د. هشام شرابي - صـورة شـخـصـيـة عـن قُـرب لأنـطـون سـعـاده

أضاء سعاده سماءنا لحظة كالشهب ثم اختفى. لكنه فعلاً لم يختفِ. ها نحن نحتفي بمرور مئة عام على ميلاده، وها نحن قد أتممنا جمع أعماله الكاملة في أحد عشر مجلداً نضعها في أيدي الاجيال الطالعة. نحن مدينون لهذا الانجاز الكبير الى مؤسسة سعاده الثقافية وللباحثين والعاملين فيها.

أذكر اليوم الذي شاهدته فيه للمرة الاولى. وكان لدى عودته من المهجر في آذار عام ،1947 أي سنتين وبضعة أشهر قبل انطلاق الثورة القومية الاجتماعية الاولى وإعدامه. كان آتياً من طريق القاهرة حيث ذهب نعمة ثابت وأسعد الاشقر لاطلاعه مسبقاً على التغييرات السياسية في لبنان بعد الاستقلال ولإيضاح المحاذير التي يتوجّب عليه الانتباه اليها عند إلقاء خطابه الاول والمقرر مسبقاً عند وصوله الى بيروت.

كنا في انتظاره في مطار بيروت القديم، فؤاد نجار ولبيب زويا وجورج عطية وأنا.

أراه من بعيد ينزل سلّم الطائرة ويلوّح بيده اليمنى للآلاف من القوميين الذين أتوا لاستقباله من انحاء لبنان كافة ومن فلسطين وشرق الاردن والشام. مشى يحيط به اعضاء المجلس الاعلى والمسؤولون في الحزب. رأيت فايز صايغ وكان عميد الاذاعة آنذاك، وعبدالله سعاده وعصام محايري يسيرون الى جانبه. اما جورج عبد المسيح فقد كان يركض من مكان الى آخر. في ذلك الوقت لم يكن عبد المسيح أميناً في الحزب ولم يكن يتمتّع بسلطة او موقع متميز فيه وكان يتفادى البروز في المناسبات الحزبية العامة كافة.

عقد الاجتماع الذي ألقى فيه سعاده خطابه بعد مغادرته المطار في بيت نعمة ثابت (لا يزال قائماً بالقرب من مستديرة المطار). وقفت أنا وفؤاد الى جانب المنصّة حيث كان في الامكان رؤيته عن قرب. أذكر هواء البحر يهبّ علينا ناعماً من النوافذ المفتوحة على مصارعها. كان يوماً ربيعياً نادراً بسمائه الزرقاء وبعبير اشجار الصنوبر المحيطة وبالدفء والفرح الذي يتأجج في صدورنا. يقف امامنا صامتاً ينظر الى الوجوه المتطلعة اليه مبتسماً. ثم يقول: "هذا اليوم هو أسعد يوم رأيته في حياتي حتى اليوم". وترتفع الهتافات. من كان يظن ان ذلك اليوم قد حدّد بداية العدّ التنازلي لحياة لم يتبقّ لها الا فترة سنتين وبضعة أشهر على هذه الارض.

2

كان الخطاب منعطفاً سياسياً مهماً، فيه أقرّ سعاده بواقع استقلال الكيان اللبناني وبالدولة اللبنانية لكن دون التنازل عن مفهوم الأمة السورية. قال: "أعظم حقيقة لهذا الاستقلال هي أنها الخطوة الاولى التي نقول إن خطوات أخرى ستعقبها الى أن تنال الأمة الأمل الاخير الذي ترمي اليه" (الاعمال الكاملة، ج،1 ص205).

أعلن، من ناحية أخرى، وللمرة الاولى، ان العراق (ما بين النهرين) جزء من الأمة السورية وأنه يكوّن الى جانب لبنان والشام والاردن وفلسطين جزءاً من الوطن السوري. هذا ما رمى اليه عندما اضاف: "إن عملكم القومي كان أصدق تعبير عن ارادة الأمة في لبنان وفي الشام وفي فلسطين وفي شرق الاردن وفي ما بين النهرين" (المصدر نفسه).

