها!
لو عَمَّ في الناس حِسٌّ مثل حسِّك لي
ما تاه في فَلَوات الفقر مَن تاها
أو كان في الناس إنصافٌ ومرحمة
لم تشكُ أرملة ضَنكًا بدنياها
•••
هذي حكاية حالٍ جئت أذكرها
وليس يخفى على الأحرار مَغزاها
أَولى الأنام بعطف الناس أرملةٌ
وأشرف الناس مَن في المال واساها
ديوان معروف الرَّصافي
١- الورس: نبت أصفر يصبغ به.
٢- شالت: ارتفعت. والزبانة: الذنب.
٣- تربيب: تربية.
٤- ويلمها: أصله ويل لأمها.
٥- ملحفتي: الرداء الذي أرتدي به فوق ملابسي.
تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها
أَثوابُها رثَّةٌ والرِّجْلُ حافيةٌ
والدمع تذْرفه في الخدِّ عيناها
بكت من الفقر فاحمرَّت مدامعها
واصفرَّ كالوَرْس من جوعٍ مُحياها١
مات الذي كان يحميها ويسعدها
فالدهر من بعده بالفقر أشقاها
الموت أفجعها والفقر أوجعها
والهمُّ أنحلها والغمُّ أضناها
فمنظر الحزن مشهود بمنظرها
والبؤس مرآهُ مقرونٌ بمرآها
كرُّ الجديدين قد أبلى عباءَتها
فانشقَّ أسفلها وانشق أعلاها
ومزَّق الدهرُ — ويلُ الدهرِ — مِئزرها
حتى بدا من شقوق الثوبِ جَنباها
تمشي بأطمارها والبرد يَلسعها
كأنه عقربٌ شالت زُباناها٢
حتَّى غدا جسمُها بالبردِ مرتجفًا
كالغُصن في الريح واصطكَّت ثناياها
•••
تمشي وتحمل باليُسْرى وليدَتها
حَمْلًا على الصَّدْر مدعومًا بيُمناها
قد قمَّطتها بأهدام ممزَّقةٍ
في العين منشرها سَمج ومَطواها
ما أنسَ لا أنسَ أني كنتُ أسمعها
تشكو إلى ربها أوصابَ دنياها
تقول: يا ربُّ لا تترك بِلا لبنٍ
هذي الرضيعة وارحمني وإياها
ما تصنع الأم في تربيب طفلتها
إن مسَّها الضرُّ حتى جفَّ ثدياها٣
يا ربُّ ما حيلتي فيها وقد ذبلت
كزهرة الروض فَقْدُ الغيث أظماها
ما بالها وهْي طول الليل باكيةٌ
والأمُّ ساهرة تبكي لمبكاها
يكاد ينقدُّ قلبي حين أنظرها
تبكي وتفتح لي من جوعها فاها
ويلُمِّها طفلةً باتت مروَّعة
وبتُّ من حولها في الليل أرعاها!٤
تبكي لتشكوَ من داءٍ ألمَّ بها
ولست أفهم منها كُنهَ شكواها
قد فاتها النطق كالعجماء أرحمها
ولست أعلم أي السقم آذاها
وَيح ابنتي إنَّ ريبَ الدهر روَّعها
بالفقر واليتم، آهًا منهما آها!
كانت مصيبتها بالفقر واحدةً
وموت والدها باليُتم ثنَّاها
•••
هذا الذي في طريقي كنت أسمعه
منها فأثَّر في نفسي وأشجاها
حتى دنوت إليه وهْي ماشيةٌ
وأدمعي أوسعت في الخدِّ مجراها
وقلت: يا أُختُ مهلًا إنني رجلٌ
أشارك الناس طُرًّا في بلاياها
سمعت يا أُخت شكوى تهمسين بها
في قالةٍ أوجعت قلبي بفحواها
هل تسمح الأخت لي أني أشاطرها
ما في يدي الآن أسترضي به الله
ثم اجتذبت لها من جيب ملحفتي
دراهمًا كنت أستبقي بقاياها٥
وقلت: يا أُخت أرجو منك تكْرمتي
بأخذها دونما مَنٍّ تغشَّاها
فأرسلتْ نظرة رعشاء راجفة
ترمي السهام وقلبي من رماياها
وأخرجَت زفَراتٍ من جوانحها
كالنار تصعد من أعماق أحشاها
وأجهشت ثم قالت وهي باكية:
واهًا لمثلك من ذي رقَّة واها!
لو عَمَّ في الناس حِسٌّ مثل حسِّك لي
ما تاه في فَلَوات الفقر مَن تاها
أو كان في الناس إنصافٌ ومرحمة
لم تشكُ أرملة ضَنكًا بدنياها
•••
هذي حكاية حالٍ جئت أذكرها
وليس يخفى على الأحرار مَغزاها
أَولى الأنام بعطف الناس أرملةٌ
وأشرف الناس مَن في المال واساها
ديوان معروف الرَّصافي
١- الورس: نبت أصفر يصبغ به.
٢- شالت: ارتفعت. والزبانة: الذنب.
٣- تربيب: تربية.
٤- ويلمها: أصله ويل لأمها.
٥- ملحفتي: الرداء الذي أرتدي به فوق ملابسي.