وأكد مركزية القضية الفلسطينية والصفة القومية للصراع ضد الاستعمار الصهيوني.

قال: "إن انقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم، كما هو أمر شامي في الصميم، كما هو أمر فلسطيني في الصميم. إن الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سوريا كلها، هو خطر على جميع هذه الكيانات" (المصدر نفسه).

ما أدهشنا وأعاد الينا الثقة بأنفسنا وبالحزب كان ليس فقط ما قاله في خطابه بل ايضاً اسلوبه القوي الهادئ واللغة الجديدة التي تكلم بها والوضوح التام الذي أسبغته هذه اللغة الجديدة على كل القضايا التي تناولها في خطابه. في لحظة وامضة لمحتُ الاسلوب الذي كنّا نسعى اليه للخروج من اللغة الانشائية الخشبية العتيقة التي حكمت تفكيرنا وعرقلته، وتبيّنت إمكان الدخول في خطاب حيّ نعيش فيه. لغة تعكس حقيقة حياتنا وتجاربنا وتكشف عن حقيقة الواقع الذي نعيشه.
قبل أن يغادر سعاده المكان دعانا نعمة ثابت للتعرف اليه. بدا عن قرب شاباً أصغر من عمره. صافحنا بحرارة. سألنا عن دراستنا وبدا كأنه يودّ أن يجلس معنا ويتحدث الينا. قال وهو يسير للخروج: "سوف نلتقي قريباً. سنلتقي قريباً".

3

في اليوم التالي صدرت في حقه مذكرة التوقيف. رفض الحضور امام المسؤول القضائي وأصدر بياناً وجّهه الى الشعب مباشرة أكد فيه ثانية "اعتراف" الحزب بالكيان اللبناني واحترامه له: "إن الجموع القومية الاجتماعية من لبنان وخارجه تعترف [بهذا الكيان] وتحترمه، ولا يعقل أن أكون أنا ابن لبنان خارج هذا الاعتراف... فأنا لم آتِ بعد غياب نحو تسع سنوات، لأكون حرباً على هذا الكيان بل لأكون قوة فيه وله" (المصدر نفسه).
لكن الحكومة لم ترضَ بهذا الرد وأمرت بملاحقته والقبض عليه. وكان ردّ سعاده أن اعتصم في المناطق القومية الاجتماعية وانشأ مكتباً متنقلاً لادارة شؤون الحزب. واستمرت الملاحقة الى كانون الاول ،1947 عندما تم التوصل الى تسوية مع السلطات اللبنانية، فسُحبت مذكرة التوقيف ونزل سعاده الى بيروت وأقام في شقة بالقرب من الجامعة الاميركية.

في فترة الملاحقة لم يكن أحد يعرف مكان وجود سعاده وتنقلاته الا بعض المسؤولين في الحزب. لذلك كانت مفاجأة مفرحة أن تصلنا أنا وفؤاد دعوة للاجتماع به. أذكر ذلك اليوم بالتحديد (4/4/1947) فقد كان يوم عيد ميلادي العشرين. أقلّتنا السيارة من امام "المين غيت" مدخل الجامعة الرئيسي، وسارت بنا نحو الشوف. كان في انتظارنا في بيت صغير في عين عنوب (بلدة جوزف سلامة) ورحّب بنا بحرارة، وجلسنا في غرفة تطل على صحراء الشويفات وشاطئ الاوزاعي والبحر. تحدثنا ما يقارب الساعتين، او بالاحرى، تحدّث هو الينا ما يقارب الساعتين في موضوعات مختلفة، عن تأسيس الحزب وتجربته في عهد الانتداب، وعن فترة الحرب واعتقال معظم اعضائه البارزين، وعن مرحلة الاستقلال واعادة تنظيم الحزب باسم "الحزب القومي" وعن الاجراءات التي يجب اتخاذها الآن لاعادة بناء الحزب وبخاصة من الناحية العقائدية والفكرية. قال إنه يتوقع منّا نحن الجامعيين المساهمة الفعالة في عملية الاصلاح واعادة البناء. تحدث بالتفصيل، وأعني بالتفصيل الدقيق في كل القضايا التي تطرّق اليها. ولم ينته الحديث. قمنا للتمشي على الطريق العام المقفر من السيارات والمارة، والاستمرار في الحديث حتى غياب الشمس.

شكّل ذلك اللقاء بالنسبة لي تجربة فكرية عميقة. لم نتكلم كثيراً فؤاد وأنا. الاسئلة والملاحظات القليلة التي طرحناها كانت بمثابة فترات استراحة مكّنتنا من متابعة تدفق الافكار التي كان يُلقيها وكأنها نص مكتوب جاهز في ذهنه. كم أنا نادم لعدم تسجيل كلماته في حينه، لكن ما يخفّف من الندم أن معظم ما قاله في الفكر والعقيدة قاله في ما بعد في اجتماعات الندوة الثقافية عام 1948 ونُشر في "النظام الجديد".
عيّننا أنا وفؤاد ناموسين في مكتب الزعيم، وخلال الاشهر الباقية قبل مغادرتي الى اميركا في كانون الاول 1947 كنت أجتمع به دورياً في الامكنة التي كان ينوجد فيها في الجبل، ومع قدوم الصيف وانخفاض الكبسات العسكرية اصبحت ضهور الشوير مقرّه في معظم الاوقات. في تلك الفترة تركّزت مسؤوليات فؤاد على الامور الكتابية والعلاقات الادارية، فلم يحضر الاجتماعات الا نادراً، في حين حضرتُ أنا معظم جلسات مجلس العُمد والمقابلات التي كان يُجريها مع الصحافيين واجتماعاته بسيل الزائرين من انحاء البلاد كافة وخارجها. هذا بالاضافة الى الجلسات الخاصة التي دعاني اليها احياناً للتحدث في الشؤون الفكرية والعقائدية التي بدأ في إثارتها آنذاك عدد من المثقفين البارزين في الحزب مثل غسان تويني وفايز صايغ ويوسف الخال. غير أنه نادراً ما استدعاني للمشاركة في الاجتماعات التي كان يعقدها مع السياسيين الذين كانوا في هذه الفترة يأتونه للتباحث في الامور الانتخابية والسياسات المحلية، ولم يزعجني ذلك ابداً. الا انه لم يصطحبني بزيارة مهمة قام بها سراً لعمان للاجتماع بالامير عبدالله ولم يُعلمني بها الا بعد عودته من شرق الاردن. كنت أتمنى لو أنه دعاني لمرافقته لحضور ذلك الاجتماع الممتع.

فمما ذكره لي عن اللقاء أنه كان تجربة فذة، وإن لم تأتِ بنتيجة. في ذلك الاجتماع واجه سعاده بشكل مباشر السلطة البطركية (السورية) بشكلها الكامل. يظهر أن الامير لم يبلّغ بشكل واضح عن ماهية ضيفه وهدف زيارته. والارجح أنه ظنّه أحد الزائرين الذين يأتون الى الديوان الاميري يومياً للسلام على الامير وتقبيل كتفه ولتناول القهوة والاستماع الى الحديث الجاري في الديوان. يمكن تصور ردة فعل الامير عبدالله عندما أخذ سعاده في تعريف الحركة القومية الاجتماعية وأهدافها. واضح أن الامير لم يفهم ما قاله سعاده. كانت سوريا بالنسبة اليه سوريا الكبرى وبلاد الشام، اي الارض التي كان يريد ان يتوّج ملكاً عليها.
من الصعب تصوّر تناقض أوضح من هذين النموذجين: سعاده بفكره المتنور الحديث وعبدالله بفكره الأبوي القبلي. لست أدري لو أن المفاهيم التحليلية التي نستعملها اليوم لتحليل الواقع الاجتماعي ونظامه السياسي كانت متوافرة لسعاده هل يا ترى كانت مكّنته من اكتشاف التناقضات التي كانت تنهش قلب المجتمع الأبوي الذي قرر أن يسخّر حياته لتحريره؟ في استطاعتنا القول اليوم إن نقطة الضعف القاتلة في مشروع سعاده النهضوي ربما كانت تكمن في عدم استيعاب سعاده لحقيقة واقع المجتمع السوري وتناوله هذا الواقع من خلال مفاهيم مثالية جعلته يعتقد، مثلاً، أن "فصل الدين عن الدولة" كان أمراً بديهياً يسهل تحقيقه بالتنوير والتثقيف العقائدي الخ.

في اعتقادي أنه لم يدرك تماماً تركيبة الثقافة الأبوية المعقدة وقدرتها على الوقوف في وجه التغيير، اذا كان التغيير المقصود حقيقياً أي بنيوياً وجذرياً. رأى في حزبه تجسيداً للمناقب التي كان واثقاً أنها ستغيّر هذا الواقع وتخلق الانسان السوري الجديد، الامر الذي لم يكن في الواقع واضحاً وممكناً. لم يدر في خلده، مثلاً، ان هذه الثقافة الأبوية نفسها كانت تعشش داخل الحزب وتعمل على تدجينه وتطويعه وتعزيز القيم والعلاقات الأبوية فيه.

أكثر ما حزّ في نفسي في تلك الفترة، الوحدة التي عاشها سعاده داخل الحزب. لم يكن حوله من كان على مستواه الفكري يستطيع التفاعل واستقراء حقائق الواقع معه، لا في مجلس العُمد ولا في المجلس الاعلى ولا في الفئات المثقفة في الحزب. بعد خروج فخري معلوف من الحزب، وكان ساعده الأيمن طوال سنوات التأسيس إثر انضمامه الى حركة كاثوليكية متعصبة في بوسطن، لم يكن هناك أحد يحلّ مكانه. كان دائماً يذكره عندما تبرز صعوبات داخلية او عندما يرهقه العمل وحيداً فيردد: "لو كان فخري موجوداً لما حدث ذلك".

4

في الاخير لم يمانع في مغادرتي الى الولايات المتحدة لتكملة دراستي للدكتوراه بل إنه شجعني على ذلك. عندما غادرت بيروت في شتاء 1947 برفقة فايز صايغ كانت مذكرة التوقيف قد سوّيت فانتقل الى رأس بيروت مع عائلته وأقام في بيت أعرفه جيداً منذ ايام دراستنا في الجامعة الاميركية. وعدت الى بيروت في كانون الثاني 1949 بعد مرور سنة من دون أن أكمل دراستي للدكتوراه في جامعة شيكاغو للانضمام اليه والعمل في الحزب الى جانبه. سافرت بالباخرة في الدرجة الثالثة ووصلت الى بيروت في الساعة السادسة صباحاً، ولم أجد في انتظاري أحداً من اصدقائي. رأيتُ رجلاً لا أعرفه يلوّح اليّ، كان موظفاً أرسله رجا بارودي لتدبير أموري وليقلّني بالسيارة الى بيت أم فخري حيث كان في انتظاري حول مائدة الفطور جوزف سلامة وأخوه جورج ورجا بارودي وفوزي معلوف الأخ الاصغر لفخري. لم يأتوا لاستقبالي في المرفأ لأنهم انتظروني في اليوم السابق ساعات عدة وتأخرت الباخرة في الوصول بسبب عاصفة هبت أثناء الليل.
أقمتُ في بيروت من مطلع كانون الثاني 1949 حتى أواخر حزيران عندما شنّت حكومة بشارة الخوري ورياض الصلح حملتها المدبّرة ضد الحزب واعتقلت جميع أفراده في لبنان الا الذين تمكنوا من الفرار. استأجرت لي والدتي غرفة في بيت صغير يقع على نزلة الحمام العسكري بالقرب من البناية التي أقامت فيها مع عائلة جدتي بعد هربهم من عكا.

في هذه الاشهر الاخيرة توطّدت علاقتي الفكرية والوجدانية بسعاده. عيّنني وكيلاً لعمدة الثقافة فكانت اجتماعاتنا يومياً تقريباً. وفي تلك الايام المشمسة كنا احياناً نتمشى على الكورنيش المقفر دائماً من السيارات والمارة، يتبعنا حارسه علي في لباسه العسكري الذي جلبه معه من عكا حيث كان يعمل بوليساً في دائرة البوليس البريطاني. وفي عطلة الاسبوع كان يأتي جوزف سلامة بسيارته (سيارة خاله منير أبو فاضل التي كانت تحمل نمرة فلسطينية) فنمرّ ببيت الزعيم فاذا وجدناه وحيداً نصطحبه الى أحد مقاهي الروشة التي كانت معظمها فارغاً من الناس في فترة قبل الظهر. في كتابي "الجمر والرماد" هناك صورة التقطها مصوّر أرمني في مقهى الغلاييني (حيث يقوم اليوم أوتيل موفنبيك) يظهر فيها سعاده وأنا الى جانبه وقبالتنا يجلس جوزف وفؤاد نجار ولبيب زويا. وأحياناً كنا نذهب الى المقهى السويسري في الدورة للتمتع بعبير أزهار اشجار البرتقال واحتساء الشاي والتحدث في موضوعات مختلفة في الفكر والأدب وفي شؤون الحزب. كان سعاده مستمعاً نادراً، ربما عادة الصمت والامتناع عن الكلام أحيا ناً التي ينتقدها فيّ بعض اصدقائي قد نقلتها عن سعاده مما يعزّزها في نفسي وكان يسائلنا ويدفعنا الى الكلام ولا يقاطعنا عندما نبدي آراءنا كما كان يفعل اساتذتنا في الجامعة. في تلك الجلسات الحميمة كان نادراً ما يسترسل في الكلام كعادته في اجتماعات الندوة الثقافية او في بيته مع الزائرين، فيتحول الحوار الى نوع من المحاضرة. كان يحدث هذا ايضاً في المجالس الحزبية الرسمية مثل جلسات مجلس العمد التي حضرتُ عدداً منها والتي كانت تمتد احياناً حتى الفجر بسبب مداخلاته الطويلة وتعليقاته المفصلة حول الموضوعات المطروحة سياسية كانت أم ادارية.

بعد انتقال جريدة "الجيل الجديد" الى مكاتبها الجديدة في الجميزة في اواخر حزيران ،1949 استمررتُ في كتابة مقالي "حياتنا الجديدة" وفي تحرير "النظام الجديد"، مجلة الحزب الفكرية. ظهرت "حياتنا الجديدة" في الجريدة بحلتها الجديدة التي أسبغها عليها الفنان رأفت بُحيري في الصفحة الاخيرة بإمضاء "زينون" الذي كنت استعمله في كتاباتي العقائدية والحزبية. وفي اليوم التالي تسلّم رئيس التحرير (كان آنذاك وديع الاشقر) رسالة من سعاده يطلب اليه أن يضع "حياتنا الجديدة" في الصفحة الاولى والى جانبه المقال الافتتاحي (الذي كان يكتبه عادة من دون توقيع).

لا أذكر موضوع ذلك المقال الذي أعجبه من "حياتنا الجديدة" لكن قراره نقل مقالاتي الى جانب افتتاحياته في الصفحة الاولى جعلني أشعر بثقل المسؤولية التي قرّر أن يوليني إياها.

5

كان اسلوبه في التعامل مع المسؤولين حوله قائماً على معايير موضوعية لا مكان فيها للعلاقات الشخصية. اما طريقته في التواصل الداخلي في الحزب فكانت دائماً رسمية بواسطة الرسائل الصادرة عن مكتب الزعيم حتى لو كان المعني بالامر موجوداً يومياً في المركز. كانت تلك الفترة بداية مرحلة جديدة في الحزب تقوم على اعادة النظام والادارة العقلانية التي ميّزت الحزب في الثلاثينات وتلاشت بعد غيابه اثناء فترة "الحزب القومي".
كان مشروع سعاده، في المصطلحات التي استعملها وفي البنية الفكرية التي تمثلها مجموعة كتاباته الاجتماعية والسياسية مشروعاً تحريرياً ومشروعاً تحديثياً في آن واحد. فيه رفض نظام الدولة الليبيرالية البرلمانية القائمة على الرأسمالية الامبريالية كما رفض نظام الدولة الفاشية المتطورة في تجلياتها الالمانية والايطالية، كما رفض النظام الشيوعي الروسي. عند عودته عام 1947 تحدث للمرة الاولى عن نظام اجتماعي آخر: نظام يجمع بين المادي والروحي، ما سمّاه المدرحية. نظام أقرب الى النظام الشعب Populist القائم على قيادة الفرد الممثلة لارادة الجماهير منه الى نظام الايديولوجيات المعاصرة، ولهذا النظام تاريخ طويل في حياة اميركا اللاتينية السياسي، وخاصة في الارجنتين في فترة الحرب العالمية الثانية وسنوات ما بعد الحرب.

لم يكتمل مشروع سعاده لتحرير سوريا وبناء المجتمع السوري الحديث من خلال العمل الحزبي على ارض الواقع السياسي لكنه اكتمل، في نظري، في حياته، في ما أراده لنفسه في الحياة، وفي موته. إنه لم يرم يوماً الى تسلّم السلطة التي اعتبرها مجرّد أداة، وتقبّل الموت راضياً عندما فشلت الثورة التي أعلنها مع عساف كرم ضد الحكومة اللبنانية. ليس صدفة ان يدعو هذه الثورة "الثورة القومية الاجتماعية الاولى". ففي يقينه كانت هناك ثورة (او ثورات) ستقوم في المستقبل باسمه وباسم العقيدة السورية القومية الاجتماعية. لم يهمه كثيراً أن يحدث ذلك وهو ليس على قيد الحياة.

وعلى رغم كل الصعوبات التي واجهها، وبخاصة العداء الكليّ الذي جابهه على يد الاستعمار الفرنسي والقمع والبطش على يد حكم الائتلاف الطائفي، فقد تمكّن من صياغة رؤية متكاملة لحركة تحرير وتحديث لسوريا والعالم العربي لا نظير لها في القرن العشرين: في كتاباته لا نجد رؤية كاملة للمجتمع والدولة وحسب، بل مفاهيم ومصطلحات فجّرت القوالب الفكرية التقليدية وأرست أسس وعي علماني جديد للتاريخ والمجتمع والدولة.

ما ميّز لغته، جمعه بين مفردات النهضة ومفاهيم جديدة من صنعه صيغت في جمل وعبارات يبرز فيها المعنى نقياً ساطعاً كالنقد الجديد. في هذه اللغة لا يطغى الغلاف اللغوي الخارجي على المضمون، كالذي طغى على كتابتنا العربية في القرن العشرين ولا يزال. من هنا حداثة اسلوبه الادبي المجسّد، مثلاً، في "الصراع الفكري في الادب السوري" الذي يشكل، رغم افتقاره الى الوحدة والتسلسل، اختراقاً مهماً في منهجية النقد الحضاري للفكر الأبوي الغائم المضطرب. كان يحب اللغة العربية الفصحى ويصرّ على استعمالها في تعامله اليومي مع ابنتيه الصغيرتين صفية واليسار. حاول بضع مرات أن يكلمني أنا ايضاً بالفصحى، لكنه عزف عن ذلك عندما وجدني مصرّاً على الاجابة متمتماً كل مرة باللغة العامية الفلسطينية.

6

غيّر سعاده مجرى حياتنا، حياتي وحياة افراد كثيرين من الجيل الذي انتميتُ اليه، لا بكلامه الساحر وفكره النيّر وقوة شخصيته الكاريزماتية وحسب، إنما وفي الدرجة الاولى بحيويته الخارقة وحضوره الشامل. جاء ليعلّمنا كيف نعيد صنع أنفسنا، كما أعاد صنع نفسه، بوضع المصلحة العامة فوق كل مصلحة. لكن كان ذلك في مجتمع أبوي لا يعرف الا المصلحة الذاتية الخاصة، فجسّد التناقض الكلي المميت بين النموذج الأبوي الذي جاء لإسقاطه والنموذج الحديث الذي مثّله بصراعه وحياته وموته.

بهذا كان سعاده بالفعل سابقاً لأوانه، سابقاً بالمعنى الذي رمى اليه كتاب جبران خليل جبران الصادر عام 1917 بالانكليزية بعنوان The Forerunner (أي السابق زمانه) حيث يقول جبران في مطلع الكتاب: "أنت سابق نفسك يا صاح، وما الابراج التي أقمتها في حياتك سوى أساس لذاتك الجبارة. وهذه الذات في حينها ستكون اساساً لغيرها".

والآن السؤال: لو كُتب لسعاده ان يعيش وأن يتسلم الحكم، ما النظام الذي كان حققه؟

يقول أعداء سعاده والذين لم يفهموه او لم يقرأوه او عادوه أنه كان سيقيم نظاماً ديكتاتورياً ينهض على الزعامة المنفردة والسلطة الشاملة. ربما، لكن ليس هناك ما يدعم هذا الافتراض. في نظري، الافتراض الأقرب هو توجّهه لإرساء نظام جديد في مجتمعات الهلال الخصيب قادر على تحقيق الاستقلال الوطني وبناء الدولة العلمانية الحديثة التي تكوّن قدوة ومثالاً للعالم العربي بأجمعه.

في كل الحالات إني متأكد أنه لو نجح سعاده في إرساء النظام القومي الاجتماعي الذي نادى به لما كنّا اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً، في الحضيض الذي نحن فيه.

كل القضايا الاجتماعية والسياسية التي واجهتها المجتمعات العربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وفشلت في إيجاد حلول لها خلال الخمسين سنة الماضية من الاستقلال والسيادة، كان في الامكان مواجهتها والتعامل معها من خلال الرؤية القومية الاجتماعية الواضحة والنظام السياسي العقلاني الذي طرحه سعاده: وأعني بالتحديد قضايا التغيير الاجتماعي وتحديث المجتمع والدولة، وقضية تحرير المرأة، وقضية العدالة الاجتماعية والمساواة، وقضية الأمن القومي ومجابهة الاستعمار الصهيوني والامبريالية الجديدة.

إني لا أشك أن نجاح المشروع القومي الاجتماعي كان من شأنه أن يؤدي في دول الهلال الخصيب، على الاقل الى اربعة انجازات بنيوية كبرى:

1. فصل الدين عن الدولة.
2. القضاء على هيمنة القبلية والعشائرية والطائفية في المجتمع.
3. وضع أسس بنية الاقتصاد السياسي الحديث.
4. توحيد العالم العربي (الهلال الخصيب، الجزيرة والخليج، وادي النيل، المغرب) وبناء جامعة عربية فاعلة عربياً ودولياً.
والاداة لنجاح هذا المشروع، كما رآها سعاده، كانت الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي سخّر كل قواه الفكرية والتنظيمية في بنائه خلال السنوات التي عاشها على ارض الوطن. لم يكن الحزب بالنسبة اليه فقط الوسيلة المادية لتنفيذ برنامجه السياسي، بل ايضاً الشرط الثقافي لتحقيق التغيير النفسي والاخلاقي في الرجال والنساء في الاجيال السورية الصاعدة. لكن تركيزه على التنظيم الحزبي والملاحقة المستمرة التي تعرّض اليها على يد الحكم الفرنسي، وبعد الاستقلال على يد الحكم الوطني الطائفي، منعاه من التركيز على الانتاج الفكري والعمل التنظيري الذي بدأه بجدية في السجن عندما أنجز دراسته المبدعة "نشوء الأمم".

إن أهم النصوص التي تركها لنا سعاده كانت نتاج اجتماعات الندوة الثقافية (1948-1949) والمقالات السياسية والفكرية التي نُشرت في الصحف والمجلات وحتى الآن لم تحظَ هذه الكتابات باهتمام جدّي متكامل من الباحثين والكتاب ذوي القدرة العلمية والاختصاص الفكري في الحزب وخارجه.

أذكر اهتمامه في الاشهر الاخيرة من حياته بقضايا الاقتصاد السياسي والعدالة الاجتماعية وعزمه على رسم طريق مستقل في التنمية والاقتصاد الوطني وتحديد دور الدولة في الانتاج والتوزيع، في نظام يقوم على أسس تختلف عن الطريقة السوفياتية والطريقة الرأسمالية الغربية في آن واحد. في تلك الفترة أذكر جلسات طويلة بدا فيها كأنه يعيد النظر في الفلسفة الاشتراكية ويركز على موضوع العدالة الاجتماعية ولربما لو عاش لأدّت به الى تكوين رؤية جديدة للنظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة القومية الاجتماعية.

7

على صعيد شخصي كان موقفه، منذ البداية، موقف الالتزام الكلّي والرفض اللامساوم، موقف من كان الموت لا يعني له شيئاً.

أتصوره الآن واقفاً قبل عبور فرقة عساف كرم الحدود اللبنانية، يرتدي قميصه الكاكي القصير الكمّ في برد المساء القارس يلقي كلمة، كما نقل اليّ، عالج فيها موضوع التعامل مع أفراد الجيش اللبناني والدرك اللبناني (بأنهم ليسوا العدو) وضرورة عدم التصدي لهم الا دفاعاً عن النفس، والتعامل مع ابناء الشعب باحترام وعدم التدخل في شؤونهم ودفع ثمن كل ما يُطلب منهم من مأكل او مشرب.

في اليوم التالي لانطلاق الثورة وفشلها أُلقي القبض عليه لدى وصوله، بحسب موعد سابق، الى قصر حسني الزعيم واقتيد أسيراً الى بيروت في سيارة فريد شهاب، مدير الامن العام اللبناني آنذاك. رأيت صوره الاخيرة في "النهار" و"الحياة" إثر وصولي الى عمان. كان يرتدي بذلته الصيفية التي يلبسها عادة في المناسبات، يقف مرفوع الرأس. كان الارهاق بادياً عليه وكانت ثيابه مجعلكة، وذقنه تحتاج الى حلاقة. يقف كأنه يتوجه الى المحكمة بكلمة لا نعرف مضمونها، اذ لم تدرج في محاضر المحكمة العسكرية ولم تُنشر في الصحف. كانت خطابه الاخير الى حزبه ووصيته الاخيرة للأمة. عند الفجر صدر حكم الاعدام الذي كان قد اتُّخذ مسبقاً. قبل الاعدام سأله الضابط عن مطلبه الاخير. يقول الكاهن الذي كان حاضراً أنه طلب فنجان قهوة، وعندما وقف أمام الكتيبة التي نفذت حكم الاعدام، رفض أن تُعصب عيناه. ثم انطلقت الرصاصات التي أنهت حياة الرجل الذي لو عاش لربما غيّر مجرى تاريخنا ومجرى التاريخ في عالمنا العربي بأسره.


الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٤



١


ملاحظة

ألقيت في نادي متخرجي الجامعة الأميركية، الخميس 24 حزيران 2004.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...